البلاغه و الاسلوبية
لعلنا ندرك اليوم مدى عظم تنامي البحوث والدراسات فيما يعرف بالمناهج النقدية الحديثة, التي أثرت النص الأدبي بمختلف التحليلات والتفسيرات والشروحات.
فكانت الأسلوبية بمدارسها وفروعها وتوجهاتها,جسرا-على حد تعبير الدكتور شكري عياد-يربط بين اللغة الطبيعية التي تؤخذ من أفواه أهلها وتضبط بالنحو والمعجم, وبين اللغة الفنية الموروثة التي تتحكم فيها الثوابت والمتغيرات.
فالأسلوبية من المنظور الحداثي منهج نقدي يلج إلى داخل النص ومكنوناته ليصل إلى فهم أعمق لحقيقة النص الأدبي,وهي بذالك تعد تعبيرا جديدا للبلاغة العربية وفق صيغ و مبادىءجديدة أيضا.وإن كان هناك من يخلط بين الأسلوبية والبلاغة فهذا يعود إلى مدى تداخلهما واشتراكهما في معرفة البناء الحقيقي الذي يقوم عليه النص الادبي.وإذا ما عدنا إلى الوراء نجد ان البلاغة ظهرت بأساليبها وفنونها التي نعرفها اليوم-تحت غطاء الأسلوبية-قد عرفها الإنسان العربي منذ العصر الجاهلي.فهناك العديد من الروايات التي تدل بحق على ظهور هذا العلم كالأشعار التي كانت تلقى آنذاك في أسواقهم المشهورة مثل سوق عكاظ أين كانت تعرض بالنقد والتحليل من ذوي الخبرة والدربة لتمييز الشعر من رديئه.ليهل بعد ذلك القرآن الكريم ببلاغته وإعجازه ليكون دليلا آخر على ما أتوه من بيان وقوة تعبير.وعلى هذا الأساس فإن النقد الأدبي يعد من العوامل الأساسية في تقدم وتطور البلاغة, وكذا في تطور الدرس اللساني الحديث.
ان الصلة بين الأسلوبية الحديثة والبلاغة القديمة هي التي سوغت لكثير من الباحثين البحث عن اوجه القصور في البلاغة القديمة التي مهدت لأن تحل محلها الاسلوبية, خاصة وأن محور البحث في كل منهما هو الادب فكلاهما يبرز مواطن القبح والجمال في النص الادبي, وبالتالي الحكم عليه بالحسن والرداءة.وكلاهما ينشدان التأثير في المتلقي.
والأسلوبية كمصطلح حديث ظهرت في بدايات القرن العشرين مع تلميذ دوسوسيرالألسني السويسري(شارل بالي) (1947)(1865)(charle bally) الذي أسس هذا العلم في كتابه(مبحث في الاسلوبية الحديثة) وتحديدا سنة 1909.
ومن هذا التاريخ بدأت الدراسات الاسلوبية تتزايد مهتدية بمعطيات علمية أخرى كالبلاغة وفقه اللغة والنقد الادبي...
حيث مهد شارل بالي الطريق أمام مجموعة من الاسلوبيين الذين اشتقوا لأنفسهم طرقا واتجاهات زاحمت البحث الأسلوبي وأثرته برؤى معرفية ومنهجية جديدة.
وقد تنوعت المدارس الأسلوبية بتنوع مناهجها,فنجد الأسلوبية اللسانية(اللغة) ويمثلها تحديدا شارل بالي, والأسلوبية الوظيفية التي تهتم بدراسة ما يسمى بالإنحراف أو الإنزياح أو العدول.
والأسلوبية الادبية التي تقوم على تحليل الوسائل الأسلوبية المتعلقة بالممارسات الادبية, وأسلوبية بنيوية زيمثلها ميشال ريفاتير والتي تسعى إلى تحديد المقاييس اللغوية النوعية الملائمة أسلوبيا, والأسلوبيسة الإحصائية وهي دراسة تقوم على أمرين:1-التعبير بالحدث,2-التعبير بالوصف.
ويعنى الأول بالكلمات أو الجمل التي تعبر عن حدث وبالتالي الكلمات التي تعبر عن صفة. ويتم احتساب عدد التراكيب والقيمة العدديةالحاصلةبالزيادة والنقصان في هذه التراكيب.والأسلوبية النحوية والتي تهتم بدراسة العلاقات والترابط والإنسجام الداخلي في النص:كالضمائر والعطف وغيرها.
وكلها إتجاهات متعددة تتحد مع بعضها في كيان عضوي واحد يجذب القارىء ويثير التساؤل والفضول في نفسه
1-2 الأسلوبية والبلاغة :
إن كثيرا مما كتب تحت هذا العنوان , خصوصا في الكتب الأجنبية المترجمة هو أمر يثير اللبس حقا , وذلك لأن القارئ العربي سوف يحاول فور قراءة ما يكتب أن يركبه على البلاغة العربية وهنا مربط الفرس.
أتوقف عند أحد نصوص هذه الكتب للكاتب هنريش بليت الذي يقول لم يعد الهدف الأول للبلاغة العلمية هو إنتاج النصوص بل تحليلها) ومانعرفه أن البلاغة العربية –وضح ذلك محمد العمري مترجم الكتاب في حاشيةٍ عليه مشكورا- كانت أداة لتحليل النصوص , ومناقشتها , وما صنيع عبدالقاهر الجرجاني في " دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة " إلا استثمارا منه للبلاغة في تحليل النص الأدبي , مما يسم البلاغة العربية بشيء من التحرر عن القيود المعيارية للبلاغة الغربية , وهذا يعني أسلوبية الدرس البلاغي العربي , وإن لم تقف خلف ذلك نظرية فكرية فلسفية , ولو حدث ذلك لرأينا من جاء بعد أولئك البلاغيين الأوائل ليكمل ما بدأوه , ولكن الأمر كان محاولات فردية لا يربط بين مبدعيها "منهج فكري".
ويعلل الدكتور منذر عياشي لأسلوية البلاغة العربية بأنه ( ماكان ذلك ليكون إلا لأن الدرس اللغوي كان سابقا على الدرس البلاغي في التراث العربي وهذه نقطة خلاف وتميز مع / و من التراث اليوناني الذي كان الدرس البلاغي فيه سابقا على الدرس اللغوي) ولكن ذلك لايعني أن الدرس البلاغي العربي كان أسلوبيا بكل ما تحمله هذه الكلمة , ولكن مظاهر الإجراء الأسلوبي كانت واضحة في بلاغتنا القديمة , وبذلك تبقى البلاغة العربية في إطار العصر الذي عاشت فيه بلاغة معيارية شأنها شأن البلاغة الغربية, إلا إنها لاترزح تحت قيود المعيارية بنفس الكيفية التي كانت ترزح فيه البلاغة الغربية
الأسلوبية والبلاغة :
هناك أوجه اتفاق كثيرة بين علم الأسلوب وعلم البلاغة كما توجد أوجه اختلاف , ولعل الوقوف على هذه الفروق يوضح لنا ويجلي مدى العلاقة والاتصال بين علم الأسلوب والبلاغة .
فأما أوجه الاتفاق فهي كما يأتي :
1- أن كلا منهما نشأ منبثقا من علم اللغة وارتبط به .
2- أن مجالهما واحد وهو اللغة والأدب.
3- علم الأسلوب استفاد كثيرا من مباحث البلاغة مثل علم المعاني والمجاز والبديع وما يتصل بالموازنات بين الشعراء وأساليبهم الفردية .
4- كما أنهما يلتقيان في أهم مبدأين في الأسلوبية هما: العدول والاختيار.
5- يرى بعض النقاد أن الأسلوبية وريثة البلاغة وهي أصل لها.
6- تلتقي الأسلوبية مع البلاغة في نظرية النظم , حيث لا فصل بين الشكل والمضمون كما أن النص لا يتجزأ .
7- البلاغة تقوم على "مراعاة مقتضى الحال" والأسلوبية تعتمد على "الموقف" وواضح ما بين المصطلحين من تقارب .
أما أوجه الاختلاف فهي على النحو الآتي :
1- علم البلاغة علم لغوي قديم أما علم الأسلوب فحديث.
2- البلاغة تدرس مسائلها بعيدا عن الزمن والبيئة أما الأسلوبية فإنها تدرس مسائلها بطريقتين :
- طريقة أفقية . أي علاقات الظواهر بعضها ببعض في زمن واحد .
- طريقة رأسية . أي تطور الظاهرة الواحدة على مر العصور.
3- عندما تدرس البلاغة قيمة النص الفنية فإنها تحاول أن تكشف مدى نجاح النص المدروس في تحقيق القيمة المنشودة , وترمي إلى إيجاد الإبداع بوصاياها التقييمية .
أما الأسلوبية فإنها تعلل الظاهرة الإبداعية بعد إثبات وجودها وإبراز خواص النص المميزة له.
4- من حيث المادة المدروسة فالبلاغة توقفت عند الجملتين كحد أقصى في دراستها للنصوص , كما أنها تنتقي الشواهد الجيدة وتجزئها .
أما الأسلوبية فتنظر إلى الوحدة الجزئية مرتبطة بالنص الكلي وتحلل النص كاملا.
5- البلاغة غايتها تعليمية ترتكز على التقويم , أما الأسلوبية فغايتها التشخيص والوصف للظواهر الفنية .
وبعد هذه المقارنة بين البلاغة والأسلوبية يتضح لنا أنه لا تعارض بينهما وأن الأسلوبية استفادت من البلاغة كثيرا بل إن الأسلوبية لم تنهض إلا على أكتاف البلاغة ولكنها تقدمت عليها في مجال علم اللغة الحديث ولو أن هذا التقدم لا يصعب على البلاغة أن تحوزه إذا ما استفادت من مبادئ وإجراءات علم اللغة الحديث وعلم الأسلوب والمناهج الألسنية بعامة .
بل إن البلاغة وبما تملكه من إمكانات علمية ثابتة وقواعد راسخة وما بذله لها علماء البلاغة قديما وحديثا قادرة على خلق نظرية حديثة متطورة تفوق كل النظريات السابقة إذ ما التزمت بأساسها واستفادت من التطور العلمي الحديث ويظهر هذا فيما قدمه عبد القاهر الجرجاني للبلاغة من تطور بنظريته المشهورة التي قفزت بالبلاغة إلى درجات لم تصل إليها اللغات الأخرى إلا في هذا العصر فلو وجدت البلاغة من يكمل المسير الذي سار عليه عبد القاهر لما تأخرت في هذا العصر وبقيت مرمى سهام الحاقدين على العربية وأهلها .
وإن أي علم يتخلف عن مواكبة تطور العلوم وتقدمها فإنه يتقادم ويذبل أمام بهرجة الحديث وإغراءه خاصة إذا وجد من يتبناه من الباحثين والعلماء المتمكنين .