الليلة السابعة والعشرون
تكملة حكاية الخياط والأحدب
واليهودي والمباشر والنصراني فيما وقع بينهم
قالت شهرزاد :
بلغني أيها الملك السعيد أن الشاب التاجر قال للنصراني :
فلما دخلت وجلست لم أشعر إلا والصبية قد أقبلت وعليها تاج مكلل بالدر والجوهر وهي منقشة مخططة فلما رأتني تبسمت في وجهي وحضنتني ووضعتني على صدرها وجعلت فمها على فمي وأنا كذلك وقالت :
أصحيح أتيت عندي أم هذا منام ?
فقلت لها : أنا عبدك .
فقالت : أهلاً ومرحباً ، والله من يوم رأيتك ما لذني نوم ولا طاب لي طعام .
فقلت : وأنا كذلك .
ثم جلسنا نتحدث وأنا مطرق برأسي إلى الأرض حياء ولم أمكث قليلاً حتى قدمت لي سفرة من أفخر الألوان من محمر ومرق دجاج محشو فأكلت معها حتى اكتفينا ثم قدموا إلى الطشط والإبريق فغسلت يدي ثم تطيبنا بماء الورد والمسك ، وجلسنا نتحدث فأنشدت هذين البيتين :
لو علمنا بقدومكم لفـرشـنـا ........ مهجة القلب مع سواد العيون
ووضعنا حدودنا لـلـقـاكـم ........ وجعلنا المسير فوق الجفـون
وهي تشكو إلي ما لاقت وأنا أشكو إليها ما لقيت وتمكن حبها عندي وهان علي جميع المال ، ثم أخذنا نلعب ونتهارش مع العناق والتقبيل إلى أن أقبل الليل فقدمت لنا الجواري الطعام والمدام فإذا هي خضرة كاملة فشربنا إلى نصف الليل ثم نمنا فنمت معها إلى الصباح فما رأيت عمري مثل هذه الليلة .
فلما أصبح الصباح قمت ورميت لها تحت الفراش المنديل الذي فيه الدنانير وودعتها وخرجت فبكت وقالت :
يا سيدي متى أرى هذا الوجه المليح ?
فقلت لها : أكون عندك وقت العشاء .
فلما خرجت أصبت الحَمار الذي جاء بي بالأمس على الباب ينتظرني فركبت معه حتى وصلت خان مسرور فنزلت وأعطيت الحمار نصف دينار وقلت له :
تعالى في وقت الغروب .
قال : على الرأس .
فدخلت الخان وأفطرت ثم خرجت أطالب بثمن القماش ، ثم رجعت وقد عملت لها خروفاً مشوياً وأخذت حلاوة ثم دعوت الحمال ووصفت له المحل وأعطيته أجرته ورجعت في أشغالي إلى الغروب فجاءني الحَمار فأخذت خمسين ديناراً وجعلتها في منديل ودخلت فوجدتهم مسحوا الرخام وحلوا النحاس وعمروا القناديل وأوقدوا الشموع وغرفوا الطعام وروقوا الشراب .
فلما رأتني رمت يديها على رقبتي وقالت : أوحشتني .
ثم قدمت الموائد فأكلنا حتى اكتفينا ورفعت الجواري المائدة وقدمت المدام ، فلم نزل في شراب وتقبيل وحظ إلى نصف الليل فنمنا إلى الصباح ثم قمت وناولتها الخمسين ديناراً على العادة وخرجت من عندها فوجدت الحَمار فركبت إلى الخان فنمت ساعة ثم قمت جهزت العشاء فعملت جوزاً ولوزاً وتحتهم أرز مفلفل وعملت قلقاساً مقلياً ونحو ذلك وأخذت فاكهة نقلاً ومسوماً وأرسلتها وسرت إلى البيت وأخذت خمسين ديناراً في منديل وخرجت فركبت مع الحَمار على العادة إلى القاعة فدخلت ثم أكلنا وشربنا وبتنا إلى الصباح ، ولما قمت رميت لها المنديل وركبت إلى الخان على العادة ، ولم أزل على تلك الحالة مدة إلى أن بت لا أملك درهماً ولا دينار ، فقلت في نفسي هذا من فعل الشيطان وأنشدت هذه الأبيات :
فقر الـفـتـى يذهـب أنـواره ........ مثل اصفرار الشمس عند المغيب
إن غاب لا يذكـر بـين الـورى ........ وإن أتى فما له مـن نـصـيب
يمر في الأسواق مسـتـخـفـياً ........ وفي الفلا يبكي بدمع صـبـيب
والله ما الإنـسـان مـن أهـلـه ........ إذا ابتلى بالـفـقـر إلا غـريب
ثم تمشيت إلى أن وصلت بين القصرين ولا زلت أمشي حتى وصلت إلى باب زويلة فوجدت الخلق في ازدحام والباب منسد من كثرة الخلق فرأيت بالأمر المقدر جندياً فزاحمته بغير اختياري ، فجاءت يدي على جيبه فجسيته فوجدت فيه صرة من داخل الجيب الذي يدي عليه فعمدت إلى تلك الصرة فأخذتها من جيبه فأحس الجندي بأن جيبه خف فحط يده في جيبه فلم يجد شيئاً والتفت نحوي ورفع يده بالدبوس وضربني على رأسي فسقطت إلى الأرض فأحاط الناس بنا وأمسكوا لجام فرس الجندي وقالوا :
أمن أجل الرحمة تضرب هذا الشاب هذه الضربة ?
فصرخ عليهم الجندي وقال : هذا حرامي سارق .
فعند ذلك أفقت ورأيت الناس يقولون : هذا الشاب مليح لم يأخذ شيئاً .
فبعضهم يصدق وبعضهم يكذب وكثر القيل والقال وجذبني الناس وأرادوا خلاصي منه فبأمر المقدر جاء الوالي هو وبعض الحكام في هذا الوقت ودخلوا من الباب فوجدوا الخلق مجتمعين علي وعلى الجندي ، فقال الوالي :
ما الخبر ?
فقال الجندي : والله يا أمير المؤمنين إن هذا حرامي وكان في جيبي كيس أزرق فيه عشرون ديناراً فأخذه وأنا في الزحام .
فقال الوالي للجندي : هل كان معك أحد ?
فقال الجندي : لا .
فصرخ الوالي على المقدم وقال : أمسكه وفتشه .
فأمسكني وقد زال الستر عني فقال له الوالي : أعره من جميع ما عليه .
فلما أعراني وجدوا الكيس في ثيابي فلما وجدوا الكيس أخذه الوالي وفتحه وعده فرأى فيه عشرين ديناراً كما قال الجندي . فغضب الوالي وصاح على أتباعه وقال :
قدموه .
فقدموني بين يديه فقال : يا صبي قل الحق هل أنت سرقت هذا الكيس ?
فأطرقت برأسي إلى الأرض وقلت في نفسي : إن قلت ما سرقته فقد أخرجه من ثيابي وإن قلت سرقته وقعت في العناء ثم رفعت رأسي وقلت : نعم أخذته .
فلما سمع مني الوالي هذا الكلام تعجب ودعا الشهود فحضروا وشهدوا على منطقي هذا كله في باب زويلة فأمر الوالي السياف بقطع يدي فقطع يدي اليمنى فرق قلب الجنيد وشفع في عدم قتلي وتركني الوالي ومضى وصارت الناس حولي وسقوني قدح شراب وأما الجندي فإنه أعطاني الكيس وقال :
أنت شاب مليح ولا ينبغي أن تكون لصاً .
فأخذته منه وأنشدت هذه الأبيات :
والله ما كنت لصاً يا أخا ثـقة ........ ولم أكن سارقاً يا أحسن الناس
ولكن رمتني صروف الدهر عن عجل ........ فزاد همي ووسـواس إفلاسي
وما رمـيت ولـكـن الإلـه رمى ........ سهماً فطير تاج الملك عن رأسي
فتركني الجندي وانصرف بعد أن أعطاني الكيس وانصرفت أنا ولقيت يدي في خرقة وأدخلتها عني وقد تغيرت حالتي واصفر لوني مما جرى لي فتمشيت إلى القاعة وأنا على غير استواء ورميت روحي على الفراش فنظرتني الصبية متغير اللون فقالت لي :
ما وجعك وما لي أرى حالتك تغيرت ?
فقلت له : رأسي توجعني وما أنا طيب .
فعند ذلك اغتاظت وتشوشت لأجلي وقالت : لا تحرق قلبي يا سيدي ، اقعد وارفع رأسك وحدثني بما حصل لك اليوم فقد بان لي في وجهك كلام .
فقلت : دعيني من الكلام .
فبكت وصارت تحدثني وأنا لا أجيبها حتى أقبل الليل فقدمت لي الطعام فامتنعت وخشيت أن تراني آكل بيدي الشمال فقلت :
لا أشتهي أن آكل في مثل هذه الساعة .
فقالت : حدثني بما جرى لك في هذا اليوم ولأي شيء أراك مهموماً مكسور الخاطر والقلب ?
فقلت : في هذه الساعة أحدثك على مهلي .
فقدمت لي الشراب وقالت : دونك فإنه يزيل همك فلا بد أن تشرب وتحدثني بخبرك .
فقلت لها : إن كان ولابد فاسقيني بيدك فملأت القدح وشربته وملأته وناولتني إياه فتناولته منها بيدي الشمال وفرت الدمعة من جفني فأنشدت هذه الأبيات :
إذا أراد الله أمـراً لأمـرئ ........ وكان ذا عقل وسمع وبصر
أصم أذنيه وأعمى قـلـبـه ........ وسل منه عقله سل الشعر
حتى إذا أنفذ فيه حكـمـه ........ رد إليه عقله لـيعـتـبـر
فلما فرغت من شعري تناولت القدح بيدي الشمال وبكيت ، فلما رأتني أبكي صرخت صرخة قوية وقالت :
ما سبب بكائك ، قد أحرقت قلبي وما لك تناولت القدح بيدك الشمال ?
فقلت لها : إن بيدي حبة .
فقالت : أخرجها حتى أفقعها لك .
فقلت : ما هو وقت فقعها لا تطيلي علي فما أخرجها في تلك الساعة .
ثم شربت القدح ولم تزل تسقيني حتى غلب السكر علي فنمت مكاني فأبصرت يدي بلا كف ففتشتني فرأت معي الكيس الذي فيه الذهب ، فدخل عليها الحزن ما لا يدخل على أحد ولا زالت تتألم بسببي إلى الصباح فلما أفقت من النوم وجدتها هيأت لي مسلوقة وقدمتها فإذا هي أربعة من طيور الدجاج ، وأسقتني قدح شراب فأكلت وشربت وحطيت الكيس وأردت الخروج فقالت :
أين تروح ?
فقلت : إلى مكان كذا لأزحزح بعض الهم عن قلبي .
فقالت : لا تروح بل اجلس .
فجلست فقالت لي : وهل بلغت محبتك إياي إلى أن صرفت جميع مالك علي وعدمت كفك فأشهدك علي والشاهد الله أني لا أفارقك وسترى صحة قولي ولعل الله استجاب دعوتي بزواجك .
وأرسلت خلف الشهود فحضروا فقالت لهم : اكتبوا كتابي على هذا الشاب واشهدوا أني قبضت المهر .
فكتبوا كتابي عليها ثم قالت : اشهدوا أن جميع مالي الذي في هذا الصندوق وجميع ما عندي من المماليك والجواري لهذا الشاب .
فشهدوا عليها وقبلت أنا التمليك وانصرفوا بعدما أخذوا الأجرة .
ثم أخذتني من يدي وأوقفتني على خزانة وفتحت صندوقاً كبيراً وقالت لي :
انظر هذا الذي في الصندوق .
فنظرت فإذا هو ملآن مناديل ، فقالت : هذا مالك الذي أخذته منك فكلما أعطيتني منديلاً فيه خمسون ديناراً ألقه وأرميه في هذا الصندوق فخذ مالك فقد رده الله عليك وأنت اليوم عزيز فقد جرى عليك القضاء بسببي حتى عدمت يمينك وأنا لا أقدر على مكافأتك ولو بذلت روحي لكان ذلك قليلاً ولك الفضل .
ثم قالت لي : تسلم مالك .
فتسلمته ثم نقلت ما في صندوقها إلى صندوقي وضمت مالها إلى مالي الذي كنت أعطيتها إياه وفرح قلبي وزال هي فقمت فقبلتها وسكرت معها فقالت :
لقد بذلت جميع مالك ويدك في محبتي فكيف أقدر على مكافأتك والله لو بذلت روحي في محبتك لكان ذلك قليل وما أقوم بواجب حقك علي .
ثم إنها كتبت لي جميع ما تملك من ثياب بدنها وصيغتها وأملاكها ، بحجة وما نامت تلك الليلة إلا مهمومة من أجلي حين حكيت لها ما وقع لي وبت معها .
ثم أقمنا على ذلك أقل من شهر وقوي بها الضعف ، وزاد بها المرض وما مكثت غير خمسين يوماً ثم صارت من أهل الآخرة فجهزتها وواريتها في التراب وعملت لها ختمات وتصدقت عليها بجملة من المال ، ثم نزلت من التربة فرأيت لها مالاً جزيلاً وأملاكاً وعقارات ، ومن جملة ذلك تلك المخازن السمسم التي بعت لك منها ذلك المخزن وما كان اشتغالي عنك هذه المدة إلا لأني بعت بقية الحواصل وإلى الآن لم أفرغ من قبض الثمن فأرجو منك أنك لا تخالفني فيما أقوله لك لأني أكلت زادك فقد وهبتك ثمن السمسم الذي عندك ، فهذا سبب أكلي بيدي الشمال .
فقلت له : لقد أحسنت إلي وتفضلت علي .
فقال لي : لا بد أن تسافر معي إلى بلادي فإني اشتريت متجراً مصرياً واسكندرانياً فهل لك في مصاحبتي ?
فقلت : نعم .
وواعدته على رأس الشهر ثم بعت جميع ما أملك واشتريت به متجراً وسافرت أنا وذلك الشاب إلى هذه البلاد التي هي بلادكم فباع الشاب متجره واشترى متجراً عوضه من بلادكم ومضى إلى الديار المصرية فكان نصيبي من قعودي هذه الليلة حتى حصل من غربتي فهذا يا ملك الزمان ما هو أعجب من حديث الأحدب .
فقال الملك : لا بد من شنقكم كلكم .
وهنا أدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح .
إلى اللقاء مع الليله القادمه