الفصل الثاني: مدخل عام للفضائيات والمسلسلات والمجتمع الجزائري
مقدمـة:
جاء هذا الفضل ليحو صل متغيرات الدراسة فكشفنا عن الفضائيات العربية بسلبياتها وايجابياتها وبداية تموضعها بين الفضائيات الأجنبية وكيف هي الآن،ثم انتقلنا لنكشف نوعا جديدا من مسلسلات التلفزيون ألا وهي الدراما التركية بمضمون جديد وباكتساح فضيع بين الفضائيات وبطلة أقلقت الكثير وجعلتهم يتساءلون لماذا هذا التعلق الكبير بها رغم كل سلبياتها ،ثم تطرقنا لنعرف شيئا عن مجتمعنا الجزائري باعتباره جمهور الدراسة وكشفنا طرفا عن العقلية الجزائرية وكيف تراكمت ورجعنا قليلا للوراء لنكتشف دور المجتمع الثوري في مواجهة تحديات العولمة كي نتعلم ونعتبر حتى لا نضيع وسط طوفان القيم الدخيلة.
أولا: الفضائيات العربية.
لقد جاء إنشاء القنوات الفضائية العربية الحكومية والخاصة استجابة لجملة من التطورات السياسية والاقتصادية والتكنولوجية،التي مر بها عالمنا المعاصر في السنوات الأخيرة ،وكعادة الأنشطة العربية –دوما-في إن تكون رد فعل وليس فعلا، فقد سارعت الدول العربية إلى إطلاق قنواتها الفضائية بعد إن شعرت بتهديد حقيقي من جانب الفضائيات الأجنبية العابرة للقارات.
I. بداية تموضع الفضائيات العربية:
يقول نهوند القادري:1999 "أن التلفزيون الفضائي الدولي دخل إلى المنطقة العربية من دون استئذان،وراح عمالقة التلفزيون يتصارعون من أجلها،ولقد ترتب على دخول المنطقة العربية ميدان الصراع الفضائي أمورا عديدة من بينها:تأثير البث التلفزيوني الفضائي الدولي على حصة مؤسسات التلفزة والصحافة العربية إضافة إلى عدم خضوع برامج هذا البث للرقابة،وعدم التزامه بقوانين البلدان العربية وقيمها الدينية والخلقية،وأمام هذا الوضع وجدت المنطقة العربية نفسها في وضعية تتسم بعدم إمكانية منع هذه الفضائيات من اختراق الحدود وليس لها الوقت الكافي لوضع خطط للمواجهة،فالتقنية متسارعة والاتصال المتبادل والمتفاعل مع المشاهدين أصبح أمرا حتميا،ويعني هذا الانفجار التلفزيوني خلق أوضاعا في المنطقة العربية يتجاذبها القلق من ناحية،والارتياح من ناحية ثانية،ولا تتمثل خطورة هذا الانفجار التلفزيوني في المنافسة فقط بل في صعوبة السيطرة عليها،وفي الحلقة المفرغة التي أدخل المنطقة العربية فيها فأثاره ليست فقط سياسية وأخلاقية إنما أيضا مالية وتنظيمية. " ص09.
ويضيف نهوند القادري عيسى 2008: " أنه ضمن هذا المشهد العام كان من المفــيد التساؤل: كيف تموضعت الفضائيات العربية ؟
على صعيد الدول باشرت معظم الحكومات الطلوع إلى الفضاء بعقلية وإمكانيات الأرض وتكشف الإحصائيات أن عدد القنوات الفضائية العربية بلغ سنة 2004 حوالي 150 قناة.أي بمعدل قناة واحدة لكل مليوني عربي ولم تعرف هذه القنـوات نمـوا فـي
عددها فقط بل تنوعا في طبيعتها إذ تم الانتقال بسرعة من القنوات الحكومية الجامعة إلى القنوات الموضوعاتية المتخصصة في مجال الأخبار والرياضة والموسيقى والدين الإعلان وتؤكد اليونسكو في دراستها أن التلفزيونات العربية تستورد من الدول الأجنبية ما بين 40 و60 بالمائة من مجموع البرامج التي تروج ضمن التلفاز.
أما على صعيد القطاع الخاص العربي الذي دخل لعبة إطلاق الفضائيات،امتزجت لديه دوافع الربح بالمباهات والوجاهة،وبالدين والسياسة،وراحت مشاريعه تتفتت وتحول إلى قطاع غيــر قادر على لعب دور وطني،إذ راح يبحث عن شركاء دوليين للإنجاز والتجهيز والأعداد،وكان يقدم التمويل،بينما الشركات الأجنبية تؤمن الأشراف، بمعناه أن الانبهار في البدء بظاهرة الفضائيات العربية هذه سرعان ما راح يخف لعدة أسباب من أهمها:غياب الرؤيا والتخطيط الاستراتيجي على الصعيد الوطني." ص18.
ويضيف قائلا: " أن هذه الظروف التي نشأت في ظلها الفضائيات العربية،لا تعفينا من التنبه إلى ضرورة عدم التسرع في إطلاق أحكام قاطعة ونهائية ومبكرة على أدائها وفعاليتها سلبا أو إيجابا،لأن الفضائي الإعلامي العربي المتلفز، راح يشهد أقله على المســتوى الكمي،بعض القفزات النوعية التي لا بد من الإتيان على ذكرها ومنها:تنوع في القـــنوات الذي انتقل بالمشاهدين من عصر القناة الواحدة والوجهة الواحدة في البلد الواحد، إلى عصر مئات الفضائيات العربية وغير العربية،ومن سمات هذا المشهد: - ظهور القنوات الخاصة التي أنشأتها وتديرها رؤؤس أموال عربية خاصة كقناة ( أم- بي- سي ) التي انطلق بثها عام 1991، وشبكة (أي- أر- تي) التي انطلقت عام 1992 أووربت عام 199،حتى بلغ عددها 131قناة – ظهور 58 قناة حكومية فضائية – ظهور قنوات مختلطة، كقناة (أم- دي) في المغرب التي كانت خاصة، ثم سيطرت عليها الدولة بنسبة 70 بالمائة أو بالعكس – إنشاء مناطق إعلامية حرة في دبي والأردن ومصر ". ص73.
وتختصر رحيمة الطيب عيسا ني 2010كل ما سبق بقولها:"أن التجربة بينت أن مسألة امتلاك التقنية لا تكفي،بل العبرة بطريقة استخدامها،وبالأرضية التي يقع عليها الاستخدام." ص346.
II. واقع الفضائيات العربية:
توزعت الفضائيات العربية على أقطار الوطن العربي بمعدل فضائية أو أكثر لكل بلد عربي، وحسب التقرير السنوي للجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية الذي يتخذ من تونس مقرا له أنه وخلال عام 2009 تزايد عدد القنوات الفضائية بوتيرة متزايدة بلغ 696 قناة حكومية وخاصة وهي تسهل 17 قمرا صناعيا منها: عرب سات-نايل سات - تور سات، وتشتمل الشبكات الحكومية على 97 قناة منها 49 شاملة و48 من مجموع القنوات المتخصصة بنسبة 114، أما القنوات الإخبارية فوصل عددها إلى 34قناة بنسبة 7 بالمائة، والقنوات الدينية بلغت 39 قناة،وتستخدم عدة لغات منها العربية بنسبة 74 بالمائة والانجليزية بنسبة 20 بالمائة والفرنسية بنسبة 2 بالمائة.
www-webmariagercenter. 15/04/2011, H 10:00 ".
ويرى محي الدين خير الله العوير 2007: " أن الذي ينظر إلى الكم الكبير من الفضائيات العربية يصاب بالدهشة للتأثير الضعيف الذي تمارسه هذه القنوات في الرأي العام العالمي وصوتها المبحوح في إيصال قضايا العرب والمسلمين المصيرية،وصورة العربي المسلم الصحيحة والتي تشوهها الفضائيات العالمية بصورة مستمرة،سواء أكان ذلك في الأخبار اليومية أو الأفلام الدرامية والوثائقية أو البرامج المنوعة.
ويبدو أن الخطاب الإعلامي لهذه الفضائيات مازال موجها إلى الداخل أكثر مما هو موجه إلى الخارج،وبالتالي هي تأخذ دور القنوات التلفزيونية الأرضية التي تعنى بكذا نوع من الخطابات ". ص75.
وتضيف اعتدال مجبري 2005: " إلى أن المشهد الإعلامي العربي يشكو من انقسام حاد بين الغايات و الإمكانيات، وبين الشعارات والممارسات ،كما يتسم واقعنا الإعلامي بتسرب مشاهدينا إلى منافذ الأعلام الأجنبية لفقدان الثقة في الأعلام المحلي،وانضمت الفضائيات العربـية لغيرها،وأصبحت تابعة لها في تكوين سرطان فضائي يقضي على البقية الباقية من ثقافتي الأمتين العربية والإسلامية وموروثاتهما". ص 593.
وحصرت بعض ملامح المشهد الراهن للإعلام العربي في النقاط التالية:"-سياسات تشكو من انفصام حاد بين ما نريده وما نملكه،وبين مانقوله وما نفعله وعجز عن تحقيق أي نوع من التكتلات الإعلامية،وهذا راجع إلى عدم قدرتها في إحداث أي نوع من التكتل السياسي نظرا لتبعيتها الإعلامية للسياسة
ـ قصور شديد في البحوث النظرية في مجال الأعلام وتبعية أكاديميات الأعلام العربية للأكاديميات الفرنسية، وغياب البحوث ذات الطابع الجماعي.
ـ اهتمام ضئيل بشؤون الأعلام من قبل القائمين بالتنمية.
ـ الأعلام الفضائي معظمه مهاجر في غير وطنه.يستورد أكثر مواده الإعلامية.
ـ تحتل الدول العربية أخر قوائم الإحصاءات الإعلانية التي تصدرها منظمة اليونسكو". ص595.
ويضيف محي الدين خير الله العوير بعض ملامح المشهد الراهن للأعلام فيما يلي:
1/ غياب التنسيق الإعلامي بين هذ1ه القنوات وإحلال مبدأ التنافس على حساب المصــلحة القومية أو الدينية.
2 / الخلط الواضح بين القنوات الأرضية والفضائية فيما يقدم من برامج فيهما، ويمكن ببساطة إحلال أحدهما يدل الأخرى دون الشعور بتغيير واضح.
3/ إن معظم القنوات الفضائية العربية تنتهج مبدأ تجميل صور السلطات السياسية لبلدانها على حساب قضاياها المحلية،وما يعانيه المواطن العربي من استلاب لحريته ومصادرة لثقافته واختفاء الرأي الأخر. "ص7.
III. ايجابيات وسلبيات الفضائيات العربية:
قبل الحديث عن السلبيات التي رافقت انتشار الفضائيات العربية الحكومية منـها والخاصة في مختلف المجالات وانعكاساتها على المجتمع العربي الذي يعمل ضمن نطاقه ومن أجل خدمته لابد للأنصاف أن تتحدث عن بعض الجوانب الايجابية والمشرفة التي حملـتها الفضائيات العربية معها إلى المنطقة العربية وجمهورها بعد سنوات طويلة خضع فيها وطـننا العربي إلى سيطرة الأعلام المرئي الأحادي القطب، وحسب علي محمد شمو 1990 هي كما يلي ":
1/ أوجدت نوعا من المعرفة المتبادلة بين الدول العربية، وأمكن عن طريقها الإلمـام بالمعلومات الثرية والغزيرة عن الدول والشعوب العربية،وذلك من خلال المشاهدات الحية التي ترسم صورة حقيقية للمشاهد عن البلد شعبا ولغة وثقافة.
2/ الحصول على المعلومات عن الأقمار العربية مباشرة ومدعومة بالصور وبالمشهد الحقـيقي المماثل أمام المشاهد والقضاء على دور الوسيط والناقل غير الأمين.
3/ توحيد نقل المناسبات الهامة وتقليل التكلفة على هيئات التلفزيون في البلاد العربيـة كالاوليمبياد الدولية والإقليمية وكأس العالم والبطولات العربية.
4/ استحوذت هذه القنوات على أغلب وقت المشاهدين العرب الذين أدار وظهورهم للخدمات الدولية الوافدة وذلك:لكثرتها وتعددها وفرت خيارات مناسبة للمشاهد العربـي،استعمالها للغة الأم سهلت على أكثرية المشاهدين التلقي دون عناء،فالأخبار باللغة العربـية السهلة والبرامج الأخرى لهجاتها بدأت تعتاد عليها الأذن وبمرور الزمن أصبحت مفهومة لغالبية المشاهدين كالمسلسلات الخليجية....، تنوع برامجها لأن الأسرة العربية في المنزل العربي المتوسط تجد فيها متسعا للمشاهد وخاصة النساء والأطفال والذين لا يجدون في البرامج الأجنبية حاجاتهم". ص 239- 285- 240.
وفي أخر ايجابيات الفضائيات العربية حسب سامي الشريف 2004: " أن تعدد القنوات الفضائية العربية قد أسهم في إعطاء الفرص الكافية لظهور كادر إعلامي وتقني جديد من الشبان العرب وعقد الآمال عليه لتطوير الأعلام المرئي العربي وذلك بتوفيـر
أمرين هما:
ـ أخذ الفرصة المناسبة لإظهار الذات وإبداعاتها والقدرة على العطاء من واجب قومي وأخلاقي.
ـ أما الثاني فهو التأهيل والأعداد المناسب." ص 240.
بالرغم من الايجابيات التي تتميز بها القنوات الفضائية العربية والدور الذي لعبته في كسر السياج المحيط بكل دولة عربية وبالجودة العالية في الصوت والصورة فأن فيها بعض السلبيات والتي يمكن حصرها حسب سامي الشريف 2004 فيما يلي: "
1/ أن الجاذبية التي تتمتع بها القنوات الفضائية لا تؤدي إلى إبعاد المواطن عن وسائله المحلية فحسب بل تؤدي إلى إلهائه عن واقعه المحلي ومشكلاته العالقة ،وهذا ما يؤدي إلى تغييب الوعي والإدراك الكامل عن قضايا المجتمع المحلي.
2/ أدى انتشار الفضائيات بالرغم من تجزئة الجمهور إلى أن أصبح العالم أصغر وتراع مفهوم القومية والسيادة الوطنية،وانحصرت تدريجيا سلطة الدولة فأضحت السيادة ليست مجرد سلطة وأسلاك شائكة،بل أصبحت تعتمد بشكل أساسي على قدرة السيطرة على المعلومات.
3/ لم تأخذ الفضائيات العربية نتيجة لاضطرار بثها مواكبة مع المحيط العالمي نصيبها من التخطيط ودراسة الجدوى وطبيعة الأهداف وحاجات الجمهور المستهدف ومن هنا فأن المتابع لمعظم هذه القنوات لا يجد فلسفة محددة تحكم أراء عملها وأهداف إستراتيجية تسعى لتحقيقها.
4/ إن معظم القنوات الفضائية العربية الحكومية منها على وجه التحديد جاء إنشاؤها كرد فعل متسرع دون تخطيط كاف ورؤية محددة فمعظم الدول العربية أطلقت قنواتها الفضائية كرد فعل لما يجري في العالم.
5/ إن حجم القنوات الفضائية العربية لا يتلاءم في كثير من الأحيان مع حجم الدول المالكة لها،ودورها على مسرح السياسة الدولية دون التقليل من شـأن هذه الدول أو المساس بمكانـتها على الصعيد العربي القومي،وهذا ﺇن دل على شيء فإنما يدل على سوء التخطيط في أنشاء القنوات الفضاﺌية.
6/ إن المشكلة الرئيسية التي يمكن تناولها على مستوى الخدمة البرامجية، والتي تتفرع مـنها بقية المشاكل و السلبيات،هي أن معظم القنوات الفضائية العربية لا تقوى على ملء ساعـات إرسالها، إلا بإنتاج مستورد لا يعبر عن هويتها،ولا يعكس ثقافة المجتمعات التي تمثـلها.
7/ إذا كان البعض يرى أن للإعلام المعاصر ثلاثة أجنحة لازمة للتحليق به، وزيادة مـقدرته للمنافسة وهي تكنولوجيا الاتصال،الكوادر الإعلامية المدربة وهامش الحرية والديمقراطية، فأن كثيرا من القنوات الفضائية العربية الحكومية قد أفقدت جناحا أو أكثر من هذه الأجنحة، وإذا كانت بعض القنوات قد استطاعت أن تملك واحدا أو أثنين منها، ألا أنها جميعا افتقدت الحرية فهي لا تعطي حق الاتصال و حرية التعبير عن الوجهات المختلفة، بسبب تبعيتها المباشرة لسلطة الدولة، ومن ثمة فقد فقدت واحدة من أهم الأسلحة.
8/ ومن بين أهم السلبيات على مستوى القنوات المتخصصة والخدمات المشفرة، هو ما يتعلق بما قد تؤدي أليه من مزبد من انعزالية الأفراد، وتقوقع اهتماماتهم وخبراتهم، وتفتيت الجمهور الواحد إلى عدد كبير من الجماعات الصغيرة ذات الاتجاهات المتباينة، فالرسائل التي توجهها القنوات المتخصصة أصبحت أكثر فردية، مع الإشارة إلى أن الهدف الأساسي الذي تسعى أليه معظم القنوات المتخصصة هو تحقيق الأرباح " ص315- 326.
ويضيف علي محمد شمو 1999فيقول ":
1/ سيطرة الإعلان على القنوات التجارية، وعدم إخضاع الإعلان العالمي لمقتضيات الاستهلاك المحلي، فلغة الإعلان وشكله والمشتركون في أدائه يأتون من عالم أخر، ويتحدثون للمشاهد العربي بلغة عربية مدبلجة.
2/ تواضع نسبة المواد والبرامج الدينية، باستثناء بعض القنوات الفضائية المتخصصة، كما أن القنوات الفضائية الخاصة تتمتع بقدر أكبر من الحرية، أذا ما قيست بالقنوات الحكومية.
3/ في الوقت الذي تهاجم فيه القنوات الفضائية العربية مثيلاتها الأجنبية بدعوى تهديدها لعناصر ومقومات ثقافتنا العربية والإسلامية ، فأن بعض القنوات العربية تقدم برامجها، ما هو أكثر خطورة وتهديد لتلك القيم والأخلاقيات ". ص243.
ثانياً: المسلسلات التركية.
على ساحة الفضائيات العربية تدور معارك بين الثقافة العربية والثقافة المستوردة،والنتيجة أن المسلسلات التركية المد بلجة قد اكتسحت الشاشات العربية على حساب الدراما العربية، فلا يكاد بيت يخلو من متابعـة هـذه المسلسـلات مثل: " نـور- سنوات الضياع - الأجنحة المكسرة"وتعيدنا إلى المسلسلات المكسيكية التي انتشرت في مطلع التسعينات،ودشنت قناة mbc، الموجة ببثها لمجموعة من المسلسلات التركية المد بلجة ثم توالت هذه الأعمال حتى وصلت ذروتها مع عدد من المسلسلات التي رعت دبلجتها قناة أبو ظبي الأولى، وشجع هذا النجاح العديد من الفضائيات العربية الاتجاه نحو الدبلجة المزيد من المسلسلات وتعددت هذه الأخيرة لتحدث أثرا على أرض الواقع في الكثير من المجتمعات
I. أسباب انتشار المسلسلات التركية:
نور- سنوات الضياع-دموع الورد- الحلم الضائع-وتمضي الأيام-الحب المستحــيل العشــق الممنوع...عناوين لمسلسلات تركية مدبلجة عرفت انتشارا كبيرا في المجتمع العربي عامـة والمجتمع الجزائري خاصة إذ أصبحت حديث العام والخاص،فحـسب موقع الكتروني 2011: " أن بعض القنوات تتسارع للظفر بأخر المسلسلات ك: (أم- بي- سي) وأبو ظــبي التي زادتها الترجمـة السورية التي تعود عليها المشاهد من خلال الدراما السورية واستقطبت هذه المسلسلات كمـا هائلا من الجماهير العربية التي فشلت فشلا ذريعا في المجـتمع التركي،وهذا الإقبال الكبير عليها يعود إلى افتقار مجتمعنا العربي وخصوصا فئة الشباب للرومانسية،وتعطش الزوجين إلـى العاطفة،وتصحر الحياة الزوجية في الكثير مـن البيوت،ومرد ذلك إلى التربية بالقدوة فالزوجــان يتصرفان عاطفيا في الأغلب بنفس الطريـقة التي اعتاد على رؤيتها بين والديهما بما أمر به ديننا الحنيف إضافة إلى الكبت الاجتماعي نتيجة لتزاحم الاهتمامات والقضايا،ولم يتردد العديد مـــن الأزواج والزوجات في التمني من أن تنـتقل حالة الرومانسية المفرطة في المسلسل إلى منازلهم.
علاوة على ذلك نجد تشابها بين العادات والتقاليد التركية والعادات العربية، وكذلك الموضوعات الاجتماعية التي تناقشها هاته المسلسلات كقضايا الحب وقيم الأسرة مشكلات البطالة ". http:www,ALTAHRA;NET ,10/02/2011.
وتقول زهرة أعمر ستي 2008- 2009 : " أن سبب نجاح وانتشار هاته المسلسلات التركية هو عجز الدراما العربية عن لمس المشاعر إضافة إلى أن المتلقي يبحث عن التغيير،فالجيل القديم يفتقر إلى التعبير عن مشاعرهم،ووجد هذا الجيل في هذه الدراما طرقا جديدة للتعبير عن أحاسيسهم." ص85.
كما شهدت هذه المسلسلات إقبالا كبيرا من طرف الشبان هربا من مشاكلهم اليومية،خاصة البطالة والفراغ العاطفي إذ يجدون في تلك المسلسلات متنفسا عن مكبوتا تهم،وتدفعهم المشاهدة المستمرة التي تصور في مجملها حياة البذخ والترف إلى افتقار مستواهم المعيشي وبالتالي البحث عن وسائل للغنى وكسب المال حتى عن طريق سبل غير مشروعة وتعتبر الحرقة أصغر طريق إلى عالم الأحلام في نظرهم.
وفي استطلاع للرأي الذي أجراه موقع " أون- لاين "أن هناك مجموعة من الأسباب وراء الانتشار الكبير والمبالغ فيه الذي شهدته المسلسلات التركية المد بلجة وجاء الاستطلاع الذي شارك فيه 1823 شخص أن 43.6 بالمائة من المشاركين يرون أن انتشار المسلسلات يعود إلى الفراغ العاطفي في حين رأى 34.5 بالمائة من المصوتين أن ضعف الوازع الديني هو السبب وراء الانتشار فيما اعتبر16بالمائة أن عدم وجود بدائل إسلامية هو السبب،بينما أرجع 6بالمائة من المشاركين هذا الانتشار إلى الأزمات التي تعاني منها مجتمعاتنا.
II. مضامين المسلسلات التركية:
حسب الموقع الكتروني السابق فإن مجمل المسلسلات التركية تعتمد على تسليط الضوء على المواضيع العاطفية والاجتماعية،الأمر الذي يجعل من هذه المضامـين نمطا مقبولا لـدى الجمهور بحيث أنها تقدم بشكل جذاب وبأسلوب مشوق تعرض وبإلحاح موضـوعات الحب- الخلافات الزوجية والعائلية وتجاوزات العــمل والعلاقات المشبوهة....، إضافة إلى بعض القيم مثل:الانتقام-الغيرة والحسد-المغامرة والفـساد الأخلاقي،والحلول البسـيطة للمشـاكل المعقدة،إضافة إلى موضـوعات أخرى تدور في فلك الصراع بـين الطبقات ويحرص صانـعو الدراما التركية على إظهار المرأة على أنها المحرك الأساسي لواقع القصة، وهذا بدون شك لأنها مضامين موجهة للنساء.كما يحرص المنتجون على إبراز مفاتن النساء خاصة البطلة،فهي امرأة بريئة وجميلة تعترضها مشاكل عاطفية واقتصادية، محاطة بمجموعة من الرجال المستعدين لمساعدتها قصد التقرب منها والارتباط بها،وفي الجهة المقابلة نجد نساء منافســـات يضمرن الشر لهذه البطلة،ويحاولن اغتنام فرص الإيقاع بها في مشاكل.
ملابس النساء كانت فاضحة لا مانع أن تكون ملابس نوم،وهذا بغرض جلب الرجال من الجمهور ولإظهار الأناقة وتعليم النساء كيفية الاعتناء بجمالهن لكن هذا أدى بالكثير من الفتيات إلى تقليدهن،وحسب موقع أخر 23/2/2011 : " تبسط هذه المسلسلات العلاقات المحرمة بطريقة مظللة،حيث يجعلون من الزاني والزانية أبطالا يتعاطف الناس مع قصتهم ويصورونهم على أنهم قدوات ومثل أعلى للشباب،ويجيز لهم فعل أي شيء من المحرمات باسـم الحب.
أما فيما يتعلق بالمشاكل العائلية فهي تأخذ الحصة الثانية من حيث الأهمية بعد حصة الأسد التي تحظى بها الأحداث المتمحورة حول الحب والعلاقات العاطفية.
كما ركز مخرجو هذه المسلسلات على اختيار المواقع السياحية لتصوير مسلسلاتهم إضافة إلى عامل الأناقة وجمال الديكورات التي تم توظيفها في المسلسل.
III. ايجابيات وسلبيات المسلسلات التركية:
أثارت المسلسلات التركية جدلا واسعا بين مؤيدين ومعارضين،ووصل الجدل حولهما إلى منابر الجوامع،وصفحات الجرائد وشاشات التلفزيون الفضائية لما تحمله من مميزات ايجابية وأخرى سلبية لكن نجد أن ضررها أكبر بكثير من نفعها.
1/ ايجابيات المسلسلات التركية: حسب الموقع الالكتروني السابق نجد ايجابياتها كما يلـي:
ـ تعلم فنون التعامل الزوجية،فتستطيع المرأة احترام الرجل،لا أن تخاف منه،وأن تـقدر مجهوداته في الحياة،وأن تدعم زوجها،أما بالنسبة للرجل فيستطيع أن يتعلم الكثير منـها الرومانسية وتقدير المرأة واحترامها وأن يعرف أن للمرأة حق عليه وأن يتحمل المسؤولية معها.
ـ تلاحم الأسرة الواحدة،ونستفيد منها في علاقاتنا الأسرية.
ـ تبرز أشكال التكافل الاجتماعي من خلال إعطاء المال للفقراء ومساعدة المحتاجين.
ـ تكشف لنا عن الوجه السياحي الرائع والخلاب لتركيا من خلال المناظر التي تم فيها التصوير.
2/ سلبيات المسلسلات التركية:
ـ إن مضامين الأفكار الواردة من خلف الحدود قد تعصف ببناءات المجتمع،وتمزق أنسجـــــه وبالتالي يصعب السيطرة على ذهنية المتلقي لكون أن التأثير أحادي الجانب.
ـ المسلسلات التركية هي حملات منظمة ومدروسة تهدف إلى الغزو الثقافي والفكري.
ـ هي ملهاة عن ذكر الله وفيها ضياع للأوقات والأعمار التي سنحاسب عليها يوم القيامة،ونألف المعصية فلا يستطيع المرء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ـ تبث مفاهيم خطيرة لعل أهمها:تشجيع العلاقات المحرمة والقائمة على الصداقات والزنا واختلاط النساب فمن الطبيعي جدا لأي شخصية في المسلسل أن يكون عشيقا
لامه أو لأخته أو لابنته،ويستقبل أمر حمل أخته غير الشرعي بكل رحابة صدر،وكأن النخوة لم تكن يوما علـــى رؤوس الرجال يا سلام صار خالا بأسرع طريقة. بل لا نجد فيها ما يحرم ذلك من طب أو قانون أو عقيدة،حل سيتعلمه ويعتاد عليه جيلنا الصاعد.
كما تنشر هذه المسلسلات ثقافة العري والأزياء الغربية الفاضحة التي تسلب عقول الكثير من الفتيات لتقتل فيهن ما تبقى من الأخلاق.
ـ تثير الغرائز وتؤججها في زمن انتشرت فيه العنوسة والطلاق وعدم إمكانية الزواج المبكر، الأمر الذي يهدد المجتمع.
ـ تلغي الغيرة والقيم والمبادئ من القلب الحي ويصبح هم الإنسان شهوته فقط.
ـ اجتماع الأخ والأخت والأسرة ككل لمتابعة المسلسل بلقطاته المثيرة حتى أصبحنا نخاف على الفتاة من أخيها.
ـ هل تعلمون ماذا لو استمرت هذه المسلسلات بالبث لعشر سنوات مقبلة ؟
سيكون جيل 12 سنة ممن تابعو هذه المسلسلات أصبحوا بعمر 22 سنة وأصبح بمقدورهم فـعــل كل ما تبرمجوا عليه من هذه المسلسلات، سيصبح أبناؤنا نسخة عن مجتمعات فاسدة، وسيصـعب إصلاحهم وستفلت زمام الأمور من أيدينا.
نعم ستصبح سنوات الضياع هي عنوان سنواتنا المقبلة ولا نريد أن نهول الأمور، فحملات الغزو الثقافي لن تكون بين عشية وضحاها،ولا يملك الاستعمار عصا سحرية ليغيرنا بها في لحظات ،فالبرمجة اللغوية تقول في قاعدتها:أنك لو علمت طفلك أن 1+1=3، وفي المدرسة تعلم أن 1+1=3، والإعدادية والثانويـة تعلـم نفـس الشـيء،
فلن يقتنع وهو طالب جامعي ومثقف بــــــأن 1+1=2،فهي حملات منظمة ومدروسة يمكن أن تمتد لمائة سنة.
ثالثـاً: المجتـــمع الجزائري.
نحن نعيش اليوم في مجتمع تشعبت ثقافته وتعددت اتجاهاته وتباينت أفكاره وطموحاته وهذا ما يفرض علينا الإحاطة بما حولنا من أفكار وتصورات وعقليات وسلوكيات لنتمكن من فهم ما يجري وهكذا فان المتغيرات المحلية والدولية قد لا تـــترك الأمور على ما هي عليه فيحدث خلل وإرباك في حياة الفرد مما يؤثر سلبا على تــصوره الداخلي وعلى علاقته ببقية أفراد المجتمع.
I. لمحة عن المجتمع الجزائري.
يقول عشراتي سليمان 2002:"أن القطر الجزائري لم يكتسب اسمه الجزائر إلا في عصر متأخر ،فأغلب الروايات التاريخية ترجح أن تكون التسمية قد لحقت البلاد في العهد الإسلامي وربما بعد العهد ألموحدي تحديدا ،فالتاريخ يذكر أن باكين بن زيري هو باني قصبة الجزائر وقد تكون هذه التسمية تكرست للبلاد منذ ذلك الحين وبعضــهم يربط الصلة بين زيري وبين الجزائر فأصبحت دزاير غير أننا وجدنا تسمية أخرى مركبة تقوم على علاقة الإسناد إسناد لفظ الجزائر إلى قبيلة مزغنة البربرية:جزائر بني مزغــنة، والثابت أن هذا الوطن قد تلاحقت عليه عدة تسميات عبر العصور ،فقد سمي كذلك بنوميديا في العصر الروماني ،وسمي بموريتانيا، وسمي بأسماء عواصم وحواضر كان لها شأن توسيمه والإشارة إليه لكن التسمية التي قرت له وقدر لها أن تسترسل في الزمن هي تسمية الجزائر ومن المعلوم أن الوطن الجزائري عمرته سلالات قديمة وتراوحت عليه أعراف عديدة ". ص170.
والمجتمع الجزائري هو مجموعة من الأفراد يعيشون في منطقة معينة تجمعهم مقومات الدين والوطن واللغة والثقافة المشتركة والتاريخ الطويل.
ويمكننا حسب نفس المصدر السابق أن نوضح البنية الجسدية للإنســان الجزائري والتي هي: " بنية معتدلة القوام في عمومها وقد طابقت قالبها المتوسطي برسوخ لكننا عند التمحيص القريب للخصائص نجد ملامح الإنسان الجزائري وتقاطيع جسده تحمل في خطوطها شيئا من خصائص الجبل وبنات الأرض ومن أحوال المناخ.
لقد استوعب الإنسان الجزائري كل خصائصه باكتمال وعراقة ، فهو قد حوي خطوط افريقية كما تعكس ملامح زنوج صحرائه واستوعب سحنته الصعيدية الهلالـية في ملامح سكان هضابه كما تطابق مع بعده الخليجي تمام المطابقة في سحن أهل الواحات والقصــور كما حملت ملامح سكان المدن لا سيما الحواضر العريقة مثل:تلمسان،ملامح شامية وعراقـــية لكن الذي لا ريب فيه أن الإنسان الجزائري هو شخصية قائمة بذاتها ذات أبعاد نزو حـــية وإذا كان العالم قد استطاع أن يتعرف على الإنسان الجزائري ومنذ قرون من خلال وقائعه المتفجرة ومعتركاته المحتدمة فذلك لأنه إنسان محارب مقدام ". ص210.
ويضيف محفوظ سماتي2009:"أن الأمة الجزائرية هي أمة واحدة وان اختلفت ديارها وتعددت أجناسها ولا يمكن أن تعرف حقيقتها إلا بعد معرفة تاريـخها الماضي، فلا بد من تتبع السواقي والجداول إلى الينبوع الأول الذي هو الأصل". ص106.
ويزيد عشراتي سليمان بقوله:"أن الإنسان الجزائري ورث الطبع غير النضيج والذي يبدو به أحيانا ساذجا وأحيانا نزعا وأحيانا متهوشا، لكنه على الرغم من ذلك كله يظل نقي السريرة سريع التلبد سريع الصحو مهيأ للخير عديم العمق يفكر ضمن عقلية السرب أو القطيع عنيد من غير بعد نظر ولا حساب مسبق ،ويضيف قائلا أن الإنسان الجزائري ظل على مدى التاريخ يبحث عن السند المادي والمعنوي لأنه عاش دائما مست ريبا من الدول فاقدا للثـــقة فيها ،الأمر الذي أورثه بالمقابل إحساسا مزمنا بالصعلوكة المدنية والسياسية اتجاهها إذا صح التعبير،فهو لذا يحمل دائما مشاعر الحب والكراهية للدولة فهو يحن إليها لأنه قضى الزمن الطويل في البحث عنها وهو يحمل لها الكراهية لأنه طالما عانى من وطأتها،فلذا نراه حيالها وحيال رموزها جبانا بطلا في الآن ذاته،مقداما كصامعا". ص205.
ولا ينكر أحدا قبل هذا وبعده أن الجزائر ظلت منذ القرن السادس عشر تفاعل أسماء العالم بأحداث الجهاد والعراك ،لقد جاهد المجتمع الجزائري طيلة العهد التركي باستماتة وصمود وعاشت قرنا آخر وزيادة في كنف الاستعمار الفرنسي مجاهدة ثم أسفر
فجر تاريخها الحديث عن ثورة تحريرية عارمة وها قد عاودها الحنين إلى حمل البندقية.
يقول عبد العالي دبلة2004: " أن المجتمع الجزائري بعد الاستقلال كان خارجا من فترة استعمارية طويلة كلها فقر وحرمان وجهل وأمية،وتميزت مرحلة ما بين 62-65 بصراعات وتناقضات وذلك للاستفادة من ارث المعمرين الذين غادروا البلاد وتزكو ممتلكاتهم ،وتعرض المجتمع الجزائري خلالها إلى الطبقية الاجتماعية ويمكن وصفه في هذه المرحلة بالضعف وعدم الاستقرار يبحث عن إيجاد أماكن له في أرض الواقع". ص21.
وتوالت المراحل تلوى الأخرى على المجتمع الجزائري حسب معهد علم الاجتماع 1986: " حيث انطلقت العمليات الأساسية للتنمية وحركات جديدة لهيكلة المجتمع ، واتضح أن جسد المجتمع الجزائري قد أخذ ينسلخ ويغير من بشرته،ومقاييس التطور الايجابية لمجتمع المستقبل هي التي سهلت هذا الانسلاخ،ومنذ ذلك الحين فصاعدا فان البناء الاجتماعي سيتحدد ويتسرع وأن حركة الهيكلة التي بدأت في 1972 ستتطور كلية نحو تنمية متزنة وفي سياق التنمية يقول مالك بن نبي:"وهكذا يمكن أن نتعلم في هذه الظروف المعنى الأول للحضارة،وأن نتعلم معنى التحضر....، وأن يتعلم الإنسان كيف يعيش في جماعة، ويذرك في الوقت ذاته الأهمية الرئيسية لشبكة العلاقات الاجتماعية في تنظيم الحياة الإنسانية من أجل وظيفتها التاريخية " ص 120.
هذا ما علما إياه مالك بن نبي منذ عهد قريب لكننا لم نفهمه ونستوعبه وإنما تأرجحنا بين قيم سلفية منغلقة،وقيم حديثة مغتربة في استخلاص أسس التنمية الاجتماعية في كل المجالات.
ويقول أحمد زايد وعروس الزبير2005: " أننا عندما ننظر إلى المجتمع الجزائري اليوم لا نملك إلا أن نقر بوجود عدة انقسامات أخذت في العهدين الأخــيرين حدة لم تكن معروفة من قبل ومن أهمها توسع الهوة وتجذرها بين الأثرياء والفقراء،وتزايد التباعد بين الشمال والجنوب وبين المدن والأرياف وبين الناطقين بالعربية والناطقين بالأمازيغية، غير أن الانقسام الأكبر عمقا والأكثر تأثيرا هو الانقسام
الثقافي الذي يوزع الجزائريين إلى مجموعتين اثنين: مجموعة تنتمي إلى الثقافة العربية الإسلامية ولا تقبل لها بديلا ولا منافسا، ومجموعة تعيش وتفكر حسب أنماط وقيم الثقافة الغربية، ولا تتخيل إمكانية للحياة الفردية والجماعية خارجها وإذا كان هذا الانقسام يظهر باهتا وغير واع بنفسه عند عامة الناس فانه يأخذ لدى خاصيتهم شكلا أكثر وضوحا وأكثر تنظيرا ". ص67.
II. العقلية الجزائرية:
الحديث عن العقلية الجزائرية حسب عشراتي سليمان 2002: " يتجاوز بطبيعة الحال الحديث عن العقل المحض الذي هو تلك الفاعلية الإدراكية والتجريدية التي يتعامل بها الإنســان مع محيطه لان ايطار العقلية كما نتصور يشمل العقل ويستوعب خصائص أخرى متصلة بالشخصية في عمومها.
ومن المعلوم أن مفهوم العقلية في التداول الجزائري لا يعين معنى بعينه،ولكنه يومئ إلى جملة معاني تتحدد على نحو تقريبي في الذهنية الاجتماعية،وفي مستواها الثقافي،وارتقائها المعرفي،وفي مزاجها ودرجة استجابتها إذ أن العقل عند العامي ليس هو العقل عند المفكر ولا هو عند الفقيه.
إن العقلية الجزائرية هي مناط المنجزات المعرفية والروحية والسيكولوجية في كل ما تعاطاه الإنسان الجزائري أو لابسه عبر مساره التاريخي، ومن خلال التحولات التي طرأت عليه.
ومما لا شك فيه أن وتيرة الحركة التي تفاعل بها حياتنا المعاصرة موروثنا القومي باتت اليوم متسارعة يرافقها الكثير من الإتلاف الذي يذهب ضحيته في كل يوم مرصودنا الأخلاقي والنفسي والمعرفي وهو زمام عقليتنا وسجل معرفتنا الحق.
لقد استطاع مرور بعض العقود فقط من عمر الاستقلال أن يجعل من هذا المد للحركة الاجتماعية والثقافية،انجرافا حقيقيا يقلب التربة من حولنا تقليبا منكرا أصابنا معه كثير من الذهول تقيدت به الإرادة،فلم نتمكن حتى من التصدي له بمحاولة الفهم،وبتنا مهددين في ذاكرتنا،فكل يوم نفقد سجلات بارتحال الأجيال القديمة وهو ما سيجعلنا نفتقد بعد حين ليس بالطويل للشاهد التراثي الحي المعبر عن خصائصنا ومحدداتنا النفسية والوجدانية و القيمية.
فالظواهر المستجدة والمتكرسة بصورة آلية،أوشكت أن تأتي على بنية التقاليد التي تأصلت بها الشخصية الجزائرية،فحركة الهدم والإتلاف القيمي تستهدف البنية العتيقة من تراثنا خاصة من خلال الأعلام الأجنبي والتبعية المعرفية لا سيما بعد إن استنام لها الإنسان الجزائري وترك أمواجها تتقاذفه بمأساوية وهوج.
ومما لاشك فيه أن الاكتساح قد أتى على مساحات شاسعة من رصيد قيمنا فلم يعد اليوم يسعنا أن نتحدث بمصداقية عما يسميه البعض بالجزائر العميقة إلا على أساس من النسبية لا غير ومن المؤكد أن الضرر في الميدان الاجتماعي كان بالغا إذ أتى على كثير من جوانب الأصالة التي كانت لحياتنا في المشهد التقليدي الذي رعاه الآباء طويلا قبل أن يداهمهم التطور وانه لملفت للنظر أن تنتشر أعراض هذا التحول التعيس الذي اضطرت حياتنا أن تتكيف معه الذي لم يكن من انجازها وإنما ورثته عن الأخر.
في خضم هذا الواقع وجدت الأجيال الصاعدة نفسها تعيش شبابها من غير تحضير، وراحت تتكلف مواعيدها بارتجالية وتقليد أحزق للأجنبي إذ خان هذه الأجيال أن تجد ميراثا أهليا أصيلا يتكفل بفرحها ويضفي عليه البهجة والدفء وغابت الحميمية عن مناسباتنا فجأة أو كادت لان القيم العتيقة التي حانت تقام بهـا تلك المناسبـات لم تعد هي.
لقد أدى الانفتاح الشامل على الأعلام الدولي المصدر إلينا بتخطيط إلى تفشي روح تسترخس القيم التي تمثلها البيئة القديمة لان الثقافة الأمبرالية جنحت أكثر فأكثر إلى فرض مجال قومي لبيئة لم تعد محلية بل غدت بيئة كونية لان المجتمع الذي قوامه أجيال متزايدة من الناشئة والشباب قد باتت تعيش ليس الانبهار فحسب،ولكن التلقي المتكيف مع سائر ما يأتيه من مادة إعلامية لقد تكفلت ثقافة الهوائيات بتنشئة الأجيال وربطها بمنظومة القيم الغربية وتهيؤنا لان نندمج في النظام العالمي على حساب رصيدنا من أصالتنا.
ومن الثابت أن ما يعيشه المجتمع الجزائري على صعيد القيم المعنوية يعيشه أيضا على صعيد المقومات المادية من حيث الهدر لها والتفريط فيها،فالاستهلاك الغاشم والمتمادي لقيمنا العتــيقة يتوازى مع استهلاك أهوج وشرير لمقدراتنا المادية الأخرى من طاقة وماء وبساط سهلي فلاحي،وتراث حضاري وما إلى ذلك فكل هذه المظاهر الأتلافية التي نعيشها هي برمجة متواصلة منذ الاستقلال خاصة أنها هي بعض نتائج هذه العقلية التي تسيرنا وتدفعنا للمضـي في هذا السبيل،فالجزائري ولطول ما ناء به كاهله من أعباء الحرمان والعناء تهيأ لان يكتسب نفسية وصولية،نفسية باكية شاكية،إذ بات في الرهانات غير متمرس ولا صاحب عريكة، إذ بات في الرهانات غير متمرس ولا صاحب عريكة،وبات لا يبرح في الأرتكاسات أن يلـــقي بتبعية الفشل على الغير.
ومهما يكن من أمر فان مواصلة رصدنا لهذه الظواهر من شأنه أن يكشف لنا مزيدا من ملامح هذه العقلية الهدمية وإذا ما تساء لنا عن علة ذلك فسنقول إنها ضريبة التطور غير المدروس فطالما حفزتنا الثقافات المستوردة على الثورة على الموروث وها نحن قد نفذنا الخطة وتعرينا من ثوب أصالتنا،وبقي علينا أن نستنبت جلدنا من جديد.
ومن غير شك أن تدارك القيم أمر ممكن مادام هناك عقيدة راسخة تجمع ولا تفرق، عقيدة بلغت من تغلغلها في النفوس حدا جعلنا لا نفرح، ولا نترح إلا في كنفها وفي أجوائها " 182-187.
III. دور الثورة الجزائرية في مواجهة تحديات العولمة:
الزمن زمن بالنسبة لكل إنسان،ولكن بالنسبة للإنسان الفعال تتولد فيه حقيقة من حقائق الحياة ولحظات تنبض بالحيوية والأخذ من دروس الماضي وربط الحاضر بجذوره واستحضار نقاط القوة فيه يعني إضافة مدد آخر للقوة المعاصرة والتأمل في ذلك الماضي القريب يعني إضافة قوة إلى قوتنا وروحا إلى روحنا.
في هذا السياق تقول آمنة بواشري 2006: " أن أمتنا تعاني من حالات التجزئة والعدوان والسيطرة الأجنبية على منابع ثرواتها، فانه بات لزاما علينا أن نستحضر تلك الخصائص الرائعة التي تميزت بها الثورة نظرا لما تضمنته من قيادة رشيدة، اعتادت للجزائر هيبتها وأعطتها طابعا دوليا تزهو به أمام الدول ، وأمام التيارات السلبية التي جاءت بها رياح العولمة ، يجد وطنا نفسه مضطرا و مجبرا للدفاع عن هويته الثقافية التي هي أساس البناء المجتمعي كالجزائر التي تستهدفها ثقافة الاستهلاك ، حيث يؤول الأمر إلى تغريب الإنسان وعزله عن قضاياه ، وإدخال الضعف لديه والتشكيك في جميع قناعاته الوطنية والقومية والإيديولوجية والدينية ، وذلك بهدف إخضاعه نهائيا إلى واقع الإحباط ، فيقبل بالخضوع لهذه القوى أو التصالح معها ففي عصر العولمة يواجه الناس تهديدات جديدة لامتهم داخل مجتمعاتهم وأهمها الاستلاب الثقافي والغزو الفكري ، اللذان يعملان على تفتيت القوة الكامنة في نفوس أبناء هذه الأمة الواحدة وهي قوة الإسلام بكل ما يحمله من معاني عميقة ، وكذا محاربة اللغة العربية والعمل على إشاعة اللغة العامية وإدخال الخرافات من اجل إحباط الفكر الإسلامي وسلامته ، وقد لخص الدكتور الجزائري أبو قاسم سعد الله ما علمتنا إياه الثورة في سبع نقاط وهي: الجزائر الواحدة، حب الحرية، الوحدة الوطنية، العمل الجماعي، الثورة والثوابت،المساواة والخلق الكريم،العلم والعمل.
لقد علمتنا الثورة الكثير من، علمتنا كيف نستفيد من التجارب السابقة وكيف يجب أن تكون لدينا رؤى إستراتيجية لكل قضايانا وأمورنا وكيف نحافظ على كياننا ووجودنـا
وعلمتنا أيضا كــيف نتعلم أنها ثورة لم تأتي بها الأقدار عبثا أو من فراغ بل كانت خلاصة تجارب ثورية منذ ســنة 1830.
إن الفرد الجزائري اليوم وبعد مرور أكثر من خمسين عاما من اندلاع ثورية نوفمبر،يجد نفسه ملزما بحمل هذه الثورة والسير بها بوجدانه وهو يشق طريقه نحو حاضر متين ومستقبل جاد وبخاصة في عصر التغيرات السريعة حيث التنوع الثقافي الحضاري ووسائل الإعلام بتقنياتها الحديثة المتطورة قادرة على نشر الثقافة التي تريد.
إننا عندما نتأمل كيف وظف أسلافنا خلال الثورة وقبلها ،تلك القيم الرائعة التي أتى بها السلام نجد أنه لا منفذ لنا سوى توظيف هذه القيم التي هي موجودة إلى قيام الساعة ، وتجدر الإشارة هنا والحديث بدوره عن ضرورة التعلم والاستفادة من الماضي وكذا أثر التعليم في بلورة ذهـنية الإنسان وشخصيته ، أن التعليم يعتبر من المنافذ الرئيسية التي ينفذ منها الغزو الفكري والاستعمار الثقافي للأفراد والشعوب فقد لعبت المدرسة الفرنسية الاستعمارية دورا خطيرا في محاولة تدمير النشء الجزائري من الداخل وجعلهم غرباء في بلادهم وغرباء عن ثقافتـهم ولغتهم وكان الهدف فرنسة الجزائر كليا (فكرا- لغة- حضارة- ونهج حياة) وكذا تنصير الجزائريين عقيدة.
إن ثورة التحرير قدمت الكثير من الدروس للعالم برمته،لهذا نجد أكبر الجامعات العالية وخاصة بأمريكا وانجلترا وفرنسا،أصبحت تدرج الثورة الجزائرية في مناهجها التعليمية ليس ذلك من أجل أن يقولوا ثورة جزائرية ،وإنما هي فعلا ثورة بها دروس لمن يحب أن يتفوق وينجح وبنظرة متفحصة لخصائص الثورة التحريرية ،نجد أنها خصائص صالحة للتطبيق والعمل بها والاتصاف بها في كل وقت وفي أي مكان،فالأجدر بنا اليوم أن ننهل من ثورتنا ونأخذ منها الكثير." ص 96-101.