الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبيَّ بعده.
يُعرَّف العُجْبُ: بأنه الكِبْر والزُّهُوُّ، واستعظام النعمة، والركون إليها، مع نسيان إضافتها للمُنْعِم سبحانه. وقد سُئل ابن المبارك عن العُجْب، فقال: (أن ترى أن عندك شيئاً ليس عند غيرِك، لا أعلم في المصلين شيئاً شرًّا من العُجْب).
عباد الله، إنَّ العُجْبَ محرمٌ؛ بل هو من كبائر الذنوب، وعدَّه جماعةٌ من العلماء: من الشرك المُحبِط للعمل.
وللعُجْبِ أسباب مُتنوِّعة: فمنها: ضعف اليقين، وقِلَّة الاستعانة بالله تعالى. ومنها: الغفلة عن حقيقة الضعف البشري، وشدةِ تقلُّب القلوب. ومنها: عدم قراءة سِيَر السلف الصالح، وما كانوا عليه من مآثِرَ ومعرفةٍ بالله تعالى، وهَضْمٍ للنفس واحتقارِها. ومنها: الاغترار بالأعراض الدنيوية الزائلة المَهِينة. ومنها: الجهل بحقيقة الدنيا، وسرعة تَقَضِّيها، وأنها ليس بشيء، وأنها ملعونة وما فيها، إلاَّ ذكر الله وما والاه، وعالماً ومتعلِّماً. ومنها: الإعراض عن شُكر المولى تعالى على نعمه السابغة، وآلائه الجسيمة. ومنها: الأمن من مكر الله تعالى.
ومن أهم أسباب العُجب: كثرة المدح والإطراء، وأنْ يتقبَّلَ الممدوحُ ذلك بكلِّ ارتياح، وربما غَضِبَ إذا لم يُمدح! وقد قيل: قابِلُ المدحِ، كمادِحِ نفسِه.
ولقد حذَّر النبي صلى الله عليه وسلم من المدح المُؤدِّي للعُجب، أخرج "مسلم" في باب: النَّهْيِ عَنِ الْمَدْحِ إِذَا كَانَ فِيهِ إِفْرَاطٌ وَخِيفَ مِنْهُ فِتْنَةٌ عَلَى الْمَمْدُوح. حديثَ أَبِي بَكْرَةَ - رضي الله عنه – قَالَ: مَدَحَ رَجُلٌ رَجُلاً عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: «وَيْحَكَ! قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ، قَطَعْتَ عُنُقَ صَاحِبِكَ» مِرَارًا. وفي رواية: «قَطَعْتُمْ ظَهْرَ الرَّجُلِ». ثم قال: «إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ مَادِحًا صَاحِبَهُ لاَ مَحَالَةَ، فَلْيَقُلْ: أَحْسِبُ فُلاَنًا، وَاللَّهُ حَسِيبُهُ، وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا». معناه: أهلكتموه، وهذه استعارة من قَطْعِ العُنق، الذي هو القتل؛ لاشتراكهما في الهلاك، لكنْ هلاكُ هذا الممدوح في دينه، وقد يكونُ من جهة الدنيا؛ لِمَا يَشْتَبِهُ عليه من حالِه بالإعجاب. ومعنى: «وَلاَ أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا» أي: لا أقطعُ على عاقبةِ أحدٍ، ولا ضميرِه؛ لأنَّ ذلك مُغيَّب عنِّي. ولكن أحْسِبُ وأظنُّ؛ لوجود الظاهِر المُقتضِي لذلك).
والسؤال هنا: كيف يعرف المرء بأنَّ به مرضاً من أمراض العُجب؟
يَعْرف ويَكتشف العُجب في نفسه؛ إذا ردَّ الحقَّ، واحتقر الخلق. وإذا انفرد – دائماً - برأيه، ولم يَسْتشِرْ العُقلاءَ والفضلاء. وإذا تكبَّر على العلم الشرعي فلم يطلبه. وإذا اختال في مشيه. وإذا استعظم طاعةَ اللهِ واستكثرَها ﴿ وَلاَ تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ ﴾ [المدثر: 6]. وإذا غَمَزَ ولمَزَ الناس. وإذا تفاخَرَ بحسَبِه ونَسَبه. وإذا تفاخر بجمال خِلقَتِه - وما أكثره عند النساء. وإذا مدح نفسَه. وإذا نسي ذُنوبَه واستقلَّها. وإذا أصرَّ على خطئه. وإذا فَتَر عن طاعة الله؛ لِظَنِّه أنه قد حاز وحصَّل قدراً كبيراً كافياً منها. وإذا احتقر العُصاة.
وإنْ تَعْجَبْ فاعْجَبْ: من فقيرٍ مُتكبِّرٍ مُعجَبٍ بنفسه، فلا عقلَ له، ولا طاعات، ولا قوة له، ولا نسباً شريفاً، فهذا من شرِّ الناس؛ ولذلك جَعَلَه النبيُّ صلى الله عليه وسلم من الثَّلاثة الَّذين «لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ» رواه مسلم.
ولذا قيل:
كِبْرٌ بلا نَسَب، تِيهٌ بِلا حَسَبٍ *** فَخْرٌ بِلا أَدَب، هذا هو العَجَبُ!
عباد الله.. وإذا كان الأمر بهذه الصورة والصِّفات البَشِعة، فإنَّ للعُجب - حتماً - عواقِبَ وخِيمة، ومنها:
1- الهزيمة: قال تعالى: ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ [التوبة: 25]. أي: اذكروا إذْ أعجبتكم كثرتكم، وإنما أُعْجِبَ من أُعجِبَ من المسلمين بكثرتهم؛ لأنهم كانوا اثني عشر ألفاً، فقال بعضهم: لن نُغلَب اليوم من قِلَّة، فَوُكِلوا إلى هذه الكلمة، فلم تُغنِ الكثرةُ شيئاً عنهم، بل انهزموا، وثبت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وثبتت معه طائفة يسيرة.
2- حُلولُ مَقْتِ اللهِ تعالى وسَخَطِه: قال سبحانه: ﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [لقمان: 18]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ رَجُلٍ يَتَعَاظَمُ فِي نَفْسِهِ، وَيَخْتالُ في مِشْيَتِهِ؛ إلاَّ لَقِيَ اللهَ تَعَالَى وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» صحيح - رواه أحمد. وقال صلى الله عليه وسلم: «يُحْشَرُ الْمُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ، يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ» صحيح - رواه الترمذي. وفي الحديث القدسي: «قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا؛ قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ» صحيح - رواه أبو داود.
3- بُغْضُ الناسِ للمُعْجَب: وهذا من آثار بُغضِ الله تعالى للمُعجب المستكبر، فإنَّ الله إذا أبغض عبداً؛ حلَّ بُغضُه ونَزَل في قلوب المؤمنين. قال البغدادي رحمه الله: (والمَخِيلَة تَضُرُّ بالنفس؛ حيث تُكْسِبُها العُجبَ، وتَضُرُّ بالآخِرة؛ حيث تُكْسِبُ المَقْتَ من الناس).
4- إفساد العمل الصالح الذي قارَنَه: قال النووي رحمه الله: (اعلمْ أنَّ الإخلاص قد يَعْرِضُ له آفةُ العجب، فَمَنْ أُعجِبَ بعمله؛ حَبِطَ عملُه، وكذلك مَن استكبر؛ حَبِطَ عملُه).
5- فساد التَّصوُّر، وَرَدُّ الحق: المُعجَب لا يُدرك الأُمورَ على حقيقتها التي خَلَقَها الله تعالى؛ لأنَّ خيالات الغرور قد ذهَبتْ به كلَّ مَذهب، وممَّا يزيد فسادَ تصوُّرِه للأمور: إعراضُه عن تجارب الحُكماء، وآراء العُقلاء، وآداب العلماء، ونُصح الناصحين، فيقضي عُمرَه في سُفولٍ، واعتداد بالنفس.