ظَهَرتْ في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي مقالاتٌ تَصِفُ المرض الذي يسببه فيروس كورونا الجديد عند الإنسان (مرض كوفيد 19) بأنه مرضٌ يصيب الدم أساساً، واستَندَت المقالات لفحوصات أُجريتْ على أجسام المتوفين بهذا المرض، وأثبَتتْ بالمجهر الإلكتروني وجود فيروسات كورونا الجديد داخل الخلايا التي تبطِّن الأوعية الدموية.
رُبِطَتْ هذه الملاحظات بما نُشِرَ في دراسات سريرية سابقة عن تأثير الإصابة بهذا الفيروس على أعضاء متعددة في جسم الإنسان مثل الرئة والقلب والكلية والدماغ، ووفاة نحو 40% من المرضى بسبب إصابات قلبية ووعائية في هذه الأعضاء، كما أظهَرَ تشريحُ أجسام كثير من المتوفين بمرض كوفيد 19 وجود خثرات (جلطات) دموية داخل كثير من الأوعية الدموية (الشرايين والأوردة) في أعضاء مختلفة.
يدخل فيروس كورونا الجديد عبر الجهاز التنفسي إلى الرئة
* هل يسبب كوفيد 19 إصابة الأوعية الدموية أساساً؟
أثارتْ هذه النتائج تساؤلاً عن كيفية حدوث الوفاة في هذا المرض الجديد، وفيما إذا كانت حقيقته هي إصابةٌ في خلايا البطانة الداخلية للأوعية الدموية، أم أنه إصابةٌ في الخلايا التي تغطّي جدران الأنف والفم والحَلق والحنجرة والقصبات والرئتين مثلما ظَهَر في الدراسات الكثيرة التي نُشرتْ عن هذا المرض في بداية انتشاره العالمي؟
أصبح معروفاً منذ بداية هذه الجائحة أن المرض يبدأ بعَدوى تنفسية عن طريق الرذاذ الذي ينتشر أثناء الكلام والسعال والعطاس من المريض للآخرين، ثم يتكاثر الفيروس الجديد في خلايا الجهاز التنفسي، وتَظهَر الأعراض بعد حوالي 5 أيام بشكل سعال جاف وألم في الحَلق وارتفاع في الحرارة وأحياناً احتقان في الأنف والحَلق وما يُشبه الزكام أو نَزلَة البَرد، وقد لا تَظهَر أية أعراض مهمة لدى كثير من المرضى الأطفال والشباب، ولكن قد تتطور الأعراض وتزداد عند بعض الأشخاص، خاصة المسنّين والمُصابين بأمراض سابقة، ويَظهَر ضيق التنفس ويزداد السعال وارتفاع الحرارة حتى يضطر للذهاب للمستشفى حوالي 20% من المرضى، وتتطور الأعراض وتزداد شدة لدى حوالي 5% من المصابين، خاصة المسنّين الذين لديهم ارتفاع في ضغط الدم أو السكري أو مرض قلب سابق أو مرض رئوي أو قصة تدخين.. ويؤدي كل ذلك إلى وفاة ما بين 1% إلى 16% من المصابين على الرغم من العلاج في العناية المشددة.
وجد فيروس كورونا الجديد في الخلايا المبطنة للأوعية الدموية
* إصابة أعضاء الجسم في مرض كوفيد 19
أظهَرتْ دراساتٌ كثيرة أن هذا المرض لا يصيب الرئة فقط بل يؤثِّر كذلك على القلب والكبد والكلية والدماغ، ويُسبِّبُ جلطات في الرئة والمخ والأطراف والأصابع.. كما أظهَرتْ دراسات سابقة أهمية تأثير الإصابة بهذا الفيروس على عمل خضاب الدم في الكريات الحمر وتخفيف قدرتها على نَقلِ الأوكسجين، وقُدِّمتْ تفسيراتٌ كثيرة لهذه الإصابات العامة أهمها هو فَرطُ رَدِّ الفِعل المَناعي في ما يُسمى بالعاصفة المَناعية التي تؤذي الأوعية الدموية وبقية أعضاء الجسم.
كما أن تعدد إصابة الأعضاء هو ظاهرةٌ معروفة في كثير من الأمراض الجرثومية والفيروسية الأخرى والأمراض المَناعية خاصة في المراحل الشديدة الأخيرة.
* هل الإصابة الأساسية في مرض كوفيد 19 في الرئة أم في الأوعية الدموية؟
هناك كثير من الدراسات السابقة التي أظهَرتْ بوضوح تام إصابةَ الرئة في مرض كوفيد 19 في أبحاث مجهرية ومخبرية وسريرية وشعاعية. كما أن أبحاثاً تجريبية أظهَرتْ تفضيل فيروس كورونا الجديد للدخول في خلايا الجهاز التنفسي الغنية بمُستقبِلاته المناسبة التي تُسمى ace2، ولكن من المعروف أن هذه المُستقبِلات موجودة أيضاً في خلايا الجهاز الهضمي وفي الأوعية الدموية، وعلى كل حال فإن مفتاح الإجابة عن هذه التساؤلات ربما يَكمُن في الدراسات الوبائية التي أظهَرتْ أن الطريق الرئيسي لانتشار العدوى هي من خلال الجهاز التنفسي وليس عن طريق الدم، ولذا نستطيع ترجيح أن العدوى الأساسية والإصابة الرئيسية هي عن طريق جهاز التنفس، وانتشار الفيروسات في الدم وإصابة أعضاء أخرى في الجسم إنما يَحدثُ لاحقاً في مراحل شديدة ومتأخرة لدى بعض المرضى، خاصة إذا كان لديهم ضعف في مناعتهم لسبب مَرَضي آخر.
معرفة طريقة الإمراض بفيروس كورونا الجديد تساعد في اختيار أنسب العلاجات
* ما هي أهمية معرفة طريقة الإصابة بالمرض؟
تَعتَمدُ خطةُ العلاج على معرفة كيف يسبب الفيروس الضَّرر في الجسم (أو ما يسمى الإمراضية). فإذا افترضنا أن السبب الرئيسي في إمراضية الفيروس هو إصابة خضاب الدم، فربما يجب أن نركّز العلاج على تصحيح خضاب الدم. وإذا كانت إصابة الفيروس هي في الأوعية الدموية وحدوث الجلطات وتخثر الدم، فربما نركّز العلاج على أدوية سيولة الدم والأدوية التي تحسّن وظائف البِطانة الداخلية للأوعية الدموية.. ومن الواضح أن تَحَمسَّ كل باحِثٍ لاكتشافه المميز يجب ألا يَدفَع الأطباء إلى القفز لاستنتاجات متسرِّعَة لأن ذلك يؤثِّر على نتائج علاج المرضى وحياتهم. ومن الواضح أن التفكير بجانب واحد فقط من جوانب المرض والتركيز عليه وحدَه هو تبسيطٌ زائد للأمور، والحكمة تقتضي مراعاة نتائج هذه الدراسات جميعها عند وضع خطة علاجٍ متكاملة تتوجَّهُ نحو القضاء على الفيروس ومنع تكاثره وتحسين وظائف نَقل الأوكسجين في الجسم وإعطاء أدوية سيولة الدم وربما الكورتيزون لتعديل العاصفة المَناعية إن حدثَتْ، وربما إعطاء المضادات الحيوية إن وجِدَ التهابٌ جرثومي مرافِق.. وهكذا تقتضي الحكمة إذا هاجَم الفيروسُ أجسامنا بطرقٍ متعددة فيجب أن نواجهه بأساليب متعدّدة في العلاج وليس بتبسيط العلاج وتركيزه على طريقة واحدة.
منقول