الدر الثمين في فقه اسم الله المبين
عباد الله:
إن من أعظم نعم الله عز وجل على الإنسان أنه سبحانه وتعالى قد اختصه من دون خلقه بالبيان والإفصاح
فإنّ صِفَة البيان من امْتِنان الله عز وجل على الإنسان
ومن أَخَصِّ خصائص الإنسان
والبيان هو القُدْرة عن التعبير، التعبير عن الأفكار وعن التصَوُّرات والمشاعر وعن العواطِف
وكلُّ ما يَعْتلج في نفْس الإنسان من مشاعر وعواطِف
وخواطِر يمكِن أنْ يُعَبِّر عنها, فالبيان من أخصِّ خصائص الإنسان,
فَيُمْكِن أنْ يُعَبِّر عنها بِلِسانِه,
ويُمْكن أنْ يُعَبِّر عنها بِقَلَمِهِ, ويُمْكن أنْ يُصْغي إليها بِأُذُنِهِ,
ويُمكن أنْ يفْهَمَها بِعقله
قال تعالى ممتنّا على بني البشر: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآَنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ) [ الرحمن 1ـ4]
فالبيان هو الإفْصاح والتعبير والكشف والإبانة والتوضيح
وورد في الأثر أنَّ البيان يطرد الشيطان.
والله عز وجل الموصوف بصفات الكمال لم ينعم على عباده بصفة من صفات الكمال
والقوة إلا اختص نفسه عز وجل بكمال الصفة
واشتق منها لنفسه عز وجل اسما يوافق هذه الصفة الكاملة
وعلى هذه القاعدة المتعلقة بإرادة الله ومشيئته
فإن من أسمائه عز وجل: المبين
والمبين هو الموصوف بالإبانة
وبيان الشيء ظهوره ووضوحه
والإبانة: الإظهار والإيضاح
وسمي الكلام بياناً لكشفه عن المقصود وإظهاره نحو:
(هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ) [آل عمران:138].
والمبين كاسم من أسماء الله عز وجل له عدة معاني
منها : أنه عز وجل المنفرد بوصفه المغاير لخلقه في الصفات والأسماء والأفعال,
ومنها أنه سبحانه المبين لعباده سبيل الرشاد الموضح لهم الأعمال الصالحة التي ينالون بها الثواب العظيم,
والأعمال السيئة التي ينالون عليها العقاب,
قال الله تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ)[التوبة: 115],
أي ما كان الله ليصرف الهداية عن قوم ويكتب لهم الضلال أو يتركهم ضالين,
جاهلين بأمور دينهم, إلا بعد أن يبين لهم ما يجب اتقاؤه من الأقوال والأفعال
ومن معاني اسمه “المبين”
-كذلك – أنه سبحانه البَيِّنُ أمرُه في الوحدانية,
فهو الإله الحقّ المُبِين لا شريك له
قال تعالى: (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) [الحج: 62],
فهو الواحد في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله
وله الأسماء الحسنى والصفات العلا
وله الجلال والجمال والكمال.
ورد اسم الله المبين في القرآن في قوله تعالى:
(يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 25],
ولم يُذكر اسم الله المبين في القرآن الكريم سوى في هذا الموضع
إلا أن هذا اللفظ ورد وصفاً وصف الله به أموراً في نصوص كثيرة, ومن ذلك:
اللوح المحفوظ الذي حوى ما كان وما هو كائن وما سيكون,
وقد وصفه الله تعالى بالمبين
فيما شمل وحوى من علم الله الواسع
بقوله: (وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الأنعام: 59].
ووصف الله نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأن أمر دعوته ومهمته ووظيفته,
كل ذلك أمر مبين ظاهر البيان, لا يلتبس على من تفكّر في أمره قليلا:
(أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الأعراف: 184], وزكى الله القرآن بقوله تعالى: (الر * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ) [الحجر: 1],
وما جاء به عليه الصلاة والسلام من الشرع الحكيم, والمنهاج القويم وصفه
بقوله تعالى: (فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ) [النمل: 79],
وعن الجزاء الجميل والثواب الجزيل
وما يكافئ المولى المبين عباده الطائعين يوم القيامة
قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ) [الجاثية: 30]
والقرآن الكريم مليء بالوصف بالمبين لكثير من الأشياء التي لا يتسع المقام لإيرادها,
ولكن يكفي أن ندرك أن شريعة الإسلام
بل كل الشرائع السماويّة, وما يتعلق بدعوة الرسل ورسالاتهم إلى أممهم كل ذلك يوصف بالمبين
لأنه بيّن لا لبس فيه ولا خلط ولاشطط.
وقد بين الله لعباده آياته بكل أنواع البيان
وأقام حجته على خلقه بأنواع البرهان
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ) [الحج: 5],
وقال عز وجل: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 138],
أي ما ذكرناه لكم من وعد ووعيد
وأوامر ونواهي
ومن أحوال المكذبين
فيه دلالة ظاهرة
أنها تبين للناس الحق من الباطل
وتحدد أهل السعادة من أهل الشقاوة,
بيان يكشف لهم الحقائق ويرفع عنهم الالتباس
, يهديهم إلى ما فيه خيرهم وسعادتهم,
لأنهم هم المنتفعون بالآيات فتهديهم إلى سبيل الرشاد
وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي،
وأما باقي الناس فهي بيان لهم
تقوم به عليهم الحجة من الله، ليهلك من هلك عن بينة, مع أن الإشارة
في قوله: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ)
تحتمل أن تعود على القرآن العظيم
والذكر الحكيم
وأنه بيان للناس عموما
وهدى وموعظة للمتقين.