فصل حديث إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة.. ...
وهو ذكرنا في دلائل النبوة الحديث الذي رواه أبو داود في سننه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها)).
فقال جماعة من أهل العلم منهم أحمد بن حنبل فيما ذكره ابن الجوزي وغيره: إن عمر بن عبد العزيز كان على رأس المائة الأولى، وإن كان هو أولى من دخل في ذلك وأحق، لإمامته وعموم ولايته، وقيامه واجتهاده في تنفيذ الحق، فقد كانت سيرته شبيهة بسيرة عمر بن الخطاب، وكان كثيراً ما تشبه به.
وقد جمع الشيخ أبو الفرج ابن الجوزي سيرة لعمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز، وقد أفردنا سيرة عمر بن الخطاب في مجلد على حدة، ومسنده في مجلد ضخم، وأما سيرة عمر بن عبد العزيز فقد ذكرنا منها طرفاً صالحاً هنا، يستدل به على ما لم نذكره.
وقد كان عمر رحمه الله يعطي من أنقطع إلى المسجد الجامع من بلده وغيرها، للفقه ونشر العلم وتلاوة القرآن، في كل عام من بيت المال مائة دينار، وكان يكتب إلى عماله أن يأخذوا بالسنة، ويقول: إن لم تصلحهم السنة فلا أصلحهم الله، وكتب إلى سائر البلاد أن لا يركب ذمي من اليهود والنصارى وغيرهم على سرج، ولا يلبس قباء ولا طيلساناً ولا السراويل، ولا يمشين أحد منهم إلا بزنار من جلد، وهو مقرون الناصية، ومن وجد منهم في منزله سلاح أخذ منه. (ج/ص: 9/233)
وكتب أيضاً أن لا يستعمل على الأعمال إلا أهل القرآن، فإن لم يكن عندهم خير فغيرهم أولى أن لا يكون عنده خير.
وكان يكتب إلى عماله: اجتنبوا الأشغال عند حضور الصلاة، فإن من أضاعها فهو لما سواها من شرائع الإسلام أشد تضييعاً.
وقد كان يكتب الموعظة إلى العامل من عماله فينخلع منها، وربما عزل بعضهم نفسه عن العمالة وطوى البلاد من شدة ما تقع موعظته منه، وذلك أن الموعظة إذا خرجت من قلب الواعظ دخلت قلب الموعوظ.
وقد صرح كثير من الأئمة بأن كل من استعمله عمر بن عبد العزيز ثقة، وقد كتب إليه الحسن البصري بمواعظ حسان ولو تقصينا ذلك لطال هذا الفصل، ولكن قد ذكرنا ما فيه إشارة إلى ذلك.
وكتب إلى بعض عماله: أذكر ليلة تمخض بالساعة فصباحها القيامة، فيالها من ليلة وياله من صباح، وكان يوماً على الكافرين عسيراً.
وكتب إلى آخر: أذكرك طول سهر أهل النار في النار مع خلود الأبد، وإياك أن ينصرف بك من عند الله فيكون آخر العهد بك، وانقطاع الرجاء منك، قالوا: فخلع هذا العامل نفسه من العمالة، وقدم على عمر فقال له: مالك؟ فقال: خلعت قلبي بكتابك يا أمير المؤمنين، والله لا أعود إلى ولاية أبداً.
فصل صفات عمر بن عبد العزيز ووصاياه.
وقد رد جميع المظالم كما قدمنا، حتى أنه رد فص خاتم كان في يده، قال: أعطانيه الوليد من غير حقه، وخرج من جميع ما كان فيه من النعيم في الملبس والمأكل والمتاع، حتى أنه ترك التمتع بزوجته الحسناء، فاطمة بنت عبد الملك، يقال: كانت من أحسن النساء، ويقال: أنه رد جهازها إلى بيت المال، والله أعلم.
وقد كان دخله في كل سنة قبل أن يلي الخلافة أربعين ألف دينار، فترك ذلك كله حتى لم يبق له دخل سوى أربعمائة دينار في كل سنة، وكان حاصله في خلافته ثلاثمائة درهم.
وكان له من الأولاد جماعة، وكان ابنه عبد الملك أجلهم، فمات في حياته في زمن خلافته، حتى يقال: إنه كان خيراً من أبيه، فلما مات لم يظهر عليه حزن، وقال: أمر رضيه الله فلا أكرهه.
وكان قبل الخلافة يؤتى بالقميص الرفيع اللين جداً فيقول: ما أحسنه لولا خشونة فيه، فلما ولي الخلافة كان بعد ذلك يلبس القميص الغليظ المرقوع، و لا يغسله حتى يتسخ جداً، ويقول: ما أحسنه لولا لينه. وكان يلبس الفروة الغليظة.
وكان سراجه على ثلاث قصبات في رأسهن طين، ولم يبن شيئاً في أيام خلافته، وكان يخدم نفسه بنفسه، وقال: ما تركت شيئاً من الدنيا إلا عوضني الله ما هو خير منه.
وكان يأكل الغليظ، ولا يبالي بشيء من النعيم، ولا يتبعه نفسه ولا يوده، حتى قال أبو سليمان الداراني: كان عمر بن عبد العزيز أزهد من أويس القرني، لأن عمر ملك الدنيا بحذافيرها وزهد فيها، ولا ندري حال أويس لو ملك ما ملكه عمر كيف يكون؟ ليس من جرب كمن لم يجرب.
وتقدم قول مالك بن دينار: إنما الزاهد عمر بن عبد العزيز.
وقال عبد الله بن دينار: لم يكن عمر يرتزق من بيت المال شيئاً.
وذكروا أنه أمر جارية تروحه حتى ينام فروحته، فنامت هي، فأخذ المروحة من يدها وجعل يروحها، ويقول: أصابك من الحر ما أصابني. (ج/ص: 9 /234)
وقال له رجل: جزاك الله عن الإسلام خيراً. فقال: بل جزى الله الإسلام عني خيراً.
ويقال: إنه كان يلبس تحت ثيابه مسحاً غليظاً من شعر، ويضع في رقبته غلاً إذا قام يصلي من الليل، ثم إذا أصبح وضعه في مكان وختم عليه فلا يشعر به أحد، وكانوا يظنونه مالاً أو جوهراً من حرصه عليه، فلما مات فتحوا ذلك المكان فإذا فيه غل و مسح.
وكان يبكي حتى يبكي الدم من الدموع، ويقال: إنه بكى فوق سطح حتى سال دمعه من الميزاب، وكان يأكل من العدس ليرق قلبه وتغزر دمعته، وكان إذا ذكر الموت اضطربت أوصاله، وقرأ رجل عنده {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ} الآية [الفرقان: 13]، فبكى بكاءً شديداً، ثم قام فدخل منزله، وتفرق الناس عنه.
وكان يكثر أن يقول: اللهم سلِّم سلِّم.
وكان يقول: اللهم أصلح من كان في صلاحه صلاح لأمة محمد صلى الله عليه وسلم، وأهلك من كان في هلاكه صلاح أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال: أفضل العبادة أداء الفرائض، واجتناب المحارم.
وقال: لو أن المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى يحكم أمر نفسه لتواكل الناس الخير، ولذهب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولقل الواعظون والساعون لله بالنصيحة.
وقال: الدنيا عدوة أولياء الله، وولية أعداء الله، أما الأولياء فغمتهم و أحزنتهم، وأما الأعداء فغرتهم وشتتهم وأبعدتهم عن الله.
وقال: قد أفلح من عصم من المراء والغضب والطمع.
وقال لرجل: من سيد قومك؟ قال: أنا، قال: لو كنت كذلك لم تقله.
وقال: أزهد الناس في الدنيا علي بن أبي طالب.
وقال: لقد بورك لعبد في حاجة أكثر فيها سؤال ربه، أعطى أو منع.
وقال: قيدوا العلم بالكتاب، وقال لرجل: علم ولدك الفقه الأكبر: القناعة وكف الأذى.
وتكلم رجل عنده فأحسن فقال: هذا هو السحر الحلال.
وقصته مع أبي حازم مطولة حين رآه خليفة وقد شحب وجهه من التقشف، وتغير حاله، فقال له: ألم يكن ثوبك نقياً؟ ووجهك وضياً؟ وطعامك شهياً؟ ومركبك وطياً؟ فقال له: ألم تخبرني عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من ورائكم عقبة كؤوداً لا يجوزها إلا كل ضامر مهزول))؟ ثم بكى حتى غشي عليه، ثم أفاق فذكر أنه لقي في غشيته تلك أن القيامة قد قامت، وقد استدعى بكل من الخلفاء الأربعة، فأمر بهم إلى الجنة، ثم ذكر من بينه وبينهم فلم يدر ما صنع بهم، ثم دعي هو فأمر به إلى الجنة، فلما انفصل لقيه سائل فسأله عما كان من أمره فأخبره، ثم قال للسائل: فمن أنت؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف قتلني ربي كل قتلة قتلة، ثم ها أنا انتظر ما ينتظره الموحدون.
وفضائله ومآثره كثيرةً جداً، وفيما ذكرنا كفاية ولله الحمد والمنة، وهو حسبنا ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا به.
ذكر سبب وفاته رحمه الله
كان سببها السل، وقيل: سببها أن مولى له سمه في طعام أو شراب، وأعطى على ذلك ألف دينار، (ج/ص: 9/235) فحصل له بسبب ذلك مرض، فأخبر أنه مسموم، فقال: لقد علمت يوم سقيت السّم، ثم استدعى مولاه الذي سقاه، فقال له: ويحك !! ما حملك على ما صنعت؟ فقال: ألف دينار أعطيتها. فقال: هاتها، فأحضرها فوضعها في بيت المال، ثم قال له: اذهب حيث لا يراك أحد فتهلك، ثم قيل لعمر: تدارك نفسك، فقال: والله لو أنّ شفائي أن أمسّ شحمة أذني، أو أوتى بطيب فأشمه ما فعلت، فقيل له: هؤلاء بنوك - وكانوا اثني عشر - ألا توصي لهم بشيء فإنهم فقراء؟ فقال: {إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ} [الأعراف: 196] والله لا أعطيتهم حق أحد وهم بين رجلين إما صالح فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح فما كنت لأعينه على فسقه.
وفي رواية: فلا أبالي في أي واد هلك.
وفي رواية: أفأدع له ما يستعين به على معصية الله فأكون شريكه فيما يعمل بعد الموت؟ ما كنت لأفعل.
ثم استدعى بأولاده فودعهم وعزاهم بهذا، وأوصاهم بهذا الكلام، ثم قال: انصرفوا عصمكم الله وأحسن الخلافة عليكم.
قال: فلقد رأينا بعض أولاد عمر بن عبد العزيز يحمل على ثمانين فرس في سبيل الله، وكان بعض أولاد سليمان بن عبد الملك - مع كثرة ما ترك لهم من الأموال - يتعاطى ويسأل من أولاد عمر بن عبد العزيز، لأن عمر وكَّل ولده إلى الله عز وجل، وسليمان وغيره إنما يكلون أولادهم إلى ما يدعون لهم، فيضيعون وتذهب أموالهم في شهوات أولادهم.
وقال يعقوب بن سفيان: ثنا أبو النعمان، ثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قيل لعمر بن عبد لعزيز: يا أمير المؤمنين لو أتيت المدينة، فإن قضى الله موتاً دفنت في القبر الرابع مع رسول صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، فقال: و الله لأن يعذبني الله بكل عذاب، إلا النار فإنه لا صبر لي عليها، أحب إلي من أن يعلم الله من قلبي أني لذلك الموضع أهل.
قالوا: وكان مرضه بدير سمعان من قرى حمص، وكانت مدة مرضه عشرين يوماً، ولما احتضر قال: أجلسوني، فأجلسوه، فقال: إلهي أنا الذي أمرتني فقصرت، ونهيتني فعصيت، ثلاثاً، ولكن لا إله إلا الله، ثم رفع رأسه فأحدَّ النظر، فقالوا: إنك لتنظر نظراً شديداً يا أمير المؤمنين، فقال: إني لأرى حضرة ما هم بإنس ولا جان، ثم قبض من ساعته.
وفي رواية أنه قال لأهله: اخرجوا عني، فخرجوا وجلس على الباب مسلمة بن عبد الملك وأخته فاطمة، فسمعوه يقول: مرحباً بهذه الوجوه التي ليست بوجوه إنس ولا جان ثم قرأ {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ثم هدأ الصوت فدخلوا عليه فوجدوه قد غمض وسوي إلى القبلة وقبض. (ج/ص: 9/236)
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: ثنا عبد الملك بن عبد العزيز، عن الدراوردي، عن عبد العزيز بن أبي سلمة، أن عمر بن عبد العزيز لما وضع عند قبره هبت ريح شديدة فسقطت صحيفة بأحسن كتاب، فقرأوها فإذا فيها: بسم الله الرحمن الرحيم براءة من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، فأدخلوها بين أكفانه، ودفنوها معه.
وروى نحو هذا من وجه آخر ابن عساكر في ترجمة عبد الصمد بن إسماعيل بسنده، عن عمير بن حبيب السلمي، قال: أسرت أنا وثمانية في زمن بني أمية، فأمر ملك الروم بضرب رقابنا، فقتل أصحابي وشفع في بطريق من بطارقة الملك، فأطلقني له، فأخذني إلى منزله، وإذا له ابنة مثل الشمس، فعرضها علي على أن يقاسمني نعمته وأدخل معه في دينه فأبيت، وخلت بي ابنته، فعرضت نفسها علي فامتنعت، فقالت: ما يمنعك من ذلك؟ فقلت: يمنعني ديني، فلا أترك ديني لامرأة ولا لشيء. فقالت: تريد الذهاب إلى بلادك؟ قلت: نعم، فقالت: سر على هذا النجم بالليل واكمن بالنهار، فإنه يلقيك إلى بلادك، قال: فسرت كذلك، قال: فبينا أنا في اليوم الرابع مكمن إذا بخيلٍ مقبلةٍ، فخشيت أن تكون في طلبي، فإذا أنا بأصحابي الذين قتلوا ومعهم آخرون على دواب شهب، فقالوا: عمير؟ فقلت: عمير. فقلت لهم: أوليس قد قتلتم، قالوا: بلى، ولكن الله عز وجل نشر الشهداء وأذن لهم أن يشهدوا جنازة عمر بن عبد العزيز، قال: ثم قال لي بعضهم: ناولني يدك يا عمير، فأردفني فسرنا يسيراً ثم قذف بي قذفة وقعت قرب منزلي بالجزيرة، من غير أن يكون لحقني شر.
وقال رجاء بن حيوة: كان عمر بن عبد العزيز قد أوصى إلي أن أغسله وأكفنه، فإذا حللت عقدة الكفن أن أنظر في وجهه فأدلي ، ففعلت فإذا وجهه مثل القراطيس بياضاً، وكان قد أخبرني أنه كل من دفنه قبله من الخلفاء وكان يحل عن وجوههم فإذا هي مسودة.
وروى ابن عساكر في ترجمة يوسف بن ماهك قال: بينما نحن نسوي التراب على قبر عمر بن عبد العزيز إذ سقط علينا من السماء كتاب فيه: بسم الله الرحمن الرحيم أمان من الله لعمر بن عبد العزيز من النار، ساقه من طريق إبراهيم بن بشار، عن عباد بن عمرو، عن محمد بن يزيد البصري، عن يوسف بن ماهك، فذكره وفيه غرابة شديدة، والله أعلم.
وقد رئيت له منامات صالحة، وتأسف عليه الخاصة والعامة، لا سيما العلماء والزهاد والعباد، ورثاه الشعراء، فمن ذلك ما أنشده أبو عمرو الشيباني لكثير عزة يرثي عمر: (ج/ص: 9/237)
عمت صنائعه فعم هلاكه * فالناس فيه كلهم مأجور
والناس مأتمهم عليه واحد * في كل دار رنة وزفير
يثني عليك لسان من لم توله * خيراً لأنك بالثناء جدير
ردت صنائعه عليه حياته * فكأنه من نشرها منشور
وقال جرير يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله:
ينعى النعاة أمير المؤمنين لنا * يا خير من حج بيت الله واعتمرا
حملت أمراً عظيماً فاضطلعت به * وسرت فيه بأمر الله يا عمرا
الشمس كاسفة ليست بطالعة * تبكي عليك نجوم الليل والقمرا
وقال محارب بن دثار رحمه الله يرثي عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى:
لو أعظم الموت خلقاً أن يواقعه * لعدله لم يصبك الموت يا عمر
كم من شريعة عدل قد نعشت لهم * كادت تموت وأخرى منك تنتظر
يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي * على العدول التي تغتالها الحفر
ثلاثة ما رأت عيني لهم شبهاً * تضم أعظمهم في المسجد الحفر
وأنت تتبعهم لم تأل مجتهداً * سقياً لها سنن بالحق تفتقر
لو كنت أملك والأقدار غالبة * تأتي روحاً وتبياناً وتبتكر
صرفت عن عمر الخيرات مصرعه * بدير سمعان لكن يغلب القدر
قالوا: وكانت وفاته بدير سمعان من أرض حمص، يوم الخميس، وقيل: الجمعة لخمس مضين، وقيل: بقين من رجب، وقيل: لعشر بقين منه، سنة إحدى، وقيل: ثنتين ومائة، وصلى عليه ابن عمه مسلمة بن عبد الملك، وقيل: صلى عليه يزيد بن عبد الملك، وقيل: ابنه عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، (ج/ص: 9/238) وكان عمره يوم مات تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً، وقيل: أنه جاوز الأربعين بأشهر، وقيل: بسنة ، وقيل: بأكثر، وقيل: أنه عاش ثلاثاً وستين سنة، وقيل: ستاً وثلاثين، وقيل: سبعاً وثلاثين، وقيل: ثمانياً وثلاثين سنة، وقيل: ما بين الثلاثين إلى الأربعين ولم يبلغها.
وقال أحمد، عن عبد الرزاق، عن معمر: مات على رأس خمس وأربعين سنة.
قال ابن عساكر: وهذا وهم، والصحيح الأول تسعاً وثلاثين سنة وأشهراً.
وكانت خلافته سنتين وخمسة أشهر وأربعة أيام، وقيل: أربعة عشر يوماً، وقيل: سنتان ونصف.
وكان رحمه الله أسمر دقيق الوجه حسنه، نحيف الجسم، حسن اللحية، غائر العينين، بجبهته أثر شجة، وكان قد شاب وخضب رحمه الله، والله سبحانه أعلم.
فصل خلافة عمر بن عبد العزيز.
لما ولي عمر بن عبد العزيز الخلافة جاءه صاحب الشرطة ليسير بين يديه بالحربة على عادته مع الخلفاء قبله، فقال له عمر: مالي ولك؟ تنح عني، إنما أنا رجل من المسلمين. ثم سار وساروا معه حتى دخل المسجد، فصعد المنبر واجتمع الناس إليه، فقال: أيها الناس ! إني قد ابتليت بهذا الأمر عن غير رأي كان مني فيه، ولا طلبة له، ولا مشورة من المسلمين، وإني قد خلعت ما في أعناقكم من بيعتي، فاختاروا لأنفسكم ولأمركم من تريدون. فصاح المسلمون صيحة واحدة: قد اخترناك لأنفسنا وأمرنا، ورضينا كلنا بك.
فلما هدأت أصواتهم حمد الله وأثنى عليه وقال: أوصيكم بتقوى الله، فإن تقوى الله خلف من كل شيء، وليس من تقوى الله خلف، وأكثروا من ذكر الموت فإنه هادم اللذات، وأحسنوا الاستعداد له قبل نزوله، وإن هذه الأمة لم تختلف في ربها ولا في كتابها ولا في نبيها، وإنما اختلفوا في الدينار والدرهم، وإني والله لا أعطي أحداً باطلاً، ولا أمنع أحداً حقاً، ثم رفع صوته فقال: أيها الناس ! من أطاع الله وجبت طاعته، ومن عصى الله فلا طاعة له، أطيعوني ما أطعت الله، فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم.
ثم نزل فدخل فأمر بالستور فهتكت، والثياب التي كانت تبسط للخلفاء أمر بها فبيعت، وأدخل أثمانها في بيت المال، ثم ذهب يتبوأ مقيلاً فأتاه ابنه عبد الملك فقال: يا أمير المؤمنين ماذا تريد أن تصنع؟ قال: يا بني أقيل، قال: تقيل ولا ترد المظالم إلى أهلها، فقال: إني سهرت البارحة في أمر سليمان فإذا صليت الظهر رددت المظالم، فقال له ابنه: ومن لك أن تعيش إلى الظهر؟ قال: ادن مني أي بني، فدنا منه فقبل بين عينيه وقال: الحمد لله الذي أخرج من صلبي من يعينني على ديني. (ج/ص: 9/239) ثم قام وخرج وترك القائلة، وأمر مناديه فنادى: ألا من كانت له مظلمة فليرفعها، فقام إليه رجل ذمي من أهل حمص فقال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله، قال: ما ذاك؟ قال: العباس بن الوليد بن عبد الملك اغتصبني أرضي، والعباس جالس، فقال له عمر: يا عباس ما تقول؟ قال: نعم ! أقطعنيها أمير المؤمنين الوليد، وكتب لي بها سجلاً، فقال عمر: ما تقول يا ذمي؟ قال: يا أمير المؤمنين أسألك كتاب الله تعالى، فقال عمر: نعم كتاب الله أحق أن يتبع من كتاب الوليد، قم فاردد عليه ضيعته، فردها عليه، ثم تتابع الناس في رفع المظالم إليه فما رفعت إليه مظلمة إلا ردها سواء كانت في يده أو في يد غيره، حتى أخذ أموال بني مروان وغيرهم مما كان في أيديهم بغير استحقاق، فاستغاث بنو مروان بكل واحد من أعيان الناس، فلم يفدهم ذلك شيئاً، فأتوا عمتهم فاطمة بنت مروان - وكانت عمته - فشكوا إليها ما لقوا من عمر، وأنه قد أخذ أموالهم، ويستنقصون عنده، وأنه لا يرفع بهم رأساً، وكانت هذه المرأة لا تحجب عن الخلفاء، و لا ترد لها حاجة، وكانوا يكرمونها ويعظمونها، وكذلك كان عمر يفعل معها قبل الخلافة، وقامت فركبت إليه فلما دخلت عليه عظمها وأكرمها لأنها أخت أبيه، وألقى لها وسادة وشرع يحادثها فرآها غضبى وهي على غير العادة، فقال لها عمر: يا عمة مالك؟ فقالت: بنو أخي عبد الملك وأولادهم يهانون في زمانك وولايتك؟ وتأخذ أموالهم فتعطيها لغيرهم، ويسبون عندك فلا تنكر؟ فضحك عمر وعلم أنها متحملة، وأن عقلها قد كبر، ثم شرع يحادثها والغضب لا يتحيز عنها، فلما رأى ذلك أخذ معها في الجد.
فقال: يا عمة. اعلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات وترك الناس على نهر مورود، فولي ذلك النهر بعده رجل فلم يستنقص منه شيئاً حتى مات، ثم ولي ذلك النهر بعد ذلك الرجل رجل آخر فلم يستنقص منه شيئاً حتى مات، ثم ولي ذلك النهر رجل آخر فكرى منه ساقية، ثم لم يزل الناس بعده يكرون السواقي حتى تركوه يابساً لا قطرة فيه، وأيم الله لئن أبقاني الله لأردنه إلى مجراه الأول، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، وإذا كان الظلم من الأقارب الذين هم بطانة الوالي، والوالي لا يزيل ذلك فكيف يستطيع أن يزيل ما هو ناء عنه في غيرهم؟ فقالت: فلا يسبوا عندك؟ قال: ومن يسبهم؟ إنما يرفع الرجل مظلمته فآخذ له بها. ذكر ذلك ابن أبي الدنيا وأبو نعيم وغيرهما، وقد أشار إليه المؤلف إشارة خفية.
وقال مسلمة بن عبد الملك: دخلت على عمر في مرضه فإذا عليه قميص وسخ، فقلت لفاطمة: ألا تغسلوا قميص أمير المؤمنين؟ فقالت: والله ماله قميص غيره، وبكى فبكت فاطمة فبكى أهل الدار، لا يدري هؤلاء ما أبكى هؤلاء، فلما انجلت عنهم العبرة قالت فاطمة: ما أبكاك يا أمير المؤمنين؟ فقال: إني ذكرت منصرف الخلائق من بين يدي الله، فريق في الجنة و فريق في السعير، ثم صرخ وغشى عليه. (ج/ص: 9 /240)
وعرض عليه مرة مسك من بيت المال فسد أنفه حتى وضع، فقيل له في ذلك فقال: وهل ينتفع من المسك إلا بريحه؟
ولما احتضر دعا بأولاده وكانوا بضعة عشر ذكراً، فنظر إليهم فذرفت عيناه ثم قال: بنفسي الفتية.
وكان عمر بن عبد العزيز يتمثل كثيراً بهذه الأبيات:
يرى مستكيناً وهو للقول ماقت * به عن حديث القوم ما هو شاغله
وأزعجه علم عن الجهل كله * وما عالم شيئاً كمن هو جاهله
عبوس عن الجهال حين يراهم * فليس له منهم خدين يهازله
تذكر ما يبقى من العيش فارعوى * فأشغله عن عاجل العيش آجله
وروى ابن أبي الدنيا، عن ميمون بن مهران، قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز وعنده سابق البربري وهو ينشده شعراً، فانتهى في شعره إلى هذه الأبيات:
فكم من صحيح بات للموت آمناً * أتته المنايا بغتة بعد ما هجع
فلم يستطع إذ جاءه الموت بغتة * فراراً ولا منه بقوته امتنع
فأصبح تبكيه النساء مقنعاً * ولا يسمع الداعي وإن صوته رفع
وقرب من لحد فصار مقيله * وفارق ما قد كان بالأمس قد جمع
فلا يترك الموت الغني لماله * ولا معدماً في المال ذا حاجة يدع
وقال رجاء بن حيوة: لما مات أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز وقام يزيد بن عبد الملك بعده في الخلافة، أتاه عمر بن الوليد بن عبد الملك فقال ليزيد: يا أمير المؤمنين ! إن هذا المرائي - يعني عمر بن عبد العزيز - قد خان من المسلمين كل ما قدر عليه من جوهر نفيس ودر ثمين في بيتين في داره مملوءين، وهما مقفولان على ذلك الدر والجوهر. فأرسل يزيد إلى أخته فاطمة بنت عبد الملك امرأة عمر: بلغني أن عمر خلف جوهراً ودراً في بيتين مقفولين، فأرسلت إليه: يا أخي ما ترك عمر من سبد ولا لبد إلا ما في هذا المنديل، وأرسلت إليه به فحله فوجد فيه قميصاً غليظاً مرقوعاً، ورداء قشباً، وجبةً محشوةً غليظةً واهية البطانة. فقال يزيد للرسول: قل لها ليس عن هذا أسأل، ولا هذا أريد، إنما أسأل عما في البيتين، فأرسلت تقول له: و الذي فجعني بأمير المؤمنين ما دخلت هذين البيتين منذ ولي الخلافة، لعلمي بكراهته لذلك، وهذه مفاتيحهما فتعال فحول ما فيهما لبيت مالك، فركب يزيد ومعه عمر بن الوليد حتى دخل الدار ففتح أحد البيتين، فإذا فيه كرسي من أدم وأربع آجرات مبسوطات عند الكرسي وقمقم. فقال عمر بن الوليد: أستغفر الله، ثم فتح البيت الثاني فوجد فيه مسجداً مفروشاً بالحصا، وسلسلة معلقة بسقف البيت، فيها كهيئة الطوق بقدر ما يدخل الإنسان رأسه فيها إلى أن تبلغ العنق، (ج/ص: 9/241) كان إذا فتر عن العبادة أو ذكر بعض ذنوبه وضعها في رقبته، وربما كان يضعها إذا نعس لئلا ينام، و وجدوا صندوقاً مقفلاً ففتح فوجدوا فيه سفطاً ففتحه، فإذا فيه دراعة وتبان كل ذلك من مسوح غليظ، فبكى يزيد ومن معه وقال: يرحمك الله يا أخي، إن كنت لنقي السريرة نقي العلانية. و خرج عمر بن الوليد و هو مخذول وهو يقول: أستغفر الله، إنما قلت ما قيل لي.
وقال رجاء: لما احتضر جعل يقول: اللهم رضني بقضائك، وبارك لي في قدرك حتى لا أحب لما عجلت تأخيراً، ولا لما أخرت تعجيلاً، فلا زال يقول ذلك حتى مات.
وكان يقول: لقد أصبحت ومالي في الأمور هوى إلا في مواضع قضاء الله فيها.
وقال شعيب بن صفوان: كتب سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب إلى عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة: أما بعد يا عمر فإنه قد ولي الخلافة والملك قبلك أقوام فماتوا على ما قد رأيت، ولقوا الله فرادى بعد الجموع والحفدة والحشم، وعالجوا نزع الموت الذي كانوا منه يفرون، فانفقأت عينهم التي كانت لا تفتأ تنظر لذاتها، واندفنت رقابهم غير موسدين بعد لين الوسائد، وتظاهر الفرش والمرافق والسرر والخدم، وانشقت بطونهم التي كانت لا تشبع من كل نوع ولون من الأموال والأطعمة، وصاروا جيفاً بعد طيب الروائح العطرة، حتى لو كانوا إلى جانب مسكين ممن كانوا يحقرونه و هم أحياء لتأذى بهم ولنفر منهم، بعد إنفاق الأموال على أغراضهم من الطيب والثياب الفاخرة اللينة، كانوا ينفقون الأموال إسرافاً في أغراضهم و أهوائهم، و يقترون في حق الله وأمره، فإن استطعت أن تلقاهم يوم القيامة وهم محبوسون مرتهنون بما عليهم و أنت غير محبوس ولا مرتهن بشيء فافعل، واستعن بالله ولا قوة إلا بالله سبحانه:
وما ملك عما قليل بسالم * ولو كثرت أحراسه ومواكبه
ومن كان ذا باب شديد وحاجب * فعما قليل يهجر الباب حاجبه
وما كان غير الموت حتى تفرقت * إلى غيره أعوانه وحبائبه
فأصبح مسروراً به كل حاسد * وأسلمه أصحابه وحبائبه (ج/ص: 9/242)
وقيل: إن هذه الأبيات لغيره.
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب الإخلاص: حدثنا عاصم بن عامر، حدثنا أبي، عن عبد ربه بن أبي هلال، عن ميمون بن مهران، قال: تكلم عمر بن عبد العزيز ذات يوم وعنده رهط من إخوانه، ففتح له منطق و موعظة حسنة، فنظر إلى رجل من جلسائه وقد ذرفت عيناه بالدموع، فلما رأى ذلك عمر قطع منطقه، فقلت له: يا أمير المؤمنين امض في موعظتك فإني أرجو أن يمن الله به على من سمعه أو بلغه، فقال: إليك عني يا أبا أيوب، فإن في القول على الناس فتنة لا يخلص من شرها متكلم عليهم، والفعال أولى بالمؤمن من المقال.
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه قال: استعملنا أقواماً كنا نرى أنهم أبرار أخيار، فلما استعملناهم إذا هم يعملون أعمال الفجار، قاتلهم الله أما كانوا يمشون على القبور !
وروى عبد الرزاق قال: سمعت معمراً يذكر قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة - وبلغه عنه بعض ما يكره -: أما بعد فإنه غرني بك مجالستك القراء، وعمامتك السوداء، وإرسالك إياها من وراء ظهرك، وإنك أحسنت العلانية فأحسنا بك الظن، وقد أطلعنا الله على كثير مما تعملون.
وروى الطبراني والدارقطني وغير واحد من أهل العلم بأسانيدهم إلى عمر بن عبد العزيز، أنه كتب إلى عامل له: أما بعد فإني أوصيك بتقوى الله، واتباع سنة رسوله، والاقتصاد في أمره، وترك ما أحدث المحدثون بعده ممن قد حارب سنته وكفوا مؤنته، ثم أعلم أنه لم تكن بدعة إلا وقد مضى قبلها ما هو دليل على بطلانها، - أو قال دليل عليها - فعليك لزوم السنة فإنه إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الزيغ والزلل، والحمق والخطأ والتعمق، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وعلى العمل الشديد أشد، و إنما كان عملهم على الأسد، و لو كان فيما تحملون أنفسكم فضل لكانوا فيه أحرى، وإليه أجرى، لأنهم السابقون إلى كل خير، فإن قلت: قد حدث بعدهم خير، فاعلم أنه إنما أحدثه من قد اتبع غير سبيل المؤمنين، وحاد عن طريقهم، و رغبت نفسه عنهم، ولقد تكلموا منه ما يكفي، و وصفوا منه ما يشفي، فأين لا أين، فمن دونهم مقصر، ومن فوقهم غير محسن، ولقد قصر أقوام دينهم فحفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، فرحم الله ابن عبد العزيز. ما أحسن هذا القول الذي ما يخرج إلا من قلب قد امتلأ بالمتابعة ومحبة ما كان عليه الصحابة، فمن الذي يستطيع أن يقول مثل هذا من الفقهاء و غيرهم؟ فرحمه الله وعفا عنه.
وروى الخطيب البغدادي من طريق يعقوب بن سفيان الحافظ، عن سعيد بن أبي مريم، عن رشيد بن سعيد، قال: حدثني عقيل، عن شهاب، عن عمر بن عبد العزيز. قال: سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه بعده سنناً، الأخذ بها تصديق لكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، ليس على أحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، فمن اقتدى بما سبق هدي، ومن استبصر بها أبصر، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً. (ج/ص: 9/243)
وأمر عمر بن عبد العزيز مناديه ذات يوم فنادى في الناس: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فخطبهم فقال في خطبته: إني لم أجمعكم إلا أن المصدق منكم بما بين يديه من لقاء الله و الدار الآخرة ولم يعمل لذلك ويستعد له أحمق، والمكذب له كافر. ثم تلا قوله تعالى: {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} [فصلت: 54]، وقوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106].
وروى ابن أبي الدنيا عنه أنه أرسل أولاده مع مؤدب لهم إلى الطائف يعلمهم هناك، فكتب إليه عمر: بئس ما علمت إذ قدمت إمام المسلمين صبياً لم يعرف النية - أو لم تدخله النية - ذكره في كتاب النية له.
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الرقة والبكاء عن مولى لعمر بن عبد العزيز أنه قال له: يا بني، ليس الخير أن يسمع لك و تطاع، و إنما الخير أن تكون قد غفلت عن ربك عز وجل ثم أطعته، يا بني لا تأذن اليوم لأحد علي حتى أصبح ويرتفع النهار، فإني أخاف أن لا أعقل عن الناس ولا يفهمون عني، فقال له مولاه: رأيتك البارحة بكيت بكاء ما رأيتك بكيت مثله، قال: فبكى، ثم قال: يا بني إني والله ذكرت الوقوف بين يدي الله عز وجل. قال: ثم غشي عليه فلم يفق حتى علا النهار، قال: فما رأيته بعد ذلك متبسماً حتى مات.
وقرأ ذات يوم {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً} [يونس: 61] الآية، فبكى بكاءاً شديداً حتى سمعه أهل الدار، فجاءت فاطمة فجلست تبكي لبكائه، وبكى أهل الدار لبكائهما، فجاء ابنه عبد الملك فدخل عليهم وهم على تلك الحال فقال له: يا أبتما يبكيك؟ فقال: يا بني خير ود أبوك أنه لم يعرف الدنيا ولم تعرفه، والله يا بني لقد خشيت أن أهلك وأن أكون من أهل النار.
وروى ابن أبي الدنيا، عن عبد الأعلى بن أبي عبد الله العنبري، قال: رأيت عمر بن عبد العزيز خرج يوم الجمعة في ثياب دسمة، وراءه حبشي يمشي، فلما انتهى إلى الناس رجع الحبشي، فكان عمر إذا انتهى إلى الرجلين قال: هكذا رحمكما الله، حتى صعد المنبر فخطب فقرأ {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1].
فقال: و ما شأن الشمس؟ {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ * وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 12-13] فبكى وبكى أهل المسجد، وارتج المسجد بالبكاء، حتى رأيت حيطان المسجد تبكي معه، ودخل عليه أعرابي فقال: يا أمير المؤمنين جاءت بي إليك الحاجة، وانتهيت إلى الغاية، والله سائلك عني. فبكى عمر وقال له: كم أنتم؟ فقال: أنا وثلاث بنات. ففرض له على ثلاثمائة، وفرض لبناته مائة مائة، وأعطاه مائة درهم من ماله، وقال له اذهب فاستنفقها حتى تخرج أعطيات المسلمين فتأخذ معهم. (ج/ص: 9/244)
وجاءه رجل من أهل أذربيجان فقام بين يديه، وقال: يا أمير المؤمنين اذكر بمقامي هذا بين يديك مقامك غداً بين يدي الله، حيث لا يشغل الله عنك فيه كثرة من يخاصم من الخلائق، من يوم يلقاه بلائقة من العمل، ولا براءة من الذنب، قال: فبكى عمر بكاءاً شديداً، ثم قال له: ما حاجتك؟ فقال: إن عاملك بأذربيجان عدا عليَّ فأخذ مني اثني عشر ألف درهم فجعلها في بيت المال. فقال عمر: اكتبوا له الساعة إلى عاملها فليرد عليه، ثم أرسله مع البريد.
وعن زياد مولى ابن عياش قال: دخلت على عمر بن عبد العزيز في ليلة باردة شاتية، فجعلت أصطلي على كانون هناك، فجاء عمر وهو أمير المؤمنين فجعل يصطلي معي على ذلك الكانون، فقال لي: يا زياد؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين، قال: قص علي، قلت: ما أنا بقاصٍّ، فقال: تكلم، فقلت: زياد، فقال: ماله؟ فقلت: لا ينفعه من دخل الجنة إذا دخل النار، ولا يضره من دخل النار إذا دخل الجنة، فقال: صدقت، ثم بكى حتى أطفأ الجمر الذي في الكانون.
وقال له زياد العبدي: يا أمير المؤمنين لا تعمل نفسك في الوصف واعملها في المخرج مما وقعت فيه، فلو أن كل شعرة فيك نطقت بحمد الله وشكره والثناء عليه ما بلغت كنه ما أنت فيه، ثم قال له زياد: يا أمير المؤمنين أخبرني عن رجل له خصم ألد ما حاله؟ قال: سيء الحال، قال: فإن كانا خصمين ألدين؟ قال: فهو أسوأ حالاً، قال: فإن كانوا ثلاثة؟ قال: ذاك حيث لا يهنئه عيش. قال: فوالله يا أمير المؤمنين ما أحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلا و هو خصمك، قال: فبكى عمر حتى تمنيت أني لم أكن حدثته ذلك.
وكتب عمر بن عبد العزيز إلى عدي بن أرطاة وأهل البصرة: أما بعد فإن من الناس من شاب في هذا الشراب، ويغشون عنده أموراً انتهكوها عند ذهاب عقولهم، وسفه أحلامهم، فسفكوا له الدم الحرام، وارتكبوا فيه الفروج الحرام، والمال الحرام، وقد جعل الله عن ذلك مندوحة من أشربة حلال، فمن انتبذ فلا ينتبذ إلا من أسقية الأدم، واستغنوا بما أحل الله عما حرم، فإنا من وجدناه شرب شيئاً مما حرم الله بعد ما تقدمنا إليه جعلنا له عقوبة شديدة، ومن استخف بما حرم الله عليه فالله أشد عقوبة له وأشد تنكيلاً.
البداية والنهاية ابن كثير رحمه الله