كما هو معروف فإن من أغرب الغرائب في التعليم الفرنسي أن هذا البلد يحتل المرتبة الثانية عالميا – بعد الولايات المتحدة – في مجال البحث والإبداع في الرياضيات، لكن مدرسته تحتل المراتب الأخيرة في التقييمات العالمية. وهذا ما يؤرق المسؤولين الفرنسيين في مجال التربية والسياسة. ففرنسا تريد الحفاظ بأي ثمن على هذا المكسب العلمي في الرياضيات، وهو ما دفعها إلى أن تلتمس منذ أكثر من سنة احتضان المؤتمر العالمي للرياضيات لعام 2022.. حتى أن الرئيس ماكرون بثّ منذ بضعة أيام تسجيلا (فيديو) باللغتين الانجليزية والفرنسية يدعو فيه إلى عقد المؤتمر المذكور في باريس.
وزير يتجاوز صلاحياته
وإذا سلمنا بأن الباحثين اللامعين اليوم في فرنسا قد تكوّنوا في وقت كانت فيه المدرسة على حال أفضل فالخشية تزداد بخصوص تقهقر المستوى التحصيلي للتلاميذ الفرنسيين. لكننا عندما نتذكر أن هؤلاء اللامعين هم خريجو مؤسسات مرموقة تضم عددا قليلا من الطلبة والتلاميذ موجودة منذ قديم الزمان فليس ثمة خوف على الحفاظ على المراتب العليا في البحث حتى لو تدهور المستوى العام للمدرسة! وفي كل الأحوال، فالدولة التي تحترم نفسها، كفرنسا، لا تريد أن تكون مدرستها في ذيل القائمة.
ولتدارك هذا الوضع بادرت السلطات الفرنسية بتأسيس لجنة في سبتمبر الماضي ترأّسها سدريك فيلاني Villani، الحاصل على ميدالية فيلدز والمقرّب من الرئيس ماكرون، تهدف إلى وضع خطة للنهوض بتدريس الرياضيات في فرنسا. وأتى بخطته المبنية على ما يعرف الآن بطريقة سنغافورة سيُشرع في تنفيذها خلال السنة الدراسية القادمة.
يُقال عن وزير التربية الفرنسي جون ميشيل بلانكي Blanquer إنه طموح سياسيا، ولذا أكثر من التدخلات للفت الانتباه، وذلك بإصدار تعليمات عديدة تخص الشأن البيداغوجي المحض سواء تعلق الأمر بالرياضيات أو بتدريس اللغة الفرنسية. وهذه التعليمات البيداغوجية يوقّعها بقلمه ويوجهها إلى المعلم والأستاذ!
والأغرب من ذلك أن هذا الوزير يُعدّ رجل قانون في تكوينه الأكاديمي، وليس رجل تربية. وإذا قارنا هذا الوضع بحالتنا فنحن نعرف هذا النوع من المشاكل، وعشنا مآسيها كلما تولّى التربية شخص ليس من أهلها. ومنذ الاستقلال نلاحظ أن جلّ من تولوا شؤون وزارة التربية لم يسبق لهم أن مارسوا التدريس أصلا أو مارسوه في المستوى الجامعي دون غيره.
وقد رأى الكثير من خبراء التربية الفرنسيين أن تصرف وزيرهم غير مقبول! فكيف يكتب هذا الوزير مثلا في تعليمته بأن على المعلم أن “يمر بين الصفوف في القسم ويطلع على إنجاز كل تلميذ”؟ وأن عليه أن يقول كذا، ويعقّب بكذا! فهل هذا من صلاحياته؟ وكيف به يحدد سلوكيات المعلم داخل القسم كأنه العبد المأمور بدون زاد تعليمي وبدون صلاحيات؟ ويتهكّم البعض بطلب “المرور بين الصفوف” مشيرين إلى أن طريقة التدريس المتبعة (وهي “المقاربة بالكفاءات”) تقضي في الواقع ألا تكون هناك صفوف في القسم، بل ثمة دوائر مستديرة… فكيف يطالب الوزير بالمرور بين صفوف غير موجودة؟!
أما تعليمة الوزير بلانكي الأخيرة الخاصة بتدريس اللغة الفرنسية فتفرط في طلب التركيز على عامل “القراءة” مهملة “الكتابة”. ويجد الخبراء في تفاصيلها تدخلا سافرا في صلاحيات رجل التربية. وقد فسّر البعض هذه التدخلات المفاجئة للوزير بأنها ذات أهداف سياسية شخصية ربما تؤدي به إلى رئاسة الحكومة أو إلى منصب من هذا القبيل.
“استمرارية” السياسة التربوية
وبطبيعة الحال فهذا لا يعنينا في هذا المقام. بل ما يهمّنا هو وضعنا في الجزائر علما أن كل ما يجري في فرنسا في مجال التربية بوجه خاص ينعكس على منظومتنا سلبا وإيجابا… والسلب أكثر من الإيجاب لأننا اعتدنا التقليد الأعمى والاسترشاد بـ”الخبراء” الأجانب. وصفة “الأجنبي” في مصطلح وزارة التربية عندنا هو للتمويه، والمقصود به عموما هو “الفرنسي”!
والمشكل يزدوج عندما نستند إلى هؤلاء الخبراء : حتى لو كانت خبرتهم كاملة فهي لم تحتك بواقعنا. ثم إنه لا يمكن أن تكون كاملة ما دامت تُوجّه ضدها في بلدها كل تلك الانتقادات التي تنشر يوميا. ومرة أخرى، فالنقد ليس عيْبا أو هدْما، لاسيما في مجال التربية، بل هو عامل من العوامل الفعالة التي تزيدنا يقظة في رسم خططنا التربوية.
ما يهمّنا أيضا أن الكثير من الخبراء في فرنسا لم يقتنعوا بعدُ بطريقة سنغافورة –رغم زحفها المتواصل في العالم- لأن المنتقدين يرون فيها خصوصيات “آسيوية” للطفل ولعاداته ولبيئته وثقافاته ومعتقداته لا تتفق مع مميّزات التلميذ الفرنسي ومحيطه الأوروبي وسلوكياته. ويفضل هؤلاء الناقدون التقرّب من بني جلدتهم في أوروبا الذين نجحت مدرستهم ومحاولة الاقتداء بهم. وفي هذا الموقف تحذير من التقليد الأعمى. وهذا ما نحذّر به أنفسنا!!
يقول الخبراء الفرنسيون الناقدون أنه لا ينبغي أن ينجرّ بلدهم وراء السهل واستنساخ تجربة ناجحة في بلد آخر بثقة عمياء. فالمطلوب التعمق في فهم الإيجابيات والسلبيات بمراعاة الخصوصيات المعقّدة لكل محيط وبيئة. ولا شك أنهم على حق في ذلك. ولعل أهم عنصر يتفق فيها الناقد والمادح لطريقة سنغافورة هي ضرورة تكوين المكونين على الدوام خلال الخدمة.
وقد أصدر هذه الأيام أحد قدماء الخبراء الفرنسيين، وهو رونالد شارني Charnay، كتابا حول الموضوع نبّه فيه بأن النتائج السيئة ليس سببها المنهاج وحده بل يمثّل هذا المنهاج -الذي نعمل به نحن أيضا- أحد عوامل الفشل. وقد أرجع الجانب الأكبر من السلبيات في بلده إلى السياسة التربوية. ونحن في الجزائر نعاني من نفس المصيبة.
كما أن التناقض بين الفعل والقول في ما نلقّنه للتلميذ أمر لا يجب أن يكون. فعلى سبيل المثال، هل يجوز لنا أن نطالب التلميذ بإلحاح أن يتقن القراءة ومَثَلُه الأعلى، وهو المعلم أو المفتش أو المدير أو المسؤول المركزي من أصحاب القرار يتلعثم ويدوس القواعد اللغوية حينما يُقبل على قراءة أبسط النصوص؟ أنأمر التلميذ بالبرّ وننسى أنفسنا؟!!
وكيف نطلب من هذا التلميذ أن يحسن “الكتابة” وأن يجيد استخدام القواعد النحوية، وفي كل مكان من حوله يشاهد هذا التلميذ كتابات باللغة العربية والفرنسية من النادر أن تخلو من الأخطاء ومن ركاكة التعبير؟! نلاحظ في هذا السياق أن صاحب القرار السياسي لو طالب بردع المستهترين باللغة لاستقام الوضع ولساعد من حيث لا يدري على رفع مستوى التلميذ. في فرنسا تجاوزوا هذا التناقض، أما نحن فالوضع ظاهر للعيان والعبث باللغة متفشٍ بدون رادع.
يقول الخبير رونالد شارني أن الدول التي نجحت مدرستها هي بصفة خاصة تلك التي تتميز بسياسية تربوية “مستمرة”. ونجاح “طريقة سنغافورة” يكمن في عامل “استمرارية” السياسة التربوية في سنغافورة. ويعيب الخبير على بلده مثلا كثرة تغيير المناهج : تغيير كل 5 سنوات تقريبا! وهذه المدة هي أدنى ما يمكن ليهضم المعلم والمربي المنهاج الجديد!!
وإذا التفتنا إلى حالنا نتساءل: متى ستكون لنا “استمرارية” في سياستنا التربوية؟ و”الاستمرارية” تعني هنا الخطة المحكمة التي توضع لعقدين أو أكثر ننجز منها كل سنة شطرا يخطو بنا خطوة أو خطوتين إلى الأمام؟!....منقول