دور البنوك الإسلامية في التنمية الاقتصادية
هذا المقال يناقش الدور الذي يمكن للبنوك الإسلامية أن تقوم به في عملية التنمية الاقتصادية والبشرية، ليس فقط اعتمادا على التمويل بالمشاركة في الربح والخسارة بدلا من الفائدة، بل أيضا من خلال مفاهيم صحيحة لوظيفة رأس المال في المجتمع، وهو أمر مشتق من المفهوم الإسلامي للاستخلاف، ولقد قطعت البنوك الإسلامية مرحلة أولية في سبيل إتمام هذا الدور رغم محدودية عددها بالمقارنة بالبنوك التقليدية العاملة بالفوائد، والتي ورثنا نظامها التمويلي من العالم الغربي، ولم نستطع أن نطوره: لا لتحقيق أهداف التنمية الاقتصادية، ولا لحماية أموال المودعين، ولا لطاعة الله عز وجل فيما أمر به من الانتهاء من الربا.
أولا: دخول المؤسسة المصرفية الغربية إلى العالم الإسلامي
ثانيا: تعريف البنك الإسلامي
ثالثا: دور البنوك التقليدية في التنمية
رابعا: إمكانيات البنوك الإسلامية للمساهمة في التنمية
خامسا: آليات التمويل المصرفي الإسلامي وضرورة تطويرها
خاتمة
أولا: دخول المؤسسة المصرفية الغربية إلى العالم الإسلامي
تعرضت الغالبية العظمى من الدول الإسلامية للاستعمار الغربي خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وخلال فترة الاستعمار التي اختلف طولها من دولة لأخرى أخذت القوانين الوضعية للقوى الاستعمارية مكانها في الدول الإسلامية إما محل الشريعة الإسلامية أو جنبا إلى جنب معها. كذلك تسللت الثقافة والمؤسسات الغربية إلى العالم الإسلامي.
وفي هذا الإطار التاريخي تمكنت المؤسسة المصرفية الغربية من الدخول إلى العالم الإسلامي، فلقد كان من ضرورات الاستغلال الاقتصادي للشعوب المستعمرة أن تتم فيها عمليات استثمار تتميز فيما تتخذ فيه من أنشطة أولية وما يلزمها من عمليات تحويل رؤوس الأموال منها أو إليها، وكذلك تحويل متحصلات الصادرات ومدفوعات الواردات وكل ذلك أصبح ممكنا وبمرونة عن طريق الشبكة المصرفية الدولية.. لذلك تم تأسيس بنوك محلية داخل المستعمرات كفروع للبنوك الأم في البلدان الاستعمارية.. وهكذا تم ربط اقتصادات المستعمرات باقتصاد الدولة الاستعمارية وببقية العالم.. ولم يكن غريبا أن تعمل فروع البنوك التي أنشئت في بلدان العالم الإسلامي بنظام الفائدة المعتاد في البنوك الأم، بل كان هذا منطقيا ومتوقعا. فلقد تم تأسيس هذه البنوك بمبادرات من قوى اقتصادية أجنبية مؤمنة بنظام الفائدة وبالآليات المصرفية المرتبطة بهذا النظام لخدمة مصالحها في المقام الأول، لذلك لم يكن واردا على الإطلاق أن تعمل هذه القوى على ابتكار نظام مصرفي جديد متحرر من الفائدة لأجل البلدان الإسلامية.
واختلفت ردود أفعال أبناء البلدان الإسلامية على دخول المؤسسة المصرفية الحديثة إلى عالمهم، فانبرى جمهور علماء المسلمين يحذرون من التعامل مع البنوك لأنها تتعامل بنظام "الفائدة التي لا تختلف في معناها عن الربا"، بينما انبرت قلة قليلة من العلماء يبررون الفائدة البسيطة، وليس المركبة في حدود 4% إلى 5% أو يبررون الاقتراض من البنوك لأغراض الإنتاج وليس الاستهلاك، أو يؤكدون على أن الفائدة محرمة: بسيطها ومركبها، كما فعل السنهوري، ولكن يسمحون بالتعامل بالفائدة البسيطة تحت ظروف الضرورة.
من جهة أخرى قام بعض علماء المسلمين بتحذير الناس من التعامل مع البنوك التي دخلت الأوطان الإسلامية لأنها مؤسسات أجنبية دخلت مع القوى الاستعمارية لتساعد في عمليات استغلال هذه الأوطان اقتصاديا وتحويل فوائضها الاقتصادية إلى الخارج وربطها بالعالم الغربي.. والحقائق التاريخية في البلدان النامية عموما وليست الإسلامية فقط تؤكد على أن المؤسسة المصرفية التي أرست دعائمها في هذه البلدان خلال فترة استعمارها قامت أساسا بخدمة المستثمرين الأجانب الذين استقروا حينذاك وعملوا على تنمية مصالحهم الاقتصادية، خاصة في مجالات النشاط الإنتاجي الأولي وعمليات التصدير والاستيراد.
ولكن مؤسسة البنوك التي تسللت إلى العالم الإسلامي ومارست ما كان يمارسه المرابون في كل زمان ومكان منذ فجر التاريخ ولكن على نحو حديث ومنظم، وجدت من يتعامل معها من هيئات حكومية ورجال أعمال، وقد نما نشاطها بشكل مطرد في القطاعات التقليدية والتجارية. كذلك فإنها وجدت من بين بعض أهل الرأي (خاصة العلمانيين) من يبرر أعمالها أو يدفع عنها شبهة الحرام تماما.
فهل حققت هذه البنوك شيئا جوهريا للبلدان الإسلامية في مجال تنميتها الاقتصادية والاجتماعية؟ أليس من الممكن بالنسبة لدورها في نشاط التمويل أن نجتهد ونبتكر بدائل لها تؤدي ما تؤديه؟ وعلى أسس شرعية ترضي خالقنا الذي نهانا عن الربا وتوعد من يخالفه بأشد العقاب فقال تعالى: {فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله} [البقرة 279]
ثانيا: تعريف البنك الإسلام
من الشائع تعريف البنك الإسلاميISLAMIC BANK على أنه مؤسسة مصرفية لا تتعامل بالفائدة (الربا) أخذا أو عطاء؛ فالبنك الإسلامي ينبغي أن يتلقى من العملاء نقودهم دون أي التزام أو تعهد مباشر أو غير مباشر بإعطاء عائد ثابت على ودائعهم، مع ضمان رد الأصل لهم عند الطلب، وحينما يستخدم ما لديه من موارد نقدية في أنشطة استثمارية أو تجارية فإنه لا يقرض ولا يداين أحدًا مع اشتراط الفائدة، وإنما يقوم بتمويل للنشاط على أساس المشاركة فيما يتحقق من ربح، فإذا تحققت خسارة فإنه يتحملها مع أصحاب النشاط الذين قام بتمويلهم.
وبينما يضع هذا التعريف تفرقة بين البنك الإسلامي وغيره من البنوك، إلا أنه ينصب على ركن واحد وهو عدم التعامل بالفائدة، هذا الركن يعتبر شرطا ضرورياNecessary Condition لقيام البنك الإسلامي، ولكن ليس شرطا كافياSufficient فهناك تجارب وممارسات مصرفية عالمية لا تعتمد على التمويل بالدين Dept Finance الذي يرتكز على الفائدة Interest.
ولكي يكتمل تعريف البنك الإسلامي لا بد من إضافة إلى شرط تحريم الفائدة، وهي الالتزام في نواحي نشاطه ومعاملاته المختلفة بقواعد الشريعة الإسلامية، وبالتالي يلتزم بعدم الاستثمار أو تمويل أي أنشطة مخالفة للشريعة، والالتزام بمقاصد الشريعة في ابتغاء مصلحة المجتمع الإسلامي، ومن ثم العمل على توجيه ما لديه من موارد مالية إلى أفضل الاستخدامات الممكنة، وبالإضافة إلى ذلك فإن القيم الأخلاقية والقواعد الشرعية تستلزم تقديم النصيحة للعملاء والتشاور معهم لتحقيق مصالحهم الفردية في إطار المصلحة الاجتماعية.
ولا يخفى أن هذا التعريف المتكامل للبنك الإسلامي الذي يجعل من عدم التعامل بالفوائد شرطا ضروريا فقط وليس شرطا كافيا يلقي مسئولية كبيرة على هذه المؤسسة، خاصة في الظروف المعاصرة للبلدان الإسلامية التي تحتاج من جميع الأنشطة الإنتاجية والتمويلية أن تستخدم المتاح لديها من موارد استخداما كاملا، وبأكبر كفاءة ممكنة، وذلك لأجل التنمية وإزالة الفقر.
وفي هذا المقال نتمسك بالتعريف المتكامل للبنك الإسلامي من حيث إننا نتناول ما ينبغي لهذه المؤسسة أن تقوم به، وليس بالضرورة ما يتضح من التجارب المصرفية الإسلامية.. فهذه التجارب رغم أن مؤشراتها تدل على أن البنوك الإسلامية المحدودة العدد والمقيدة بقيود مختلفة قامت بدور في التنمية الاقتصادية أكثر فاعلية وأكبر أهمية من الذي قامت به البنوك العاملة بالفوائد في عدد من البلدان الإسلامية، إلا أن ما ينبغي للبنوك الإسلامية أن تقوم به لأجل التنمية ما يزال يستدعي الكثير من الجهد، ليس فقط بإزالة العقبات التي تواجهها بل أيضا بتطوير وسائلها وأدواتها في استخدام الموارد التمويلية، ومن ثم فإنه من حيث يتعرض المقال إلى دور البنوك الإسلامية في عملية التنمية فإنه بين أيضًا كيفية ذلك في إطار ما هو كائن الآن، وكيفية تغيره إلى الأحسن.
ثالثا: دور البنوك التقليدية في التنمية
قبل الاستطراد إلى بيان إمكانيات البنوك الإسلامية من حيث المساهمة في التنمية الاقتصادية، هناك عدة نقاط ينبغي ذكرها بالنسبة للبنوك التقليدية التي تعمل على أساس الربا:
بالرغم من أن هذه البنوك تسهم في عمليات تمويل مشروعات إنتاجية داخل الاقتصاد؛ فإنها لا تبالي إذا كانت هذه المشروعات تقوم بإنتاج سلع وخدمات تجيزها الشريعة الإسلامية أو تحرمها بنصوص قطعية.
إن البنوك التقليدية -بطبيعتها كمؤسسات تعمل على تعظيم ربحها عن طريق الاقتراض والإقراض بالفائدة- تفتقر إلى أية معايير أو آليات تمكنها من إعطاء ميزات تمويلية للمشروعات التي تسهم في التنمية بشكل أكبر من غيرها، وهي حتى بطبيعتها لا تمتلك من السياسات ما يجعلها مثلا تقدم على إعطاء ميزات تمويلية خاصة لرجال الأعمال الذين يعملون في أنشطة إنتاجية تفيد بلدهم مقارنة بهؤلاء الذين يقترضون منها لأغراض المضاربات المالية البحتة أو للأنشطة التي يديرونها خارج البلاد لمصالحهم الخاصة فقط.
وقد يؤدي استخدام القروض المصرفية في مضاربات بحتة بقصد التربح السريع إلى إفساد حالة أسواق الأوراق المالية، لكن هذا أمر لا يعنيها، وهي ليست مسئولة بطبيعتها عنه، وقد تقرض من يقومون بتهريب الأموال إلى الخارج لصالحهم، هذا أيضا لا يعنيها ما دامت لم تتلق أوامر من البنك المركزي بالامتناع عن ذلك، وما دام من يريدون الأموال هم من رجال الأعمال المشهورين والأثرياء الذين يضعون لديها ضمانات (قد تكون زائفة)، والشريعة الإسلامية تلزمنا بتحري استخدام ما لدينا من مال استخداما رشيدا، والتدقيق في ذلك، والقاعدة العامة معروفة: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما" [النساء -5] وليس السفيه هو الطفل الذي لم يبلغ سن الرشد أو الشخص ناقص العقل فقط، بل هو كل من يتصرف في المال الذي استخلفه الله فيه على نحو يضره أو يضر غيره من المسلمين أو على نحو غير نافع.
إن البنوك التقليدية قد أسهمت مباشرة في تمويل مشروعات إنمائية ذات طابع اجتماعي في بعض البلدان في بعض الظروف (مثل مصر خلال ستينيات القرن العشرين وما بعدها) لكن ذلك لم يحدث إلا بعد إلزامها بطريق السلطات الاقتصادية وتوجيهها بتعليماته مباشرة من البنك المركزي، لكنها من بعد ذلك لم تسهم في تمويل أية مشروعات تسهم في التنمية الاجتماعية أو البشرية؛ لأن معاييرها في العمل كمؤسسة منذ نشأتها على يد الصيارفة اليهود في أواخر القرون الوسطى هي معايير اقتصادية بحتة ترتبط بآليات السوق واعتبارات الملاءة المالية لمن يطلبون التمويل.
إن البنوك التقليدية حتى إن أسهمت في التنمية الاقتصادية، اعتمادا على معاييرها المرتبطة بآليات السوق والملاءة المالية؛ فإن التنمية المحققة لا تعتبر سليمة أو صحيحة من المنظور الإسلامي؛ لأنها قائمة على أساس معاملة الربا والتي حرمها الله عز وجل تحريما قطعيا {يمحق الله الربا ويربي الصدقات والله لا يحب كل كفار أثيم} (البقرة: 276)، وما تجر إليه من خراب لأصحاب المشروعات المتعسرة لظروف خارجة عن إرادتهم: مخالفة لأمر الله عز وجل {فإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة} (البقرة: 280).
رابعا: إمكانيات البنوك الإسلامية للمساهمة في التنمية
نقدم فيما يلي أربعة فروض في صالح البنوك الإسلامية وقدرتها على الإسهام الفاعل في التنمية ثم نعمل على إثبات صحتها، وهذه الفروض هي:
إن المؤسسة المصرفية الإسلامية من حيث إنها تتعامل بالمشاركة أكثر قدرة على تجميع الأرصدة النقدية القابلة للاستثمار.
وأكثر قدرة على توزيع المتاح من الموارد النقدية على أفضل الاستخدامات لأغراض التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
وأنها بتوزيع الموارد المالية على أسس الإنتاجية والكفاءة الاقتصادية، تسهم بشكل مباشر في توزيع الدخل القومي على نحو عادل خلال عملية التنمية هذه وقضية عدالة التنمية الاقتصادية لا تبالي بها المؤسسة المصرفية الربوية.
إنها تشجع السلوك الايجابي الدافع لعملية التنمية على عكس المؤسسة المصرفية الربوية.
وفيما يلي شرح هذه الفروض:
بالنسبة للفرض الأول (رقم 1):
تجدر الإشارة إلى الأبحاث الاقتصادية التي أثبتت أن تغيرات سعر الفائدة لا تؤثر في الحجم الكلي للمدخرات، ولقد عقب البعض على نتائج هذه الأبحاث بالتفرقة بين سعر الفائدة النقدي والحقيقي، والادعاء بأن الثاني وليس الأول هو المؤثر الفاعل على حجم المدخرات، ولكن مجموعة الأبحاث الاقتصادية التي تمت لاختبار العلاقة بين تغيرات سعر الفائدة الحقيقي والادخار في البلدان النامية أثبتت أيضا أن هذه العلاقة ضعيفة جدا، أو غير معنوية INSIGNIFICANT في معظم الحالات.
يتبـــــــــــــــــــع...................