من الحقائق التي عرفها وقال بها كثير من المفكرين المعاصرين أن كل نظرية سياسية أو اقتصادية أو تربوية، بل كل رأي في تنظيم جانب من حياة الإنسان يكمن وراءه تصور معين للإنسان قد يعيه صاحب الرأي أو النظرية فيقول به وقد يفترضه ولا يشعر به.
ولذلك فإن النظر في الإنسان ومحاولة الوصول إلى تصور له يطابق حقيقته ينبغي –من الناحية المنطقية- أن يسبق كل محاولة للنظر في المبادئ الاقتصادية أو النظم السياسية أو المناهج التربوية. لأن معيار هذه المبادئ والنظم والمناهج هو مدى صلاحيتها للإنسان. ولا يمكن أن نعرف مدى صلاحيتها له إلا إذا عرفنا أولاً من هو؟.
إننا إذا لم نتبين هذا الأمر ونكون على وعي به فقد نضع مناهج تعليمية ونعتمد طرقًا تربوية نحسبها إسلامية وما هي بإسلامية؛ لأن الإنسان الذي نفترضه
ليس هو الإنسان الذي بين لنا خالقه حقيقته، وقد ننقل عن غيرنا مناهج وطرقًا لا نرى بأسًا في نقلها مع أن النظر إليها من خلال هذا التصور قد يكشف عن خللها وقصورها، ظانين أن كل ما قالوا به فهو غير صالح لنا مع أن وزنه بمعيار التصور الصحيح للإنسان قد يثبت صلاحيته.
هذه بالطبع ليست دعوة إلى إيقاف كل جهد لإصلاح التعليم وتقريبه من هدي الإسلام حتى يتم الاتفاق على هذا الأمر، ولكنها مجرد تذكير بأهمية الموضوع ودعوة للمهتمين بشئون التعليم على أن يولوه عنايتهم ويحاولوا اكتشاف الصلة بينه وبين فروع المسائل التي تشغل بالهم.
ثلاث نظريات في طبيعة الإنسان
من هو الإنسان؟
أهنالك شيء اسمه الإنسان بهذا الإطلاق الذي لا يؤثر فيه أو يغيره زمان ولا مكان ولا جنس ولا لون ولا لغة ولا بيئة ولا ثقافة؟.
انقسم المجيبون على هذا السؤال إلى ثلاث فرق كبرى
1- فمنهم من أثار وجود إنسان بهذا الإطلاق ورأى أن الإنسان حين يولد يولد محايدًا كالصفحة البيضاء أو الطينة غير المشكلة، وأن البيئة هي التي تكتب عليه ما تريد وتشكله كيف تريد.
2- ومنهم من قال بلى إن للإنسان حقيقة، وحقيقته: أنه مخلوق شرير يولد الشر معه مفروضًا في طبعه والبيئة هي التي تحاول أن تهذبه.
3- وفريق ثالث وافق الفريق الثاني على أن للإنسان حقيقة ثابتة، ولكنه قال إن حقيقته أنه مخلوق خير يولد حين يولد على الخير، ثم قد يطرأ عليه التغيير بعد ذلك، وقد يستمر خيرًا وينمي الخير الكامن في نفسه.
وبكل نظرية من هذه النظريات قال مفكرون كبار وعلى كل منها قامت مذاهب حياة جذبت إليها عددا هائلا من البشر، وكان لكل منها آثاره البعيدة والخطيرة في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية والفلسفات التربوية.
فأي نظرة منها هي النظرة الصائبة المطابقة لواقع الإنسان وكيف نعرف ذلك؟
هذا ما سنحاوله في الجزء الأول من هذا البحث وفي الجزء الثاني منه نثبت أن النظرة التي قلنا إنها صائبة هي النظرة الإسلامية وفي الجزء الثالث نحاول بيان شيء من آثار هذه النظرة على فلسفتنا التربوية.
مناقشة هذه النظريات
يحسن قبل الدخول في مناقشة هذه الإجابات على سؤالنا أن نبين بشيء من التفصيل ما المقصود بالسؤال نفسه؟
من هو الإنسان؟
هذا سؤال عن طبيعة الإنسان عن الخصائص التي تشكل في مجموعها هذا الكائن المتميز الذي نسميه الإنسان.
والسؤال عن طبيعة الإنسان سؤال:
1– عن طبيعته الجسدية: ما هو التركيب الجسدي للإنسان؟ وما هي القوانين التي تحكم هذا التركيب وما الذي يناسب هذا التركيب من أنواع المآكل والمشارب والبيئات والعلاقات؟
2– وعن طبيعته النفسية: ما هو التركيب النفسي للإنسان وما الذي يناسب هذا التركيب من القيم والأفكار والأحوال.
3– وعن الصلة بين الطبيعتين: والذي يهمنا بشكل أساسي في هذا البحث هو الطبيعة النفسية فهل للإنسان تركيب نفسي معين كما أن له تركيبا جسديا معينا، حيث إن أي خلل فيه يسبب له أمراضًا نفسية، كما أن الخلل في تركيبه الجسدي يؤدي إلى علل جسمانية؟