صديقي الذي رفض أن يتقاعد
وأنا أطالع خبر تمديد سن التقاعد إلى أكثر من ستين سنة و إلغاء النسبي والمسبق ، ذهبت بي الذاكرة إلى السنتين الأخيرتين من مشواري العملي حين كنت أستاذا أمارس مهنة المتاعب كبقية رفقاء الدرب ، لكن ما ميز هتين السنتين الأخيرتين أنني أصبحت فيهما متذمرا من كل شيء ، لا شيء في المنظومة أصبح يقنعني : لا برامج و لا طرق و لا إدارة و لا تفتيش كنت أرى الكل يسبح في الرداءة ، الأمر الذي كان يدفعني دوما الى التساؤل : كيف لا ينتفض الأساتذة على هذا الوضع و ينزعون عنهم ثوب الخنوع ؟ .
في كثير من الأحيان كنت أحاول اثارة نقاش بين الأساتذة و معرفة مدى درجة تذمرهم ، إلا أن غالبا ما كان النقاش لا يصل إلى مبتغاه ، بحكم فارق السن بين الأساتذة الجدد و هم أكثر عددا و الأساتذة القدامى ، فالفئة الشابة من الأساتذة لم يكن يهمها الأمر بحكم حداثة التجربة و الانجذاب إلى اهتمامات أخرى ، أما فئة الأساتذة القدامى لم يكن يهمها وضع المنظومة المزري بقدر اهتمامها بتحسين الراتب استعدادا لرحيل مريح ، فلم يكن يشغل بعضها إلا أمر التربص ، و الترقية ، و المشاركة في مسابقة المستشارين التربوين و المديرين و مسابقات أخرى ـ أما أنا و أعوذ بالله من قولة أنا : لم يكن يغريني التربص و لا الترقية و لا أية مزية أخرى : ما كان يشغل بالي و ما كنت أنتظره على أحر من الجمر هو بلوغ سن الخمسين : طوق النجاة من سفينة متهور ربانها ، مقبلة على الغرق ، تذكرت صديقا لي في المهنة ، كان يشاركني تذمري ، يؤيد في كثير من الأحيان أرائي ،
كنا على نفس المسافة من سن الخمسين ، كان يبدي لي في بعض الأحيان رغبة غامضة في التقاعد المسبق ، لكنها رغبة تطفو بسرعة ثم ما تفتأ تختفي وراء كلام و سلوك غامضين لم أتبين مدلولهما.
وَلِجْتُ سن الخمسين ، وألقي لي طوق النجاة ، خرجت إلى برّ التقاعد سالما معافى ، إلا من بعض الكدمات سرعان ما شفاها الزمن ، و انسجمت أمور الحياة في جو من الهدوء و الطمأنينة .
صديقي لم يضع ملف تقاعده ، الأمر الذي جعلني اكتشف سر غموض سلوكه ، لا شك أننا لم نكن نملك نفس الاهتمامات و نفس الرؤى و ربما نفس الطموحات .
خرجت في تقاعد مسبق لكن اتصالا به بقي متواصلا ، ألقاه في المسجد ، في السوق ، في الشارع ، كنا كلما نلتقي نتبادل أطراف الحديث الذي لم يكن يخرج قيد أنملة عن التعليم و همومه و مستجداته ، مر تقريبا نصف السنة الأولى من عمر تقاعدي و استمر تواصلنا تقريبا على هذه الحال إلى أن بدأت أحس بفتور بدأ يزحف على (صداقتنا) و يشلّ أجزاء منها ، حتى أصبح الأمر لا يتعدى السلام و رده ، و في بعض الأحيان إشارات باليد أو التظاهر بعدم رؤيتي .
حينذاك تيقنت أننا كنا نختلف في أمور كثيرة وابداء تأييد أو مساندة أو تفهم لتذمري لم يَعْدُ أن يكون مجاملة منه وعدم احراج لا غير.
رغم ذلك لا ألوم صديقي فأنا الآن أصبحت في عداد المتقاعدين لنا عالمنا الخاص ، أما هو فلازال ينتمي إلى عالم الحركة و الحياة .
و لكن بلغني أنه أصبح في هذه الفترة أكثر و أصدق تذمرا منّي و لا تخلو مجالسه من الحديث عن المصيبة التي خلقتها الثلاثية و ألقت بها على وجهه و هو يُمَنِّي نفسه بجمع خمس سنين من رواتب سِمَان يغذي بها تقاعده .
نسأل الله العافية و رمضانكم مبارك .