يعتبر التعليم المدرسي في فرنسا أنموذجا تربويا مميزا ؛ لذلك فقد اقتدت به العديد من المؤسسات التربوية في العديد من دول العالم مثل سويسرا وبلجيكيا ولبنان والجزائر ؛ وذلك نظرا لمخرجاته التربوية التامة . ويلاحظ الباحث التربوي أن فرنسا تصدرت دول العالم في تخريج العديد من العلماء الذين حصلوا على جائزة نوبل ، فكيف استطاعت الموسسة التربوية الفرنسية إحراز قصب السبق في هذا المضمار التربوي ؟
لعل السمة ذات الأهمية البالغة التي تميز التعليم المدرسي الفرنسي عن العديد من الأنظمة التعليمية في الشرق والغرب هي أن مراحله تتكامل وتتداخل بحيث لا يُسمح للطالب ان ينتقل من مرحلة إلى أخرى إلا بعد أن يتاكد القائمون على عملية القياس والتقويم من أنه قد أصبح قادرا على مواصلة التعلم في المرحلة التعليمية التي سينقل إليها . وفيما يلي عرض موجز لهذه العملية المتشابكة لعل في توصيفها فائدة للراغبين في تحسين أدائهم وتطوير مدخلات ومخرجات التربية والتعليم في بلادهم .
يبدأ الطفل عملية التعلم في دور الحضانة ورياض الأطفال في سن الثانية والنصف من عمره ، فيتوجه معظم الأطفال إلى هذه المؤسسات التربوية دون تمييز بين المواطنين والوافدين من القاطنين على الأراضي الفرنسية رغم أن هذا التعليم غير إلزامي ، وفي حال وجود نقص في المقاعد الدراسية ـ وهذا وضع نادر ـ فإن الأولوية تعطى لأطفال الأحياء الفقيرة على اعتبار أن الموسرين يستطيعون تسجيل أطفالهم في رياض خاصة .
وتهدف رياض الأطفال الفرنسية إلى بناء شخصية الطفل بناء سويا متكاملا وإلى تعليمه اللغة ؛ ليكون مهيأ لدخول المدرسة الابتدائية . والأطفال في دور الحضانة موزعون ثلاث فئات ، ويتم هذا التوزيع تبعا لأعمارهم وبالتنسيق مع أولياء أمورهم ، على أن يُنقل الطفل الذي يحرز تقدما في فئته إلى فئة تعليمية أعلى .
وتقوم لجنة من إدارة الروضة والمعلمات وأولياء الأمور بتخطيط النظام التربوي للروضة . وترأس المديرة هذه اللجنة في حين تقوم المعلمات بتقويم تعلم الأطفال وفق إستراتيجية خاصة تمهيدا لنقل الناجحين منهم إلى فئة أعلى أو إلى المدرسة الابتدائية .
أما التعليم الابتدائي فإنه إلزامي لجميع الأطفال سواء أكانوا فرنسيين أو مقيمين ، ويستمر خمس سنوات موزعة في حلقتين ؛ الحلقة الأولى تستمر سنتين استكمالا لمرحلة الروضة ، وأما المرحلة الثانية فمدتها ثلاث سنوات ، وهي السنوات الأخيرة من المرحلة الابتدائية .
ويستمر دوام الأطفال في المرحلة الابتدائية ستا وعشرين ساعة أسبوعيا موزعة على خمسة أيام ؛ حيث تعطل المدرسة يومي الأحد والأربعاء وبعد ظهر يوم السبت . وإضافة إلى ساعات الدوام المقررة فإن الأطفال يمارسون أنشطة تربوية تناسب ميولهم في أوقات إضافية تحت إشراف أعضاء من الهيئة التدريسية ، كما يخصص وقت آخر لتعلم إحدى اللغات الحية . ولمدير المدرسة الابتدائية صلاحية تامة لبلورة الخطة الدراسية بعد التشاور مع مجلس الآباء والمعلمين .
وابتداء من نهاية الصف الرابع الابتدائي ، فإن إدارة المدرسة تقوم بإرشاد الطلبة ومساعدتهم على اختيار التخصص الذي يلائمهم ؛ فإما أن يستمر الطفل في الدراسة أو يغيّر مساره نحو التعليم المهني أو التقني . وتهدف المدرسة الابتدائية إلى تعليم الطلبة التفكير ، وإلى توجيههم لتعلم مشاريع مهنية وتقنية تمكنهم من إنتاج أشياء حقيقية ومفيدة .
واما المرحلة الإعدادية فيدخلها الأطفال الذين أنهوا المرحلة الابتدائية بنجاح ، أما الذين يفشلون فإنهم يوجهون لتعلم مهنة تناسب ميولهم واستعداداتهم لمدة تتراوح بين سنة وأربع سنوات . ويتلقى طلبة المرحلة الإعدادية تعليما منظما لمدة خمس أو ست أيام في الأسبوع ، وإضافة لساعات الدراسة فإنه يتاح لهم فرصا حقيقية للقراءة والعمل في المدرسة تحت إشراف المعلمين .
ويستطيع الطالب الذي يجتاز المرحلة الإعدادية بنجاح الالتحاق بشعبة من شعب التعليم العام أو المهني أو التقني ليحصل على شهادة تمكنه من مواصلة الدراسة الجامعية .
والمرحلة الثانوية مدتها ثلاث سنوات حيث يحصل الطالب على شهادة الدراسة الثانوية العامة أو التقنية أو المهنية بعد أن يجتاز اختبارات تحريرية وشفوية بدرجة لا تقل عن خمسين بالمئة ، وأما من لا يوفقون في ذلك ، فإن بإمكانهم الحصول على شهادة إنهاء المرحلة الثانوية على أن لا يقل معدل الطالب عن أربعين بالمئة ، غير أن هذه الشهادة لا تؤهل حامليها لمواصلة التعليم الجامعي .
وإضافة إلى المنهاج المقرر في الخطة الدراسية فإن الطالب ملزم باختيار مادتين إضافيتين من شأنهما أن يكشفا عن ميوله واستعداداته بهدف توجيهه إلى التعلم الذي يناسب ميوله .
والكتاب المدرسي المقرر يقوم بإعداده لجنة من المعلمين والمشرفين التربويين وخبراء المناهج ، وقبل إقراره بصورة نهائية يوزع منه على المعلمين في الميدان ما لا يقل عن ثلاثين ألف نسخة مجانا ؛ وذلك لإبداء ملحوظاتهم حوله بهدف الاستفادة منها في تنقيحه قبل أن يتم اعتماده بصورة نهائية ، ثم تقوم المطابع بطباعته طباعة متقنة وتجليده تجليدا قويا ؛ ليكون صالحا للاستخدام مدة تتراوح بين أربع إلى ست سنوات .
ومن أجل معالجة قضية الفروق الفردية بين الطلبة فإن المتعلمين يتلقون دروسا إضافية في اللغة الفرنسية والرياضيات والتاريخ والجغرافيا إضافة إلى لغة حية أخرى .
والجدير بالذكر أن المتعلمين يتناولون غذاءهم في مطعم المدرسة الذي يكون برعاية البلدية أو تشرف عليه لجنة خاصة .
ويمتاز التعليم المدرسي في فرنسا بعدة سمات يترتب عليها نتاجات تامة ، ومن أبرز هذه المميزات :
- مشاركة أولياء الأمور والمعلمين الفعلية في وضع المناهج الدراسية .
- تنويع إستراتيجيات التدريس لتعليم الطلبة التفكير ، ولتزويدهم بمهارات حياتية تمكن الدارس من ممارسة مهنة نافعة بكفاءة عالية .
- توظيف التقنيات الحديثة في التعليم .
- التقويم الواقعي المستمر والمنظم لنقل الطلبة من مرحلة إلى أخرى بما يتلاءم مع امكاناتهم واتجاهاتهم .
وبناء على ما سبق ، فإن الطالب لا يصل إلى مرحلة الدراسة الجامعية إلا وهو مهيأ للتميز والإبداع .
منقول