بدعة تقسيم الدين إلى ثوابت ومتغيِّراتٍ
وآثارها السيِّئة على الأمَّة للشيخ فركوس حفظه الله
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فقد تقدَّم ـ في مقالٍ سابقٍ ـ الحديثُ عن بدعة تقسيم الدين إلى حقيقةٍ وشريعةٍ، والعلمِ إلى باطنٍ وظاهرٍ، ودعوى أنَّ حقيقة الباطن مخالِفةٌ لشريعة الظاهر، وما يخلِّفه هذا المعتقَدُ ـ حالَ العمل به ـ مِن آثارٍ غايةٍ في الخطورة على الأمَّة وانحرافٍ عن سواء السبيل.
وقد رأيتُ مِن المفيد ـ استكمالاً للفائدة ـ أن أستَتْبِعَه بموضوعٍ آخَرَ له علاقةٌ بالتقسيمات الاصطلاحية للدين لا يقلُّ خطورةً وضررًا عن سابقه، ويتمثَّل في أحد المفاهيم الباطلة للتقسيم الاصطلاحيِّ للدين إلى ثوابت ومتغيِّراتٍ، وما يترتَّب عليه مِن أحكامٍ شرعيةٍ ما أنزل الله بها من سلطانٍ، الأمر الذي خلَّف هو الآخَر ـ كسابقه ـ آثارَه السيِّئةَ على الأمَّة، فضلاً عمَّا يحمله هذا التقسيم الاصطلاحيُّ للدين مِن تباينٍ مع منهج أهل الحقِّ مِن الأئمَّة العدول الأثبات، أعلامِ الفتوى والدين مِن أهل السنَّة والجماعة.
والمعلومُ ـ لدى كلِّ محصِّلٍ ـ أنَّ تقسيمَ الدِّين الإسلاميِّ إلى ثوابتَ ومُتغيِّراتٍ ـ بالمفهوم الاصطلاحيِّ الحديث ـ باطلٌ لا يُعرف له أصلٌ في الشرع وأنَّ الله تعالى أكملَ أحكامَه وشَرْعَه ودِينَه بنبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وتمَّت نعمتُه واستقرَّت. ذلك لأنَّ المسائل المعلومةَ مِن الدِّين بالضرورة والقطعيةَ الإجماعيةَ ليست مِن المتغيِّرات لثبوتها بالنصِّ والإجماع.
وكذلك المسائلُ الاجتهادية التي يتمسَّك فيها كلُّ فريقٍ مِن المجتهدين بدليلٍ يستند عليه فيها ولا يقطع فيها بصوابِ قوله وخطإِ مَن خالفه فيما إذا كانت المسألةُ محتملةً، فالمسائل الاجتهادية لا إنكار فيها على المخالِف إلَّا بعد بيان الحجَّة وإظهار المحجَّة. وهذه المسائل لا تُسمَّى أحكامُها بالمتغيِّرات لأنها ثابتةٌ في حقيقة الأمر، وحكمُها واحدٌ معلومٌ عند الله، وقد جَعَلَ له أدلَّةً وأماراتٍ يُعرف بها. وإنما التغيير حاصلٌ في اجتهاد المجتهد ونظرِه الذي له فيه نصيبٌ بين الأجر والأجرين إذا اتَّقى اللهَ في اجتهاده.
أمَّا المسائل غيرُ الاجتهادية ـ وهي ما يُعرف بالمسائل التي لا يستند فيها المخالف على دليلٍ صحيحٍ يؤيِّده ـ؛ فإنَّ هذه المسائلَ لا يُلْتَفت إلى الخلاف فيها لشذوذه أو ضعفه: كمَن خالف في قولٍ يخالف سنَّةً ثابتةً أو إجماعًا شائعًا، وهذا يجب فيه الإنكارُ على العمل المخالف للسنَّة أو الإجماع بحَسَب درجات الإنكار(١).
وإذا كانت المسائلُ الاجتهادية لا تُسمَّى أحكامُها المشرَّعة متغيِّراتٍ فلا شكَّ أنَّ المسائل الخلافيةَ ليست مِن المتغيِّرات مِن بابٍ أَوْلى لقيام الدليل الشرعيِّ المعارض لها.
وعليه فإنَّ دِينَ الله كلَّه حقٌّ ثابتٌ ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فُصِّلت: ٤٢]. وليس لأحدٍ أن يُغيِّرَ شيئًا منه أو يبدِّلَ أو يزيدَ عليه أو ينقصَ منه؛ لأنَّ الشريعة كاملةٌ غيرُ منقوصةٍ، وتامَّةٌ لا تحتاج إلى زيادة المبتدعين واستدراكاتِ المستدركين. وقد أتمَّ اللهُ هذا الدِّينَ فلا ينقصه أبدًا، ورَضِيَه فلا يَسْخَطُهُ أبدًا. كذا ينبغي أن يكون عليه إيمانُ المسلم الصادق. قال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ [المائدة: ٣]، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَايْمُ اللهِ لَقَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى مِثْلِ البَيْضَاءِ: لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا سَوَاءٌ»(٢).
هذا، وإن أُريدَ بالمتغيِّرات آراءُ المجتهدين الذين يبذلون الوُسْعَ في النظر في الأدلَّة الشرعية لاستنباط الأحكام الشرعية منها ـ فقد يُغيِّر المجتهِدُ الرأيَ في المسألة المجتهَد فيها أو في حقِّ نازلةٍ يَبْحَث فيها في محاولةٍ للكَشْفِ عن حُكمها الشرعيِّ، فإنه يجوز للمجتهِد تغييرُ رأيِهِ وتبديلُ اجتهادِه، والعدولُ عنه إلى قولٍ آخَرَ اتِّباعًا للدليل الشرعيِّ، والظاهرُ أنَّ هذا المعنى هو المرادُ بالقول بالمتغيِّرات، لأنَّ المجتهد لا يصحُّ أن يقطع بصواب قوله وخطإِ قولِ مَن خالفه فيما إذا كانت المسألة محتملةً ـ؛ إلَّا أنَّ الجدير بالتنبيه والتذكير ـ في باب الاجتهاد ـ أنَّ آراء المجتهد وأنظارَه وأقوالَه لا تُسمَّى تشريعًا، فإنَّ التشريع هو الكتاب والسنَّة، أمَّا الاجتهاد فهو رأيُ الفقيه أو حُكْمُ الحاكم. وقد قال النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لأمير سريَّةٍ: «وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ؛ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللهِ فِيهِمْ أَمْ لَا»(٣).
فالحاصل: أنه كما أنَّ اجتهاداتِ المجتهدين لا تنقسم إلى ثوابتَ ومتغيِّراتٍ؛ لأنَّ المسائل الاجتهاديةَ ظنِّيةٌ في الغالب لا يُقطع فيها بصحَّة القول وخطئه، فهي قابلةٌ للتغيير متى كانت مخالِفةً للدليل الشرعيِّ، فليس في اجتهاداتهم ثوابتُ، بل هي مِن المتغيِّرات.
وبالعكس فأحكام الله قضايا تشريعيةٌ يقينيةٌ يُجزم فيها بحكم الله تعالى، فهي حقٌّ ثابتٌ لا يقبل التغييرَ ولا التبديلَ.
وممَّا يحاكي هذا المعنى ما يجري على لسان أصحاب الأساليب المولَّدة المعاصرة كقولهم: «تطوُّر الفقه الإسلاميِّ». والمعلوم أنَّ الفقه كأحكام الله تعالى ثابتٌ لا يتطوَّر، أي: لا يقبل التغييرَ ولا التبديل؛ لأنَّ الفقه الإسلاميَّ يتوافق مع جميع شؤون الحياة وظروف المجتمع وأحوال المعيشة في كلِّ الأزمان والأماكن والأحوال. وإنما يحصل التغيير في المسائل الاجتهادية الظنِّيَّة المخالِفة للدليل الشرعيِّ. والأصل أن يقال: الفقه الإسلاميُّ والتطوُّر.
علمًا أنَّ الدعوة إلى تطوير الفقه الإسلاميِّ تكمن حقيقتُها في إرادة الخروج عن أحكام الإسلام والابتعادِ عن مبادئه ومضامينه الشرعية والمقاصدية بتبديل الشريعة وتغييرها عن قصدٍ أو بالتبعية(٤). ولذلك فنسبةُ الثوابت والمتغيِّرات للدِّين غيرُ صحيحٍ، وإضافتُها إلى المجتهدين غيرُ سليمٍ.
هذا، وتقسيم الدِّين إلى: ثوابتَ ومتغيِّراتٍ مصطلحٌ حادثٌ يهدف منه أبناءُ المسلمين المتأثِّرون بالفكر الغربيِّ وحضارتِه إلى ضرورة تضييق دائرة الثوابت إلى أبعد حدٍّ، وتوسيعِ دائرة المتغيِّرات توسيعًا يتوافق مع النموذج الغربيِّ، وذلك بإحداث الضبابية والتعمية، والتشكيكِ في الثوابت على أنها مجرَّدُ عاداتٍ وتقاليدَ، أو أنها تخضع لمبدإ سدِّ الذرائع الذي تتغيَّر أحكامُ المسائل المندرِجةِ تحته بتغيُّر الزمان عملًا بالقاعدة الفقهية: «تَغَيُّرُ الفَتْوَى بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ وَالأَحْوَالِ»(٥)، ثمَّ تعميمِ القاعدة على الأحكام معقولةِ المعنى وبعضِ الأحكام غيرِ معقولةِ المعنى. وذلك في سعيهم الحثيث للبحث عن إمكانية الجمع بين ما عليه الغربُ في تشريعاتِه وأحوال مجتمعاته وحضارته مع ما عليه الإسلام، سالكين في ذلك منهجَ المقارنات والمقاربات والتلميع، فيقدِّمون ـ مِن خلال هذا المنهج ـ كلَّ يومٍ تنازلًا عن أحد الثوابت على أنه مِن الظنِّيَّات المشمولةِ بشقِّ المتغيِّرات، مسوِّغين ذُلَّ تنازُلهم تارةً بحُجَّة أنَّ مصلحة الأمَّة تقتضي هذا التصرُّف، وتارةً بدعوى العمل بروح الإسلام وسماحتِه وسَعَةِ أُفُقِه، وتارةً أخرى بدعوى مراعاة مقاصد التشريع واختلاف الظروف والضغوط والأحوال ومقتضيات العصر.
والمعلوم أنَّ الاستدلال بقاعدة: «لَا يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأَحْكَامِ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ» غيرُ ناهضٍ مِن جهتين:
الأولى: أنَّ القاعدة الفقهية لا تصلح أن تكون حجَّةً إلَّا إذا كانت دليلًا مستقلًّا وثابتًا، أو عبَّرتْ عن دليلٍ أصوليٍّ، أو كانت مشتركةً مع القاعدة الأصولية. والقاعدةُ الفقهية المجرَّدة عن ذلك تصلح أن تكون شاهدًا مرافقًا للأدلَّة يُستأنس به في تخريج الأحكام للوقائع والقضايا الجديدة إلحاقًا قياسيًّا على المسائل الفقهية المدوَّنة.
الثانية: والقاعدة المذكورة ـ وإن كانت لها علاقةٌ بالعلَّة القابلة للتغيُّر كالعرف والمصلحة ـ إلَّا أنَّ صِيَغها مجملةٌ لشمولها للأحكام المنصوص عليها والمعلَّلة. ومثلُ هذا العموم غيرُ مقصودٍ في وضع صياغتها؛ لذلك احتاجت القاعدة إلى بيانٍ وتفصيلٍ، يظهر وجهه فيما يلي:
ـ الأحكام إمَّا أن تكون تعبُّديةً غيرَ معقولة المعنى: فإنها لا تقبل التغييرَ أبدًا لكونها مبنيَّةً على النصوص الشرعية الثابتة التي لا تقبل التبدُّلَ ولا التغيُّر.
ـ وإمَّا أن تكون معلَّلةً وهي الأحكام معقولةُ المعنى وهي على ضربين:
• إمَّا أن تكون علَّتها ثابتةً لا تتغيَّر: فهذه حكمُها حكمُ النصِّ الثابت، لا يدخلها تغيُّرٌ ولا تقبل التبدُّل: كتحريم الخمر لعلَّة الإسكار، ووجوبِ القطع لعلَّة السرقة، ووجوبِ اعتزال النساء لعلَّة الحيض، وتحريمِ القمار لعلَّة الغرر ونحو ذلك، فيطَّرد في شأنها الحكمُ وينعكس، أي: يدور الحكمُ مع علَّته وجودًا وعدمًا.
• وإمَّا أن تكون علَّتها غيرَ ثابتةٍ وهي الأحكام الاجتهادية المبنيَّة على علَّةٍ قابلةٍ للتغيُّر كالعرف والمصلحة: فهذه تتبدَّل بتبدُّل الزمان والأعراف اتِّفاقًا ـ كما تقدَّم ـ. وضمن هذا التقسيم لنوعَيِ الأحكام الشرعية قال ابن القيِّم ـ رحمه الله ـ: «الأحكام نوعان: نوعٌ لا يتغيَّر عن حالةٍ واحدةٍ هو عليها، لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمَّة: كوجوب الواجبات، وتحريم المحرَّمات، والحدود المقدَّرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك، فهذا لا يتطرَّق إليه تغييرٌ ولا اجتهادٌ يخالف ما وُضِع عليه، والنوع الثاني: ما يتغيَّر بحسب اقتضاء المصلحة له: زمانًا ومكانًا وحالًا، كمقادير التعزيرات وأجناسها وصِفاتها، فإنَّ الشارع ينوِّع فيها بحسب المصلحة»(٦).
لذلك كان لزامًا تقييد القاعدة المذكورة بإضافة كلمةٍ توضيحيةٍ تفاديًا للإجمال، وتكونُ الصيغة المعدَّلة على الوجه التالي: «لَا يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأَحْكَامِ الِاجْتِهَادِيَّةِ المَبْنِيَّةِ عَلَى العُرْفِ وَالمَصْلَحَةِ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ».
ولا يخفى أنَّ الذي يقبل التغيُّرَ إنما هو الأحكام الاجتهادية المبنيَّة على العرف والمصلحة والتي مِن ضوابطها عودُها على مقاصد التشريع بالحفظ والصيانة، وعدمُ اصطدامها بنصوص التشريع والإجماع، وعدمُ استلزام العمل بها مفسدةً أرجحَ منها أو مساويةً لها، وعدمُ تعارُضها مع مصلحةٍ أرجحَ منها أو مساويةٍ لها، فإنَّ الأحكام المبنيَّة عليها مشمولةٌ بالقاعدة السالفةِ البيانِ دون غيرها.
هذا، وقد ترتَّب عن هذا التقسيم المزعوم ـ بالمفهوم الاصطلاحيِّ الحديث ـ آثارٌ سيِّئةٌ على دين أمَّة الإسلام وأخلاقِها. ومِن هذه الآثار الناجمة عن القول بالمتغيِّرات ما يلي:
ـ حرِّيَّةُ الارتداد عن الدِّين وممارسةِ طقوسِ غيرِ المسلمين جهارًا، بدعوى حرِّيَّة الأديان وتقارُبها في ظلِّ الأخوَّة الإنسانية ـ زعموا ـ.
ـ تعطيلُ الحدود الشرعية مِن الرَّجْمِ والقطع والقصاص، وإبطالُها بدعوى أنها أعمالٌ وحشيةٌ تنافي العقلَ والطبع.
ـ تجويزُ أشكال الربا باسم البيع لإضفاء المشروعية عليها، وإباحةُ القروض الربوية بدعوى تلبية حاجيات الأمَّة والضغوط الدولية، وتبريرُ ذلك بقصد الالتحاق بركب الحضارة.
ـ تحريمُ تعدُّد الزوجات، ومنعُ الزواج المبكِّر، والمطالبةُ بمناصفة الأنثى للذكر في القسمة الإرثية، كلُّ ذلك بحجَّةِ أنَّ تطبيق تلك الأحكام الشرعية سلوكٌ غيرُ حضاريٍّ وينافي الإنصافَ والعدل.
ـ دعوة المرأة للخروج متبرِّجةً وعاريةً، واختلاطِها بالرجال، وسفرِها لوحدها أو مع أجنبيٍّ، وتزويجِ نفسها بنفسها، بل إباحةُ الزنا واللواط وشُرْبِ الخمر والرهان والقمار وسائر المعاصي التي تهدم الأخلاقَ وتهتك الأعراضَ، بحُجَّة التقدُّم والرُّقِيِّ والتَّحرُّر، ويتمُّ تسويغُ ذلك تحت شعارِ ما يسمَّى بالمتغيِّرات.
وهذا غيضٌ مِن فيضٍ ليصلوا بهذا التمييع للدِّين إلى مواكبة الغرب الكافر حضاريًّا وسلوكًا، وينتهضوا بأمَّتهم ـ زعموا ـ إلى مصافِّ الدول المتقدِّمة. علمًا بأنَّ الأبعاد الفكريةَ والنفسيةَ للمخطَّط الغربيِّ الذي يُجريه بأيدي أبناء جلدتنا إنما يكمن في تغيير وجه الإسلام الأصيل إلى بديلٍ على نمطٍ غربيٍّ، تمهيدًا لمحوِ الطابع المميِّز والأصيل للشخصية الإسلامية، مصداقًا لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَتَتْبَعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، شِبْرًا شِبْرًا وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ تَبِعْتُمُوهُمْ»، قُلْنَا: «يَا رَسُولَ اللهِ، اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟» قَالَ: «فَمَنْ؟»(٧).
وأخيرًا، نلفت النظر إلى أنه بواسطة التلبيس على الأمَّة بتسمية الحقِّ بالباطل بالتقسيمات والمناهج المُضِلَّة تأتي مثلُ هذه العبارات والأساليب المولَّدة المعاصرة الفاسدة التي يتشوَّف بها أهلُ الأهواء والباطل تسلُّلًا للوصول إلى تمييع الدِّين وقَصْرِه على بعض شؤونه في حدودٍ ضيِّقةٍ كأماكن العبادات ومظاهر الأخلاق دون بقيَّة شؤون الحياة تجسيدًا لعَلْمَنَة الدِّين.
وحتَّى يتحقَّق لهم هذا الغرضُ فلا بدَّ مِن إبقاء فضاءٍ أَوْسَعَ لعالَم المتغيِّرات للعبث بشريعة الله تعالى، ومجالٍ رَحْبٍ للتلاعب بأحكامها، تبعًا لأهواء الذين ارتمَوْا في أحضان الغرب جملةً وتفصيلًا، أو لمن ضَعُفوا عن مواجهته وعَجَزوا عن مقاومته واستسلموا له مذعنين وصاغرين، وأرادوا الحيلولةَ بين الناس ودينِهم وصَرْفَهم عن الحقِّ، ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾ [المؤمنون: ٧١].
والعلم عند الله تعالى، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر: ٢٤ شعبان ١٤٣٥ﻫ
الموافق ﻟ: ٢٢ جوان ٢٠١٤م
(١) انظر: «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (٦/ ٢٨٨ ـ ٢٨٩).
(٢) أخرجه ابن ماجه في «المقدِّمة» باب اتِّباع سنَّة رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم (٥) مِن حديث أبي الدرداء رضي الله عنه. والحديث حسَّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٢/ ٣٠٢).
(٣) أخرجه مسلم في «الجهاد والسير» (١٧٣١) مِن حديث بريدة الأسلميِّ رضي الله عنه.
(٤) انظر «معجم المناهي اللفظية» لبكر أبو زيد (٣٧١).
(٥) انظر تفصيلَ قاعدة: «لَا يُنْكَرُ تَغَيُّرُ الأَحْكَامِ بِتَغَيُّرِ الزَّمَانِ» في الكلمة الشهرية: «في حكم إغلاق المسجد».
(٦) «إغاثة اللهفان» لابن القيِّم (١/ ٣٣٠ ـ ٣٣١).
(٧) أخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب ما جاء في اجتهاد القضاة بما أنزل الله تعالى (٧٣٢٠)، ومسلم في «العلم» (٢٦٦٩)، مِن حديث أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه.