وقفة قصيرة مع المعاريض
التعريضُ لغة: ضِدُّ التصريح، والمعاريض في الكلام: هي التَّوْرِية بالشيء عن الشيء؛ “مختار الصحاح: مادة عَرَضَ“.
وهو ضَرْب من ضروب الكَذِب؛ يقول شيخ الإسلام (28/ 223):
“وهي كَذِبٌ بِاعتِبَارِ الأَفهَامِ، وَإِن لَم تَكُنْ كَذِبًا بِاعتِبَارِ الغَايَةِ السَّائِغةِ”؛ فلذلك كان منها المذموم، ومنها المحمود.
فالمحمود: ما كان لتحصيل الحقِّ، أو دفع الظلم، مثل كَذِبَات نبي الله إبراهيم – عليه السلام – قال نبيُّنا – صلى الله عليه وسلم -: ((لم يكذب إبراهيمُ إلا ثلاثَ كَذِبَات، كُلُّهن في الله))؛ وعلى ذلك أجاز العلماء المعاريض عند الحاجة، يقول شيخ الإسلام في “مجموع الفتاوى” (28/ 223): “وبها – أي: ثلاثة المعاريض – احتجَّ العلماء على جواز التعريض للمظلوم، وهو أن يعني بكلامه ما يحتمله اللفظ، وإن لم يفهمه المخاطب؛ ولهذا قال مَن قال مِن العلماء: إنَّ ما رخَّص فيه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – إنَّما هو مِنْ هذا، كما في حديث أم كلثوم بنتِ عُقْبَةَ عن النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: ((ليس الكاذب بالذي يُصْلِحُ بين الناس، فيقول خيرًا أو ينمي خيرًا))، ولم يرخص فيما يقول الناس: إنه كَذِبٌ، إلا في ثلاث: في الإصلاح بين الناس، وفي الحرب، وفى الرجل يحدِّثُ امرأته”.
وقال السَّعْدِيُّ في تفسيره عند ذكر العِبَر والفوائد من قصة يوسف – عليه السلام -:
“منها: أنه ينبغي لمن أراد أن يُوهِمَ غيره بأمرٍ لا يُحِب أن يطَّلع عليه – أن يستعمل المعاريض القولية والفعلية، المانعة له من الكذب، كما فعل يوسف؛ حيث ألقى الصُّواع في رحل أخيه، ثم استخرجها منه، موهِمًا أنه سارق، وليس فيه إلا القرينة الموهِمة لإخوته”.
وأما المذموم من المعاريض، فما جاء على خلاف ذلك، وأدَّى إلى استباحة الحرام، وقد عَقَدَ ابنُ القَيِّم – رحمه الله تعالى – فصلاً في كتابه الفريد “إعلام الموقعين” (3/269) (فصلٌ: لا تجوز المعاريض في استباحة الحرام)؛ ردًّا على من أجاز الحِيَلَ مُستدلاًّ على أنَّها مِنَ المعاريض، ونقل قولَ شيخه ابنِ تيميةَ – رحم الله الجميع – في بيان ضابط المعاريض: “والضابط أنَّ كلَّ ما وجب بيانُه، فالتَّعريضُ فيه حرامٌ؛ لأنَّه كتمان وتدليس، ويدخل في هذا الإقرار بالحق، والتعريض في الحلف عليه، والشهادة على العقود، ووصف المعقود عليه، والفتيا، والحديث، والقضاء، وكلُّ ما حَرُم بَيانُه، فالتعريض فيه جائز، بل واجب إذا أمكن ووَجَبَ الخطاب؛ كالتعريض لسائلٍ عن مالٍ معصومٍ أو نفسه يريد أن يعتدي عليه”.
وكما تكون المعاريض بالقول، تكون بالفعل أيضًا؛ يقول ابن القَيِّم في “الإعلام” (3/ 276):
“والمعاريض كما تكون بالقول تكون بالفعل، وتكون بالقول والفعل معًا؛ مثال ذلك: أن يُظْهِر المُحارب أنه يريد وجهًا من الوجوه ويسافر إليه؛ ليحسب العدو أنه لا يريده، ثم يكرُّ عليه وهو آمِنٌ من قصده، أو يستطرد المبارز بين يدي خصمه؛ ليظن هزيمته، ثم يعطف عليه، وهذا من خداعات الحرب”.
وفي نفس المعنى يقول ابن حجر في “فتح الباري” (3/ 470):
“ويؤخذ منه – أي: حديث الرَّمَل (1602) – جوازُ إظهار القوة بالعُدَّة والسِّلاح ونحو ذلك للكفار؛ إرهابًا لهم، ولا يُعَدُّ ذلك من الرياء المذموم، وفيه جواز المعاريض بالفعل كما يجوز بالقول، وربما كانت بالفعل أولى”.