سلسلة مالك بن نبي "متجدد" - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الدين الإسلامي الحنيف > قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية

قسم التاريخ، التراجم و الحضارة الاسلامية تعرض فيه تاريخ الأمم السابقة ( قصص الأنبياء ) و تاريخ أمتنا من عهد الرسول صلى الله عليه و سلم ... الوقوف على الحضارة الإسلامية، و كذا تراجم الدعاة، المشائخ و العلماء

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

سلسلة مالك بن نبي "متجدد"

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2012-04-08, 14:53   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










B11 سلسلة مالك بن نبي "متجدد"







لقد اقترح علي بعض الاخوة جزاهم الله خيراااا علي ان اضع سلسلة لمقالات ومواضيع المفكرالاسلامي الكبير والقدير والمحترم مالك بن نبي لتدارس فكر هذا الرجل الكبير لذا ارتايت ان ابدا انا باحد مقالاته وارجوا كل من لديه مقالات له او مواضيع او كتب ان يتفضل ويفيدنا بها ويستفيد معنا كما ارجوا من المشرف تثبيت الموضوع والان اترككم مع احد مقالاتة وهي بعنوان:

المرأة في فكر مالك بن نبي


يعتبر المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي واحدا من رجالات القرن العشرين الذين شغلوا أنفسهم بقضايا أمتهم، وسعوا إلى بلورة الحلول والاقتراحات الكفيلة بإخراج الأمة المسلمة من تخلفها الشامل المركب، ودفعها إلى معانقة العصر بفاعلية، فقد قدم مالك بن نبي - رحمه الله - مشروعا فكريا متكاملا في وقت كان فيه العالم الإسلامي يعارك فلول الاستعمار، أو يعيش مخلفاته التي كبلت حركته، وسممت أجواءه الثقافية والفكرية بإفراز نخبة منه حاولت إفهام الرأي العام المسلم بأن القوة في اتباع سبل الغرب وتقليد أنموذجه الحضاري. وقد وقف مالك بن نبي ضد هذه الدعوات اليائسة والمضللة، وصاغ مفهوم "القابلية للاستعمار"، مقتنعا بأن الهزيمة الحقيقية للجيل المسلم الذي جايله، وكل جيل استوفى شروطه نفسها، هي هزيمة نفسية لا تزول إلا بتغيير ما بالنفس مصداقا لقوله تعالى : " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " (الرعد : 11) .
وفي إطار مشروعه الفكري العام وتحديد نوعية وطبيعة المشكلات التي يواجهها المجتمع الإسلامي، وقف مالك بن نبي عند قضية المرأة التي تعرضت لكثير من التشويه، خصوصا مع اتساع دائرة التأثر بالنموذج الحضاري الغربي وموقع المرأة الأوربية فيه .

تحديد طبيعة المشكلة
ينبغي القول بادئ ذي بدء: إن قضية المرأة عند مالك بن نبي تندرج ضمن منظومته الفكرية العامة التي حددها في مشكلة الحضارة، بأبعادها الشاملة، السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. فمشكلة الحضارة عنده قضية لا تتجزأ، وأي تجزيء لها يقود حتمًا إلى طرح المشكلات طرحا خاطئًا، ومن ثم تحديد وسائل خاطئة للعلاج. إن مالكًا يعتبر أن العالم الإسلامي أضاع وقتا طويلا، وجهدا كبيرا بسبب عدم التحديد المنهجي الصحيح للمرض الذي يتألم منه منذ قرون عدة، وذلك عائد إلى التجزيئية التي عزلت القضايا عن بعضها ونظرت إلى كل واحدة على حدة .
من هنا وقف مالك من قضية المرأة موقفه من القضايا الأخرى، وقد أطلق تسمية "مشكلة المرأة" في كتابه "شروط النهضة"، وذلك انسجامًا مع منظومته الفكرية التي تدور حول مشكلة الحضارة عموما من ناحية، وللتدليل على مقدار التضخيم الذي كان من نصيب موضوع المرأة في العالم الإسلامي، سواء من أنصار التحرر الذي يصل بالمرأة إلى درجة التحلل، أم من أنصار التزمت الذي يغلق بصره أمام حقائق الإسلام .
اعتبر مالك بن نبي أن ليس هناك مشكلة للمرأة معزولة عن مشكلة الرجل، فالمشكلة واحدة، هي مشكلة الفرد في المجتمع، فقد حاول الكثيرون، بوحي من الفكر العربي التجزيئي، النظر إلى قضية المرأة كقضية مستقلة، ومن ثم خلقوا معركة مفتعلة بين أفراد المجتمع الواحد، ووضعوا المرأة في مواجهة الرجل، وهذه قمة التجزيئية وتشويه حقيقة الصراع الحضاري، لأنه يضع الزوجة في مواجهة الزوج، والبنت في مواجهة الأب والأخت في مواجهة الأخ وهلم جرا، فيتحول الصراع من صراع المجتمع ضد التخلف الحضاري والاغتراب إلى صراع داخل المجتمع نفسه، مما يلهيه عن التصدي للتحديات في بناء متماسك.
وتقود هذه الطريقة في تشخيص المشكلات وتحديد معالمها إلى منظور كمي، ذلك أن وضع جدار فاصل بين المرأة والرجل يؤدي ضرورة إلى البحث عما يفرق ويجمع بينهما، وبعد ذلك إلى إيجاد ما ينقص المرأة إزاء الرجل، وهل هي أكبر أو أصغر منه، أو تساويه في القيمة . ويعتبر مالك أن هذه الأحكام ما هي إلا افتئات على حقيقة الأمر ومحض افتراء (1).

موقفان ودافع مشترك
ميز مالك بن نبي بين موقفين متقابلين من قضية المرأة: موقف المتمسكين بإبعاد المرأة عن المجتمع وإبقائها في وضعها التقليدي الذي كرسته التقاليد، وموقف الداعين إلى أن تخرج المرأة في صورة تلفت إليها الغرائز. ورأى أن موقفي هذين الفريقين يصدران عن دافع واحد هو الغريزة. وهذان الموقفان لا يساهمان في حل المشكلة، بل ربما زادا الطين بلة. وإذا كان موقف الداعين إلى التحرر على النمط الغربي واضح الأخطار على المجتمع الإسلامي بسبب ما يؤدي إليه من ترسيخ للتبعية وتبليد للحس الإسلامي وضرب الهوية الخاصة للأمة، فإن الموقف الثاني قد يكون أشد خطرا لأنه يعطي لأعداء الأمة المبررات للخوض في سمعة الإسلام والتشكيك فيه، ويجعل المرأة حين تفكر في الحرية لا تجد أمامها إلا النموذج الغربي الحاضر أمامها.
من أجل ذلك يستبعد مالك هذين الموقفين لأنه "لا أمل لنا أن نجد في آرائهما حلا لمشكلة المرأة"(2) ويقول: "إن إعطاء حقوق المرأة على حساب المجتمع معناه تدهور المجتمع وبالتالي تدهورها، أليست هي عضوا فيه؟ فالقضية ليست قضية فرد، وإنما هي قضية مجتمع" (3) .

موقفه من تقليد المرأة الأوربية
إن تقليد المرأة الشرقية المسلمة للمرأة الأوربية لا يحل المشكلة عند مالك، وإنما يزيد من تعقيدها بعد أن كانت بسيطة، لأن انتقال المرأة من امرأة محجبة إلى امرأة سافرة لم يحل المشكلة، فهي لا تزال قائمة، "وكل الذي فعلناه أننا نقلنا المرأة من حالة إلى حالة، وسنرى عما قريب أن انتقالها هذا عقد المشكلة بعد أن كانت بسيطة" (4)، فحال المرأة الأوربية ليست بالتالي تحسد عليها، فقد رتب خروجها في صورة تخاطب غريزة الفرد الحيوانية أخطاء جديدة، حيث وصلت مشكلة النسل إلى حالة تدعو إلى الرثاء، وفقد المجتمع نظامه الاجتماعي المتماسك الصلب، وانمحت المعاني الحقيقية التي تحترم العلاقات الجنسية، وأصبحت هذه العلاقات تسلية للنفوس المتعطلة، وبذلك فقدت هذه العلاقات وظيفتها من حيث هي وسيلة لحفظ الأسرة وبقاء المجتمع .
فالمطلوب إذن عند مالك هو التخلص من نظرة الإعجاب التي ينظر بها أنصار تحرر المرأة في العالم الإسلامي إلى المرأة الأوربية، لأن هذه هي الخطوة الأولى نحو التشخيص الصحيح للمشكلة ومكامن الخلل . ومالك لا يضع أيضا أزمة المرأة الأوربية في معزل عن أزمة الحضارة الغربية عامة لأن المنظور الحضاري عنده هو "إطار كلي للتفسير" يتم رد جميع المستويات والجزئيات إليه في سياق كلي شامل، تأتي بعدها الخطوة الثانية وهي ضرورة التخلص من النظرة الجامدة إلى التقاليد التي علقت بالممارسة والوعي الديني لدى الفرد المسلم .
وإذا كانت التغيرات الاجتماعية والاقتصادية قد دفعت بالمرأة إلى عالم الشغل والمصنع والخروج من البيت، فينبغي في رأي مالك بن نبي أن توضع أزمة العاملة الأوربية في نظر الاعتبار . فقد كانت المرأة في أوربا ضحية هذا الخروج لأن المجتمع الذي حررها قذف بها إلى المصنع وإلى المكتب وقال: "عليك أن تأكلي من عرق جبينك" في بيئة مليئة بالأخطار على أخلاقها، وتركها في حرية مشؤومة، ليس لها ولا للمجتمع فيها نفع، ففقدت - وهي مخزن العواطف الإنسانية - الشعور بالعاطفة نحو الأسرة، وأصبحت بما ألقي عليها من متاعب العمل صورة مشوهة للرجل دون أن تبقى امرأة".
وعلى هذا الأساس يدعو مالك بن نبي إلى أن توضع قضية تحرر المرأة المسلمة في إطارها الحضاري الإسلامي الطبيعي، وفي إطار الخصوصيات الحضارية والثقافية للأمة: "ينبغي أن نطبع حركتنا النسائية بطابعنا لا بطابع ما يصنع في الخارج" (5).

مشكلة الـــــــــــــزي
من اللافت للانتباه أن يخصص مالك بن نبي- رحمه الله- فصلا خاصا في كتابه "شروط النهضة" لقضية الزي بعد الفصل الذي خصصه لقضية المرأة، وقد جعل عنوان هذا الفصل في صيغة إشكالية تحت عنوان "مشكلة الزي" وبعد الفصل الخاص بالمرأة مباشرة، ليدل على الترابط بين القضيتين.
لقد ركزت الدعوات الأولى لتحرر المرأة أهدافها على الحجاب الشرعي للمرأة المسلمة قبل أي جانب آخر، مما يدل على أن مسألة الزي أو اللباس ليست مسألة جانبية أو شكلية كما يريد الكثيرون تصويرها، بل مسألة لصيقة بالنموذج الحضاري والاختيار الثقافي للفرد والمجتمع .
إن مالكًا يرى أن الزي أحد عوامل التوازن الأخلاقي الرئيسة، بل أكثر من ذلك يعتبره ذا روح خاصة: (ليس اللباس من العوامل المادية التي تقر التوازن الأخلاقي في المجتمع فحسب، بل إن له روحه الخاصة به، وإذا كانوا يقولون: "القميص لا يصنع القسيس" فإني أرى العكس من ذلك، فإن القميص يسهم في تكوين القسيس إلى حد ما، لأن اللباس يضفي على صاحبه روحه) (6) . فلم يكن مصطفى كمال الذي قضى على الخلافة العثمانية حين نزع الطربوش واستعاض عنه بالقبعة يريد فقط تغييرا شكليا واستبدال زي بآخر، وإنما أراد اعتماد حضارة وسلوك اجتماعي معين، لذلك جاءت القبعة بمثابة القنبلة التي انفجرت في ذلك المجتمع.
فالزي ليس مجرد ديكور خارجي خال من المعاني والمضامين الكبرى في حياة الأمة، بل تعبير عن هوية، فهو يسهم في تمييز المجتمعات عن بعضها ويعطيها خصوصيتها المتفردة، ويجعل الفرد يشعر بانتمائه إلى ثقافته وحضارته الخاصة، ويعطيه الشعور بالتكاليف الاجتماعية التي يضعها عليه لباسه المميز.
أما بالنسبة للمرأة فإن الزي يمثل حقيقة نساء المجتمعات الأخرى، ويضفي عليها معاني الحضارة التي تعيش في قوالبها وأشكالها وطقوسها، فلباس المرأة الأوربية مثلاً الذي كشفها وفضح جسدها يدل على تسخير المرأة لأغراض هي غير الأغراض الحقيقية المعلن عنها، أغراض التحرر والاختيار والحضور الفاعل في المجتمع، وهو يعبر عن طبيعة الحضارة الغربية المادية وثقافتها الساعية إلى تقديس مبدأ اللذة، يقول مالك بن نبي: "غير أنها أصبحت اليوم-أي المرأة الأوربية- تلبس اللباس الفتان المثير، الذي لا يكشف عن معنى الأنثى، فهو يؤكد المعنى الجسدي الذي يتمسك به مجتمع ساده الغرام باللذة العاجلة".
ويسوق مالك أنموذجًا حيًّا لتكييف المرأة مع الاختيار الثقافي والحضاري والسياسي عن طريق الزي، وهو أنموذج المرأة اليهودية في الجزائر إبان الاحتلال الفرنسي لهذا البلد، والتي كانت تتهيأ للهجرة من الجزائر نحو فلسطين لتندمج في حياة دولة "الصهاينة" الجديدة . فقد كانت هذه المرأة تأتي من أطراف الواحات الصحراوية الجزائرية بأزيائها البلدية لتتحول إلى "مواطنة يهودية" منذ أن تصعد الباخرة، حيث تترك المفلحة والكحل وترتدي الأزياء التي تناسب طبيعة المجتمع الجديد. ويرى مالك أن هذا التغيير الشكلي في حقيقته هو مجرد خطوة أولى في سلسلة تطورية تصل إلى حد التغيير النفسي والفكري بعد أن تكون المرأة اليهودية قد ألقت عن جسدها اللباس القديم الذي كان يربطها بالمجتمع منذ قرون، واستعدت لإعادة بناء شخصيتها وتشكيل وعيها في المحيط الجديد (7) .

دور المرأة في إعادة البناء الحضاري
إن دور المرأة المسلمة عند مالك بن نبي يكتسي أهمية خاصة في إعادة البناء الحضاري للأمة من جديد، فهي عماد الأسرة التي تقوم بتشكيل الأفراد وتنشئتهم على معاني الحضارة وإعداد الأجيال لحمل الرسالة، ولذلك يضع مالك علاقة متينة بين شخصية المرأة التي يريدها المجتمع وبين قضية بناء حضارة المجتمع .
يقول ابن نبي: "الواجب أن توضع المرأة هنا وهناك حيث تؤدي دورها خادمة للحضارة، وملهمة لذوق الجمال وروح الأخلاق، ذلك الدور الذي بعثها الله فيه أمًّا وزوجة للرجل".
ونظرا لخطورة المهمة الحضارية وتشعب مسالكها وتعدد المداخل إليها وتوزع الاختصاصات، فإن حل مشكلة المرأة هو الآخر كجزء من هذه المهمة لا يمكن أن ينهض به- في نظر مالك- قلم كاتب في مقال أو كتاب لأن "هذه المشكلة متعددة الجوانب ولها في كل ناحية من نواحي المجتمع نصيب"، لذلك يقترح عقد مؤتمر عام تحدد فيه مهمة المرأة بالنسبة لصالح المجتمع، يشارك فيه إلى جانب علماء الشريعة الأطباء وعلماء النفس والاجتماع وعلماء التربية، حينئذ يمكن القول- بحسب مالك- إننا وضعنا المنهج الأسلم لحياة المرأة "ولسوف يكون هذا التخطيط حتما في صالح المجتمع، لأن علماءه والمفكرين فيه هم الذين وضعوه"، وينبغي أن تكون مقررات المؤتمر العام "دستورا لتطور المرأة في العالم الإسلامي".
وإذا كان اقتراح مالك بن نبي بعقد مثل هذا المؤتمر يبدو بمقياس الفترة التي كتب فيها غريبا رغم الحاجة إليه، فإنه يظهر اليوم ضرورة منطقية بعد أن أصبحت المؤتمرات الدولية الساعية إلى عولمة النموذج الغربي للمرأة الأوربية وهدم الأسرة في العالم الإسلامي تعقد باستمرار، ويقوم الإعلام الغربي والعلماني التابع له في ديارنا بالنفخ في قراراتها، وتقوم المؤسسات الدولية النافذة بالضغط على الشعوب المسلمة لتنفيذ تلك المقررات وتطبيقها في تشريعاتها الداخلية.
وما يملي عقد مؤتمر للمرأة المسلمة عند مالك بن نبي هو أن المرأة في العالم الإسلامي تتطور أوضاعها بطريقة غير مرسومة الأهداف ودون غاية محددة، أي بعيدا عن أهداف البناء الحضاري للأمة، مما يقتضي ضرورة التخطيط لهذا التطور لتحديد الأهداف المتوخاة منه، بشكل لا تتعارض فيه مع الأهداف العليا للأمة الإسلامية .
وبسبب هذا الوعي الحضاري لدى مالك بن نبي، فإنه لا يتحدث عن تحرر المرأة أو عن حريتها، ربما لكي لا يقلب المفاهيم ويسقط في شراك المصطلح الغربي، بل يتحدث عن "الحضور"، ليربط قضية المرأة بالقضية الشاملة للأمة، وهذا الحضور- المشتق من معاني الحضارة، والذي يعني الفاعلية- يرتبط في مدلوله العام بمصطلح الشهود الحضاري للأمة، حتى تظل الأمة المسلمة خير أمة أخرجت للناس، شاهدة عليهم، وهو شهود باق إلى يوم القيامة .
ـــــــــ
الـهــــــــوامـــــــــــش

(1) مالك بن نبي : شروط النهضة ، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين . دار الفكر- بيروت الطبعة الثالثة 1969 ص 174 .
(2) نفسه ص 176 .
(3) نفسه ص 177- 178 .
(4) نفسه ص 179 .
(5) مالك بن نبي : بين التيه والرشاد ، ص 58 .
(6) شروط النهضة ص 188 .
(7) مالك بن نبي : في مهب المعركة، إرهاصات الثورة، ص: 137 -&nb










 


رد مع اقتباس
قديم 2012-04-08, 14:56   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الموضوع الثاني: وهو بعنوان:
شروط النهضة عند مالك بن نبي


لقد ظل العالم العربي خارج التاريخ دهراً طويلاً كأن لم يكن له هدف ، فاستسلم المريض للمرض ، وفقد شعوره بالألم حتى كأن المرض صار يؤلف جزءاً من كيانه .
وقبل ميلاد القرن العشرين سمع من يذكره بمرضه ، ومن يحدثه عن العناية الإلهية التي استقرت على وسادته ، فلم يلبث أن خرج من سباته العميق ولديه الشعور بالألم . وبهذه الصحوة الخافتة تبدأ بالنسبة للعالم الإسلامي والعربي حقبة تاريخية جديدة يطلق عليها : النهضة .
ولكن ما مدلول هذه الصحوة ؟ إن من الواجب أن نضع نصب أعيننا (المرض) بالمصطلح الطبي لكي تكون لدينا عنه فكرة سليمة ، فإن الحديث عن المرض أو الشعور به لا يعني بداهة (الدواء) .
ونقطة الإنطلاق هي أن الخمسين عاماً الماضية تفسر لنا الحالة الراهنة التي يوجد فيها العالم العربي اليوم ، والتي يمكن أن تفسر بطريقتين متعارضتين : فهي من ناحية : النتيجة الموفقة للجهود المبذولة طوال نصف قرن من الزمان من أجل النهضة .
وهي من ناحية أخرى : النتيجة الخائبة لتطور استمر خلال هذه الحقبة دون أن تشترك الآراء في تحديد أهدافه أو اتجاهاته .
ومن الممكن أن نفحص الآن سجلات هذه الحقبة ، ففيها كثير من الوثائق والدراسات ومقالات الصحف والمؤتمرات التي تتصل بموضوع النهضة هذه الدراسات تعالج الاستعمار والجهل هنا ، والفقر والبؤس هناك ، وانعدام التنظيم واختلال الاقتصاد أو السياسة في مناسبة أخرى ، ولكن ليس فيها تحليل منهجي للمرض ، أعني دراسة مرضية للمجتمع العربي ، دراسة لا تدع مجالاً للظن حول المرض الذي يتألم منه منذ قرون .
ففي الوثائق نجد أن كل مصلح قد وصف الوضع الراهن تبعاً لرأيه أو مزاجه أو مهنته . فرأى رجل سياسي كجمال الدين الأفغاني أن المشكلة سياسية تحل بوسائل سياسية ، بينما قد رأى رجل دين كالشيخ محمد عبده أن المشكلة لا تحل إلا بإصلاح العقيدة والوعظ ...الخ ... على حين أن كل هذا التشخيص لا يتناول في الحقيقة المرض بل يتحدث عن أعراضه .
وقد نتج عن هذا أنهم منذ مائة عام لا يعالجون المرض ، وإنما يعالجون الأعراض ، وكانت النتيجة قريبة من تلك التي يحصل عليها طبيب يواجه حالة مريض بالسل ، فلا يهتم بمكافحة الجراثيم ، وإنما يهتم بهيجان الحمى عند المريض .
والمريض نفسه يريد - ومنذ مائة عام - أن يبرأ من آلام كثيرة : من الاستعمار ونتائجه ، من الأمية بأشكالها ، من الفقر رغم غنى البلاد بالمادة الأولية ، من الظلم والقهر والاستعباد ، من ومن ، ومن ، وهو لا يعرف حقيقة مرضه ولم يحاول أن يعرفه ، بل كل ما في الأمر أنه شعر بالألم ، ولا يزال الألم يشتد ، فجرى نحو الصيدلية ، يأخذ من آلاف الزجاجات ليواجه آلاف الآلام .
وليس في الواقع سوى طريقتين لوضع نهاية لهذه الحالة المرضية ، فإما القضاء على المرض وإما إعدام المريض . لكن هناك من له مصلحة في استمرار هذه الحالة المرضية سواءً أكان ممن هم في الخارج أو ممن يمثلونهم في الداخل .
لقد دخل المريض إلى صيدلية الحضارة الغربية طالباً الشفاء ، ولكن من أي مرض ؟ وبأي دواء ؟ وبدهي أننا لا نعرف شيئاً عن مدة علاج كهذا ، ولكن الحالة التي تطرد هكذا تحت أنظارنا منذ نصف قرن ، لها دلالة اجتماعية يجب أن تكون موضع تأمل وتحليل . وفي الوقت الذي نقوم به بهذا التحليل يمكننا أن نفهم المعنى الواقعي لتلك الحقبة التاريخية التي نحياها ، ويمكننا أيضاً أن نفهم التعديل الذي ينبغي أن يضاف إليها .
إن مشكلة النهضة تتحلل إلى ثلاث مشكلات أولية : مشكلة الإنسان ، ومشكلة التراب، ومشكلة الوقت ، فلكي نقيم بناء نهضة لا يكون ذلك بأن نكدس المنتجات ، وإنما بأن نحل هذه المشكلات الثلاث من أساسها .
أولاً : مشكلة الإنسان ...
ثانياً : مشكلة التراب ...
ثالثاً : مشكلة الوقت ...
1ً- الإنسان :
إن المشروع الإصلاحي يبدأ بتغيير الإنسان ، ثم بتعليمه الإنخراط في الجماعة ثم بالتنظيم فالنقد البناء .
وتبدأ عملية التطور من الإنسان لأنه المخلوق الوحيد القادر على قيادة حركة البناء ، وتحقيق قفزات
نوعية ، تمهيداً لظهور الحضارة . أما المادة فمهما يكن من أمرها تكديساً وزيادة ، فإنها تبقى تجميع كمي لا يعطي معنى كيفياً نوعياً ، إلا بسلامة استخدام الإنسان له(201،200:8) .
فلكي يتحقق التغير في محيطنا يجب أن يتحقق أولاً في أنفسنا وإلا فإن العربي لن يستطيع إنقاذ نفسه ولا إنقاذ الآخرين، ثم إذا كان منهج الرسالة يقتضي التغيير ، والتغيير يقتضي تغيير ما في النفوس أولاً ... لقوله تعالى "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (سورة الرعد ، الآية : 11) ، وعندها يجب على العربي أن يحقق بمفرده شروطاً ثلاثة :
1- أن يعرف نفسه .
2- أن يعرف الآخرين ، وأن لا يتعالى عليهم وأن لا يتجاهلهم (59،58:8 )
3- ويجب عليه في الشرط الثالث أن يعرف الآخرين بنفسه ولكن بالصورة المحببة ، بالصورة التي أجريت عليها كل عمليات التغيير بعد التنقية والتصفية من كل رواسب القابلية للاستعمار والتخلف وأصناف التقهقر
فالإنسان هو الهدف وهو نقطة البدء في التغيير والبناء ، ومهما جرت محاولات تحديثية بوساطة
الإستعارة ، أو الشراء للمصنوعات ومنتجات التقنية ، فإن هذه المحاولات ستكون عقيمة ، طالما أنها لم تبدأ من حيث يجب ، فالحل الوحيد منوط بتكوين الفرد الحامل لرسالته في التاريخ ، والغني بأفكاره على حساب اشيائه
إن العلوم الأخلاقية والاجتماعية والنفسية تعد اليوم أكثر ضرورة من العلوم المادية فهذه تعتبر خطراً في مجتمع مازال الناس يجهلون فيه حقيقة أنفسهم أو يتجاهلونها ومعرفة إنسان الحضارة وإعداده ، أشق كثيراً من صنع محرك أو تقنية متطورة ، ومما يؤسف له ان حملة الشهادات العليا في هذه الاختصاصات هم الأكثر عدداً في البلدان المتخلفة لكنهم لم يكونوا إلا حملة أوراق يذكر فيها اختصاصهم النظري ، فصاروا عبئاً ثقيلاً على مسيرة التنمية والإصلاح ، فهم القادة في المجتمعات المتخلفة على الرغم من عجزهم عن حل أبسط المشكلات بطريقة علمية عملية ، وإلا لما تخلف مشروع النهضة حتى الوقت الحاضر ، ونحن بحاجة إلى دروس في منهجية العمل في سائر مستويات عملنا .
فلتبدأ المنهجية اولاً في مستوى الحديث المجرد ، لأن كل عمل اجتماعي يقتضي تبادل أفكار بين عدد من الاشخاص .
إن الحوار هو أبسط صورة لتبادل الأفكار ، وهو بذلك المرحلة التمهيدية البسيطة لكل عمل مشترك فقواعد الحديث إذن لا تخص حسن الآداب فقط ، بل هي جزء رئيسي من تقنية العمل . ونحن نجد هذه الصلة ، بصورة رمزية ، في العهد القديم عندما يقص علينا: كيف اصبح عمل القوم مستحيلاً في تشييد برج بابل ، عندما اختلفت ألسنتهم ، ففي هذه القصة نرى كيف يتعطل العمل بمجرد ما تعطل تبليغ الأفكار بالكلام .
فالقضية إذن لا تخص قواعد الحديث وحسن السلوك في المنتديات والمؤتمرات والصالونات والمقاهي فحسب ، بل تخص مباشرة تقنية العمل من زاوية الفعالية ، فحيث لا يكون الحديث لمجرد التسلية ، يجب أن يخضع لقواعد العمل ، الذي ليس في بداية ومرحلة تحضيرة ، سوى مشروع في محتوى بعض الكلمات وبعض الأفكار ، وفي هذا المستوى ، يتداخل الجانب الأخلاقي والجانب المنطقي ليكونا معاً العمل الفعال أو العمل التافه(40:8) وأظن أننا لا نزال كأمة في المستوى الثاني .
فليس من الضروري - ولا من الممكن - أن يكون لمجتمع فقير ، المليارات من الذهب كي ينهض ، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا يستطيع الدهر ان ينقص من قيمته شيئاً، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه : الإنسان ، والتراب ، والوقت(60:2)، فالثورة لا ترتجل ، إنها إطراد طويل ، يحتوى ما قبل الثورة والثورة نفسها ، وما بعدها والمراحل الثلاث هذه لا تجتمع فيه بمجرد إضافة زمنية ، بل تمثل فيه نمواً عضوياً وتطوراً تاريخياً مستمراً ، وإذا حدث أي خلل في هذا النمو وفي هذا التطور فقد تكون النتيجة زهيدة تخيب الآمال(12،11:2) .
فالثورة قد تتغير إلى "لا ثورة" بل قد تصبح "ضد الثورة" بطريقة واضحة خفية، والأمر الذي لا يجوز أن يغيب عن أذهاننا في هذا الصدد هو أن مجتمعاً ما بمقتضى طبيعته البشرية ينطوي على خمائر من روح - ما ضد الثورة - طبقاً لمبدأ التناقض تناقضاً مستمراً. حتى في فترة ثورية نستطيع تتبع آثاره في تاريخ كل الثورات . بحيث لا يغني أن ندفع عجلة الثورة في وطن ما ، بل يجب أن نتتبع حركتها ورقابتها بعد ذلك(14،13:2) .
وطالما كانت الإرادة الحضارية طوع الفكرة فإننا إزاء عصر التلقين المستبد بتصوراتنا ومفاهيمنا نواجه انهيار هذه الإرادة حتى لا تقوى على احتضان المصير، والصراع الفكري يجد إطاره الأوسع في البلاد المحكومة بشبكة من الإيحاءات ، تدلي بها مراصد الاستعمار ، لتصنع متقلب الأحداث وسوء منقلبها حيال كل نهضة فاعلة في عالمنا العربي والإسلامي .
فالمشكلة مشكلة أفكار في النهاية ، لأننا بها ننظم خطانا في ثبات الأديم ، وندفع طاقتنا في مضاء العزيمة ، ونحشد وسائلنا في وثيق الإنجاز .
إن لكل حضارة نمطها وأسلوبها وخيارها . وخيار العالم الغربي ذي الأصول الرومانية الوثنية قد جنح بصره إلى ما حوله مما يحيط به : نحو الاشياء، بينما الحضارة العربية الإسلامية عقيدة التوحيد المتصل بالرسل قبلها سبح خيارها نحو التطلع الغيبي وما وراء الطبيعة : نحو الأفكار .
والإنسان حينما ينظم شبكة علاقاته الاجتماعية بوحي الفكرة في انبثاقها ، فإنه يتحرك في مسيرته عبر الأشخاص والأشياء المحيطة به فيتخذ العالم الثقافي إطاره في إنجاز هذه المسيرة ويأخذ طابعه تبعاً للعلاقة بين العناصر الثلاثة المتحركة : الأشياء، الأشخاص ، الأفكار .
فهناك توازن لابد منه بين هذه العناصر الثلاثة يسكب مزيجها في قوالب الإنجاز الحضاري ، فإذا ما استبد واحد من هذه العناصر وطغى على حساب العنصرين الآخرين فثمة أزمة حقيقية في مسيرة الحضارة تلقي بها خارج التاريخ فريسة طغيان الشيء أو طغيان الشخص .
ففي بلد متخلف يفرض الشيء طغيانه بسبب ندرته ، تنشأ فيه عقد الكبت والميل نحو التكديس الذي يصبح في الإطار الاقتصادي إسرافاً محضاً . أما في البلد المتقدم وطبقاً لدرجة تقدمه ، فإن الشيء يسيطر بسبب وفرته وينتج نوعاً من الإشباع ، إنه يفرض شعوراً لا يحتمل من الشؤم البادي من رتابة ما يرى حوله ، فيولد ميلاً نحو الهروب إلى الأمام الذي يدفع الإنسان المتحضر دائماً إلى تغيير إطار الحياة وفق صرعات الموضة في كل شيء حوله .
لكن طغيان الشخص يؤدي إلى نتائج في الإطار السياسي والجتماعي تهدم بنيان الفكرة حينما تتجسد فيه . وكثيراً ما تعمد مراصد الرقابة في حركة العالم الثالث إلى دفع هذا الاتجاه المرضي إلى نهايته في عقول الجماهير لتحطم الفكرة البناءة من وراء سقوط الأشخاص الذين يمثلونها في النهاية ، وتدفع الجماهير للبحث عن بديل للفكرة الاصلية من الشرق والغرب عبر بطل جديد .
فعدم التوازن في العناصر الثلاثة يفضي بنا على انهيار المجتمع ، والمجتمع العربي الإسلامي يعاني في الوقت الحاضر بصورة خاصة من هذه الاتجاهات ، لأن نهضته لم يُخطط لها . ولم يُفكر بها بطريقة تأخذ بإعتبارها عوامل التبديد والتعويق سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي ، وعلى الأغلب الاثنين معاً .
إن أهمية الأفكار في حياة مجتمع معين تتجلى في صورتين : فهي إما ان تؤثر بوصفها عوامل نهوض بالحياة الاجتماعية ، وإما أن تؤثر على عكس ذلك بوصفها عوامل ممرضة ، تجعل النمو الاجتماعي صعباً أو مستحيلاً .
وهنالك فضلاً عن ذلك جانب آخر لأهمية الأفكار في العالم الحديث : ففي القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الأمم والشعوب علاقات قوة ، وكان مركز الأمة يقدر بعدد مصانعها، ومدافعها، واساطيلها البحرية، ورصيدها من الذهب، ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطوراً معلوماً ، هو أنه قد أعلى من الفكرة باعتبارها قيمة قومية ودولية . هذا التطور لم تشعر به كثيراً البلدان المتخلفة ، لأن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في طريقها ضرباً من الغرام السقيم بمقاييس القوة أي بالمقاييس القائمة على (الأشياء) .
فالإنسان المتخلف وبسبب عقدة تخلفه يرد المسافة بين التقدم والتخلف إلى نطاق (عالم الأشياء) ، أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه متمثل في نقص مالديه من مدافع وطائرات ومصارف...الخ .
وبذلك يفقد مركب النقص لديه فاعليته الاجتماعية ، إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى تكديس المشكلات ، فلكي يصبح مركب النقص لديه فَعّالاً مؤثراً ينبغي أن يرد الإنسان تخلفه إلى مستوى الأفكار لا إلى مستوى الأشياء ، فإن تطور العالم الجديد دائماً يتركز اعتماده على المقاييس الفكرية .
ومشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الأفكار ، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه ، فهو بصفة عامة قوة في الأساس ، وتوافق في السير ، ووحدة في الهدف ، فكم من طاقات وقوى لم تُستخدم؛ لأننا لا نعرف كيف نُكتّلها ، وكم من طاقات وقوى ضاعت فلم تحقق هدفها حين زحمتها قوى أخرى صادرة عن المصدر نفسه ، ومتجهة إلى الهدف نفسه(67:3)
فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت ، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت ، والمهم هو أن ندير هذا الجهاز الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول ، في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية. وهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ نحو الهدف المنشود .
فلا يكفي مطلقاً أن ننتج أفكاراً ، بل يجب أن نوجهها طبقاً لمهمتها الاجتماعية التي نريد تحقيقها(67:3)
إننا نرى في حياتنا اليومية جانباً كبيراً من اللا فاعلية في أعمالنا ، إذ يذهب جزء كبير منها في العبث وفي المحاولات الهازلة .
وإذا ما أردنا حصراً لهذه القضية فإننا نرى سببها الأصيل في افتقادها الضابط الذي يربط بين الأشياء ووسائلها، وبين الأشياء وأهدافها ، فثقافتنا لا تعرف مثلها العليا وفكرتنا لا تعرف التحقيق ، وإن ذلك كله ليتكرر في كل عمل نعمله وفي كل خطوة نخطوها (87:3)
إن الذي نقص العربي ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً ، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون تفكيراً مؤثراً ويقولون كلاماً منطقياً من شأنه أن يتحول في الحال إلى عمل ونشاط .
أما في مستوى المجتمع الذي يعيش أزمة ثقافية فإننا نستطيع حصر العديد من الملاحظات ويكفينا لذلك أن نرى بالعين المجردة ما يدور في حياته الاقتصادية والسياسية.
إننا لو وضعنا سلماً للقيم الثقافية جنباً إلى جنب مع السلم الاجتماعي لقررنا مبدئياً أن السلمين يتجهان في الاتجاه نفسه من الأسفل إلى الأعلى أي أن المراكز الاجتماعية تكون تلقائياً موزعة حسب الدرجات الثقافية .
وهذه حقيقة نمارسها في حياة كل مجتمع ولو كان يواجه بعض الأزمة الثقافية على شرط أنها لم تبلغ درجة اللارجوع ، أما في المجتمع الذي بلغ هذه الدرجة ، فإن السلمين ينعكسان ، الواحد بالنسبة للآخر إنعكاساً تصبح معه القاعدة الشعبية - على الأقل بمحافظتها على الأخلاق – أثرى ثقافياً من قيادتها ، فمن يرقى درجات السلم ويأخذ مكانه ودوره الاجتماعي في العالم المتخلف ليس من أهل الدرجات العلمية الثقافية ، بل من يرضى عليه أولو الأمر في السلطة(94:3)
لكن كيف نخلص الإنسان من الاستعمار الثقافي ؟ والذي معناه استمرار الاستعمار السياسي والاقتصادي إن الإنسان المطلوب تغييره من أجل تنشيط عملية البناء الحضاري لا يمكن تغييره وتخليصه من الدونية باتجاه الآخر المستعمر ، إلا إذا هيأنا له مناخاً تربوياً متحرراً من النفوذ الاستعماري وجواً ثقافياً أصيلاً . وشعوراً متعالياً بالشخصية وعلى أي حال فإن الفرد منذ ولادته في عالم من الأفكار والأشياء يعتبر معها في حوار دائم ، فالمحيط الثقافي الداخلي الذي ينام الإنسان في ثناياه ويصحو ، والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية تُكَوّنُ في الحقيقة إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه روحنا بلغة ملّفزة ، ولكن سرعان ما تصبح بعض عباراتها مفهومة لنا ولمعاصرينا ، عندما تفسرها لنا ظروف استثنائية تتصل مرة واحدة بعالم الأفكار وعالم الأشياء وعالم العناصر ، فإذا بها تكشف عن مضمونها تماماً كما كشفت التفاحة لنيوتن عن سر الجاذبية (55:3 )
فالإبداع والعطاء لن يكونا إلا عندما نترك لعالم الأفكار أن يحاول حلَّ خفايا عالم الاشياء في هذه الحالة تتوالى الحلول تترى ، وبذلك تقوم النهضة العلمية في مجتمع ما ، أما إذا كان عالم الأفكار مستعاراً فسيكون عنده قصور في الكشف ، وتراوح الأمور العلمية مكانها .
وإذا أردنا أن ننشئ ذاتاً جديدة لإنسان اليوم في العالم العربي والإسلامي ، فيقتضي ذلك قبل كل شيء تنقية المحيط الأسروي ، والمدرسي ، والاجتماعي العام ، من الإستعارات التي تحمل في طياتها هدفاً إستعمارياً تخريبياً ، يحاول زرع التفقير والتجهيل والإنحراف في مجتمعاتنا بشتى الوسائل ، وأهمها استغلال غفلتنا (222:8)
ويتحدد دور ومكانة الفرد في أمته تبعاً لعلاقة المجتمع بالأشياء أم بالأشخاص أم بالأفكار ، إذ يمكن الإشارة إلى أوجه التشابه بين بعض مظاهر النمو العقلي عند الفرد ، والتطور النفسي – الاجتماعي للمجتمع ، وهذا الأخير يمر هو أيضاً بالأعمار الثلاثة
1-مرحلة الشيء .
2-مرحلة الشخص .
3-مرحلة الفكرة .
بيد أن الانتقال هنا من مرحلة إلى مرحلة أخرى ليس بالوضوح الذي نراه عند الفرد . فكل مجتمع مهما كان مستواه من التطور له عامله الثقافي المعقد ، ففي نشاطه المتناغم هنالك تشابك بين العوالم الثلاثة : الأشياء والأشخاص ، والأفكار، ولكن يظل هنالك دائماً رجحان لأحد هذه العوالم الثلاثة ، وبهذا الرجحان الذي يظهر في سلوك المجتمع وفكره يتميز كل مجتمع عن سواه من المجتمعات(36:4) .
فالمجتمع المتخلف ليس موسوماً حتماً بنقص في الوسائل المادية (الأشياء) ، وإنما بافتقاره للأفكار ، ويتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه ، بقدر متفاوت من الفاعلية ، وفي عجزه عن إيجاد غيرها ، وعلى الأخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الإطلاق ، عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة بالتصدي لها ، أما حاله مع عالم الأشخاص ، فإنه يدور حول شخص الزعيم فيجعل منه وثناً يُعبد .
ولا خلاص لمجتمع من تخلفه إلا إذا كان عالم أشياءه وأشخاصه يدور حول عالم الأفكار، فالثورة حين تخشى أخطاءها ليست بثورة، وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر .
وفي هذا يقول ماركس : يجب دائماً أن نكشف الفضيحة عندما نكتشفها حتى لا تلتهمنا(16،15:2) .
- فإن أي ثورة ، لن تستطيع تغيير الإنسان إن لم تكن لها قاعدة أخلاقية قوية(21:2) .
- إن الحوار بين المسؤولين والجماهير يعيد الجسر الذي يصل الشعب بالدولة، وليس غريباً في هذا المناخ من الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات ، ولو كان ثمنها مزيداً من التقشف لأن الصعوبات لا تزال بين عشية وضحاها بعصا سحرية(24،23:2)، وعلينا أن نقدم الواجب قبل أن نطالب بالحقوق .
- أما الحق ... فما أغراها من كلمة ! إنها كالعسل يجذب الذباب ويجتذب الانتفاعيين والوصوليين والانتفاعين الإنتهازيين بينما كلمة الواجب لا تجتذب غير النافعين الذين يسعون حقاً لنهضة مجتمعهم(29:2). فالفرد في المجتمع المتخلف يطالب بحقوقه قبل أن يقوم بواجباته ، بينما أداء الواجب هو الكفيل الوحيد بالحصول على الحقوق ، فإذا أردت أن تصلح أمر الدولة اصلح نفسك(34:2) .
2-التراب : وهو العنصر الثاني الذي يشكل الحضارة مع الإنسان والوقت في فكر مالك ابن نبي .

وحيث يتكلم عن التراب لا يبحث في خصائصه وطبيعته ، ولكن يتكلم عن التراب من حيث قيمته الاجتماعية ، وهذه القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه ، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة، وحضارتها متقدمة، يكون التراب غالي القيمة ، وحيث تكون الأمة متخلفة – كما هو الحال اليوم - يكون التراب على قدرها من الانحطاط ، وذلك بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه ، فها هي رمال الصحراء تغزو بشراسة الحقول الخضراء على امتداد الوطن العربي . فتترك أهلها يتامى بين يدي الصحراء المقفرة(140:1) .

وبدهي أنه لا حل لهذه الأزمة غير الشجرة ، لكن إذا كان الإنسان الزارع لهذه الشجرة أو المؤتمن على رعايتها ، يعيش حالة تصحر داخلي ، فلا أمل من رؤية اللون الأخضر مرة ثانية تحت نظر ويد إنسان كهذا . ولنا في سورية تجربة لوقف التصحر يمكن أن نعتبرها متقدمة ، فسنوياً يعلن المسؤولون أنه تم غرس عشرات الملايين من الغراس ، لكننا على يقين أن واقع الحال غير ذلك سواء لعدم العناية المستمرة ، أو لعدم الدقة في الرقم الإحصائي.

إن ترابنا العربي لا يزال بكراً، رغم كل أشكال النهب التي مورست عليه في السطح أو في العمق من قبل الآخرين، وعلى الأغلب بسبب إهمالنا له وبشكل عدواني .



3- الوقت : وهو العنصر الثالث في تكوين الحضارة

إن الزمن نهر قديم يعبر العالم ، ويروي في أربع وعشرين ساعة الرقعة التي يعيش فيها كل شعب؛ والحقل الذي يعمل به وهذه الساعات التي تصبح تاريخاًً هنا و هناك ؛ قد تصير عدماً إذا مرت فوق رؤوس لا تسمع خريرها ، وإذا قسنا الزمن بمقياس الساعات التائهة فالقرون لا تساوي شيئاً(59:2) .
ولكنه نهر صامت حتى إننا ننساه أحياناً ، وتنسى الحضارات في ساعات الغفلة أو نشوة الحظ قيمته التي لا تعوض(145:1)، وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية ، أي حينما يكون ضرورياً للمحافظة على البقاء ، أو لتحقيق الخلود والانتصار على الأخطار ، يسمع الناس فجأة صوت الساعات الهاربة ، ويدركون قيمتها التي لا تعوض ، ففي هذه الساعات لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم ، وإنما الساعات نفسها . فيتحدثون حينئذ عن (ساعات العمل) ، فهي العملة الوحيدة المصقلة التي لا تبطل ، ولا تسترد إذا ضاعت ، إن العملة الذهبية يمكن أن تضيع ، وأن يجدها المرء بعد ضياعها ، ولكن لا تستطيع أي قوة في العالم أن تحطم دقيقة ، ولا أن تستعيدها إذا مضت(146:1).
وحظ الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر ، ولكن عندما يدق الناقوس منادياً الرجال والنساء والأطفال إلى مجالات العمل في البلاد المتحضرة ... فأين يذهب الشعب ؟ تلكم هي المسألة المؤلمة .. فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئاً يسمى (الوقت)! . ولكنه الوقت الذي ينتهي إلى عدم ، ولأننا لا ندرك معناه ولا تجزئته الفنية ؛ لأننا لا ندرك قيمة أجزائه من ساعة ودقيقة وثانية ، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة (الزمن) الذي يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ(146:7) وبتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج ، وهو معنى الحياة الحاضرة الذي ينقصنا ، هذا المعنى الذي لم نكسبه بعد ، هو مفهوم الزمن الداخل في تكوين الفكرة والنشاط ، في تكوين المعاني والأشياء .
فالتاريخ والحياة الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما ، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق ، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا . ويكون ذلك بتحديد المنطقة التي ترويها ساعات معينة ، من الساعات الأربع والعشرين التي تمر على أرضنا يومياً(147:1) .
إن وقتنا الزاحف صوب التاريخ ، لا يجب أن يضيع هباء ، كما يهرب الماء من ساقية خربة. ولا شك أن التربية هي الوسيلة الضرورية التي تعلم الشعب العربي الإسلامي تماماً قيمة هذا الأمر . ولكن بأية وسيلة تربوية ؟
إنه من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب! (147:1)
إن شعباً هذه حاله أحوج ما يكون إلى قدوة، وطنية ، قيادية ، حازمة في تطبيق القانون على الجميع ، ولا تسمح لأي انحراف عن مشروع النهضة التي تعلنه ريثما يعتاد الأفراد على هذا السلوك في حياتهم اليومية فتصبح ساعات العمل حقيقية ومن خلال إنسان يستطيع استغلال الوقت على أكمل وجه نستطيع أن نقول : أننا بدأنا نهضة عملية علمية حقيقية وفق خوارزميات التغيير الإجتماعي التي تناسبنا ، و النهضة لا تقوم إلا بأيدي الأتقياء و الأذكياء.
وقد أمعن مالك بن نبي في الحفر حول مشكلات التخلف المزمنة متجاوزا الظواهر الطافية على السطوح إلى الجذور المتغلغلة في الأعماق،وباحثا عن السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من حالة العجز إلى القدرة والفعالية، ومن مشكلة الاستعمار إلى مرض القابلية للاستعمار، ومن حالة تكديس الأشياء إلى حالة البناء، ومن المطالبة بالحقوق إلى القيام بالواجب أولا، والانتقال من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار التي بها نبدأ بحل مشكلة التخلف، ويجب أن نصل إلى قناعة حتمية بأن مفاتيح حل المشكلات هي في الذات لا عند الآخر.











رد مع اقتباس
قديم 2012-04-08, 22:51   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الم تعجبكم الفكرة










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-21, 12:31   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
رَكان
مشرف عـامّ
 
الأوسمة
المشرف المميز **وسام تقدير** وسام المشرف المميّز لسنة 2011 وسام التميز وسام الحضور المميز في منتدى الأسرة و المجتمع 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة abdellah m مشاهدة المشاركة
الم تعجبكم الفكرة
بل أعجبتنا الفكرة ويُثبت الموضوع لأهميته..
ـــــــــــــــــــــــــ

مالك ابن نبي رحمه الله ..صانع فكر جزائري صرف وبامتياز...غيرنا امتدت يده لفيض أفكاره فنال منها ماجعله يقفز بعيدا عن مصاف الدول المتخلفه..بارك الله فيك..









رد مع اقتباس
قديم 2012-05-06, 14:32   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عُمر مشاهدة المشاركة
بل أعجبتنا الفكرة ويُثبت الموضوع لأهميته..
ـــــــــــــــــــــــــ

مالك ابن نبي رحمه الله ..صانع فكر جزائري صرف وبامتياز...غيرنا امتدت يده لفيض أفكاره فنال منها ماجعله يقفز بعيدا عن مصاف الدول المتخلفه..بارك الله فيك..

بارك الله فيك اخي عمر وجزاك الله خيرا على ما تقوم به من عمل هكذا اليد في اليد للتعريف اكثر بمفكرينا وعلمائنا









رد مع اقتباس
قديم 2012-05-31, 22:33   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
abouimad
عضو جديد
 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عُمر مشاهدة المشاركة
بل أعجبتنا الفكرة ويُثبت الموضوع لأهميته..
ـــــــــــــــــــــــــ

مالك ابن نبي رحمه الله ..صانع فكر جزائري صرف وبامتياز...غيرنا امتدت يده لفيض أفكاره فنال منها ماجعله يقفز بعيدا عن مصاف الدول المتخلفه..بارك الله فيك..

الأخ عمر سلام عليك
عهدتك صاحب صدر رحب لأنني أتوسم فيك الرجل الباحث عن الحق..لذلك اسمحلي أن أصوب ما حاء في ردك
أستحسن أن تقول : مالك بن نبي صانع فكر إسلامي صرف وبامتياز.....
تقبل مني هذا التطفل









رد مع اقتباس
قديم 2012-04-21, 06:41   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
omda25
عضو مشارك
 
إحصائية العضو










افتراضي

بارك الله فيك وجازاك الله الف خير










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-21, 11:52   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

شكرا اخي الكريم










رد مع اقتباس
قديم 2012-04-21, 11:55   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










Flower2 مالك بن نبي نحات المفاهيم والأفكار

مالك بن نبي نحات المفاهيم والأفكار
تستطيع أن تقرأ مالك بن نبـي عدة مرات، وفي كل مرة تكتشف جديدًا، تستطيع أن تقرأ مالك بن نبـي ثم تنسي كل ما قرأت، ومع ذلك تتأثر بالرجل وبأفكاره بشكل عميق، ذلك أنه لا يضيف إلى معارفك جديدًا متميزًا فقط، بل يحدث تغيرًا نوعيًا في ثقافتك وفي طريقة تفكيرك، وتكتشف دائمًا أنك متأثر بما طرحه الرجل دون أن تدرى، وربما ظننت أنك نفسك الذي وصلت إلى هذه المفاهيم الصحيحة، ثم تعرف أنها من تأثير مالك بن نبي غير المنظور عليك وعلى ثقافتك.

فكر مالك بن نبي متجدد دائمًا، ذلك أنه طرح أوجاع الأمة وأمراضها التي مازلنا نعاني منها، وضرب في جذور أسباب التخلف وطرح أسباب النهضة بشكل عميق متجدد.

ذلك هو مالك بن بني نبي الذي كان الأكثر تأثيرًا على الثقافة العربية والإسلامية المعاصرة، ولأنه كان من العمق والاتساع بمكان فإن أحدًا لا يستطيع أن يوفيه حقه أو يدرك ملامح هذا التأثير أو يحيط بها.

مالك بن نبي هو نحات في عالم الثقافة، ذلك أنه نجح في أن ينحت بصورة عبقرية مجموعة من المفاهيم والمصطلحات كانت كلها معالم في طريق الثقافة ومحطات في طريق البحث الثقافي العرب المعاصر.

مولده وحياته :
ولد مالك بن نبي سنة 1905 في مدينة " تبسة " وهي مدينة جزائرية تابعة لولاية قسنطينة في الجزائر، حفظ مالك بن نبي أجزاء من القرآن الكريم في كتاب المدينة، ثم التحق بالمدارس الابتدائية، ثم الثانوية بالجزائر، ثم توجه إلى باريس فدرس الهندسة الكهربائية، حيث تخرج مهندسًا كهربائيًا سنة 1935 م.

اختلط في باريس بالشباب العربي والإسلامي المغترب وعاش معهم نضالهم من أجل الاستقلال واهتم اهتمامًا خاصًا بحركة الاستقلال في المغرب العربي حتى أطلق عليه البعض زعيم الوحدة المغربيـة.

وانخرط مالك بن نبي في أتون الحركة الجزائرية من أجل الاستقلال من خلال عمله السياسي والنضالي كنائب لرئيس نادي الشبيبة الإسلامية في باريس والذي كان يرأسه المجاهد الجزائري الشيخ العربي التبسى، وكان مالك بن نبي ينوب عن الشيخ العربي التبسي في رئاسة النادي عند غيابه.

ثم أنتخب مالك بن نبي مديرًا لمركز المؤتمرات الجزائري الإسلامي للثقافة في فرنسا ومن خلال المركز قام بتثقيف العمال الجزائريين في فرنسا، كما أنتخب ممثلاً للطلبة الجزائريين في جمعية الوحدة المغربية.

عاد مالك بن نبي إلى الجزائر بصورة نهائية وأستقر بها عام 1963، وتولي عددًا من المناصب مثل مستشار التعليم العالى، ومدير جامعة الجزائر، ومدير التعليم العالى، وفي هذه الفترة كان مالك بن نبي ينظم ندوة ثقافية دينيه بالعاصمة الجزائرية وهي الندوة التي عرفت باسم " ملتقي الفكر الإسلامي ".

وفي عام 1967 م استقال مالك بن نبي من جميع وظائفه وتفرغ للعمل الفكري وتنظيم الندوات الثقافية وإصدار الكتب، وتوفي مالك بن نبي في 31 / 10 / 1973 م .

واهم كتب مالك بن نبي الظاهرة القرآنية ـ بين الرشاد والتيه ـ تأملات ـ دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ـ شروط النهضة ـ الصراع الفكري في البلاد المستعمرة ـ فكرة الأفرو آسيوية في ضوء مؤتمر باندونج ـ في مهب المعركة ـ المسلم في عالم الاقتصاد ـ مشكلة الثقافة ـ ميلاد مجتمع ـ وجهة العالم الإسلامي .



المسألة الحضارية
أختار مالك بن نبي عنوانًا واحدًا لكل كتبه وإسهاماته الفكرية هو " مشكلات الحضارة " فوضع يده بذلك على جوهر المشكلة وهي أن المسألة حضارية وثقافية في المقام الأول وأن الاستعمار، والتخلف – النهضة وغيرها والتي شغلت العالم في ذلك الوقت ليست إلا مسألة حضارية في المقام الأول، حيث هناك محاولة لإخضاع العالم للقيم الحضارية الغربية، وأن الانعتاق من الاستعمار والتخلف مرتبط بالتأكيد على القيم الحضارية الإسلامية وفهم المسألة في إطار الصراع الحضارى، ولا شك أن هذا الوعي المبكر بالمسألة الحضارية والثقافية، وهو الأمر الذي أصبح فيما بعد محور العمل الفكري والسياسي للقوي السياسية والثقافية بل والعسكرية في العالم شمالاً وجنوبًا يدل على عبقرية الرجل، ولعل المثقفين الإسلاميين والوطنيين قد فهموا هذه المسألة فيما بعد فعملوا على إثرائها وقتلوها بحثًا ولكن كان هناك رائدًا هو مالك بن نبي الذي وضع يده على مفتاح المسألة منذ وقت مبكر.

أدرك مالك بن نبي أن التأكيد على الخصوصية الحضارية الإسلامية هو أول شروط التحرر وأول شروط النهضة، وأدرك أن القرآن الكريم هو بمثابة القلب في تلك المعركة فكان أول كتاب أصدره الرجل هو كتاب الظاهرة القرآنية كنوع من التحصين الفكري الذي يحول دون الخضوع أو الاندماج في حضارة الغرب وأكد مالك بن نبي دائمًا على أن الإسلام هو مفتاح التحرر والنهضة على المستوى السياسي والثقافي والاقتصادي وفي تحليله لعناصر النهضة لخصها الرجل في " الإنسان ـ التراث ـ الزمن " وهي عناصر موجودة في كل مجتمع ولكن الذي يخلق شرارة التفاعل بين هذه العناصر ويحولها إلى نهضة هو " الشرارة " وهو بالنسبة لأمة المسلمين " الإسلام " وبدون هذا الشرط فإن العناصر تظل خامدة بلا تفاعل، وأكد مالك بن نبي أن لكل مجتمع الشرارة الخاصة به، ولذلك فإن أندونسيا مثلاً التي تمتلك كل الثروات والأقاليم المناخية والمعادن والمزارع والإنسان لن تنهض بنفس الطريقة التي نهضت بها ألمانيا أو أمريكا ، رغم تفوق أندونسيا من حيث الثروات على ألمانيا وأمريكا،ولكن تنهض إذا وضعت " الإسلام " أي الشرارة في معادلة النهضة وهذا يرجع بالطبع إلى أن العوامل المحركة للطاقة والحركة والإبداع ترتبط بالتكوين الثقافي والوجداني للإنسان، وفي حالة أندونسيا وغيرها من بلاد العالم الإسلامي فإن الإسلام هو ثقافة ووجدان الناس.

أدرك مالك بن نبي مبكرًا جدًا قبل سقوط الشيوعية بعشرات السنيين، أن التقسيم العالمي الموجود وقتذاك بين كتلة غربية وكتلة اشتراكية لا يعبر عن الحقيقة، بل التقسيم الصحيح يكون من محورين هما " محور طنجة جاكرتا ـ ومحور واشنطن موسكو" وها نحن اليوم ندرك مدي صحة هذا التقسيم الذي يعبر عن توجهين حضاريين مختلفين، أي أن الحضارة – وليس الأيدلوجية السياسية – هي التي تتحكم في تقسيم العالم.

نحت مالك بن نبي الكثير من المفاهيم والمصطلحات الرائدة والتي أصبحت اليوم مدخلاً لكل العمل الفكري أو معظمه فهو الذي نحت مصطلح القابلية للاستعمار، والذي عبر به عن أن هناك حالة اجتماعية واقتصادية وثقافية سمحت للاستعمار باحتلال بلادنا، وأن التخلص من الاستعمار دون التخلص من هذه الحالة لن يجدي شيئًا، ولعل تجارب البلاد العربية والإسلامية بعد مرحلة الاستعمار المباشر قد أكدت هذا الأمر، فمع استمرار عوامل وأسباب القابلية للاستعمار فشلت مشاريع النهضة، بل وعاد الاستعمار بصورة أو بأخرى.

وهو الذي نحت مصطلح " مشكلات الحضارة " والذي أكد به أن المسألة في جوهرها مسألة حضارية.
وهو صاحب مفهوم " محور جاكرتا في مواجهة محور واشنطن موسكو " الذي أثبتت الأيام مدي صحته، وهو صاحب عبارة " الإقلاع الحضاري " وشروط هذا الإقلاع أي شروط النهضة والذي أكد به أن غياب الإسلام كشرط أساسي يعني الفشل الحتمي لأي مشروع للنهضة والتحرر.
مالك بن نبي ذلك المفكر الرائد، هو الذي فتح أعيننا جميعًا على المفاهيم الصحيحة، وهو الذي وضعنا جميعًا على الطريق الصحيح للثقافة والحضارة وبالتالي التحرر والنهضة.









رد مع اقتباس
قديم 2012-05-05, 17:41   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
messa85
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية messa85
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الف شكر على المباردة و الموضوع الأكثر من المهم مشكور على الفكرة و المجهود و مشكورين على التثبيت

سأساهم أنا كذلك لحقا في تطوير الفكر




بعد الفاصل










رد مع اقتباس
قديم 2012-05-06, 14:34   رقم المشاركة : 11
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة messa85 مشاهدة المشاركة
الف شكر على المباردة و الموضوع الأكثر من المهم مشكور على الفكرة و المجهود و مشكورين على التثبيت

سأساهم أنا كذلك لحقا في تطوير الفكر




بعد الفاصل
بارك الله فيك اخي الكريم وجزاك الله خيرااااااا
ارجوا من الجميع ان يفيدنا ويثري هذا الموضوع اكثر لكل من لديه مقالة لمالك بن نبي وجزاكم الله خيرااااااااااااااااااااااااا









رد مع اقتباس
قديم 2012-05-05, 22:42   رقم المشاركة : 12
معلومات العضو
zianemohamed
عضو نشيط
 
الصورة الرمزية zianemohamed
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

والله لقد أتحفتنا...ما أحوجنا إلى هذا الفكر النيّر وإلى هؤلاء الرجال...خاصة في زمن الرداءة الفكرية والسياسية وحتى الدينية وأعني بذلك التدين المغشوش...
ألا ترى يا أخي على صفحات منتدانا وخاصة في المنتيات الإسلامية..فكرا سخيفا يكرس الطغيان ويدعو له.. ويحرم التحرر ..
عجبي كيف تبنى أمة وعقيدة صحيحة وعمل في ظل هذا الفكر الانهزامي؟!
انظر إلى هذه المقولة من الموضوع لمالك بن نبي رحمة الله عليه:
إنه من الصعب أن يسمع شعب ثرثار الصوت الصامت لخطى الوقت الهارب!
سلام عليكم..










رد مع اقتباس
قديم 2012-05-06, 14:39   رقم المشاركة : 13
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










Flower2

العلاقة بين الحق والواجب عند مالك بن نبي



يحاول المفكر مالك بن نبي أن يرسم معالم الحضارة الإنسانية في جميع مؤلفاته وكتبه، ليضيء الطريق لسالكيه، يمعاببر وأفكار قد لا يبصرونها ولا يتفطنون لها ولا يدركون كنهها وحقيقتها، ومنها العلاقة بين الحق والواجب، التي وإن فهت يتحول الإنسان من سلبي إلى فعال، ومن قاعد خامل إلى منتج مساهم في بناء مجتمعه وامته، فأورد في إحدى مؤلفاته قصة لشباب في قرية معزولة كيف وباتباعهم سبيل الواجب، أنقذو أهاليهم من العزلة القاتلة، وإذا عممنا العبرة من القصة نجد أن كثيرا من الشعوب والمجتمعات الإنسانية قلبت معادلة الحق والواجب رأسا على عقِب، واعتمدت مبدأ السهولة الذي هو مبدأ المطالبة بالحقوق وأغفلت مبدأ القيام بالواجبات.

يروي مفكّرنا أنّ الشعب الجزائري -كنموذج- كان غارقا في الجهل وعبادة الأوثان التي تمثّلت في الزوايا والحروز والأولياء الصالحين..حيث كان الشعب آنذاك خاملا- لا يقوم بواجباته- بل يتلمّس رضا شيوخه ودعواتهم في أن تدخله الجنة. ثمّ جاء عام 1925 الذي سطع فيه نور الفكرة الإصلاحية وتهاوى معبد الأوثان على مرتاديه، وبرز مفهوم العمل -القيام بالواجبات- كشرط للفوز في الدارين. يرى ابن نبي أنّ عمل أولئك العلماء المصلحين المتمثّل في إحياء روح الواجب في قلوب الناس كان رائعا ومخلصا للغاية لولا أنّه لم يختلط بالسياسة عام 1936 حين شعر المصلحون بمُركّب النّقص إزاء قادة السياسة في ذلك العهد، فقاموا بمسايرتهم والتماشي معهم عوض أن يواصلوا عملهم الإصلاحي الحرّ النّزيه.
من هنا عادت فكرة الحروز والأوثان لكن بثوب جديد هذه المرة. فأوراق الحروز -في فكر مالك بن نبي- استبدلت بأوراق الانتخابات وحلّت محلّ دعوات الأولياء الصالحين وبركاتهم – الخاملة والقاتلة لروح العمل في الشعوب- حلّت محلّها الوعود الكثيرة والحقوق السياسية والأماني السابحة في الخيال، التي تُطلقها الحملات الانتخابية.
وبهذا أصاب الخلل مفهوم العمل والقيام بالواجبات من جديد. "فالحقّ ليس هدية تُعطى ولا غنيمة تُغتصب وإنّما هو نتيجة حتميّة للقيام بالواجب فهما متلازمان"[1] و"لكلّ سعي – قيام بالواجب- أثره وإن قلّ، إذ هو يُساهم في بناء التقدّم والنهضة، تماما كما تُساهم القشة الصغيرة في بناء عش الطير."[2]
ويُضيف قائلا: "لقد أصبحنا لا نتكلّم إلاّ عن حقوقنا المهضومة ونسينا واجباتنا، ونسينا أنّ مشكلتنا ليست فيما نستحقّ من رغائب بل فيما يسودنا من عادات وما يُراودنا من أفكار..وبدلا من أن تكون البلاد ورشة للعمل المثمر والقيام بالواجبات الباعثة على الحياة، فإنّها أصبحت منذ سنة 1936 سوقا للانتخابات…وكم ردّدنا عبارة: (إننا نطالب بحقوقنا) تلك الحقوق الخلابة المغرية التي يسْتسهلها الناس فلا يعمدون إلى الطريق الأصعب: طريق الواجبات"[3]
ويصف بن نبي أنّه بهذه الطريقة تمّ القضاء على روح حبّ العمل والفناء في القيام به، في سبيل تحقيق أهداف على المدى الطويل، و"هكذا تحوّل الشعب إلى جماعة من المستمعين يصفقون لكلّ خطيب، أو قطيع انتخابي يُقادُ إلى صناديق الاقتراع"[4]
"وفي هذا اختلاس أي اختلاس للعقول التي أشرفت على قطف ثمار نهضتها، فإنّ هذه العقول قد عادت إليها الوثنية التي تلِدُ الأصنام المتعاقبة المتطوّرة""هكذا وجدنا أنفسنا بين أحضان الوثنية مرة أخرى. كأنّ الإصلاح قد حطّم الزوايا والقباب من دون الوثن. فقد توارت الفكرة عن العقول وحلّت محلّها الوثنية التي تتكلّم وحدها إذ نُصِب لها في كلّ سوق منبر، كي يستمع الناس إليها، تسلية لهم، وإغفالا لواجباتهم، وإبعادا لهم عن طريق التاريخ."، "أصبح الشعب -إثْرَ ذلك- يؤمن بالعصا السحرية التي تُحوّله بضربة واحدة إلى شعب رشيد، مع مابِه من جهل، وما تنتابه من أمراض اجتماعية…وإننا لنتذكّر – بكل أسف- مأدبة أقامها طلبة الجامعة في الأشهر الماضية، وتكلّم فيها أحد الطلاب فقال: "إننا نريد حقوقنا ولو مع جهلنا وعُرينا ووسخنا" "ولقد كانت هذه الكلمة موضِع استحسان من جميع الحاضرين"
يُعقّب مالك على هذا الموقف غاضبا :
"ألا قاتل الله الجهل، الجهل الذي يُلبِسه صاحبه ثوب العلم، فإن هذا النوع أخطر على المجتمع من العوام لأن جهل العوام بيّن ظاهر يسهل علاجه، أمّا الأول فهو متخفّ في غرور المتعلمين" "ولقد بدأنا بالفعل في التقهقر و العودة إلى الظلام، و بعثرة الجهود وتحطّم المساعي، والإسراف في إمكانياتنا القليلة التّي تتطلّب منا صرفها فيما يفيد تقدّمنا"[5].

من المسّلم به أن الإنسان بطبعه يميل إلى الراحة والركون وإن وجد مع ذلك من يعينه ويشجّعه على المضيّ في هذا الاتجاه فسوف لن يتوانى عن تلبية النداء. وتختلف تلك التشجيعات في صور عديدة لكن جوهرها ورسالتها واحد لا يتغير وهو يفيد بأنّه: "لا داعي إلى العمل بجّد وإخلاص القيام بالواجبات في سبيل الارتقاء بالأنفس والمجتمعات، والحصول على قدر من العيش الرغيد الذي تحترم فيه كرامة الإنسان وحريته – الحقوق البشرية- و إنما يكفي قلب المعادلة وقراءة الجملة من الآخر بجعل المطالبة بهذه الحقوق الأخيرة هي ذاتها العمل. بهذا يغدو المجتمع خاملا كسولا عالة على الآخرين تجرّه أمان زائفة وهيهات هيهات أن ينجح أو أن يعرف للنجاح سبيلا".
يواصل مفكّرنا محلّلا: "خلق مجتمع ما بعد الموحدين كائنا على صورة “الأميبا": كائنا مُتبطّلا يتسكّع، حتى إذا رأى فريسة هينة أبرز إليها ما يُشبه "اليد" ليقنصها، ثمّ يهضمها في هدوء. ولقد شاءت المصادفة أن تُمدّه بفرائس أشبعت حاجاته المتواضعة، فدرج على هذا النحو خلال قرون خلت اتّكل فيها على عناية السماء لترزقه، حتى إذا جاء الاستعمار اختطف منه ما كان يطعم، حتى لم يدع له شيئا يتبلّغ به، وكان من نتيجة ذلك أن تحرّك ضميره الأميبي، أعني معدته، فمدّ “شبه اليد" إلى فريسة وهمية أطلق عليها لفظة "الحق".[6]

ويُتابع قائلا: "لسنا بحاجة إلى نظرية تهتم "بالحق" على حدة أو "بالواجب" على حدة، فإنّ الواقع الاجتماعي لا يفصلهما، بل يقرنهما ويربط بينهما في صورة منطقية أساسية، هي التي تُسيّر ركب التاريخ. ومع ذلك فينبغي ألاّ يغيب عن نظرنا أنّ "الواجب" يجب أن يتفوّق على “الحقّ" في تطوّر صاعد، إذ يتحتّم أن يكون لدينا دائما محصول وافر، أو بلغة الاقتصاد السياسي "فائض قيمة" هذا "الواجب الفائض" هو أمارة التقدّم الخلقي والمادي في كلّ مجتمع يشقّ طريقه إلى المجد.
وبناء على ذلك يمكننا القول بأنّ كلّ سياسة تقوم على طلب "الحقوق" ليست إلاّ ضرْبا من الهرج والفوضى. والحقّ أنّ العلاقة بين الحق والواجب هي علاقة تكوينية تُفسّر لنا نشأة الحق ذاته، تلك التي لا يمكن أن نتصوّرها منفصلة عن الواجب وهو يُعدّ في الواقع “أوّل عمل قام به الإنسان في التاريخ"
.[7]
"لن يكون هذا الإنسان فريسة سهلة إذا ما اتجه إلى تثقيف طرائق تفكيره، وطرائق عمله، طِبْق منطق عمليّ يخطط نشاطه ومنطق علميّ موضوعي يُنظّم فكره، وإذا تخلّص من الخرافات التي تكفّ نشاطه وتحدّ من فاعليّته."[8]
“فنحن ندرك الآن شيئا فشيئا أنّ واجبنا هو أن نبذل جهودا ضخاما في جميع الميادين، وأن نقوم بكثير من الواجبات لكي نصل إلى حقوقنا، التي تصبح حينئذ مشروعة."

"والواقع أنّ خرافة هذا الذهان – ذهان الاستحالة- تختفي تماما متى ما قُمْنا بأقلّ الجهود تواضعا، لأنّ لكلّ جهد ثمرته في الميدان الاجتماعي، ومتى تجمّعت الثمرات بصورة ايجابية وجدنا أنّ أداء الواجب أعظم أثرا من المطالبة "بالحق"[9]
ويروي الكاتب نموذجا يراه تجسيدا لفكرته والنموذج يتمثّل في جماعة من الشبّان المتطوّعين في قرية القدّيس يوجين أبصروا حاجة سكّانهم إلى طريق فتطوّعوا وعملوا على حفْر الطريق وتعبيده خدمة للجميع. يتساءل بن نبي: هل يعلم هؤلاء الشبان أنّهم دخلوا في سجّل التاريخ بعملهم هذا؟ ويردف قائلا: "ومع ذلك فمن المستحسن ألاّ يعلموا، فالرواد دائما جنود مجهولون، وهم يكتفون بأن يرسموا طريق “الواجب" لمن بعدهم، وربّما كان بوُسعهم أن يتحدّثوا عن حقّ القرية في أن يكون لها طريق، وبالتالي يتحدّثون عن الشعب المسلم التعيس في قرية القديس يوجين، ولكنّهم آثروا أن يُنشئوا الطريق بأنفسهم كأنّهم من عمّال الحفر والبناء في البلدية، وبهذا أعادوا إلى الفكرة الأساسية مغزاها الحق."[10] وحينها قال فيهم مقولته الحكيمة "من هذا الطريق بالذات خطت الحضارة أولى خطواتها".

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مالك بن نبي: “شروط النهضة"، تر: عمر مسقاوي، عبد الصبور شاهين، مكتبة دار العروبة، القاهرة، ط2، 1961، ص39.
[2] نفسه: ص40.
[3] نفسه: ص42،43.
[4] نفسه: ص43.
[5] نفسه: ص45.
[6] مالك بن نبي: “وجهة العالم الإسلامي"، تر: عبد الصبور شاهين، دار الفكر، سوريا، ط2، 1970: ص160.
[7] نفسه: ص161.
[8] نفسه: ص163.
[9] نفسه: ص167،168.
[10] نفسه: ص170.

المصدر: علاقة الحق بالواجب في فكر العلاّمة مالك بن نبي - نور يوسف (بتصرف)









رد مع اقتباس
قديم 2012-05-07, 19:17   رقم المشاركة : 14
معلومات العضو
Abdellah M
عضو متألق
 
الصورة الرمزية Abdellah M
 

 

 
إحصائية العضو










Flower2

مشكلة الثقافة عند مالك بن نبي



إلى أين وصلت نظرية الثقافة عند ابن نبي؟

مثلت نظرية الثقافة عند ابن نبي، واحدة من أشهر النظريات الثقافية التي ظهرت في المجال العربي المعاصر، وأكثرها خبرة ونضجاً وتماسكاً، واكتسبت تميزاً، خصوصاً مع غياب هذا النمط من النظريات إبداعاً واكتشافاً على مستوى الدراسات الثقافية في العالم العربي. مع ذلك بقيت هذه النظرية بعد غياب ابن نبي على حالها، ولم تشهد تطوراً وتقدماً، أو تراكماً وتجدداً مهماً، لا من الناحية المعرفية والمنهجية، ولا من الناحية التحليلية والنقدية، وانتهت إلى وضع جامد، وما زالت على هذا الحال بدون تحريك أو تجديد.
والذي كرس هذا الوضع الجامد, طريقة التعاطي مع هذه النظرية، التعاطي الذي لم يكن فعالاً من الناحية النقدية، أو معرفياً من الناحية التحليلية. وفي المجال العربي يمكن تحديد ثلاثة اتجاهات في التعاطي مع نظرية الثقافة عند ابن نبي، هذه الاتجاهات هي:أولاً: الاتجاه الذي يتوافق مع النظرية ويتناغم معها، ويدافع عنها، وينبهر بها أحياناً، وهذا هو الاتجاه الغالب في الدراسات والكتابات التي أنجزت حول أفكار ابن نبي ومنظومته الثقافية. وينطلق أصحاب هذا الاتجاه من أهمية وقيمة وفاعلية الأفكار والمفاهيم والتصورات التي توصل إليها ابن نبي في مجالات الثقافة والحضارة والاجتماع، وضرورة التعريف بهذه الأفكار، والتواصل معها.وإلى بداية تسعينات القرن العشرين، كان في تقدير البعض أن فكر ابن نبي يتعرض لنوع من الإهمال أو الإقصاء أو التعتيم, وهذا ما عبر عنه بعض الكتاب، وكان دافعاً لهم في إنجاز كتابات ودراسات حول فكره وسيرته. ومن هؤلاء الدكتور أسعد السحمراني الذي خصص رسالته للدكتوراه حول ابن نبي، وكانت بعنوان (مالك بن نبي مفكراً إصلاحياً)، نشرها في كتاب عام 1984م، وعن اختياره لهذا الموضوع يقول الدكتور السحمراني (لم يلقَ مالك بن نبي الاهتمام الكافي من الدارسين، مما حرم جيلاً من شعبنا من الاستفادة بفكره ومشروعه الإصلاحي, إنه من الصعب لا بل من النادر أن تجد ذكراً له في الكتابات المتعددة والمتنوعة، أو أن تقرأ لكاتب أعطاه بعضاً من حقه، لقد كان اختيارنا للموضوع توخياً للفائدة، وإبراز الأسس لمشروع إصلاحي عند واحد من المغمورين)(21).وحين يشرح الدكتور سليمان الخطيب دوافع اختياره للكتابة عن ابن نبي في رسالته للدكتوراه يقول (إن هناك ما يمكن أن نطلق عليه مؤامرة الصمت والتجاهل, تجاه فكر مالك بن نبي، ونشره في ربوع العالم الإسلامي، وذلك يدل على أهمية هذا المفكر التي تحاول الدوائر العلمانية والتغريبية أن يظل في منأى عن التناول والتحليل)(22). ويرى الدكتور الخطيب أن النخب المثقفة في العالم الإسلامي لا تعرف إلاّ القليل من فكر ابن نبي وإسهاماته الثقافية، فما بالنا بالقاعدة الشبابية التي تجهله كلية.وفي عام 1990م نشر الدكتور وجيه كوثراني مقالة بعنوان (لماذا العودة إلى مالك بن نبي), دعا فيها إلى العودة والقراءة الجديدة لفكر ابن نبي، والتي تحتمها حسب رأيه، اعتبارات عديدة منها أن مالك بن نبي في فهمه وتمثله للثقافة الإسلامية في أبعادها الإنسانية والعالمية، لم ترق لا لمثقفي التيار القومي، ولا لمثقفي التيار الإسلامي آنذاك، وبقيت محاصرة أو على هامش الفعل السياسي، وأنه لم يقرأ جيداً وبموضوعية, لا في زمن فكره، زمن ثورات العالم الثالث القومية والوطنية، ولا في الزمن اللاحق، زمن الثورات الإسلامية والصحوات الإسلامية الجديدة(23).ومن طبيعة هذه الدوافع أنها تحدد طريقة للتعاطي مع أفكار ابن نبي يغلب عليها جانب الاهتمام بالتعريف والتبليغ والتبشير، وهذا هو الجهد الأساسي الذي قام به من يصنفون على هذا المنحى، وقد أنجز هؤلاء قسطاً كبيراً من ذلك الدور، بحيث لم تعد هذه المهمة بذلك الإلحاح التي كانت عليه من قبل. لهذا كان من المفترض أن تظهر قراءات جديدة تحاول الإضافة على ما قدمه ابن نبي والبناء عليه، والعمل على تطوير وتجديد نظرياته وأفكاره، والتعاطي النقدي معها أيضاً، وهذا الذي لم يحدث. لهذا فإن بقاء مثل هذه القراءات التبجيلية, والاهتمامات التعريفية والتوصيفية لم يعد فعالاً في التعاطي مع أفكار ابن نبي.ثانياً: الاتجاه الذي يتعارض مع نظرية ابن نبي, وعموم منظومته الثقافية، وقد حاول أصحاب هذا الاتجاه الكشف عن بعض الأخطاء والعيوب الفكرية والثقافية في مؤلفات ابن نبي، ولفت الأنظار إليها، لعله بقصد الحد من توسع وامتداد أفكاره من جهة، والحد من جاذبية ولمعان هذه الأفكار من جهة أخرى. وهذه الأخطاء والعيوب المقصودة هي أفكار ومفاهيم كانت تفسر بطرق ملتبسة عند هؤلاء، ومن هذه المفاهيم التي تركز عليها النظر مفهوم القابلية للاستعمار، الذي فسره البعض على أنه يتضمن تبريراً للاستعمار، أو يدعو لمهادنته. في حين أن ابن نبي يفسر هذا المفهوم على خلفية أن الاستعمار هو نتيجة وليس سبباً، والمشكلة عندنا هي في الذات وليس في الاستعمار نفسه، وحسب قوله أخرجوا الاستعمار من نفوسكم يخرج من أرضكم. وهكذا النظر لمفهوم التراب، الذي اعتبره ابن نبي أحد عناصر مركب الحضارة, إلى جانب عنصري الإنسان والوقت، فقد فسره البعض على خلفية أن ابن نبي يبالغ في أهمية الجانب المادي في بناء الحضارة. وهكذا النظر أيضاً لمبدأ الذوق الجمالي الذي عده ابن نبي من عناصر مركب الثقافة، وفسره البعض على أنه من ملامح تأثر ابن نبي بالفكر الغربي الذي يبالغ في تقديس مفهوم الجمال.والملاحظ على أصحاب هذا الاتجاه أنهم لم يقدّموا نقداً معرفياً لنظرية الثقافة عند ابن نبي ولمنظومة الثقافية بصورة عامة، ولم يساهموا في تطوير أو تحريك التعامل النقدي، والنظر التحليلي، أو حتى القراءة العلمية والمعرفية لأفكار ونظريات ابن نبي.وأساساً لم تكن هذه هي دوافع أصحاب هذا الاتجاه، ولم تظهر هذه الملامح على كتاباتهم. والبعض منهم كان ينطلق من دوافع سياسية، على خلفية علاقة ابن نبي مع حكومة عبدالناصر في مصر، بعد انتقاله إليها قادماً من فرنسا عام 1956م، هذه العلاقة ألَّبت عليه بعض الفئات الإسلامية التي كانت على خلاف سياسي مع حكومة عبدالناصر. وهناك بعض الجهات التي لم يكن يريحها جاذبية أفكار ابن نبي خصوصاً بين أوساط المثقفين الشباب، حيث وجدت في أفكاره منافساً أو مزاحماً لأفكارها ولخطها الفكري.والمثال الذي يصنفه البعض على هذا المنحى, كتاب (الفكر الإسلامي المعاصر.. دراسة وتقويم) لغازي التوبة الصادر عام 1977م, وهو الكتاب الذي اعتبرته مجلة الشروق الإسلامي الصادرة بالولايات المتحدة الأمريكية في مقالة نشرتها عن مالك بن نبي عام 1985م، بأنه قد ساهم وبشكل واضح الأثر في صد الشباب عن الإقبال على ابن نبي، وذلك نتيجة تقويمه المتحامل عليه.ثالثاً: الاتجاه الذي يتجاهل نظرية ابن نبي ومنظومته الثقافية، ولا يحاول الاقتراب منها، أو الاحتكاك بها, بأية صورة كانت، بما في ذلك الصورة النقدية، فلم يتطرق الدكتور سمير أمين لهذه النظرية, أو لصاحبها في كتابه (نحو نظرية للثقافة)، وهكذا الدكتور محمد عابد الجابري في كتابه (المسألة الثقافية في الوطن العربي)، والدكتور محمد أركون في كتاباته حول الإسلاميات المعاصرة، وهكذا العديد من الدراسات والكتابات العربية الأخرى. وهذا التجاهل من الصعب التبرير له، خصوصاً وأن هؤلاء لم يقدموا نظريات تتجاوز نظرية ابن نبي في الثقافة أو تتفوق عليها. وفي الوقت الذي كان فيه هؤلاء أو بعضهم يتثاقفون مع النظريات الغربية، ويرجعون لأفكار المفكرين الغربيين، كانوا في المقابل يتجاهلون النظريات والأفكار التي تنتسب إلى المفكرين الإسلاميين، ومنهم مالك بن نبي الذي من الصعب تجاهل نظريته في الثقافة. وقد أثر هذا التجاهل على تحريك منهجية التعاطي النقدي مع هذه النظرية، أو تحريكها بصور مختلفة، وبمنهجيات العلوم الإنسانية والاجتماعية، التي يرجع إليها أولئك المفكرون العرب، ويتقنون التعاطي معها، والاستفادة منها.لهذا ظلت نظرية الثقافة عند ابن نبي جامدة، وما زالت على هذا الوضع دون الإضافة عليها، أو الانطلاق منها نحو بناء أفكار جديدة، أو إبداع ما هو أرقى منها، أو حتى العمل على تكميلها وتكاملها. والذين ورثوا أفكار ابن نبي ونظرياته ظلوا يمجدونه ويعرِّفون به، ويدافعون عنه أمام خصومه ومنتقديه، ولكن لم يظهر من هؤلاء من يضيف إلى أفكاره ونظرياته، أو يجدد فيها، أو يبدع من خلالها، أو يكملها أو غير ذلك.ومن جانب آخر، ما زال العالم العربي، وفي نطاق الفكر الإسلامي بوجه خاص، يفتقد إلى نظريات في الثقافة، يمكن لها أن تنازع أو تزاحم أو تحل مكان نظرية ابن نبي في الثقافة. ومن بعد ابن نبي لم تظهر نظرية في الثقافة تنتمي إلى المنظومة الإسلامية، الأمر الذي يكشف عن ضعف شديد ينبغي العمل على تداركه، والتغلب عليه, من خلال مضاعفة الاهتمام بحقل الدراسات الثقافية, وبحقل العلوم الإنسانية والاجتماعية.وما ينبغي أن يعرف، أنني بهذا السياق من القراءة والتحليل لم أكن بصدد التقليل من أهمية وقيمة نظرية الثقافة عند ابن نبي، وإنما كنت بصدد السعي نحو ألاَّ تصل هذه النظرية إلى حالة من الجمود والتوقف، أو نصل نحن إلى حالة التوقف عن الإبداع والتجديد، الأمر الذي يتطلب تغيير طريقة التعاطي, ومنطق التعامل مع نظرية ابن نبي ومنظومته الثقافية بشكل عام، من أجل قراءة معرفية جديدة.









رد مع اقتباس
قديم 2012-05-23, 21:21   رقم المشاركة : 15
معلومات العضو
messa85
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية messa85
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

يا ريت لو يتم وضع قسم خاص داخل المنتدى بانجازات هذا المفكر العظيم










رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
"متجدد", مالك, سلسلة


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 11:39

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc