طرح المشكلة
علنا نتفق جميعا أننا نعيش في عالم معقد و مركب حيث نتعرض للعديد من المثيرات, وقد يظن البعض إن هذا يفرض التعامل التلقائي مع هذه المثيرات , إلا أن الواقع يشير أننا نتعامل معها من خلال عمليات محددة و منتظمة يطلق عليها الإحساس و الإدراك , فيعد الإحساس الظاهرة الأولية التي تتشابك فيها المؤثرات الخارجية مع الوظائف الحسية , فالإحساس بالبرودة و الحرارة ما هو إلا تعبير حسي أولي عن علاقة الشخص بالواقع, أما الإدراك فهو عملية تمييز و بناء لموضوع خارجي انه علاقة معرفية معقدة تربطنا بالأشياء و تكشف لنا وجودها. هذا الاختلاف الموجود بين الإحساس و الإدراك جعل البعض يفصل بينهما, و بنقيض ذلك هناك من يري انه لا يمكن الفصل بينهما, فهل يمكن الفصل بين الإحساس و الإدراك؟
محاولة حل المشكلة:
الاطروحة الاولى:يري الاتجاه العقلاني مع " ديكارت " و الاتجاه التجريبي مع " لوك " انه يمكن الفصل بين الاحساس و الادراك.
البرهنة: و يؤسس هؤلاء موقفهم على حجج عقلية و واقعية . فالعقليون يؤكدون ان مسالة الادراك تقوم على ثنائية مفادها ان الاحساس لا يمدنا الا بمعارف اولية في حاجة الى تجريد عقلي , فالإحساس هو المعطى البسيط انه حس مباشر يقوم به عضو ناقلا انطباعا اوليا عما يجرى في المحيط الخارجي , لذلك هو لا يعبر عن اية معرفة ولكي يكتسب معاني و دلالات يتعين تفسير هذا الاحساس عبر الجهد العقلي و نستطيع ان نوضح ذلك بمثال: فمنذ الايام الاولى للولادة يمتلك الطفل احساسات لألوان و اصوات, لكنها تبقى احساسات صرفة غير قابلة للانتقال الى معرفة. فقيمة الاحساس تكمن اذا في تنبيه و اثارة نشاطاتنا العقلية لنصل الى المعرفة المجردة وهذا يفترض تدخل الاحكام العقلية لتفسير الاحساس, و عملية التفسير العقلي تذكرنا برائد الفلسفة الحديثة " ديكارت " حيث كان يرى بأن العقل فطرة في الإنسان وأنه أهم ما يميز الإنسان عن الحيوان، فهو عبارة عن منهج لتنظيم المعطيات والأفكار، واستخلاص النتائج اللازمة عنها، وتطبيقها تطبيقا عمليا نافعا، فالعقل عند ديكارت نور فطري يحتوي بطبيعته على أفكار فطرية، فهو متساو بين الناس جميعا، لا يختلفون في امتلاكه، وإنما في طرق استخدامه، فالعقل وحده يستطيع أن يميز بين الخير والشر، وأن يبني معرفة مطلقة حول النفس والطبيعة والله دون الحاجة إلى الاعتماد على الحواس لأنها تخدع وقابلة للشك، فالعقل في منظور ديكارت ينبني على أوليات عقلية بديهية للمعرفة اللاحقة وبالتالي تكون المعرفة يقينية. لذلك العقل هو المصدر الوحيد للمعرفة التي تطبع بطابع: الضرورة : التي توجب صدق القضايا والأحكام دائما كما هو، من قوانين المنطق والرياضيات والبديهيات . و الكلية التي تعنى صدق هذه الأحكام في كل زمان ومكان وعدم تغييرها بتغيير الظروف والأحوال.فالإدراك مصدر العلم اليقيني أما الإحساس فإنه يمدنا بمعلومات مبعثرة لا ربط بينها ، وتؤدي إلى معرفة ظنية واحتمالية لا ترقى إلى مرتبة اليقين. هذا ما جعل ديكارت يشك في المعرفة الأتية عن طريق الحواس الظاهرة ورفض بالتالي ان تكون هذه الحواس مصدرا للمعرفة لأنه لاحظ ان الحواس تخدع في بعض الاحيان ، وهي لا تنقل لنا بأمانة كل ما هو عليه الشيء بالتمام . ومن الحكمة الا نثق البتة بالذي يخدعنا حتى ولو لمرت واحدة. ولذا فهو يقول في كتابه تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولي "ما لاحظت أن الأبراج التي تبدو مستديرة عن بعد تبدو مربعة إذا نظرت إليها عند اقترابي منها وأن التماثيل الضخمة المرفوعة على قمم هذه الأبراج تبدو صغيرة حين أنظر إليها من اسفل تلك الابراج ، وقد تبينت في حالات أخرى كثيرة جدا أخطائي في الحكم أساسها الحواس الظاهرة ", ونوضح ذلك بمشاهدة العصى التي نغطسها في الماء نرى بانها تبدوا منكسرة وهذا ما تنقله حاصة البصر هذه المشاهدة لا يمكن الوثوق بها فلولا وجود العقل لما تم تصحيحها, هذا ما يجعل من الاحساس ادنى قيمة معرفية من الادراك .
اما اذا انتقلنا الى الحسيين نلاحظهم يقرون ايضا بالفصل بين الاحساس و الادراك , ولكن لا على اساس الطبيعة و القيمة, بل انطلاقا من الدرجة و شدة التعقيد, ويحلل هؤلاء مختلف الخبرات العقلية الى احساسات اولية هذا ما جعل"لوك" ينكر الافكار الفطرية و رأى ان عقل الطفل يولد صفحة بيضاء لم ينقش فيها من قبل شيء , و الدليل عن ذلك ان الاطفال لا يعون مبادئ المنطق ( مبدا الهوية, عدم التناقض ), و لو كانت هناك افكار فطرية لوجدت بطابعها المجرد عند الطفل و الامي ولكنها متوفرة عند المثقف فقط. ويؤكد لوك ان الافكار الفطرية المزعومة تستمد اساسا من المعرفة الحسية التجريبية, ان ما ندركه بحواسنا هو الانطباعات الحسية, اننا نكون فكرة مركبة عن التفاحة عندما نذوقها أول مرة , و حين كنا اطفالا لم تكن لدينا هذه الفكرة, لقد راينا شيئا احمرا وذقنا شيئا طازجا, وعن طريق تجميع الكثير من الاحساسات المماثلة شكلنا تصورات و افكارا مركبة فمن اين نستمد افكارنا؟ يجيب لوك: من انطباعاتنا الحسية.حيث ينتقد جون لوك أطروحة ديكارت التي ترى بأن العقل يحتوي على أفكار فطرية بقوله: "لو كان الناس يولدون وفي عقولهم أفكار فطرية لتساووا في المعرفة ". فمن خلال هذه القولة أراد أن يبين أن محتويات العقل بين الناس مختلفة حسب درجة عقلانيتهم ومعرفتهم المرتبطة بتجاربهم الحسية. وهذا يعني ان الادراك كله لا يخرج عن دائرة المحسوس يقول جون لوك : "...لنفرضإن العقل صفحة بيضاء خالية من جميع الصفات فكيف يمكن إن يكتسب الإنسان ذلك؟ إنيأجيب عن هذا السؤال بكلمة واحدة من التجربة..", هذا الموقف جسده السفسطائيون في الفكر اليوناني مع " بروتاغوراس " حيث اعتبروا انه ليست ثمة حقيقة مطلقة بل حقائق لان حواسنا هي مصدر المعرفة يقول " بروتاغوراس ": " إن الانسان مقياس كل شيء " فاذا بدى لنا الشيء بانه جمل فهو جمل, واذا بدى لنا نخلة فهة نخلة.هذا التصور نجده عند الرواقيون فنجد اشهرهم زينون يرى ان نفس الطفل لا تشمل على أي نوع من المعارف السابقة بل يبدا بتحصيلها شيئا فشيئا بواسطة خبرته الحسية لذلك يقال " الفاقد لحاسة فاقد لمعرفة".
النقد لا بدّ من الاعتراف بدور مهمّ للمعارف والتجارب السابقة في الادراك الحسّي، لكنّ النظرية العقلية لم تستطع إثبات الفصل بين الانطباعات الحسية ودور العقل في معالجتها، إذ أنّ الانسان لا يستطيع أن يميّز بينهما في الواقع، وبالتالي تكون هذه النظرية مستندة إلى افتراضات أكثر ممّا هي مستندة إلى وقائع .شرحت هذه النظرية الإدراك الحسّي وكأنّه وظيفة عقليّة خاصة بالإنسان الراشد، ولذلك يصعب تطبيقها على إدراك الأطفال الّذين لا يملكون عقلاً ناضجًا يحكمون بواسطته على الانطباعات الحسيّة المفترضة.فكيف يمكن للعقل وحده أن يبني معرفة يقينية دون الاعتماد على الحواس؟ كما يجب الاعتراف بدور الاحساس ولكن ما تنقله لنا الحواس كثيرا ما يقعنا في الاخطاء فكثيرا من المعطيات الحسية لا توافق الاحكام العقلية. فالإحساس هو جسر الإدراك.
الاطروحة الثانية :وعلى نقيض الراي السابق تتبنى نظرية الشكل ( الجشطالتية) و الفينومينولوجية (الظواهرية) موقفا مخالفا للنظرية السابقة حيث لا يمكن الفصل بين الاحساس و الادراك.
البرهنة :ويؤسس هؤلاء موقفهم على حجج واقعية ففلاسفة الغشطالت لا يقرون بوجود مستويين في عملية الادراك : مستوى الحس و مستوى الادراك , فالإدراك هو عملية واحدة انه ادراك كلي و مباشر للموضوعات لان الموضوع يفرض نفسه ككلّ على الإنسان المُدرِكفالأنغام الموسيقية لا قيمة لها إلا في تواصلها.وهذا يعنى ان الادراك معطى كلي, فالكل هو الذي يدرك دفعة واحدة ومن خلال الكل ندرك التفاصيل و العناصر , فإدراك الأشياء أو الموضوعات الخارجية يظهر من خلال الصورة الكلية التي يدرك بها الفرد هذه الأشياء. فالشخص ينتبه للشيء المدرك كوحدة واحدة وهذه ما تسمى بالصورة الكلية Configuration أو الشكل أو الصيغة Form والتي تعني نفس الكلمة الألمانية (جشطالتGestalts).فشريط الفيلم الكارتوني يتألف من ألاف الصور الفردية الساكنة, ومع ذلك يبدو لنا تعاقب صوره لدى مشاهدته كأنه سلسلة حركات متواصلةأنها تدرك ككل و ليس أجزاء. نستخلص من هذا كله ان علم نفس الشكل ترى ان موضوع الادراك المباشر هو المجموع و ليس الاجزاء فهي تظهر في الوعي مباشرة في توليفة أي في شكل لذلك لا يوجد فاصل زمني بين الاحساس و الادراك بمجرد ان نحس ندرك في ان واحد, فيكون كل احساس ادراكا في نفس الوقت. فحواسنا لا تنفتح على عالم من الاحاسيس المتشتتة بل على عالم متوحد تكون فيه الموضوعات منتظمة في تركيبات اصيلة حسب قانون الشكل الافضل و الابسط و الأقوى يقول جان بياجيه : " ...فالإدراك ليس تركيبا لإحساسات سابقة, بل انه يتحكم فيه جميع المستويات مجال عناصره مترابطة لانها مدركة معا" واهم أهم قوانين التنظيم الإدراكي هي : الشكل و الارضية : لوحة إعلانات مُضاءة على خلفيّة اللّيل
1. قانون التقارب: العناصر أو الأشياء المتقاربة في المكان تدرك على أنها شكلاً واحداً أو كلاً واحداً (الجشطالت)؛ بمعنى أن مجرد تقارب أو تجاور الأشياء من بعضها يساعد على إدراكها كمجموعة أو مجموعات أكثر مما تدرك على أنها وحدات أو عناصر منفصلة.
2. قانون التشابه: ويقصد به أن الوحدات أو العناصر المتشابهة في (الشكل أو اللون أو الحجم أو التركيب ...) تميل إلى أن تنتمي بعضها إلى بعض, وترتبط فيما بينهما بسهولة وتكون صيغة واحدة تجعلنا تنتبه إليها وندركها كشكل متماسك ومتمايز.
قانون الغلق أو التكميل: ويقصد به أن هناك ميلا في إدراكنا إلى إكمال الأشياء الناقصة وإلى ملء أو سد الفجوات .أي أن الأشكال شبه الكاملة تدرك وحدات كاملة.هذا ما يجعل إدراك الشكل يغير العناصر, أي أن العناصر تكون مختلفة تبعا للشكل الذي ينتمي إليه. و بالتالي تغيير عنصر ما يؤدي إلى تغيير الشكل باتمه
أما انظرية الظواهرية (Phénoménologie) ترى أن الإدراك ينتج عن تفاعل بين الإنسان المُدرِك والموضوع المُدرَك. فلا ذات دون موضوع، ولا موضوع دون ذات أي دون التمييز بين الإحساس و الإدراك يقول ميرلوبونتي " إن العالم الموضوعي هو نتاج متأخر لشعورنا و إن الشيء الأول هو إدراكنا, إن الإحساس بالمفهوم التقليدي هو اثر متأخر يصدر عن فكر و هو يتجه نحو الأشياء". وهكذا يغدو وعي الإنسان فعلاً موجّهًا نحو الخارج، ولا يُفهم إلاّ من خلال موضوعه. فالوعي حسب هوسرل: "هو دائمًا وعي لشيء ما".إنّ هذه النظريّة تتبنّى نظريّة الشكل وتعتبرها صحيحة من ناحية دور الموضوع، لكنّها ناقصة من ناحية دور الإنسان لذلك ركّزت النظريّة الظواهرية على دور الإنسان المُدرِك وخصوصًا على بنيته النفسيّة والبيولوجيّة، أي أنّها اعتبرت الإدراك الحسّي إدراكًا ذاتيًا (Subjective) يرتبط بميول الإنسان وحاجاته وأفضليّاته في لحظة الإدراك كما أنّه يرتبط (الإدراك الذاتي) بإمكانات الحواسّ ووضع الجسم كمنطلق للإدراك. فالإدراك الحسّي ليس معرفة عقليّة بل وعي عفويّ متلازم مع الوضع النفسيّ والبيولوجيّ.أمثلة: في كلّ مرّة تمرّ بالشارع نفسه نرى أشياء مختلفة عن كلّ مرّة تبعًا لحاجاتنا أو لما نبحث عنه، مع أنّ الشارع كموضوع هو نفسه.إنّ الإنسان يرى الحركة الظاهريّة للشمس مع أنّها ثابتة وهو المتحرّك وذلك لأنّ الإنسان يعتبر نفسه ثابتًا لأنّه مركز الإدراك ونقطة انطلاقه.إذن الظواهرية تفسر الإدراك انطلاقا من العوامل النفسية كالشعور و العاطفة و الإرادة,و ما يؤكد ذلك إن إدراكنا لا يكون واحدا بل متغيرا حسب حالتنا النفسية, ففي الحزن نرى الحياة كئيبة, و في الفرح نراها جميلة. أما اثر العاطفة يتضح في إن الشخص الذب نحبه لاندرك إلا محاسنه عكس الشخص الذي نكرهه ندرك مساوئه فقط. ويتجلى دور الإرادة في توجيه الوعي نحو الموضوع المدرك لان الأشياءالتي لا نميل إليها تبقى خارجة الإدراك
النقدقدم لنا علماء نفس الشكل و الظواهر حلولا هامة حين بينوا إن الإحساسات لا توجد على صورة إحساسات مبتورة عن موضوعاتها إلاأن الخطأ الذي وقعت فيه الجشطالتية أنها قلصت دور الإنسان المُدرك وميوله واستعداداته، فلو كان الإدراك الحسّي يرتبط فقط ببنية الموضوع أو بشكله الكلّيّ، لكان جميع النّاس يدركون معنًى واحدًا في الموضوع الواحد. أمّا في الواقع فالأمر مختلف. مثلاً: إذا زار كلّ من الصيّاد والحطّاب والرسّام وعالم النبات الغابة نفسها، لأدرَكَ كلٌّ منهم شيئًا مختلفًا عن الآخر يتناسب مع استعداداته.أما الظواهرية ما يعاب على أطروحتها أن العالم الخارجي يتجاوز المعطيات المباشرة لشعورنا, لان الشعور هو الذي يتأثر بالعالم الخارجي, كما ان الشعور له صفة الذاتية هذا ما ينجر عنه تغيير نظرة العالم الخارجي بتغيير الشعور له, في حين العالم الخارجي واحد. كما أن النظريتين تناست طبيعة كل ما الإحساس و الإدراك , فالأول انفعال و الثاني معرفة.
التركيب :من خلال تحليلنا السابق إذا ما نظرنا إلى طبيعة كل من الإحساس و الإدراك, يكون الأول انفعال و الثاني معرفة, ولكن هذا التمييز بينهما لا يعني الفصل بينهما لان الإدراك يعتبر نقطة الالتقاء بين الوعي و العالم, أي بين الشخص المدرك و الموضوعات المحيطة به, فحين نعبر بالقول نحن نرى و نسمع و نلمس فإننا نقصد بهذا الكلام العملية الإدراكية التي تجتمع فيها المؤهلات العقلية و المعرفية مع العناصر الحسية, فالإدراك ما هو إلا نتاج لهذه العلاقة الثنائية بين قطبي العقل و الحواس و هذا ما يؤكده ريد في قوله " الإدراك هو الإحساس المصحوب بالانتباه"
حل المشكلة:
و هكذا نستنتج انه لا يمكن الفصل بين الإحساس و الإدراك فهما صورتان لعملية واحدة, فالإحساس هو النافذة التي نطل عليها على هذا العالم, و الإدراك هو ما نتوصل به إلى تلك المعارف التي تنقلها إلينا الحواس وكل منهما يكمل الأخر وهذا الفصل هو فصل مذهبي من وجهة نظر العقليين و الحسيين.بقول كانط " إن الذهن أو الأفكار بدون مضمون تعد جوفاء, و الادراكات الحسية بدون مفاهيم تعد عمياء ".و يمكن أننتطلّع مع باشلار إلى نافذة جديدة وهي ضرورة التوصّل إلى الفصل بين إدراك موضوعي علمي، وبين إدراكنا الذاتي الذي يحمل ميولنا وإسقاطاتنا اللاواعية: فالشمس بالنسبة لعالم الفلك تختلف عن الشّمس التي ندركها بحواسنا فقط.