في منهج العزة بالإثم :الحشد لحصون القش
بسم الله الرحمن الرحيم منهج العزة بالإثم هو منهج يظن أصحابه أن الإقرار بالخطأ أو التقصير أو المرجوحية يسقط المذهب كليةً، لا يفرقون بين نقد الأصل و نقد تمثُّلات مختلفة للأصل.
في تبريرهم الخطأ بما هب ودب من الكلام إنما يرفضون أن يكونوا مخطئين، يبحثون عن طمأنة أنفسهم بالاستئناس بالموافق الذي يريدونه أن يكون كثرة، ليحتموا به من الإقرار و الإذعان للصواب،فلا تصل إليهم التخطئة حتى تمر على ذاك العدد من الموافقين،لا يهمهم إن كانت لهذا الموافق أسباب موضوعية، أو لم تتوفر لديه ما توفر لديهم من مراجع ووسائل ظهرت بعده، لا يهمهم إلا حشد عدد الموافقين لهم على القول، أما تتبع المسألة في حد ذاتها،ومراجعة كلام المحققين فشيء لا قيمة له.
و إذا علمنا أن القضايا العلمية ليست انتخابا يتحدَّد فيه الفائز بعدد الأصوات المفروزة لصالحه فالعلم يقوم على الحقيقة المطابقة للأمر في نفسه، وليس على مجرد إثبات نسبة الكلام إلى القائل الموافق لهم، فقد يصح السند إليه ،و يكون قوله خطئا في الشريعة .
أتعجب ماذا يدرسون في بعض الجامعات الإسلامية، عندما ترى دكتوراً غارقاً في منهج الحشد و التراكم، مكتفيا بالرَّصد السريع لأسماء الموافقين، وبالسرد السطحي لحيثيات الموضوع، كما فعل في مسألة" الكرابيسي"، فلم يطرح الأسئلة العلمية اللازمة، ولم يقف عند إشكالات القضية و اختلاط الردع فيها بالاهتمام بحد كل مسألة و تعريفها إذ هي مركبة من عدة قضايا تمييزاً لفصولها وتفريقاً بين متشابهاتها.
و إذا علمنا أن المقلدين في العلماء ،و المتحفظين منهم لأسباب نفسية أو مذهبية، و المحايدين، و ضعيفي التحقيق في المسائل الكبرى كثر، و إلا لم يكن عدد المبرزين منهم و المؤثرين في الأمة قليلا في مقابل عددهم الإجمالي الكبير علمنا ـ حينئذ ـ أنه لا يحتفل بالعدد في مقام البرهنة و الاستدلال إلا المتعصب و الإمعة ،و إلا بماذا نُفسِّر انقسام أهل السنة في مسألة "اللفظية " بعد الإمام أحمد إلى فرقتين : فرقة أولى ترمي الثانية بالتجهم، و الثانية ترميها بالبدعة، وكلهم يدعي وصلا بليلى، حتى وقع ما وقع لعلماء أمثال : ابن منده، و أبي حاتم، و أبي زرعة،و الذهلي،ومحمد بن داود المصيصي،و أبي بكر الأعين،و أبي عبد الله بن حامد،و أبي إسماعيل الأنصاري، و أبي يعقوب الفرات الهروي،و الكرابيسي، و أبي ثور، و داود الأصبهاني، و المروزي، و أبي نعيم الأصفهاني، و ابن قتيبة، و أبي ذر الهروي، و البخاري و غيرهم؟
و ما يؤكد سطوة التقليد على كثير من العلماء أن الإمام البخاري فصَّل المسألة تفصيلا ليس بعده تفصيل، و أظهر فيها من البيان والعلم ما لم يظهره أحدٌ ممن سبقه، ومع ذلك لم يسمعوا له إلا قلة كمسلم ، وانتظر المسلمون طويلا حتى جاء ابن تيمية و ابن القيم و الذهبي و غيرهم،وقبلهم ابن عبد البر ليفهموا المسألة جيدا، و يُبيِّنوا حقيقة الأمر؛ فهل نعتد بعدد العلماء، و نعتمد الحشد و الحشر منهجاً بدون اعتبار للحقيقة العلمية ،والحال هذه؟ !
إشكالية بعض السلفيين أنهم يفرضون في أنفسهم إمكانية معارضة العقل الصحيح للنقل الصحيح، ولذا يقفون عند قضايا الاعتقاد عاجزين عن التدليل عليها بالأدلة العقلية ، بدون منهجية واضحة إلا مجرد أقوال مجملة تحتاج إلى الاستدلال عليها بالنصوص و ليس بأقوال العلماء، ومن ثم التدليل عليها بالدليل العقلي في المعركة مع المذاهب و المدارس الفكرية القديمة و الحديثة.
ترى الناس مختلفة في تفاصيل التفاصيل وهو يجيب بالقول المجمل مهملا تفسيره بمجموع أقوال العلماء و مواقفهم العملية في القضايا التي تفرعت عنه ثم يبني علي ذلك أحكام الإدانة ؟ !
التحدي الذي تواجهه جامعاتنا الإسلامية هو أن تنجح في تخليص طلبتها من النعرات و منهج عصر الضعف و المذهبية، منهج حشد الأقوال لتطييب نفسه بأن الصواب فيها.
الشيخ مختار الطيباوي