سلام عليكم
ببساطة وبكلـمات قليلة يمكن للـمرء أن يوجز تقرير الهيئة الفلسطينية الـمستقلة لحقوق الإنسان السنوي بأن حالة حقوق الإنسان في فلسطين مثل كل شيء في البلاد في تراجع، على الرغم من أن الـمرء بإمكانه دائماً البحث عن شيء مشرق في عتمة الليل. فحزمة الحقوق تنتهك بشكل مستمر ومتزايد ليس من قبل الاحتلال وقواته وسلطاته بل أيضاً من قبل الـمؤسسات السياسية والأمنية الفلسطينية. وإذا كان يمكن للـمرء أن يتوقع أن تقوم دولة الاحتلال بانتهاك حقوق الشعب لأن مجرد فكرة الاحتلال نفسها تشكل انتهاكاً جسيماً لـمبدأ أساس من مبادئ حقوق الإنسان وهو الحرية ذاتها، فإن من الـمؤلـم أن يضاف لهذا الانتهاك انتهاكات ذاتية تصدر عن الـمؤسسة الفلسطينية.
فالتقرير الذي يصدر في ثلاثة أبواب وثلاثة ملاحق يتعرّض بشكل تفصيلي لوضع حقوق الإنسان في مناطق السلطة الوطنية الفلسطينية.. الأول يستعرض البيئة السياسية والـمتغيرات الدالة على وضع حقوق الإنسان. وعلينا أن نتصور بسهولة أن الانتهاكات الإسرائيلية لـمنظومة الحقوق الفلسطينية تشكل الـمتغير الثابت الدال على هذه الوضعية. بجانب الانقسام السياسي والـمؤسساتي بين الضفة الغربية وقطاع غزة وما يتركه من أثر على الحقوق الفلسطينية الجماعية والفردية وما يوقد له من توتر في تعامل الأطراف مع الخصوم السياسيين. وإذا كان الفلسطينيون لا يقدرون على تغيير الواقع الأول الـمتعلق بالاحتلال (على الرغم من مسؤوليتهم في العمل على إزالته ومواجهته بدل التلهي بخلافاتهم) فإنهم مسؤولون بالدرجة الأولى عن حالة الانقسام والتمزق التي تصيب الوضع الفلسطيني ولا يمكن إعفاؤهم من تبعات ذلك. والتقرير الذي يتميز بدرجة عالية من الـمهنية يحاول أن يقف على الـمسافة نفسها بين الأطراف الـمختلفة كي لا يفقد اتزانه حتى لو اقتضى الحال مثلاً ان يتم نسب فشل الحوار الوطني بدرجات متساوية للأطراف دون التذكير مثلاً بأن حركة حماس هي التي تمتلك تحفظات على الورقة وترفض التوقيع عليها. على الرغم من ذلك فإن التقرير لا يفوته التذكير بمخاطر استمرار الانقسام. وحقيقة الأمر أن الانقسام نفسه ترك أثره على آليات مراقبة حقوق الإنسان في فلسطين، فأنت لا تستطيع أن تتحدث عن منظومة حقوق إنسان واحدة في فلسطين.
فالحقوق مرتبطة ممارسة بدور السلطة السياسية وأدواتها التنفيذية والتشريعية والقضائية ولـما كان الأمر كذلك فإن ثمة منظومتين ترتبطان ارتباطاً متكاملاً بالسلطتين السياسيتين في فلسطين، تلك الـموجودة في الضفة الغربية وسلطة الأمر الواقع في غزة التي تقودها حركة حماس. وعليه فحالة الانقسام هذه تنعكس على منهجية التقرير حيث يفرد جزءاً في كل موضوعة للسلطة في الضفة الغربية ولحماس في غزة وتوصيات هنا وتوصيات هناك.
كما أن استمرار الانقسام التشريعي مثلاً يهدد بتغيير ملامح النظام السياسي الفلسطيني كما يحذر التقرير. إذ يقول بعد استعراض التشريعات الجديدة التي تقرها كتلة التغيير والإصلاح التابعة لحماس مثل قانون الزكاة وقانون الأحوال الشخصية بخصوص حضانة الطفل والبند الـمتعلق بالزنا من قانون العقوبات بأنهم يسعون إلى فرض تدريجي لتشريعات تنطوي على أفكار أيديولوجية خاصة بهم وإلى توسيع دائرة صلاحيات الحكومة التنفيذية في غزة.
يناقش الباب الثاني وضع حقوق الإنسان والحريات العامة خلال العام 2009. وبنظرة سريعة على الأرقام يمكن للقارئ أن يدرك خطورة الوضع الحقوقي عندنا. سجل العام 2009 (237) حالة قتل (168) في غزة و(69) في الضفة، مقابل (181) حالة قتل العام الـماضي. من حالات قطاع غزة هناك 28 حالة قتل على خلفية سياسية (اقتتال داخلي) و(11) نتيجة سوء استخدام السلاح و(62) حالة وفاة داخل الأنفاق مقابل مثلاً 28 في العام الـماضي. أما في داخل السجون فقد توفي 3 أشخاص في سجون السلطة في الضفة و9 أشخاص في سجون حماس بغزة. كما يسجل التقرير ارتفاع عدد الأحكام بالإعدام في الضفة الغربية وفي قطاع غزة وينتقد قيام القضاء العسكري بالبت في قضايا معتقلين مدنيين.
غير أن جرس الإنذار الأكثر تنبيهاً الذي يقرعه التقرير هو الـمتعلق بزيادة التعذيب وسوء الـمعاملة خلال التحقيق. فقد لاحظ التقرير تزايد حالات الاعتقال التعسفي دون اتباع الإجراءات القانونية في التوقيف أو الاحتجاز وعدم التزام الجهات التي تنفذ الاعتقال بسلامة الإجراءات القانونية عند القبض والتفتيش وأن الاعتقال السياسي هو الطاغي على عمليات الاعتقال والحبس.
ويرصد التقرير حالات التعذيب وصوره وأنماطه التي تبدأ بالألفاظ النابية والصفع والاعتداء الجسدي والشبح وتقييد الأيدي والأرجل وربط كامل الجسم بخطاف في السقف إلى أشكال تعبر عن انتهاك صارخ لحق الـمعتقل في معاملة محترمة كفلها له القانون. ولنتذكر جميعاً خاصة من تعذب في سجون الاحتلال أن تلك الطرق لا تختلف بل تنافس في بشاعتها طرق وأساليب الاحتلال في التعذيب. والأغرب في الأمر حين تقوم الجهة التنفيذية بنكران حدوث ذلك وهو ما يورده التقرير حول قلة ردود داخلية حكومة حماس بغزة على مراسلات الهيئة الـمستقلة لحقوق الإنسان حول هذه الحالات، حيث تنكر في حالات كثيرة وجود اعتقال سياسي او ترد علي الهيئة بردود من باب "أكد الـمستشفى عدم تعرض الـمذكور لأي اعتداء وأنه لا يعاني من مرض" أو "لـم يتعرض لأي تعذيب كما ذكر في شكواه" وغيره.
كما يحذر التقرير من تراجع الحريات في فلسطين سواء حرية التعبير عن الرأي أو حرية التجمع السلـمي. ويشير التقرير إلى اتخاذ حكومة حماس في غزة إجراءات تحد من الحريات العامة في القطاع مثل تطبيق ما يعرف بلائحة الآداب العامة وحملة الفضيلة التي تطال سلوكيات الـمواطنين ولباسهم في الأماكن العامة.
وينتقد التقرير الاستمرار في اللجوء إلى ما يعرف بـ"السلامة الأمنية" في الوظيفة العمومية في الضفة الغربية ويقول إن الوظيفة العمومية حق لكل مواطن ويجب أن لا تتدخل أجهزة الأمن في ذلك.
ويفرد التقرير بابه الثالث للـمساءلة والـمحاسبة على انتهاكات حقوق الإنسان ويسجل وجود قيود على فرص الرقابة خاصة على أماكن الاحتجاز والتوقيف ويطالب بضمان السبب الذي يكفل قيام منظمات حقوق الإنسان بعملية الرقابة الخارجية والزيارات الـمستمرة هذا إلى جانب ضرورة تفعيل مبدأ الرقابة الذاتية.
لا يمكن للقارئ بعد أن ينتهي من التقرير إلا أن يشارك القائمين عليه في قرع الجرس بضرورة الانتباه أكثر لحالة حقوق الإنسان كي لا يصبح الفلسطيني الذي تنتهك حقوقه السياسية والقانونية منذ قرابة قرن متواصل من الزمن من قبل قوى خارجية هو الـمنتهك الأكبر لحقوقه. ليس لنا إلا أن نتفق مع التقرير في إحدى خلاصاته وهي ان نجاح خطط التنمية الشاملة والـمتوازنة وبناء الدولة لا يمكن لها أن تتم بشكل سليم في ظل منظومة حقوق إنسان متآكلة فالإنسان هو مادة الحرية الأساسية وهو ثروتها الأغلى.
2010-4-10
د/عاطف ابو يوسف