ابنتي و ابنة الوزير
كنت جالسا في الغرفة أشاهد التلفاز بعد أن أضناني التعب ، و ابنتي الصغيرة على مقعد صغير بجانبي ، بينما في الخارج كان الصيف يقذف المكان بحرارته ، و لو أنها حرارة بشيء من اللطف ، فالصيف لم يمض على حلوله إلا بضعة أيام والعطلة كانت قد بسطت سلطتها منذ مدة و ابنتي الصغيرة لا زالت مشدودة إلى الشاشة تتابع ما يعرض عليها، غارقة في صمت ملائكي . و على غير العادة بدا لي من قسمات وجهها ما ينبيء بالسعادة و الإعجاب ... إنه مشهد أطفال متحلقين على تلة بالقرب من البحر، ينشدون الأناشيد الجميلة ، تحضنهم شبكة من ألوان قزحية ألقاها سخاء الطبيعة على المكان : لازردية البحر وزرقة السماء ، وخضرة الأشجار الباسقات ، والظلال الوارفة ، والبهلوان ، أما نورس البحر فأبى إلا أن يشارك هؤلاء الأطفال بنغمات من أصواته ملأت أرجاء السماء ، الكل كان يرتدي قمصانا بيضا و تبابين حمراء تعلو رؤوسهم قبعات خضراء ، فبدا المشهد قطعة مهربة من أحد مدرجات ملاعبنا
أما ما حوّل المكان فعلا إلى لوحة فنان ما كان يقوم به الأطفال من نشاط مسرحي كانت تتخلله من حين لآخر حركات رياضية غاية في الانسجام ، فالمشهد كان سحرا بحق
فالصَّبِيَّة منذ أن حملت محفظتها لأول مرة بدأت تكتشف أن عالما آخر ، يزخر بالحركة والصور و الألوان ، يفوق عالمها الصغير رحابة ، عالمها الذي لم تكن ترى فيه إلا أختها الصغرى ، و بعض اللُعب منسية ملقاة في إحدى زوايا البيت ، وفناء ضاقت مساحته ، ولم يعد يمنحها فرصا للعب ، ليس كعالم آخر تتنوع فيه المشاهد وتنفتح فيه آفاق رحبة للتواصل مع الآخرين ، حيث حل فناء المدرسة الواسع الرحب محل فناء البيت الضيق المطبق على الأنفاس .
سُرَّت الفتاة بالمشهد و تضخم سرورها وانبلج من بين قسمات وجهها الصغير بريق ملائكي أَسِر قلب أب رهيف مثلي ، فرحت أستجيب لأحاسيسها فورا ، وبادرتها بسؤال كان علي طرحه منذ مدة : هل شاهدت مثل هذا المشهد من قبل ؟
نعم حضرت مشاهد و لكن ليس مثل ما أرى الآن
صِدْقُ اجابتها و براءتها حفّزاني على التمادي في السؤال :
أين ؟
في القسم ، كل يوم تقريبا ، كنا نردّد أناشيد بعد المعلم ، و لكن لا أدري لماذا أعجبني هذا المشهد بالذات ، نعم صَدَقَ إحساسُ الصَبِيَّةِ ، فلا مجال للمقارنة بين أنشطة تقام بين جدران القسم ، الضيّقة ، المملّة ، الجاثمة على الأنفاس ، بمعية سبورة غزاها الشيب رغم حداثتها ومكتب عتيق تداولت عليه أجيال من المعلمين ، بعضهم نبت العشب على ظهره ، و بعضهم أصبح مجرد رقم يمشي في الأسواق ، مكتب نخرت جوانبه الشيخوخة حتى لا تكاد تميز له لونا ، وأوراق احتلها الاصفرار وغزاها الغبار فبدت وكأنها من عهد نابليون الأول ، ملأت زوايا الجدار ، بعضها يعرض صور حيوانات و بعضها أزهارا و بعضها عَلِقت بها حروف تفسخ شكلها وانطلقت منها روائح تروي معاناة المكان
نعم ما صرحت به الصَّبِيَّةُ كان صدقا لأنه لا تتاح رؤية مثل هذا السحر إلا لمن كان ملاكا
لا زالت الشاشة تعرض مشاهد أطفال يتمايلون يمنة و يسرة في انسجام مذهل و لغة أجساد لا يفهما إلا من كان بحرا، ربيع الطفولة يأسر المكان ، و يسبي الأحاسيس و الوجدان ، فسحر التخيّيم ذاك الذي أدركته الصَّبِيَّةُ .
فبدا و كأنني أدركت الموقف و قلت في نفسي : لِمَ لم أبعث بابنتي إلى المخيّم ، ربما كانت تمتعت بما يتمتع به هؤلاء الأطفال ، و اكتشفتْ على الأقل متعة التخيّيم بين بنات في مثل سنها ، أكون على الأقل تجنبت أن أقف هذا الموقف الحرج الآن .
قلت لها : أنتِ الآن في سنتك الثانية ابتدائي و التخيّيم يحتّم عليك الابتعاد عن سريرك و حضن أمك و هذا البيت ، لفترة من الزمن ، و هذا أمر قد لا تتحملينه ، أعدك بأن أبعثك للتخيّيم السنة القادمة إن شاء الله
مرّ الصيف ، و العطلة ، ودق جرس الدخول معلنا سنة دراسية جديدة ، ومشاهد الأيام التي كانت تمر بسرعة لم تَخْلُ من صورة فتاة تذهب و تجيء في صراع يومي مع محفظة أثقل من وزنها في مشهد يثير الشفقة
وَعْدُ الحر دين عليه ، وأنتَ وعدتَ ابنتك ، ماذا أنت فاعل الآن ؟، و ها أنت ترى صيف هذه السنة ينصب خيامه ، هذا ما كان يتردد في نفسي و ربما أرّقني بعض الوقت .
ما كان لي إلا أن أفاجئ ابنتي الصغيرة التي لطالما انتظرت هذه العطلة بفارغ الصبر
و نحن في عام 2002.
أتممت معها إجراءات الطبيب . ثم أخذتها معي لاقتناء ما يلزمها للتخيّيم و كنت مرّة تلوى الأخرى أسألها : هل أنت سعيدة الآن ؟ فكانت كلما سألتها تجيب بإيماءة من رأسها .
باتت في تللك الليلة التي سبقت الموعد على أحر من الجمر، تنتظر الساعة ، لا تحدّث أختها إلا عن المخيّم ، و البحر، و الأشجار، و الأناشيد ، وطائر النورس ، و البهلوان و أنفه الأحمر المتورّم ...
ينبغي لك أن تنامي باكرا ، و إلا ثَقُلَ عليك النهوض إذن ، و أنت تعلمين أن الحافلة تنطلق مع خيوط الفجر، كلام أمّها وقع عليها موقع المخدر ، فاستسلمت البنت و نامت نومتها الملائكية .
نهضتُ باكرا ، صليت الفجر، ثم وقفت بالقرب من سريرها ، وعزّ عليَّ ايقاظها في مثل هذا الوقت الباكر ، لعلها لم تشبع من النوم ... قلت في نفسي
وقفت طويلا أفكر مترددا إلا أن قلت للزوجة : حاولي أن تجعلي ابنتك تنهض بهدوء فهي غير متعوِّدة على النهوض في مثل هذا الوقت.
تركتها في الغر فة مع أمّها و خرجت لأرتّب بعض الأمور، وما إن انتهيت حتى سمعت صوت أمّها يتردّد في ردهات البيت مجلجلا يكاد يوقظ الجيران ، حرارة البنت مرتفعة جدا !، بنتك مريضة ! ، بنتك مريضة ... !
قِسْت حرارتها : يا إلهي الحرارة مرتفعة و كيف لم ندرك هذا ؟
قال لي طبيب الاستعجالات : التهاب اللوزتين ، عليك أن تُناوِلها ما وصفت من دواء و ستشفى بحول الله .
لا داع لارسالها إلى التخيّيم وهي في هذا الوضع ، فهي بحاجة إلى فترة من الراحة
هكذا فات قطار التخيّيم ابنتي المسكينة و قلت و أنا في أتم الرضا لعل المانع خير، < قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا > ... < ألا بذكر الله تطمئن القلوب >
في خضم انشغالاتي اليومية : من عمل وتسوّق و مراقبة الأولاد دراستهم و التطبيب و أمور أخرى ... كان شوط من الزمن ينقضي في غفلة منِّي
و ها أنتَ اليوم تسمع البنت تذكِّرك بقدوم الصيف و النورس و البهلوان ذي الأنف الأحمر المتورّم ...
أفٍّ ما أشقاها دنيا و ما أسرع عَدْوَها !
سجلت ابنتي هذا الصيف للتخيّيم و نحن في سنة 2003 .
أخبرتها بذلك ففرحت أيما فرح و راحت كعادتها تحكي لأختها التي تصغرها بعام ، عن البحر و النورس و البهلوان ذي اللباس المزركش المرقّع و أنفه الأحمر المتورّم،
و كأن القرص الصلب الذي بداخل مخّها ليس معبّأ إلاّ بهذا الكلام .
الرحلة إلى المخيّم غدا ، فما كان على الأم إلا أن تُعِدَّ البنت و تدخلها سريرها باكرا.
بالقرب من إحدى الابتدائيات ، في وقت متقدم من النهار ، شرع الأبناء برفقة أبائهم ينتظرون الحافلة ، كنت كل مرّة أسرق النظر إلى ابنتي ، السعادة لم تفارقها طيلة الانتظار و إن كانت ممزوجة بنوع من القلق تارة ، خاصة عندما كانت تسألني : هل تزورني أنت و ماما و أسماء ؟ قلت : بالطبع سنزورك كلنا، و لن نفارقك
هل يتركونكم تفعلون هذا ؟ قلت نعم ، زيارة الأبناء لا بد منها ، فأنتم لازلتم صغارا و بحاجة إلينا .
ما إن أنهيتُ الحوار مع ابنتي حتى سقط علينا من حيث لا أدري المكلّف بالشؤون الاجتماعية التابع للإجيتيا : و راح يلقي علينا كلاما أقرب إلى الخطاب نحن معشر الأباء قائلا: أنتم تعلمون أنه لم يمض إلا شهران و بضعة أيام على زلزال بومرداس ، كانت مأساة بحق كما تعلمون ، و الجزائريون لا تظهر معادنهم إلا في الشدّة ، أهل بومرداس اليوم منكوبون و هم بحاجة إلينا ، و أنتم يا بناتي و أبنائي الصغار ، ليس مطلوبا منكم أن تحملوا معاول و فؤوسا لتساعدوا إخوانكم، لأنكم صغار، أنتم الآن تحتاجون إلى الرعاية و الدولة لم تقصر في ذلك ، و لأدل على ذلك المخيّمات الصيفية التي تلتحقون بها كل عطلة صيف ، ما أقامته الدولة من مخيمات إلا لراحتكم كي ترتاحوا من عبء الدراسة ، و تجددوا الطاقة لاستقبال عام دراسي جديد و كلكم حيوية و عزم و إرادة ، و بمبادرة من ليجيتيا و حتى نمنحكم الشرف الكبير لمساعدة أهلكم في بومرداس المنكوبة ، تقرّر إلغاء المخيّمات الصيفية هذا العام ، و التبرّع بأموالها على أطفال صغار مثلكم ، إخوة لكم ، بحاجة إلى مأوى ، إلى علبة دواء ، إلى فراش ، إلى سقف يقيهم حر الصيف ، إلى قرورة ماء يطفئون بها ضمأهم ...
ما كنا ننتظر هذا أبدا، و ما كان الأولاد الذين نهضوا باكرا ينتظرون هذا ، في هذه اللحظة لم أعد أفكر إلاّ في كيفية أقنع بها البنت ، بأنه في مثل هذه الظروف تجوز التضحية بل و تجب ...انقضت عطلة الصيف و وجدنا أنفسنا نزاول أعمالنا كالمعتاد ، و البنت عادت إلى عادتها تصارع المحفظة كل يوم في غدوها و مجيئها دون كلل . و انغمستْ في جو الدراسة و لم يعد للمخيّم ولا للنورس و لا للبحر و لا للبهلوان أي وجود في حديثها مع أختها و كأن القرص الصلب الذي بداخل مخها تَفَرْمَطَ .
لن أنسى ذلك اليوم الذي تناولتُ فيه جريدة من أحد الأصدقاء ، داخل قاعة الأساتذة ، لأنه يوم تفتحت فيه عينايا على حقائق لطالما خفيت عني ، أو لم أكن أعتقد بوجودها أصلا.
لا أتذكر بالضبط اسم الجريدة : (الخبر أم الشروق) و لكن الأمر يتعلق بإحدى هاتين الجريدتين :
الخبر مفاده : أنه قامت أفواج من أبناء الوزراء بالتخيّيم بإحدى شواطئ كَانْ الفرنسية و(نحن في صيف 2003) و قد بلغت كلفة التخيّيم ما يفوق المليارين من السنتيمات تم دفعها من أموال الخدمات الاجتماعية لرجال التعليم... نعم رجال التعليم .
ما ان انتهيت من قراءة الخبر حتى شعرت بدوار في رأسي و غثيان ، و ثورة من الغضب لم تجد منفذا للإعلان عن نفسها ، أسئلة كثيرة جابت أغوار صدري ...
تذكرت ابنتي المسكينة التي منعوها من التخيّيم ، هي لم تكن تطلب شواطئ كَانْ ، ولم تكن تريد رؤية أشهر ممثلي العالم الذين يأتون إلى مهرجان كَاَنْ في الصيف ، ما كانت تطلب إلاّ لحظة تخيّيم كما صوّرتها لها مخيلتها : فيها البحر و نورس و بهلوان شقي .أما ما عدا هذا لم تطلب شيئا ، قلت في نفسي : ما أتعس حظ أبنا ء المعلمين ، حتى هذا الفتات استكثروه في حقهم .
و لماذا لم يلغوا مخيّم أبناء الوزراء ؟، و يتبرعوا بأمواله لبومرداس؟ أليس من تشردوا من أبناء بومرداس إخوة لهم ، لماذا لم تتكفل سوناطراك أو سونلغاز أو أي شركة أخرى بمخيّم أبناء الوزراء؟ ... أليس سوناطراك من بين أغنى الشركات في العالم ؟ ولماذا أموال أبناء الغلابى فقط ؟
تذكرت الآن أحد الوزراء القدامى استضافته قناة الشروق هذه الأيام و نحن نعيش ارهاسات الأزمة الاقتصادية نتيجة انخفاض سعر النفط :
قالت له الصحفية فيما معناه : الشعب يطالبكم بالمساهمة في التقشف كأن تخفضوا مثلا من مرتباتكم كما يحصل في عدة بلدان من العالم عندما تداهمها أزمة اقتصادية حتى تكونوا قدوة للمواطنين . هل أنتم كوزراء و نواب و إطارات عليا مستعدون لذلك ؟
فرد عليها الوزير: لماذا نحن بالضبط ، هل نسيتم أن الدولة تصرف أموالا طائلة من أجل تعليم الطفل ، أين نحن مما يُصرف على الطفل .
عندما سمعت هذا الكلام يخرج من فم وزير تيقنت جازما أنه بهذا التفكير منحوا لأنفسهم الحق لأن يستولوا على أموال الغير ليتمتعوا هم وأبناؤهم على شواطئ كَانْ و غيرها فما أبناؤنا بالنسبة إليهم إلا أرقام لا حق لها في أن تنتحل صفة البشر.
في نظرهم ليس من اللائق اهدار أموال طائلة ، فالطفل مذنب لأنه يكلف الدولة كثيرا من أجل تعليمه
رغم كل ما حصل نالت ابنتي شرف المشاركة في مساعدة أهل بومرداس ، أما ابنة الوزير فرفضت ذلك و آثرت أن تقضي عطلتها على شواطئ كَانْ الفرنسية ذات صيف من سنة 2003 و ربما أخذت صورا مع أشهر الممثلين بأموال مغتصبة : اُغتُصِبت من أبناء المعلمين ثم من أبناء بومرداس المنكوبين أنذاك
بنتاي الآن عندما أذكّرهما بالحادثة لا تملكان إلا الضحك ، فالكبرى التحقت بالمدرسة العليا للأساتذة ، أما الصغرى فالتحقت بكلية الطب .
ب نورالدين أستاذ تعليم متوسط