على الرغم من مرور ما يقرب من قرن وربع القرن على وفاة الأمير عبد القادر الجزائري قائد الثورة الأولى في الجزائر ضد الاستعمار الفرنسي، إلا أن الصفةُ السياسية هي الغالبة على الأمير. فلا نكاد نجد في الكتب التي تؤرِّخ للنهضة العربية ذكراً لهذا الأمير إلا وهو مرتبط بثورته ضد فرنسا، أو بوقوفه ضد الحرب الطائفية بالشام عام 1860 م، أو بتبيان علاقته بالدولة الفرنسية، أو زياراته المتعددة إلى الأستانة ومصر وباريس، وحصوله على الأوسمة والمنح.
والحق أن حياة الأمير عبد القادر السياسية تعرَّضت لأكثر من تقويم سلباً وإيجاباً. وليس في ذلك ما يدعو إلى الغرابة : فهو الأمير الذي حارب فرنسا لمدة سبعة عشر عاماً، وهو الذي ذكرته تقارير القناصل الأجانب بصفته حامي النصارى صاحب الشخصية العربية الإسلامية المرموقة وقد ظل طوال حياته يعامَل كرجل دولة، وهو – إلى جانب هذا كلِّه – رجل فكر متبحِّر في علوم الدنيا والدين. وقد كانت له آراء خاصة في قضايا العقل والأخلاق واللغة والتصوف، مما يجعله أحد أبرز رجالات النهضة المبكرين، على تمايزه عن جلِّهم بأنه رجل سياسة وفكر في آن.
إنه صاحب الاسم الذي يتردد ذكره كثيرا في الجزائر من خلال إطلاق اسم الأمير على الكثير من المؤسسات العلمية والثقافية والمجمعات السكنية عبر ربوع البلاد، بل أصبح اليوم تمثال الأمير يعلو قلب العاصمة الجزائر محل تمثال "بوجو" ألد أعدائه من مسئولي الاحتلال الدموي،
لكن هل يحتل عبد القادر قلب تاريخ الجزائر أيضاً ؟
فما هي مكانة الأمير اليوم في تاريخ الجزائر ؟
وأي أثر خلّف في أرضها ؟
هل تُختصر حياة الأمير في بعض مقتنياته بالمتحف ؟
من هو الأمير عبد القادر؟
إن الحديث عن الأمير عبد القادر وتاريخه أمر مدهش وصعب في نفس الآن، أن نقول كلمة تستوفيه حقه أمر مستحيل، وإلى الآن وبالرغم من مضي أزيد من أربعين سنة على استقلال الجزائر لم نجد من قال الكلمة الفصل في تاريخ هذا الرجل العظيم عظمة هذا البلد، فقد يجمع الجزائريين على أن الأمير هو مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة، القائد الفذّ العبقري، والخطيب الملهم، الذي جمع بين السيف والقلم، أوّل من أثار الضمير الشعبي الجزائري، وبذر بذور الثورة ضد الاستعمار الفرنسي، عالم الأمراء وأمير علماء دمشق. إلا أنه هناك أصداء تسمع لأصوات خافتة متسائلة هل كان هذا الفارس أميراً من حكايات ألف ليلة وليلة ؟ أو أحد فرسان الإسلام القادر على قتل ألف مرتد بضربة سيفٍ واحدة ؟
مهما كان الوصف اليوم بالكاد الجزائر تذكر شيئاً عن الأمير عبد القادر الجزائري، اللهم إلا في حالات نادرة كيوم وفاته أو بيعته أو في بعض الندوات العلمية والفكرية والحفلات الفنية والأدبية، وعرض التراث ومخلفات الأمجاد الوطنية، وقد يطول الأمر لسنين، وحاله أفضل من غيره من رجال الأمة الذين صنعوا تاريخ الأمة بأحرف من ذهب، ولسان الحال يقول لماذا التقاعس وتجاهل الرجال - من رجال مقاومة وعلماء ودعاة وشهداء ومجاهدين...
- هل كان كل هؤلاء متقاعسين عن الجهاد والنضال ضد المستعمر الفرنسي أو المستبد المتفرعن، الذين كانوا أول من وقف في وجهه وقالوا له (يا ظالم) وتحملوا القمع الرهيب الذي أودى بحياة عشرات الألوف منهم...
إن الناظر والمتفحص لرفوف المكاتب ولقائمة الكتب، سيجد بضع عشرات من الكتب التي تذكر جانبا من حياة الأمير، وإذا قارن الباحث مؤلفي تلك الكتب سيجد أن أغلبهم أجانب وأن أهل هذه البلاد أقلامهم شحت لكتابة تاريخ أميرهم...
عندما ترتاد المدرسة، ستتوقع أنها تُعلم كل شيء عن الأمير، وأن كتب التاريخ والمناهج الدراسية لمختلف الأطوار تنصف الأمير بالذكر والتعريف به للأجيال الجديدة الصاعدة، لكن في عهد الجزائر المستقلة لا يذكر الأمير إلا في طور واحد وفي درس أو درسين طيلة مشوار طالب العلم، فيما تتفنن المدرسة الجزائرية في تعليم كل شيءٍ عن معركة بواكي، وأغنية رولا، وتعجز أن تعطي أي معلومةٍ عن عبد القادر.