من أجمل ما خط بنان الأمام القدوة ابن القيم - طيب الله ثراه - :
( فصل
لما فصلت عير السير ، واستوطن المسافر دار الغربة ، وحيل بينه وبين مألوفة وعوائده والمتعلقة بالوطن ولوازمه ، أحدث له ذلك نظرا آخر ؛ فأجال فكره في أهم ما يقطع به منازل سفره إلي الله ، وينفق فيه بقية عمره ، فأرشده من بيده الرشد إلى أن أهم شيء يقصده إنما هو :
الهجرة إلى الله ورسوله ، فإنما فرض عين على كل أحد في كل وقت ، وأنه لا انفكاك لأحد من وجوبها ، وهي مطلوب الله ومراده من العباد ، إذ الهجرة هجرتان :
هجرة بالجسم من بلد إلى بلد : وهذه أحكامها معلومة ، وليس المراد الكلام فيها.
والهجرة الثانية هجرة بالقلب إلى الله ورسوله : وهذه هي المقصودة هنا. وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقة ، وهي الأصل ، هجرة الجسد تابعة لها ، وهي هجرة تتضمن (من)، و(إلى):
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته.
ومن عبودية غيره إلى عبوديته.
ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه.
ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له إلى دعاء ربه وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له .
وهذا هو بعينه معنى الفرار إليه ،
قال تعالى : فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ (الذاريات:50)
فالتوحيد المطلوب من العبد هو الفرار من الله إليه).
الرسالة التبوكية ( 1/28)
ثم ذكر تمام الهجرة الثانية في قوله - نور الله ضريحه - :
( ولله على كل قلب هجرتان ، وهما فرض لازم له على الأنفاس :
هجرة إلى الله - سبحانه - بالتوحيد ، والإخلاص ، والإنابة ، والحب ، والخوف ، والرجاء ، والعبودية.
وهجرة إلى رسوله : بالتحكيم له ، والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه ، وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته ؛ فيكون تعبده به أعظم من تعبد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ، ومتاهات الطريق .
فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان ؛ فليحث على رأسه الرماد ، وليراجع الإيمان من أصله ؛ فيرجع وراءه ليقتبس نورا قبل أن يحال بينه وبينه ، ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور ،
والله المستعان )
مدارج السالكين (2/ 463).