شبهة حول حد السرقة والحرابة
السؤال
كنت أكلم نصرانيا ، وقد تسبب في وقوع شبهة في نفسي ، فآمل الإجابة عنها ، حيث قال لي : بوحشية الحدود في الإسلام ، كقطع اليد ، فكيف سيعمل الشخص الذي قطعت يده بعد ذلك ؟
وأنه سوف يتسول ، ويزيد أعداد المتسولين ، وإن كان له أهل وأولاد ، فأولاده سيتسولون ، وأسرته ستشرد
كذلك حد الحرابة ، وأن الأفضل أن نوفر لمن وقع في حد الحرابة عملا بدلا من قطع يده ورجله ، وبعد أن تقطع يده ورجله كيف سيعيش ، ويعمل ويصرف علي أهله و أولاده ؟!
وأين يذهب من يطبق عليهم الحدود ؟ و كيف يعيشون بعد ذلك ؟
الجواب
الحمد لله
أولًا :
الواجب على المسلم
إذا لم يكن عنده علم شرعي
أن لا يتعرض لمناظرة أو مناقشة أصحاب الديانات والمذاهب الأخرى
لأنه بذلك يعرض نفسه للفتنة
فقد تقع في نفسه الشبهة
– وهو بسبب قلة علمه لا يعلم لها ردًّا
فيبقى في حيرة واضطراب وشكوك
وقد كان في غنى عن ذلك.
ولذلك فالنصيحة لك أن لا تقدم على مناظرة أحد حتى تتسلح أولًا بالعلم الشرعي الراسخ
الذي يمكنك من المناظرة .
ثانيًا :
القضية عندنا – نحن المسلمين – من أصول الإيمان وأركانه وقواعده ، وهي أن المؤمن يمتثل أمر الله تعالى ، ويعتقد أنه هو الحق ، وأن كل ما خالفه فهو باطل .
فالله تعالى أمرنا بإقامة الحدود التي شرعها ، فنحن نقيمها طاعة لله تعالى ، ونعتقد أنها أصلح وأنفع ما تكون ، وقد نعلم وجه صلاحها وقد لا نعلمه ، ولكن هذا لا يغير من إيماننا بها شيئا .
وهذا جواب مجمل لكل شبهة يتعرض لها المسلم ، أو يسمعها أو يقرأها
ما دام هذا الأمر ورد في القرآن الكريم ، أو ثبت في السنة النبوية ، فهو الحق وهو المصلحة وهو الأنفع للناس ، سواء علمنا وجه المصلحة فيه أم لم نعلمها .
ثالثا :
أما الجواب المفصل على هذه الشبهة الخاصة بالحدود الشرعية ، التي شرعها الله تعالى على عدد قليل من الجرائم والذنوب ، فهو ما يلي :
هؤلاء الذين ينظرون إلى الجاني المجرم هذه النظرة الرحيمة ، نظرهم قاصر ، وهذه النظرة تدل على جهلهم ، ونقص عقولهم ، وعدم حكمتهم .
فإنهم نظروا إلى الجاني بعين الرحمة ، ولكنهم في الوقت ذاته لم ينظروا إلى المجتمع الذي طالما انكوى بنار هذا المجرم .
فهذا المجتمع في حاجة إلى من يكف عنه اعتداء السراق وقطاع الطريق
في حاجة إلى من يأخذ على أيدي هؤلاء حتى يعيش الناس في أمان
فيأمنوا على أنفسهم وأهلهم وأطفالهم
ويأمنوا على أموالهم وتجارتهم ، فيسافرون آمنين ، ويمارسون أعمالهم وحياتهم من غير خوف من سطو قاطع طريق أو سارق .
فإذا مثَّل هؤلاء بأولاد المحدود ماذا يفعلون؟ وأرادوا بذلك استثارة العاطفة ، للدلالة على عدم حكمة الحدود الشرعية – وحاشاها من ذلك - : فنحن نمثل لهم بصورة أكثر درامية وتأثيرا
وأكثر استثارة للعاطفة ! فلو أن رجلا غنيا صاحب مال وتجارة ، وله أطفال صغار ، ليس لهم أحد من الناس يرعاهم إلا هذا الأب الرحيم بأولاده
فاعتدى أحد السراق أو قطاع الطريق على هذا الأب وسلبه جميع أمواله ، وقتله ، فما ذنب الصغار حتى يعيشوا فقراء متسولين ؟!
ومن يقوم برعايتهم الآن ؟!
لماذا لم ينظر هؤلاء إلى هؤلاء الأطفال بعين الرحمة كما نظروا للجاني بعين الرحمة ؟!
هل هذا من العدل أو العقل أو الإنصاف ؟!
إن الإسلام نظر إلى هؤلاء بعين الرحمة فشرع ما يمنع الجريمة من أصلها ، حتى لا يتعرض هؤلاء للفقر ، وحرمان العائل لهم والمربي ، بسبب ظلم قاطع طريق ، أو طمع سارق .
لقد نظر الإسلام إلى المصلحة الكبرى المتحققة من هذه العقوبات ، وهي حصول الأمن للمجتمع والقضاء على هذه الجرائم ، فوضع عقوبات شديدة
حتى لا يجرؤ أحد على ارتكاب تلك الجرائم ، وبهذا ينظر الإسلام إلى المجتمع بعين الرحمة
إذ رحمه من ظلم هذا المجرم ، وفي الوقت ذاته نظر إلى هذا المجرم أيضا بعين الرحمة ! فشرع له من العقوبة ما يردعه عن تلك الجناية قبل فعلها .
ونظر إليه بعين الرحمة مرة ثانية بعد ارتكابه لها ، حيث فتح له باب التوبة وإسقاط العقوبة عن نفسه ، إن تاب عن جرائمه قبل القبض عليه
قال الله تعالى عن قطاع الطريق : ( إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا
وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المائدة/33-34 .
وقال بعد أن ذكر عقوبة السارق : ( فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) المائدة/39 .
ثم رحمه مرة ثالثة
فلم يقم عليه الحد إلا بعد أن تتوفر شروط شديدة ، قد يصعب تحققها في الواقع ، فليس كل سارق تقطع يده ، بل لذلك شروط كثيرة ذكرها العلماء
فإن اختل منها شرط واحد لم تقطع يد السارق – مع ثبوت سرقته- ولك أن تتصور أن حد الزاني ، مع شدته ، ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه لم يثبت على أحد من الزناة
من عهد النبي صلى الله عليه وسلم إلى عهد شيخ الإسلام ، وقد توفي في النصف الأول من القرن الثامن الهجري ، لم يثبت إلا بالاعتراف
ولم يثبت بشهادة الشهود قط . ومعنى هذا : أن شهادة الشهود لم تتحقق ولو في حالة واحدة فقط على مدار ثمانية قرون ، لأن شرط الشرع في هذه الشهادة شرط شديد ، يجعل تحققها أمرا صعبا للغاية .
ولكن بقيت تلك العقوبة رادعة للمجرمين من ارتكاب تلك المعصية القبيحة ، مع أنهم لو ارتكبوها فالغالب أنها لن تثبت عليهم ثبوتا يوجب الحد عليهم.
ثم رحم الإسلام الجاني مرة رابعة ، فجعل كل شبهة ، أو احتمال ، في ثبوت الجريمة : يفسر لمصلحة الجاني ، فلا يقام عليه الحد مع الشبهة والاحتمال ، وهذه قاعدة اتفق عليها العلماء : أن الحدود تدرأ بالشبهات .
فإذا تعدى الجاني كل هذه الحواجز ، وارتكب جنايته ارتكابًا ، وهتك حرمة الشرع ، واعتدى على حرمات الناس ، وحقوقهم ، حتى ثبتت عليه جريمته
واستوجب الحد فقد وصل هذا الجاني في الإجرام مبلغا عظيما ، فكان لابد من إيقافه عن حده ، ومنعه من تكرار جريمته ، وإنقاذ المجتمع من عدوانه .
ومع ذلك رحمه الإسلام مرة خامسة ، حيث جعل هذا الحد كفارة له ، وتطهيرا له من جريمته، حتى يلقى الله تعالى طاهرا منها .
ثم رحمه مرة سادسة بالأمر بالإحسان إليه وعدم تعنيفه أو تعييره أو سبه ، بعد إقامة الحد عليه ، ثم بالأمر بقبوله في المجتمع أخا لنا ، كما كان قبل ارتكابه جريمته .
ثم رحمه الإسلام ، مرة سابعة بأن نجاه من انتقام المجني عليه أو أسرته ، فإن المجني عليه يتقطع قلبه طلبا للانتقام والتشفي من ذلك المجرم الذي قطع عليه الطريق
أو تعرض له بالسلاح ، أو انتهك حرمته ، أو استولى على ماله .
فإذا ما أقيمت العقوبة الشرعية هدأ المجني عليه ، وزال ما كان يجده في قلبه ، لأنه يرى أن الجاني قد أخذ نصيبه العادل من العقاب .
وبالجملة ، فالحد الشرعي : رحمة من الله ، الرحمن الرحيم ، لعباده ، وبعباده .
ومتى أضاعها العباد : كان الفساد العريض في الأرض .
ولهذا نهى الله عباده عن تلك الرأفة بالمجرم ، التي تضيع الحقوق ، وتفسد البلاد والعباد .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَأَمَّا السَّارِقُ فَيَجِبُ قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى بِالْكِتَابِ والسنة والإجماع
قال الله تَعَالَى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (سورة المائدة: الآيتان 38، 39) .
ولا يجوز بعد ثبوت الحد بالبينة عليه، أو بالإقرار تأخيره: لا بحبس وَلَا مَالٌ يُفْتَدَى بِهِ وَلَا غَيْرُهُ، بَلْ تُقْطَعُ يَدُهُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُعَظَّمَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَإِنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ مِنْ الْعِبَادَاتِ، كَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
فَيَنْبَغِي أَنْ يَعْرِفَ أَنَّ إقَامَةَ الْحُدُودِ رَحْمَةٌ مِنْ اللَّهِ بِعِبَادِهِ: فَيَكُونُ الْوَالِي شَدِيدًا فِي إقَامَةِ الْحَدِّ، لَا تَأْخُذُهُ رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ فَيُعَطِّلُهُ.
وَيَكُونُ قَصْدُهُ رَحْمَةَ الْخَلْقِ بكف الناس عن المنكرات؛ لا شفاء غيظه، وإرادة العلو على الخلق: بِمَنْزِلَةِ الْوَالِدِ إذَا أَدَّبَ وَلَدَهُ؛ فَإِنَّهُ لَوْ كَفَّ عَنْ تَأْدِيبِ وَلَدِهِ -كَمَا تُشِيرُ بِهِ الْأُمُّ رِقَّةً وَرَأْفَةً- لَفَسَدَ الْوَلَدُ
وَإِنَّمَا يُؤَدِّبُهُ رحمة به، وإصلاحا لحاله؛ مع أن يَوَدُّ وَيُؤْثِرُ أَنْ لَا يُحْوِجَهُ إلَى تَأْدِيبٍ، وَبِمَنْزِلَةِ الطَّبِيبِ الَّذِي يَسْقِي الْمَرِيضَ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ
وَبِمَنْزِلَةِ قَطْعِ الْعُضْوِ الْمُتَآكِلِ، وَالْحَجْمِ، وَقَطْعِ الْعُرُوقِ بالفساد، وَنَحْوِ ذَلِكَ؛ بَلْ بِمَنْزِلَةِ شُرْبِ الْإِنْسَانِ الدَّوَاءَ الْكَرِيهَ، وَمَا يُدْخِلُهُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ لِيَنَالَ بِهِ الرَّاحَةَ.
فَهَكَذَا شُرِعَتْ الْحُدُودُ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ نِيَّةُ الْوَالِي فِي إقَامَتِهَا، فإنه مَتَى كَانَ قَصْدُهُ صَلَاحَ الرَّعِيَّةِ وَالنَّهْيَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ، بِجَلْبِ الْمَنْفَعَةِ لَهُمْ، وَدَفْعِ الْمَضَرَّةِ عَنْهُمْ، وَابْتَغَى بِذَلِكَ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى
وَطَاعَةَ أَمْرِهِ: أَلَانَ اللَّهُ لَهُ الْقُلُوبَ، وَتَيَسَّرَتْ لَهُ أَسْبَابُ الْخَيْرِ، وَكَفَاهُ الْعُقُوبَةَ الْبَشَرِيَّةَ، وَقَدْ يُرْضِي الْمَحْدُودَ
إذَا أَقَامَ عَلَيْهِ الْحَدَّ. وَأَمَّا إذَا كَانَ غَرَضُهُ الْعُلُوَّ عَلَيْهِمْ، وَإِقَامَةَ رِيَاسَتِهِ لِيُعَظِّمُوهُ، أَوْ لِيَبْذُلُوا لَهُ مَا يُرِيدُ مِنْ الْأَمْوَالِ، انْعَكَسَ عَلَيْهِ مَقْصُودُهُ "
انتهى من "السياسة الشرعية" (79-80) .