الشارع السطايفي لازال تحت تأثير الصدمة
صبي ذو 14 عاما يقتل أمه الحامل
لو كان الروائي الكبير بيرل باك حيا، لألّف فصلا جديدا من فصول روايته الشهيرة ''مأساة أم''، لكن الفرق بين أم بيرل باك وأم الطفل ''ع.ع'' أن الأولى تعذب قلبها وهي تشاهد موت أبنائها الواحد تلو الآخر، والثانية موتها كان على يد وليدها.. فالفقر والحرمان كانا السبب المباشر في حدوث مأساة سوف لن ينساها قراء رواية ''مأساة أم'' كما سوف لن ينساها سكان قرية ''أولاد يحيى'' شمال ولاية سطيف.
''الخبر'' تنقلت إلى قرية أولاد يحيى ببلدية تالة إيفاسن الواقعة في أقصى شمال ولاية سطيف، وهي قرية معزولة تقع في مرتفع جبلي يصعب الوصول إليها بسبب وضعية الطرق المتدهورة. وفور وصولنا اتجهنا إلى بيت العائلة التي اهتزت على وقع جريمة مازال الشارع السطايفي تحت تأثير صدمتها القوية، لأنها سابقة لم تحدث مطلقا في عالم الإجرام بالولاية.
ولدى وصولنا إلى بيت العائلة، وجدنا الجد رفقة أبناء المرحومة خارج البيت يستقبلون التعازي. وفور علمهم بتواجد ''الخبر'' بينهم تهافتوا علينا وعرضوا علينا القهوة. فرغم ظروف الفقر القاسية، إلا أن سكان هذه المناطق يُعرفون بالكرم، مصداقا للمثل الشعبي القائل ''زوالي وفحل''.. ورغم المصاب الجلل الذي ألمّ بهم إلا أنهم استقبلونا بمظهر المبتسم الراضي بقضاء الله وقدره.
اقتربنا من الجد الذي أخبرنا بأن زوج الضحية غير موجود، وأنه مستعد للحديث معنا في الموضوع قبل أن يروي لنا تفاصيل الحكاية بنفسه ''عشية يوم الخميس بتاريخ 11 من هذا الشهر، وجدت الضحية خارج البيت تنتظر شخص ما، ولدى استفساري عن الأمر، أخبرتني أن زوجها سيكون في العمل، وتريد أن تزور أحد أقربائها، وهي تنتظر أحدهم ليوصلها إلى المكان الذي تريد، لكنها لم تذهب في تلك العشية.. وفي الليل طلبت من ابنها ''ع'' أن يوصل الطعام إلى والده الذي يعمل كحارس ليلي في شركة مختصة في تهيئة الطريق الولائي رقم 32، لكنه رفض ذلك، فأمرت أخاه الصغير بأن يقوم بذلك على أن يذهب معه إلى غاية منطقة توجد خارج القرية ويعود إلى البيت، بينما يبقى الصغير عند والده إلى غاية الصباح خوفا عليه في حالة رجوعه ليلا لوحده إلى البيت. وبعد عودته إلى البيت، وفي حدود منتصف الليل سمعت صراخا، ومباشرة خرجت مهرولا إلى مصدر الصراخ لأجد أحد أبنائي خارج البيت وهو يردد في حيرة ''لقد ماتت، لقد ماتت'' وعندما سألت عن الأطفال أخبروني بأن ''ع'' خرج من الباب مسرعا في رعب ولم نعرف أين اتجه.. مباشرة أمرنا بضرورة اللحاق به خوفا من تعرضه لمكروه.. ولدى عودته كان يسأل ويردد ''لقد قتلوها، لقد قتلوها، هل ماتت؟''.
ومباشرة في الصباح تم إخبار فرقة الدرك الوطني للمنطقة، والتي تنقلت فور سماعها للخبر إلى بيت الضحية لإجراء تحقيق في ملابسات القضية، وتم استدعاء أفراد العائلة لإجراء تحقيق والاستماع لشهاداتهم، على اعتبار أن الطفل وحده من كان رفقة أمه فقد كان التركيز عليه في التحقيق. وبالفعل بعد محاولات عديدة، اعترف بأنه من قتل أمه. وبعد نقل جثة الضحية إلى المستشفى بولاية سطيف لإجراء عملية التشريح الطبي، اتضح أن الأم تعرضت لطعنات قاتلة بخنجر على مستوى الجهة اليمنى، وهي طعنة بليغة جدا، وطعنة ثانية كانت على مستوى الوجه بجانب العين اليمنى، والثالثة في الرأس بجانب الأذن اليسرى.
وقد تم تشييع جنازة المرحومة عشية الاثنين الماضي بمقبرة أولاد يحيى بحضور جمع غفير من الناس الذين بكوا كثيرا تأثرا بالمأساة، خصوصا وأن الأم الضحية كانت حاملا، وقد تم تخصيص عملية تضامنية بجمع مبلغ من المال يقدر بحوالي 12 مليون سنتيم لعائلة الضحية، وهي المبادرة التي لقيت استحسانا كبيرا من الناس.
وخلال تواجدنا بالقرية، حاولنا التحدث مع السكان لمعرفة أسباب لجوء طفل في الرابعة عشر من عمره لقتل والدته. فكان الإجماع على أن الظروف الاجتماعية القاسية هي السبب المباشر لهذه الكارثة ''فهل يعقل في جزائر 2008 أن تعيش عائلة من 08 أفراد في غرفة واحدة لا تصلح حتى للبهائم''..
وقد تنقلنا إلى البيته، وفعلا هو بيت لا تتعدى مساحته الـ 16 مترا مربعا، جدرانه اسودت من الأوساخ، وسقفه من القرميد محشو بالديس، وأرضيته مجرد إسمنت لا يتعدى سمكه 3 سنتم، فضلا عن ذلك لا يملكون مرحاضا، لأن مرحاضهم في الهواء الطلق خلف جدران المنزل، ولا يملكون مطبخا لإعداد الطعام، لأن مطبخهم الوحيد يوجد بالقرب من المكان المخصص كمرحاض ولا تتعدى مساحته 3 متر مربع وطوله متر ونصف. وفضلا عن هذا أيضا، لا يملكون الكهرباء لعدم قدرة الوالد على تسديد الفاتورة لأنه عاطل عن العمل، وعمله الجديد لم يمر عليه أكثر من شهر، وسنه يتجاوز الخمسين سنة. وحسب الجد، فإن هذه العائلة أحيانا ''يقضون ثلاثة أيام أو أكثر دون طعام''.
هذه الظروف القاسية كانت السبب في تحول هؤلاء الأطفال إلى عدوانيين ناقمين على الحياة والمجتمع، لأنهم لم يتلقوا أي تعليم أو تربية، ولم يعرفوا سوى الحرمان والفقر والجوع. وقد لاحظنا سخط السكان على المسؤولين، وصبوا جام غضبهم علينا، لكننا أقنعناهم بأننا لا نملك لهم من الأمر شيئا، ودورنا الوحيد هو أن نوصل مأساة العائلة إلى هؤلاء المسؤولين لإنقاذ ما تبقى إنقاذه. وغادرنا القرية، وكلهم أمل في أن يأتي اليوم الذي يتدخل فيه أصحاب الأمر والنهي ليحققوا لهم بعضا من الحياة الكريمة.
المصدر : الخبر