|
قسم الكتاب و السنة تعرض فيه جميع ما يتعلق بعلوم الوحيين من أصول التفسير و مصطلح الحديث .. |
في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .
آخر المواضيع |
|
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
|
2015-10-09, 13:44 | رقم المشاركة : 1 | ||||
|
علامات النبــوة
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.المقدمة أما بعد؛ فإن الله عزَّ وجلَّ بعث محمدًا صلى الله عليه وسلم بعد ستمائة سنة من رفع المسيح عيسى بن مريم عليه السلام، وكانت فترة طويلة تحرفت فيها الأديان وكثرت عبادة الأوثان وظهر الفساد في البر والبحر وانتشر الطغيان والظلم والجهل في البادية والحضر، إلا قليلا من أحبار اليهود والنصارى والصابئين، فبعثه الله تبارك وتعالى للخلق كافة إنسهم وجنهم عربهم وعجمهم أبيضهم وأسودهم وأصفرهم رحمة مهداة من لدنه سبحانه بين يدي الساعة، وهاديًا إلى الله بإذنه ومبشرًا ونذيرًا، ﴿تَبَارَكَ الَّذي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾، ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾، وأَيَّدَه تبارك وتعالى بكتابه الكريم القرآن العظيم المثبت لرسالته والمؤكِّد لنبوته؛ فبدأ بدعوة قومه قريش إلى عبادة الله وحده وترك عبادة الأصنام التي لا تضر ولا تنفع ولا تبصر ولا تسمع، ونهاهم عن الدماء والفواحش ووأد البنات وقول الزور وأكل مال الأيتام، وأمرهم بالصلاة والزكاة والصيام والصدق والعفاف وصلة الأرحام، فاستكبر قومه وكذبوه؛ غضبًا لآلهتهم، ونصبوا له العداوة وانطلقوا يرمونه بشتى التهم ويصفونه بالمجنون وبالساحر وبالكذاب وبالكاهن وبالشاعر، فما صدت تلك التهم الناس عن متابعته، ولم تثنهم عن الإيمان برسالته و التصديق بنبوته، ودخل الناس في الدين الجديد أرسالاً، فلما رأت قريش ذلك ناكرت محمد صلى الله عليه وسلم أشد مناكرة، وأجمعت على خلافه وعداوته وعداوة من اتبعه، فكان المؤمن فيهم يفتن في دينه إمَّا قتلوه وإمَّا عذبوه، وتربصوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يريدون قتله فصرفهم الله عنه وعصمه منهم، ثم هاجر بأصحابه رضوان الله عليهم إلى المدينة، فقدمها بعد ثلاث عشرة سنة من الدعوة المحروبة في مكة؛ حيث عتت قريش على الله تبارك وتعالى وردوا عليه ما أرادهم به من الكرامة، وكذبوا نبيه صلى الله عليه وسلم واستكبروا عن متابعته وعذبوا من آمن بالله تعالى وحده وكفر بآلهتهم وسفه أحلامهم. فلما اطمأن النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة واجتمع إليه المهاجرون من مكة ومن غيرها من بلاد العرب استحكم شأن الإسلام، فقامت الصلاة وفرضت الزكاة وقامت الحدود، ثم أذن الله تبارك وتعالى للنبي صلى الله عليه وسلم بالقتال والانتصار ممن ظلمهم وبغى عليهم، فتهيأ النبي صلى الله عليه وسلم لحربه وقام فيما أمره الله من جهاد عدوه وقتال من أمره الله بقتاله ممن يليه من المشركين، فكان من أمر البطشة الكبرى ببدر ما كان، وظلت الحرب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم والمشركين سجالا ينال منهم وينالون منه حتى غلبهم على أمره وقهرهم وظهر عليهم، وجعل كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، وصدق الله وعده حيث يقول: ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ * فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ﴾، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحًا ظاهرًا منصورًا بعد ثمان سنوات من خروجه منها؛ فحطَّم الأصنام التي كانت تملأ المسجد الحرام وطهره من الرجس والأوثان، وجعل سجدة الناس لله الواحد القهار ودانت له قريش وخضعت له العرب واستيقنت صدقه لمَّا لم يصبه ما أصاب إبرهة وجنده من العذاب المعلوم، فأسلم الناس ودخلوا في دين الله أفواجًا، ولم ينتقل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا بعد أن أقام العرب على الحنيفية السمحاء والمحجة البيضاء فصلى الله عليه وسلم تسليمًا كثيرًا. وقد أيد الله تبارك وتعالى نبيه بمعجزات كثيرة وفي مقدمتها كلامه تبارك وتعالى ألا وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو أشهر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم. ومن وجوه إعجازه حسن تأليفه وظهور بلاغته واستحالة مجاراته وجدة أسلوبه واختلافه عن قواعد النظم و النثر المعروفة آنذاك، هذا إلى جانب ما يلحق تاليه من الخشية وما يعتري سامعه من الهيبة وكونه لا يكل قارئه ولا يمل سامعه، وهذا فيما سواه من الكلام معدوم، هذا مع سهولة حفظه ويسر تلاوته، ومن وجوه إعجازه أيضًا ما اشتمل عليه من أخبار الحوادث الماضية التي لم يكن يعلم تفصيلها سوى أفراد قلائل من أهل الكتاب، ولم يُعلم مما ثبت من سيرته صلى الله عليه وسلم أنه اجتمع بأحد منهم أو أخذ عنهم، هذا إلى جانب إخباره بما سيقع، فوقع على وفق ما أخبر به في زمنه صلى الله عليه وسلم وبعده، مثل استحالة مجاراة القرآن ولو بسورة وغلب الروم وهزيمة المشركين في بدر ودخول المسجد الحرام واستخلاف المؤمنين وعُلُوّ كلمة الإسلام وأهله، هذا إلى ما فيه من الأمور العلمية التي لم يُحِطْ بها أحد إلا في السنوات القليلة الماضية من الإشارة إلى نشأة السماوات والأرض من مادة منضمة متماسكة، وإلى دوران الأرض وإلى الجاذبية والكلام عن انخفاض الضغط الجوي بازدياد الارتفاع عن سطح الأرض، والتصريح بكون الرياح لواقح، وغير ذلك من الآيات التي تبرز صدق هذا الكتاب المقدس وتجزم بشكل تام أنه موحى من عند الله عزَّ وجلَّ، وعلى الرغم من نزول القرآن قبل قرون كثيرة من عصر العلوم الحديثة فإن أحدًا لم يتمكن من إثبات أيَّةَ أخطاء علمية فيه، ولو أنه كان كلامًا بشريًا لكان هذا ضربًا من المستحيل؛ خاصة وأن أفكار الناس في زمنه صلى الله عليه وسلم عن الكون وأمور العلم الأخرى ستبدو لغوًا باطلًا ساذجًا لو درسناه في ضوء معلومات العصر الحاضر. وأمَّا ما عدا القرآن من انشقاق القمر وهطول المطر ونبع الماء من بين أصابعه صلى الله عليه وسلم وتكثير الطعام و نطق الجماد؛ كتسبيح الطعام وهو يؤكل وحنين جذع النخلة وانقياد الشجر والإخبار بمصارع المشركين ليلة بدر قبل مصرعهم ونعي أمراء مؤتة قبل أن يأتي الخبر بمقتلهم والإخبار عن شهادة عمر وعثمان وعلي وإنفاق كنوز كسرى وقيصر في سبيل الله، وعن إصلاح الحسن الفئتين وعن مقتل الحسين وعن فتح القسطنطينية قبل رومية وعن وفاته صلى الله عليه وسلم في مرضه الأخير وإخباره فاطمة عليها السلام أنها أول من لحق به من أهله، كل هذه المعجزات قد رواها العدد الكثير وأفادت القطع عند أهل العلم بالآثار والعناية بالسير والأخبار وذكر النووي في مقدمة شرح مسلم أن معجزات النبي صلى الله عليه وسلم تزيد على ألف ومائتين وقال البيهقي في المدخل: بلغت ألفًا. ولا أقول أني قد أحطت في هذه الرسالة بجميع علامات نبوته صلى الله عليه وسلم فهي أكبر من أن تحيط بها مثل هذه الرسالة القصيرة؛ ولكنني قد أظن أني جمعت فيها من النقول الصريحة والأحاديث الصحيحة ما يكفي الملحد - غير المعاند - ليرجع عن إلحاده بإذن الله وأهل الكتاب؛ ليستيقنوا أن الله تبارك وتعالى قد أرسل بعد موسى وعيسى عليهما السلام رسولا نبيًا اسمه محمد صلى الله عليه وسلم جاء بدين الإسلام، وأنه لا حظ لهم في الجنة ولا نصيب لهم من ولاية موسى وعيسى عليهما السلام إلا باتباعهم دين الإسلام وترك ما هم عليه من جرأتهم على الله عزَّ وجلَّ أو ادعائهم له الولد، كبرت كلمة تخرج من أفواههم وتعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا ليحيا من حي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾، والله اسأل أن يهدي بهذه الرسالة خلقًا كثيرًا من عباده وأن يكثر بها ثوابي وأن يجعلها من الأعمال التي لا ينقطع عني نفعها وخيرها بعد أن أدرج في أثوابي، وأنا سائل أخًا انتفع بشيء منها أن يدعو لي ولوالدي وللمسلمين أجمعين، وعلى الله الكريم اعتمادي وإليه تفويضي واستنادي وحسبي الله ونعم الوكيل ولا حول ولا قوة إلا بالله العزيز الحكيم. عبد الملك علي الكليب
|
||||
2015-10-09, 13:46 | رقم المشاركة : 2 | |||
|
تبشير الأمم السابقة ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم ذكر ابن إسحاق أن الكهان من العرب والأحبار من اليهود والرهبان من النصارى كانوا قد تحدثوا بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه لما تقارب من زمان بعثته، أمَّا الأحبار والرهبان فعمَّا وجدوا في كتبهم من صفته وصفة زمانه وما كان من عهد أنبيائهم إليهم فيه؛ فمنهم من سماه باسمه ومنهم من ذكره بصفته ومنهم من أضافه إلى بلده و منهم من خصَّه بأفعاله؛ قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾، وأما الكهان فأتتهم به الشياطين من الجن فيما تسترق من السمع؛ إذ كانت لا تحجب عن ذلك بالقذف بالنجوم وكان الكاهن والكاهنة لا يزال يقع منها ذكر بعض أموره لا تلقي العرب لذلك فيه بالا حتى بعثه الله تعالى ووقعت تلك الأمور التي كانوا يذكرون فعرفوها (1). ([1]) السيرة النبوية لابن هشام (1/217). |
|||
2015-12-27, 23:40 | رقم المشاركة : 3 | |||
|
هدا جيد جدا جزاك الله كل خير |
|||
2015-10-09, 13:49 | رقم المشاركة : 4 | |||
|
إخبار الكهان روى البخاري في الصحيح([1]) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: ما سمعت عمر لشيء قط يقول: إني لأظنه كذا. إلا كان كما يظن؛ بينما عمر جالس إذ مر به رجل جميل فقال: لقد أخطأ ظني، أو إن هذا على دينه في الجاهلية، أو لقد كان كاهنهم، عليَّ الرجل. فدعي له فقال له ذلك فقال: ما رأيت كاليوم استقبل به رجل مسلم. قال: فإني أعزم عليك إلامَ أخبرتني. قال: كنت كاهنهم في الجاهلية. قال: فما أعجب ما جاءتك به جنَّيتُك؟ قال: بينما أنا يومًا في السوق جاءتني أعرف فيها الفزع فقالت: ألم تر الجن وإبلاسها([2]) ويأسها من بعد إنكاسها([3]) ولحوقها بالقلاص([4]) وأحلاسها([5])؟ قال عمر: صدق بينما أنا عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل فذبحه فصرخ به صارخ([6]) لم أسمع صارخًا أشد منه يقول: يا جليح([7]) أمر نجيح، رجل فصيح يقول: لا إله إلا أنت فوثب القوم، قلت: لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا. ثم نادى: يا جليح، أمر نجيح رجل فصيح يقول: لا إله إلا الله، فقمت فمانشبنا([8]) أن قيل: هذا نبي([9]). ([1]) نقلت أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأفعاله عن طريق الأحاديث المسندة، وهي التي يتصل إسنادها بنقل العدل الثقة الثبت عن مثله حتى ينتهي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يكون شاذًا ولا معللا بعلة قادحة. ومثال ذلك الحديث الذي رواه مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله» الموطأ (33). ([2]) المراد به اليأس بعد الرجاء ([3]) أي يئست من استراق السمع فانقلبت يائسة. ([4]) القلاص من الإبل: الفتية. ([5]) الإحلاس جمع حلس وهو كساء رقيق يوضع على ظهر الجمل تحت الرحل. ([6]) أي من جوف العجل كما في رواية أخرى عند ابن إسحاق. ([7]) ومعناه الوقح ويحتمل أن يكون نادى رجلا بعينه. ([8]) أي لم نتعلق بشيء من الأشياء حتى سمعنا أن النبي ص قد خرج، يريد أن ذلك كان قرب مبعث النبي صلى الله عليه وسلم. ([9]) فتح الباري (8/178). |
|||
2015-10-09, 13:51 | رقم المشاركة : 5 | |||
|
إخبار اليهود وكانوا باقتراب بعثته صلى الله عليه وسلم عالمين وبنبوته مؤمنين؛ فقد جاء في التوراة صفته ونعته؛ فمن ذلك ما جاء فيها عن موسى عليه السلام: (قال لي الرب: قد أحسنوا فيما تكلموا، أقيم لهم نبيًا من وسط إخوتهم مثلك واجعل كلامي في فمه فيكلمهم بكل ما أوصيه به، ويكون أن الإنسان الذي لا يسمع لكلامي الذي يتكلم به باسمي أنا أطالبه)([1]) وفي النسخ القديمة: (فأنا أنتقم منه). ومن المعلوم لكل أحد أنه لم يقم في بني إسرائيل بعد موسى نبي مثله والدليل على ذلك من التوراة نفسها: (ولم يقم بعد نبي في بني إسرائيل مثل موسى الذي عرفه الرَّب وجهًا لوجهه)([2]). ومن المعلوم أيضًا أن إخوة بني إسرائيل هم بنو إسماعيل وليس منهم من ظهر كلام الله تبارك وتعالى على فمه غير محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو الذي تكلم بكلام الله عزَّ وجلَّ وهو القرآن الكريم، وهو الذي انتقم الله ممن عصاه وخالف أمره، وقد علم كل أحد ما حلَّ باليهود في عهده صلى الله عليه وسلم جزاءً وفاقًا على كفرهم بما أرسل به. وقد ثبت في إنجيل يوحنا (يحيى عليه السلام) أن اليهود كانوا ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يأتي بعد المسيح عليه السلام؛ ففي هذا الإنجيل: (وهذه هي شهادة يوحنا حين أرسل اليهود من أورشليم كهنة ولاويين ليسألوه من أنت؟ فاعترف ولم ينكر وأقر: إني لست أنا المسيح، فسألوه إذًا ماذا؟ إيليا أنت؟ فقال لست أنا. النبي أنت؟ فأجاب: لا. فقالوا له: من أنت لنعطي جوابًا للذين أرسلونا؟ ماذا تقول عن نفسك؟ قال: أنا صوت صارخ في البرية)([3]). ففي هذا النص دليل قوي على أن اليهود كانوا ينتظرون إيليا والمسيح ونبي يأتي بعد المسيح. فمن هو هذا (النبي) الذي جاء لفظه في الإنجيل مثل لفظه في التوراة مثل لفظه في القرآن إلا أن يكون محمدًا صلى الله عليه وسلم. ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آَمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾. ([1]) الكتاب المقدس: سفر التثنية، الإصحاح الثامن عشر. ([2]) الكتاب المقدس: سفر التثنية، الإصحاح الرابع والثلاثون. ([3]) انجيل يوحنا: الإصحاح الأول. |
|||
2015-10-09, 13:53 | رقم المشاركة : 6 | |||
|
تبشير اليهود ببعثته صلى الله عليه وسلم وكانت اليهود تحدث العرب ببعثته صلى الله عليه وسلم؛ فقد روى أحمد في مسنده عن سلمة بن سلامة بن وقش رضي الله عنه، وكان من أصحاب بدر قال: كان لنا جار من يهود في بني عبد الأشهل، قال: فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بيسير فوقف على مجلس عبد الأشهل، قال سلمة: وأنا يومئذ أحدث من فيه سِنًّا عليَّ بردة مضطجعًا فيها بفناء أهلي فذكر البعث والقيامة والحساب والميزان والجنة والنار، فقال ذلك لقوم أهل شرك أصحاب أوثان لا يرون أن بعثًا كائن بعد الموت فقالوا له: ويحك يا فلان ترى هذا كائنًا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار يجزون فيها بأعمالهم؟ قال: نعم, والذي يحلف به لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه ثم يدخلونه إياه فيطبق به عليه وأن ينجو من تلك النار غدًا، قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد. وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى تراه؟ قال: فنظر إلي وأنا من أحدثهم سنًّا فقال: إن يستفذ هذا الغلام عمره يدركه. قال سلمة: فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم وهو حي بين أظهرنا فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا فقلنا: ويلك يا فلان ألست بالذي قلت لنا فيه ما قلت؟ قال: بلى وليس به([1]). قال الهيثمي: رجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق وقد صرَّح بالسماع([2]) وصححه ابن حِبَّان. وروى يعقوب بن سفيان عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يهودي قد سكن مكة، فلما كانت الليلة التي ولد فيها النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا معشر قريش، هل ولد فيكم الليلة مولود؟ قالوا: لا نعلم. قال: انظروا فإنه ولد في هذه الليلة نبي هذه الأمة بين كتفيه علامة لا يرضع ليلتين؛ لأن عفريتًا من الجن قد وضع يده على فمه، فانصرفوا فسألوا فقيل له: قد ولد لعبد الله بن عبد المطلب غلام. فذهب اليهودي معهم إلى أمه فأخرجته لهم فلما رأى اليهودي العلامة خر مغشيًا عليه، وقال: ذهبت النبوة من بني إسرائيل، يا معشر قريش أما والله ليسطون بكم سطوة يخرج خبرها من المشرق والمغرب، قال الحافظ بن حجر في الفتح: إسناده حسن([3]). وعن حسان بن ثابت رضي الله عنه قال: والله إني لغلام يفعة ابن سبع سنين أو ثمان أعقل كل ما سمعت؛ إذ سمعت يهوديًا يصرخ بأعلى صوته على أطمة([4]) بيثرب: يا معشر يهود. حتى إذا اجتمعوا إليه قالوا له: ويلك! مالك؟ قال: طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به، رواه ابن إسحاق([5]) وإسناده حسن. ([1]) المسند (3/467). ([2]) مجمع الزوائد (8/230). ([3]) الفتح (7/394). ([4]) الأطمة: الحصن. ([5]) السيرة النبوية لابن هشام (1/168). |
|||
2015-10-09, 15:03 | رقم المشاركة : 7 | |||
|
بارك الله فيك |
|||
2015-10-10, 10:48 | رقم المشاركة : 8 | |||
|
إخبار النصارى وكذلك كان النصارى يترقبون مبعثه صلى الله عليه وسلم، وقد أخبر الله عزَّ وجلَّ أن المسيح بن مريم عليه السلام قد بشر بني إسرائيل ببعثته صلى الله عليه وسلم وسماه لهم في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾.وقد علم كل أحد ما طرأ على النصرانية من تحريف خرج بها من عداد الأديان السماوية التي جاءت بالتوحيد وجعلها في مصاف الأديان الوثنية أديان الشرك والتضليل وخاصة بعد مجمع نيقية عام 325م. حيث اضطهد العلماء القائلين بأن المسيح عليه السلام رسول ككل الرسل ونفي بعضهم وقتل البعض الآخر، واتخذ القائلون بالتثليث وألوهية المسيح عليه السلام وكانوا يقلون عن سدس المجتمعين قرارًا بذلك وفرض ذلك على النصارى جميعًا وقرروا أيضًا اختيار الأناجيل التي توافق القرار السابق وأمروا بحرق الأناجيل الأخرى فضلوا وأضلوا. ولكن يشاء الله عزَّ وجلَّ أن ينجو أحد هذه الأناجيل من أيدي الظلمة ويصل إلى أيدي المسلمين وهو ولله الحمد يزجر بالتوحيد وبالتبشير بالنبي صلى الله عليه وسلم صراحة باسمه، ألا وهو إنجيل برنابا. وقد حاول دعاة النصارى أن ينكروا نسبة هذا الإنجيل لبرنابا الذي هو أحد حواريي المسيح عليه السلام, وأن يرموا به المسلمين وأن واحدًا منهم هو الذي وضعه، ولكنهم غفلوا عن أمور كثيرة؛ منها أن البابا جلاسيوس الأول الذي جلس على أريكة البابوية سنة 492م أصدر أمرًا يعدد فيه أسماء الكتب المنهي عن مطالعتها وفي عدادها كتاب يسمى (إنجيل برنابا) فهذا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم بتسع وسبعين سنة([1]). ولقد لبث هذا الإنجيل في مكتبة البابا التي كانت في مأمن من التفتيش والمحاسبة قرونًا طويلة، ثم كُتِب لراهب لاتيني اسمه فرام رينو العثور على هذا الإنجيل في مكتبة البابا سكتس الخامس في أواخر القرن السادس عشر الميلادي فلما طالعه اعتنق الإسلام على الفور([2]). ومما يدل على أن إنجيل برنابا كُتِب قبل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بزمن طويل أنه يُكفر القائلين بأن المسيح هو الله، أو ابن الله، ولم يتعرض للذين يقولون أنه ثالث ثلاثة، ومن المعلوم أن القول الأخير لم يظهر إلا في مجمع نيقية عام 325م وكان عدد الحضور 2048 من الآباء الروحانيين، وتبنى أغلبهم مذهب آريوس القائل بأن "الأب وحده الله، والابن مخلوع مصنوع، وقد كان الأب إذ لم يكن الابن" تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا فاختلف المجتمعون وتضاربوا فأصدر الإمبراطور قسطنطين الكبير قرارًا بفض المجمع ثم أُعيد عقده بعد ذلك ولم يحضره إلا الأعضاء القائلون بالتثليث وبألوهية المسيح وكان عددهم 318 وحضر الإمبراطور نفسه هذا الاجتماع واتخذت فيه قرارات خطيرة وضعت الأساس للمسيحية التي لا تزال تتبعها الكنائس. ومن أهمها القول بالتثليث وألوهية المسيح ونزوله ليصلب تكفيرًا عن خطيئة البشر واختيار الكتب التي يسمونها المقدسة زورًا وبهتانًا والتي لا تتعارض مع القرار السابق وتدمير ما عداها من الرسائل والأناجيل، فلو كان هذا الإنجيل من وضع المسلمين لتطرق إلى تكفير المثلثة ولكنه كتب قبل ذلك المجمع بزمن طويل. ومما غفل عنه متعصبة النصارى أنه لو كان أحد المسلمين هو الذي وضعه بغرض مجادلة النصارى لوُرد ذكر هذا الإنجيل في تلك المجادلات التاريخية المشهورة بين المسلمين والنصارى ولكان أمضى سلاح للمسلمين في مثل تلك المناظرات، فلما لم يحتج بذلك أحد من المسلمين عُلم أنهم كانوا به جاهلين ومن تهمة وضعه بريئين. ومن ذلك أنه لم يرد في إنجيل برنابا ذكر كلام المسيح عليه السلام لبني إسرائيل في المهد ولم يرد كذلك إخباره بما يدخرون في بيوتهم ولا المائدة التي أُنزلت من السماء عليه وعلى الحواريين، ولو أن مسلمًا أراد أن يضع إنجيلا لوضعه مستعينًا بالأصول التي ثبتت في الكتاب والسنة ولسمَّاه الإنجيل أو إنجيل عيسى. وأول من عثر على النسخة الإيطالية لهذا الإنجيل هو كريمر أحد مستشاري ملك بروسيا وكان مقيمًا وقتئذ في أمستردام، فأخذها سنة 1709 من مكتبة أحد مشاهير المدينة المذكورة، ثم أهداها كريمر بعد ذلك إلى البرنس أيوجين سافوي، ثم انتقلت النسخة المذكورة سنة 1738 مع سائر مكتبة البرنس إلى مكتبة البلاط الملكي في فيينا حيث لا تزال هناك حتى الآن. وقد جاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في إنجيل برنابا في قرابة سبعًا وأربعين موضعًا منها ما هو بصريح الاسم، ومنها أنه "مسيا" رسول الله أمل بني إسرائيل، ومنها أنه رسول الله الذي يأتي بعد عيسى بن مريم عليه السلام. فمن ذلك ما جاء في الفصل السابع والتسعين من هذا الإنجيل: "... فقال حينئذ الكاهن: ماذا يُسمَّى مسيا وما هي العلامة التي تعلن مجيئه؟ أجاب يسوع: إن اسم مسيا عجيب؛ لأن الله نفسه سمَّاه لما خلق نفسه ووضعها في بهاء سماوي، قال الله: "اصبر يا محمد لأني لأجلك أريد أن أخلق الجنة والعالم وجمًا غفيرًا من الخلائق التي أهبها لك، حتى أن من يباركك يكون مباركًا ومن يلعنك يكون ملعونًا ومتى أرسلتك إلى العالم أجعلك رسولي للخلاص وتكون كلمتك صادقة حتى أن السماء والأرض تهنان ولكن إيمانك لا يهن أبدًا" إن اسمه المبارك محمد، حينئذ رفع الجمهور أصواتهم قائلين: يا الله أرسل لنا رسولك، يا محمد تعال سريعًا لخلاص العالم. ومن ذلك ما جاء في الفصل الثاني والأربعين منه: "... فإن رؤساء الكهنة تشاوروا فيما بينهم ليتسقطوه بكلامه لذلك أرسلوا اللاويين وبعض الكتبة يسألونه قائلين: من أنت؟ فاعترف يسوع وقال: "الحق إني لست مسيا" فقالوا: أأنت إيليا أو أرميا أو أ حد الأنبياء القدماء؟ أجاب يسوع: "كلا" حينئذ قالوا: من أنت؟ قل لنشهد للذين أرسلونا فقال حينئذ يسوع: "أنا صوت صارخ في اليهودية كلها يصرخ: أعدوا طريق رسول الرَّب؟ كما هو مكتوب في أشعيا" قالوا: إذا لم تكن المسيح ولا إيليا أو نبيًا ما، فلماذا تبشر بتعليم جديد وتجعل نفسك أعظم شأنًا من مسيا؟ أجاب يسوع: "إن الآيات التي يفعلها الرَّب على يدي تظهر أني أتكلم بما يريد الله، ولست أحسب نفسي نظير الذي تقولون عنه؛ لأني لست أهلا أن أحل رباطات جرموق أو سيور حذاء رسول الله الذي تسمونه مسيا الذي خلق قبلي وسيأتي بعدي بكلام الحق ولا يكون لدينه نهاية فانصرف اللاويون والكتبة بالخيبة". فهذا بعض ما ورد في إنجيل برنابا، وقد جاء في إنجيل يوحنا قول عيسى عليه السلام للحواريين: "أنا ذاهب وسيأتيكم البار قليط([3]) روح الحق ا لذي لا يتكلم من قبل نفسه إلا كما يقال له، وهو يشهد عليَّ وأنتم تشهدون لأنكم معي من قبل الناس وكل شيء أعدَّه الله لكم يخبركم به"([4]) وجاء في إنجيل يوحنا أيضًا: "أن البار قليط لا يجيئكم ما لم أذهب فإذا جاء وبَّخ العالم على الخطيئة ولا يقول من تلقاء نفسه شيئًا ولكن مما يسمع به يكلمكم ويسوسكم بالحق ويخبركم بالحوادث والغيوب"([5]). ([1]) ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة يوم الاثنين الموافق 20 إبريل سنة 571 م. ([2]) راجع مقدمة إنجيل برنابا. ([3]) البار قليط بلغتهم: أي الذي له حمد كثير, فتأمل توافق المعنى مع اسمه عليه الصلاة والسلام. ([4]) إنجيل يوحنا: الإصحاح الخامس عشر. ([5]) إنجيل يوحنا: الإصحاح السادس عشر. |
|||
2015-10-10, 10:51 | رقم المشاركة : 9 | |||
|
|
|||
2015-10-10, 10:53 | رقم المشاركة : 10 | |||
|
|
|||
2015-10-10, 11:07 | رقم المشاركة : 11 | |||
|
خُلُق النبي صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة واشتهاره بالصدق ومكارم الأخلاق ذلك ما كان من أمر التبشير ببعثته صلى الله عليه وسلم، أما ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم من خلق فقد حفظ لنا التاريخ صحيفة بيضاء ناصعة لحياته صلى الله عليه وسلم قبل إعلان النبوة وبعدها، ومما حفظ أنه صلى الله عليه وسلم اشتهر بالصدق والأمانة، وأجمعت قريش على أنه يستحيل أن يكذب أو يغدر أو يخون الأمانة وكانوا يلقبونه بالصادق الأمين حتى أنه ليس بمكة أحد عنده شيء يخشى عليه إلا كان يضعه عنده لما يعلم من صدقه وأمانته، لذلك لم يكن صدقه صلى الله عليه وسلم حين إعلان النبوة موضع شك أو بحث مطلقًا لدى أهل مكة، فإنهم كانوا على علم تام بحياته الكاملة ولذلك لم يرمه أحد بتهمة الكذب أو الاحتيال في أول الأمر بل ذهبوا يدعون أنه فقدَ وعيه أو أنه شاعر أو ساحر أو مجنون، إلا أن الدارس المنصف لحياته صلى الله عليه وسلم يعلم يقينًا أن الطهر والصدق كانا أخص شمائله صلى الله عليه وسلم وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها وقد شهد بذلك الأصدقاء والأعداء. وإليك بعضًا من شهادات أعدائه صلى الله عليه وسلم لتعرف مبلغ صدقه وأمانته في دعوى الوحي وأنه لم يكن ليأتي بشيء من القرآن من تلقاء نفسه ثم يقول هذا من عند الله.
|
|||
2015-10-10, 11:10 | رقم المشاركة : 12 | |||
|
شهادة المشركين أول البعثة روى البخاري ومسلم في صحيحيهما عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لما نزلت: ﴿وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ صعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر، يا بني عدي» لبطون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي؟» قالوا: نعم, ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: «إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟ فنزلت ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ﴾([1]). فانظر رحمك الله وتأمل في شهادة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم بالصدق طيلة عمره معهم: ما جربنا عليك إلا صدقًا. أي أنهم لم يحفظوا عليه كذبة واحدة قبل أن يقول ما قال. ([1]) الفتح (10/120) ومسلم (3/83). |
|||
2015-10-10, 11:13 | رقم المشاركة : 13 | |||
|
شهادة أبي سفيان بين يدي هرقل روى البخاري في الصحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارًا بالشام في المدة([1]) التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مادَّ([2])فيها أبا سفيان وكفار قريش فأتوه بإيلياء([3]) فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان فقلت: أنا أقربهم نسبًا فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل هذا عن هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه، فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذبًا لكذبت عنه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت: لا، قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة([4]) قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: «اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم» ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت: رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم، وسألتك: أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب، وسألتك: هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر، وسألتك بما يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين([5])، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا ولا يتخذ بعضنا بعضًا أرباباً من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون». قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر([6]) أمْر ابن أبي كبشة([7]) إنه يخافه ملك بني الأصفر([8]) فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام([9]). فتأمل شهادة قريش الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر وأحد والخندق وكيف سجلها أبو سفيان وهو في الجاهلية على الكفر لما سأله هرقل: هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان لا. فلله الحمد والمنة. ([1]) يعني مدة الصلح بالحديبية سنة ست, وكانت مدتها عشر سنين. ([2]) ماد: أي أطال في مدتها. ([3]) أي القدس. ([4]) أي انتقصه بها. ([5]) أي الضعفاء والأتباع والفلاحين. ([6]) أي عظم. ([7]) أراد به رسول الله صلى الله عليه وسلم. ([8]) أي الروم. ([9]) الفتح (1/44). |
|||
2015-10-10, 11:27 | رقم المشاركة : 14 | |||
|
شهادة أمية بن خلف وامرأته روى البخاري في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: انطلق سعد بن معاذ معتمرًا قال: فنزل على أمية بن خلف أبي صفوان، وكان أمية إذا انطلق إلى الشام فمرَّ بالمدينة نزل على سعد فقال أمية لسعد: ألا أنتظر حتى إذا انتصف النهار وغفل الناس انطلقت فطفت، فبينما سعد يطوف إذا أبو جهل فقال: من هذا الذي يطوف بالكعبة؟ قال سعد: أنا سعد، فقال أبو جهل: تطوف بالكعبة آمنًا وقد آويتم محمدًا وأصحابه. فقال: نعم. فتلاحيا بينهم فقال أمية لسعد: لا ترفع صوتك على أبي الحكم؛ فإنه سيد أهل الوادي، ثم قال سعد: والله لئن منعتني أن أطوف بالبيت لأقطعن متجرك بالشام. قال فجعل أمية يقول لسعد: لا ترفع صوتك. وجعل يمسكه فغضب سعد فقال: دعنا عنك فإني سمعت محمدًا صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك، قال: إياي؟ قال: نعم، قال: والله ما يكذب محمدًا إذا حدث فرجع إلى امرأته فقال: أما تعلمين ما قال لي أخي اليثربي؟ قالت: وما قال؟ قال: زعم أنه سمع محمدًا يزعم أنه قاتلي، قالت: فوالله ما يكذب محمد. قال: فلما خرجوا إلى بدر وجاء الصريخ قالت له امرأته: أما ذكرت ما قال لك أخوك اليثربي؟ قال: فأراد أن لا يخرج، فقال له أبو جهل: إنك من أشراف الوادي فسر يومًا أو يومين فسار معهم فقتله الله([1]).فتأمل يا عبد الله شهادة الرجل وامرأته عندما قالا: فوالله ما يكذب محمد. إذا حدَّث مع شدة عداوتهما له صلى الله عليه وسلم، فيا لها من شهادة. هذا، وإنك لو تتبعت سيرته الشريفة من لدن طفولته صلى الله عليه وسلم ونشأته إلى شبابه وكهولته إلى مبعثه إلى وفاته صلى الله عليه وسلم فلن تشك في أنه كان أصدق الناس وأبعدهم عن الكذب، وأن ذلك كان أخص شمائله وأظهر صفاته قبل النبوة وبعدها كما شهد ويشهد بها أصدقاؤه وأعداؤه على مرِّ العصور. قالت الدكتورة لورافيشيا فاغليري:" لقد حاول أقوى أعداء الإسلام وقد أعماهم الحقد أن يرموا نبي الله ببعض التُّهم المفتراة، لقد نسوا أن محمدًا كان قبل أن يستهل رسالته موضع الإجلال العظيم من مواطنيه بسبب أمانته وطهارة حياته، ومن عجب أن هؤلاء الناس لا يجشمون أنفسهم عناء التساؤل، كيف جاز أن يقوى محمد على تهديد الكاذبين والمرائين في بعض آيات القرآن اللاسعة بنار الجحيم الأبدية لو كان هو قبل ذلك رجلا كذَّابًا؟ كيف جرؤ على التبشير على الرغم من إهانات مواطنيه إذا لم يكن ثمة قوى داخلية تحثُّه وهو الرجل ذو الفطرة البسيطة حثًّا موصلًا حتى استطاع أن يستهل صراعًا كان يبدو يائسًا؟ كيف وُفِّق إلى أن يواصل هنا الصراع أكثر من عشر سنوات في مكة في نجاح قليل جدًا وفي أحزان لا تحصى إذا لم يكن مؤمنًا إيمانًا عميقًا بصدق رسالته؟ كيف جاز أن يؤمن به هذا العدد الكبير من المسلمين النبلاء والأذكياء وأن يؤازروه ويدخلوا في الدين الجديد ويشدوا أنفسهم بالتالي إلى مجتمع مؤلف في كثرته من الأرقاء والعتقاء والفقراء المعدمين إذا لم يلمسوا في كلمته حرارة الصدق؟ ولسنا في حاجة إلى أن نقول أكثر من ذلك، فحتى بين الغربيين يكاد ينعقد الإجماع على أن صدق محمد صلى الله عليه وسلم كان عميقًا وأكيدًا "([2]). ([1]) الفتح (7/442). ([2]) دفاع عن الإسلام (37، 38). |
|||
2015-10-10, 11:33 | رقم المشاركة : 15 | |||
|
علامات النبوة بعد بعثته صلى الله عليه وسلم إعجاز القرآن المستمر عجز الجن والإنس عن معارضة القرآن بمثله أنزل الله عزَّ وجلَّ القرآن على عبده ورسوله النبي الأمي الذي كان لا يعرف القراءة والكتابة ولا يعلم شيئًا عن علم الأوائل وأخبار الماضين فضلًا عن غيب المستأخرين وتحدي من ينكره من الإنس والجن أن يأتوا بمثله، فعجزوا عن ذلك مع توافر دواعي أعدائه على معارضته وفصاحتهم وبلاغتهم، ثم تحدَّاهم بعشر سور منه فعجزوا، ثم تنازل إلى التحدِّي بسورة من مثله فعجزوا عنه، وهذا من أعظم المعجزات وأروع الآيات. قال الله عزَّ وجلَّ في سورة الطور وهي مكية: ﴿أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾. أي إن كنتم صادقين في أنه قاله من عنده فأتوا بمثل ما جاء به؛ فإنكم بشر مثله. وقال تعالى أيضًا في سورة هود وهي مكية أيضًا: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾. وقال تعالى في سورة يونس وهي مكية أيضًا: ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ﴾. وقال تعالى في سورة البقرة وهي مدنية: ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾. فانظر رحمك الله كيف تحدَّاهم وكرَّر عليهم ذلك التحدِّي في صور شتى، متهكمًا بهم متنزلًا معهم إلا الأخف فالأخف، وأباح لهم في كل مرة أن يستعينوا بمن شاءوا ومن استطاعوا، ثم رماهم والعالم كله بالعجز في غير مواربة فقال: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآَنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾؛ فبين الله جلَّ وعلا أن الخلق عاجزون عن معارضة هذا القرآن بل عن عشر سور مثله بل عن سورة منه وأنهم لا يستطيعون ذلك أبدًا؛ كما قال تعالى: ﴿فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا﴾ أي فإن لم تفعلوا في الماضي و الحاضر ولن تستطيعوا ذلك في المستقبل، وهذا تحدٍّ ثان وهو أنه لا يمكن معارضتهم له لا في الحال ولا في المآل، ومثل هذا التَّحدي إنما يصدر عن واثق بأن ما جاء به لا يمكن للبشر معارضه ولا الإتيان بمثله، ولو كان من متقول من عند نفسه لخاف أن يعارض فيفتضح ويعود عليه نقيض ما قصده من متابعة الناس له، خاصَّةً وأنه كما قال القاضي عبد الجبار: لا يعرف العرب كلها ولا يحصي قبائلها، والفصاحة والبلاغة مثبوتة في رجالها ونسائها وعبيدها وإمائها، وقد علم صلى الله عليه وسلم أنهم في اللغة والبلاغة قبله وهو منهم تعلم وهو عاقل؛ فلولا أنه قد تيقن أنهم لا يأتون بمثله لما أقدم على الإخبار بذلك. وهكذا وقع فإنه من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى زماننا هذا لم يستطع أحد أن يأتي بنظيره ولا نظير سورة منه، وهذا لا سبيل إليه أبدًا؛ فإنه كلام رب العالمين الذي لا يشبهه شيء من خلقه لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله؛ فأنىَّ يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق، وهكذا لا يزال تحدي القرآن الكريم قائمًا ومستمرًا على مرِّ القرون والأجيال، وهي خاصية عظيمة ورائعة في صالح القرآن تثبت دون مرية أنه كلام رب العالمين، وأي إنسان يتمتع بكفاءة التفكير والإمعان في حقيقة الأمر والتخلي عن التعصب يكفيه ذلك ليؤمن بهذا الكتاب. قالت المستشرقة الإيطالية الدكتورة لورافيشيا فاغليري في كتابها (دفاع عن الإسلام): "إن معجزة الإسلام العظمى هي القرآن الذي ينقل إلينا الرواية الراسخة غير المنقطعة من خلاله أنباء تتصف بيقين مطلق، إنه كتاب لا سبيل إلى محاكاته، إن كلا من تعبيراته شامل جامع ومع ذلك هو ذو حجم مناسب ليس بالطويل أكثر مما ينبغي وليس بالقصير أكثر مما ينبغي، أما أسلوبه فأصيل فريد، وليس ثمة أيما نمط لهذا الأسلوب في الأدب العربي الذي تحدر إلينا من العصور التي سبقته، والأثر الذي يحدثه في النفس البشرية إنما يتم من غير أيما عون عرضي أو إضافي من خلال سموه السليقي, إن آياته كلها على مستوى واحد من البلاغة؛ حتى عندما تعالج موضوعات لا بد أن تؤثر في نفسها أو جرسها, كموضوع الوصايا والنواهي وما إليها، إنه يكرر قصص الأنبياء وأوصاف بدء العالم ونهايته وصفات الله وتفسيرها ولكنه يكررها على نحو مثير إلى درجة لا تضعف من أثرها، وهو ينتقل من موضوع إلى موضوع من غير أن يفقد قوته، إننا نقع هنا على العمق والعذوبة معًا، وهما صفتان لا تجتمعان عادة؛ حيث تجد كل صورة بلاغية تطبيقًا كاملًا؛ فكيف يمكن أن يكون هذا الكتاب المعجز من عمل محمد صلى الله عليه وسلم وهو العربي الأمي الذي لم يلفظ طوال حياته غير بيتين أو ثلاثة أبيات لا ينم أي منها عن أدنى موهبة شعرية. وقالت أيضًا: إن هذا الكتاب -يعني القرآن- إلى جانب كماله من حيث الشكل والطريقة؛ فقد أثبت أنه ممتنع عن التقليد والمحاكاة حتى في مادته، فنحن نقرأ فيه إلى جانب أشياء أخرى كثيرة تنبؤ ببعض أحداث المستقبل ووصفا لوقائع حدثت منذ قرون ولكنها كانت مجهولة على وجه عام، إن ثمة إشارات كثيرة إلى نواميس الطبيعة وإلى علوم مختلفة دينية ودنيوية، إننا نقع على ذخائر واسعة من المعرفة تُعجز أكثر الناس ذكاءً وأعظم الفلاسفة وأقدر رجال السياسة، ولهذه الأسباب كلها لا يمكن للقرآن أن يكون من عمل رجل غير مثقف قضى حياته كلها وسط مجتمع جاف بعيد عن أصحاب العلم والدين، رجل أصرَّ دائمًا على أنه ليس إلا رجلاً مثل سائر الرجال فهو بوصفه هذا عاجز عن اجتراح المعجزات ما لم يساعده على ذلك ربُّه الكلي القدرة، إن القرآن لا يُعقل أن ينبثق عن غير الذات التي وسع علمها كل شيء في السماء والأرض"([1]). وقال الذين كفروا من أهل الكتاب أن القرآن ما هو إلا تحريف بشع للتوراة وأن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يوح إليه حرف واحد من الله تعالى، وأنه تعلمه من "بحير" الراهب عندما لقيه في الشام. وقد تولى الشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني رحمه الله دفع هذه الشبهة في مناهل العرفان بقوله: أولًا: إن هذه الدعوة مجردة من الدليل، خالية من التحديد والتعيين، ومثل هذه الدعاوى لا تقبل ما دامت غير مدللة، وإلا فليخبرونا ما الذي سمعه محمد من "بحير" الراهب؟ ومتى كان ذلك؟ وأين كان؟ ثانيًا: إن التاريخ لا يعرف أكثر من أنه صلى الله عليه وسلم سافر إلى الشام في تجارة مرتين، مرة في طفولته ومرة في شبابه، ولمن يسافر غير هاتين المرتين، ولم يجاوز سوق بصرى فيهما، ولم يسمع من "بحير" ولا من غيره شيئًا من الدين، ولم يك أمره سرًّا هناك؛ بل كان معه شاهد في المرة الأولى وهو عمُّه أبو طالب، وشاهد في الثانية وهو ميسرة غلام خديجة التي خرج الرسول بتجارتها أيامئذ، وكل ما هنالك أن بحيرًا رأى سحابة تظلله صلى الله عليه وسلم من الشمس، فذكر لعمِّه أن سيكون لهذا الغلام شأن، ثم حذَّره عليه من اليهود، وقد رجع به عمُّه خوفًا عليه ولم يتم رحلته. كذلك رُوي هذا الحادث من طرق في بعض أسانيدها ضعف، ورواية الترمذي ليس فيها اسم "بحير" وليس في شيء من الروايات أنه صلى الله عليه وسلم سمع من "بحير" أو تلقى منه درسًا واحدًا أو كلمة واحدة؛ لا في العقائد ولا في العبادات ولا في المعاملات ولا في الأخلاق؛ فأنى يؤفكون؟ ثالثًا: أن تلك الروايات التاريخية نفسها تحيل أن يقف هذا الراهب موقف المعلم لمحمد صلى الله عليه وسلم لأنه بشَّره أو بشَّر عمَّه بنبوته، وليس بمعقول أن يؤمن رجل بهذه البشارة التي يزفها ثم ينصب نفسه أستاذًا لصاحبها الذي سيأخذ عن الله ويتلقى من جبريل، ويكون هو أستاذ الأستاذين وهادي الهداة والمرشدين، وإلا كان هذا الراهب متناقضًا مع نفسه. رابعًا: أن بحيرًا الراهب لو كان مصدر هذا الفيض الإسلامي المعجز، لكان هو الأحرى بالنبوة والرسالة والانتداب لهذا الأمر العظيم. خامسًا: أنه يسحيل في مجرى العادة أن يتم إنسان على وجه الأرض تعليمه وثقافته ثم ينضج النضج الخارق للمعهود فيما تعلم وتثقف بحيث يصبح أستاذ العلم كله لمجرد أنه لقي مصادفة واتفاقًا راهبًا من الرهبان مرتين، على حين أن هذا التلميذ كان في كلتا المرتين مشتغلا عن التعليم با لتجارة، وكان أُميًّا لا يعرف القراءة والكتابة، وكان صغيرًا تابعًا لعمه في المرة الأولى، وكان حاملًا لأمانة ثقيلة في عنقه لابد أن يؤديها كاملة في المرة الثانية، وهي أمانة العمل والإخلاص في مال خديجة وتجارتها. سادسًا: أن طبيعة الدين الذي ينتمي إليه الراهب بحيرًا، تأبى أن تكون مصدرًا للقرآن وهدايته، خصوصًا بعد ما أصاب ذلك الدين ما أصابه من تغيير و تحريف. وحسبك أدلة على ذلك أن القرآن قد صور علوم أهل الكتاب في زمانه بأنها الجهالات ثم تصدى لتتصحيحها وصور عقائدهم بأنها الضلالات ثم عمل على تقويمها وصور أعمالهم بأنها المخازي والمنكرات ثم حضَّ على تركها، ثم تذكر أن فاقد الشيء لا يمكن أن يعطيه، وأن الخطأ لا يمكن أن يكون مصدرًا للصواب، وأن الظلام لا يمكن أن يكون مشرقًا للنور. سابعًا: أن أصحاب هذه الشبهة من الملاحدة يقولون: إن القرآن هو الأثر التاريخي الوحيد الذي يمثل روح عصره أصدق تمثيل, فإذا كانوا صادقين في هذه الكلمة فإننا نحاكمهم في هذه الشبهة إلى القرآن نفسه، وندعوهم ليقرأوا ولو مرة واحدة بتعقل ونصفة، ليعرفوا منه كيف كانت الأديان وعلماؤها وكتابها في عصره؟ وليعلموا أنها ما كانت لتصلح لأستاذية رشيدة، بل كانت هي في أشد الحاجة إلى أستاذية رشيدة، إنهم إن فعلوا ذلك فسيستريحون ويُرحون الناس من هذا الضلال والزيغ ومن ذلك الخبط و الخلط هدانا وهداهم الله, فإن الهدى هداه ﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾. ثامنًا: أن هذه التهمة لو كان لها نصيب من الصحة، لفرح بها قومه وقاموا لها وقعدوا لأنهم كانوا أعرف الناس برسول الله، وكانوا أحرص الناس على تبهيته وتكذيبه وإحباط دعوته بأيَّة وسيلة. ولكنهم كانوا أكرم على أنفسهم من هؤلاء الملاحدة فحين أرادوا طعنه بأنه تعلم القرآن من غيره لم يفكروا أن يقولوا أنه تعلم من بحير الراهب كما قال هؤلاء، لأن العقل لا يصدق ذلك والهزل لا يسعه، بل لجأوا إلى رجل في نسبة الأستاذية إليه شيء من الطرافة والهزل، حتى إذا مجت العقول نسبة الأستاذية إليه لاستحالتها، قبلتها النفوس لهزلها وطرافتها، فقالوا: إنما يعلمه بشر، وأرادوا بالبشر حدادًا روميًا منهمكًا بين مطرقته وسندانه، ظالًّا طول يومه في خبث الحديد وناره ودخانه، غير أنه اجتمع فيه أمران حسبوهما مناط توريج تهمتهم: أحدهما: أنه مقيم بمكة إقامة تيسر لمحمد الاتصال الدائم الوثيق به، والتلقي عنه. والآخر: غريب عنهم وليس منهم، ليخيلوا إلى قومهم أن عند هذا الرجل علم ما لم يعلموا هم ولا آباؤهم فيكون ذلك أدنى إلى التصديق بأستاذيته لمحمد، وغاب عنهم أن الحق لا يزال نوره ساطعًا يدل عليه، لأن هذا الحداد الرومي أعجمي لا يحسن العربية، فليس بمعقول أن يكون مصدرًا لهذا القرآن الذي هو أبلغ نصوص العربية بل هو معجزة المعجزات ومفخرة العرب واللغة العربية. ﴿لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾([2]). ([1]) دفاع عن الإسلام (56-58). ([2]) مناهل العرفان (2/317-319). |
|||
الكلمات الدلالية (Tags) |
النبــوة, علامات |
|
|
المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية
Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc