هذه القصة التي اخترتها
حكاية هشام بن عبد الملك مع غلام من الأعراب
و مما يحكى أيضاً أن هشام بن عبد الملك بن مروان كان ذاهباً إلى الصيد في بعض الأيام فنظر إلى ظبي فتبعه بالكلاب فبينما هو خلف الظبي إذ نظر إلى صبي من الأعراب يرعى غنماً فقال هشام له: يا غلام دونك هذا الظبي فإتني به فرفع رأسه إليه وقال: يا جاهلاً بقدر الأخبار لقد نظرت إلي بالإستصغار وكلمتني بالإحتقار فكلامك كلام جبار وفعلك فعل حمار، فقال هشام: ويلك أما تعرفني؟ فقال: قد عرفني بك سوء أدبك إذ بدأتني بكلامك دون سلامك فقال له: ويلك انا هشام بن عبد الملك فقال له الإعرابي: لا قرب الله ديارك ولا حيا مزارك فما أكثر كلامك وأقل إكرامك.
فما استتم كلامه حتى أحدقت به الجند من كل جانب وكل واحد منهم يقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين، فقال هشام: اقصروا عن هذا الكلام واحفظوا هذا الغلام فقبضوا عليه ورجع هشام إلى قصره وجلس في مجلسه وقال: علي بالغلام البدوي فلتأتوا به، فلما رأى الغلام كثرة الحجاب والوزراء وأرباب الدولة لم يكترث بهم ولم يسأل عنهم بل جعل ذقنه على صدره ونظر حيث يقع قدمه إلى أن وصل إلى هشام فوقف بين يديه ونكس رأسه إلى الأرض وسكت عن السلام وامتنع عن الكلام، فقال له بعض الخدام: يا كلب العرب ما منعك أن تسلم على أمير المؤمنين؟ فالتفت إلى الخادم مغضباً وقال: يا بردعة الحمار منعني من ذلك طول الطريق وصعود الدرجة والتعويق فقال هشام وقد تزايد به الغضب: يا صبي لقد حضرت في يوم حضر فيه أجلك وغاب عنك أملك وانصرم عمرك فقال: والله يا هشام لئن كان في المدة تاخير ولم يكن في الأجل تقصير فقال له الحاجب: هل بلغ من مقامك يا أخس العرب أن تخاطب أمير المؤمنين كلمة بكلمة فقال مسرعاً: لقيت الخبل ولا فارقك الويل والهبل أما سمعت ما قال الله تعالى: *يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها*. فعند ذلك اغتاظ هشام غيضاً شديداً وقال: يا سياف علي برأس هذا الغلام فإنه أكثر بالكلام ولم يخش الملام فأخذ الغلام ونزل به إلى أين نطع الدم وسل سيفه على رأسه وقال: يا أمير المؤمنين هذا عبدك المذل بنفسه السائر إلى رمسه هل أضرب عنقه وانا بريء من دمه؟ قال الملك نعم، فاستأذن ثانياً ففهم الفتى أنه إن أذن له هذه المرة يقتله فضحك حتى بدت نواجذه فازداد هشاماً غضباً وقال: يا صبي أظنك معتوهاً أما ترى أنك مفارق الدنيا فكيف تضحك هزءاً بنفسك؟ فقال : يا أمير المؤمنين لئن كان في العمر تأخير لا يضرني قليل ولا كثير ولكن حضرتني أبياتاً فاسمعها فإن قتلي لا يفوتك فقال هشام: هات وأوجز فأنشد هذه الأبيات:
نبئت أن الباز صادف مـرة
عصفور بر ساقه المقدور
فتكلم العصفور في أظفاره
والباز منهمك عليه يطير
مثلي ما يغني لمثلك شبعة
ولئن أكلت فإنني حقـير
فتبسم الباز المذل بنفـسـه
عجباً وأفلت ذلك العصفور
فتبسم هشام وقال: وحق قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم لو تلفظ بهذا اللفظ من أول كلامه وطلب ما دون الخلافة لأعطيتها إياه، يا خادم احش فاه جوهراً وأحسن جائزته فأعطاه الخادم حلة عظيمة، فأخذها وانصرف إلى حال سبيله.