بسم الله الرحمن الرحيم .
تابع للترحمة أعلاه :
ومن الشهادات المعاصرة حول قوة شخصية الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد السماحي نذكر شهادة:
الأستاذ الفاضل بنعلي بوزيان في كتاب فجيج في عهد السعديين ص 245 إذ يقول:
" ومهما قيل في التناقضات التي تجاذبت شخصية هذا المتصوف المتأنق، ومهما نسبوا له من نقائص، فإن ذلك كله يبقى برهانا على شخصية مدهشة في كل شيء: في طريقة عيشه وملبسه وكسبه وأسلوبه البارع في استقطاب المريدين، ولعله السر في نجاح زاويته وفشل عدوه ابن أبي محلي."
أما شهادات الأجانب الكثيرة، نكتفي بشهادة واحدة، جاءت على لسان أحد عمالقة الاستعمار، اسمه لا يخفى على أحد من أبناء المغرب العربي الذين ذاقوا المرارة على يديه، إنه المارشال ليوطي. ويكفي أن نقول إن الرسالة كتبها لأخته لنعرف مدي صدقه في ما يقول، رسالة مطولة من 16 صفحة، نقتطف منها بلغتها الأصلية ما يلي:
Aujourd'hui, le 17 juin à El Abiod sidi Cheikh, on a soigné ses tenues, astiqué les harnachements, fourbi les armes, pour faire une entrée reluisante dans cette petite la Mecque de l'Algérie…
A nos pieds, à 10 kilomètres, les cinq Ksours d'El Abiod, les rares palmiers qu'a épargnés la destruction de 1881, les Koubas blanches: il y a une douzaine, et c'est l'évocation des tombeaux des Khalifes du Caire, au centre surgit isolée, la Kouba du Grand Sidi Cheikh qui remplit l'Islam africain de sa vertu et de ses miracles…
Je termine par le Pèlerinage au Saint Tombeau… les gardiens m'attendent, on m'ouvre non seulement le sanctuaire qu'éclairent à peine trois ou quatre bougies tenues par les Abids, mais encore la porte sacrée qui cache le cercueil recouvert d'un burnous de drap vert brodé d'or. Et cela est très vénérable, très respectable, et d'ici sort une très grande force avec laquelle il serait fou de ne pas compter.
واضح من هذا النص كيف كان هذا الضابط العنيد شديد التأثر وهو يزور مقام سيدي عبد القادر بن محمد وذلك من خلال إشارته للنقاط التالة:
ـ استعداده استعدادا خاصا للدخول إلى الأبيض سيد الشيخ دخولا يليق بمقام صاحب الضريح.
ـ تصويره للمكان كأنه مكة صغيرة نظرا لأهميتها المعنوية بالخصوص لدى سكان الجزائر برمتها.
ـ مقارنته للقباب الإثنتي عشرة بقباب وأضرحة أمراء مصر.
ـ اعترافه بالمكانة العالية لسيدي عبد القادر بن محمد في إحياء الإسلام بإفريقيا.
ـ اعترافه بمشاعر خاصة من التقدير والإكبار وهو يزور الضريح.
ـ ثم اعترافه بوجود قوة كبيرة تنبع من الضريح يكون من الحماقة بمكان عدم أخذها بعين الاعتبار.
هذا، وإلى جانب ليوطي هناك من الكتاب الفرنسيين من خصه بفصول كاملة..((10))
وخلال تقديم الأستاذ الفاضل بنعلي بوزيان للرسالة التي أرسلها سيدي عبد القادر بن محمد للأمير زيدان السعدي والتي حققها بنفسه، قام بتعريف مختصر لصاحبها نقتبس منه ما يلي:
" هو عبد القادر بن محمد بن سليمان بن أبي سماحة، يرتفع نسبه إلى الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه. كان مولده بفجيج أو إحدى ضواحيها عام 940 هجرية، وبها أخذ العلم عن شيخ العلماء أبي القاسم ابن محمد بن عبد الجبار.
اشتهر بتوقد الذكاء وحضور البديهة وحدة الخاطر منذ طفولته، واشتهر حيته بعد ذلك متصوفا في مشرق المغرب وغربه، وفي مصر والشام والحجاز، ومكنته هاته الشهرة الطائرة من الاتصال بالملوك والوزراء والمشايخ والعلماء، مثلما مكنته زاويته السماحية أن تكون قبلة كثير من المريدين وطلاب السر والطريقة والمجاهدة." مجلة بحوث ودراسات مغربية تحت عنوان: رسائل لم تنشر، رسالة السماحي إلى سلطان سعدي ص: 93.
ثانيا: ظروف النشــــــــــأة
مما يزيد في مكانة الطريقة الشيخية كونها نشأت في ظروف غير ملائمة تماما، كما سنرى، ظروف يمكن إيجازها في ما يلي:
1) كونها نشأت في الوسط الفكيكي الذي كان يزخم بالزوايا والطرق الصوفية المحلية ذات المستوى الرفيع، طرق كانت تكتسح الساحة و تحول دون أي طريقة وافدة أن تثبت ذاتها في ذلك الوسط.
ومن هذه الطرق المباركة نذكر :
أ ـ الزاوية البرزوزية أو الجبارية: التي أسسها في نهاية القرن الثامن الشيخ سيدي أحمد بن موسى البرزوزي0 وقد عرفت هذه الطريقة أوج نشاطها في عهد ابنه الولي الصالح الشهير سيدي عبد الجبار الفجيجي الذي أخذت اسمه فيما بعد0 وسيدي عبد الجبار هذا هو صديق سيدي سليمان بن بوسماحة لكونهما معا من تلاميذ سيدي أحمد بن يوسف الملياني. وهو أيضا شيخ سيدي محمد بن سليمان والد سيدي عبد القادر بن محمد.
وقد استمر نشاط هذه الزاوية بنفس الكيفية في عهد سيدي محمد بن عبد الجبار الذي كانت له علاقات مع سيدي عبد القادر بن محمد سواء عن طريق التلمذة أو المصاهرة .
ويكفي أن نقول، إن هذه الزاوية كانت في أوجها إبان بزوغ فجر الطريقة الشيخية باعتبارها كانت دار العدة أو الزاوية العلمية بالنظر إلى الدور الهام الذي كانت تلعبه في مجال العلم و التربية والإصلاح في الوسط الفجيجي.
ب ـ الزاوية السكونية: التي يرجع إنشاؤها إلى القرن التاسع الهجري على يد القاضي العالم الورع سيدي عبد الحق السكوني. ولما تولى شأنها حفيده سيدي محمد بن عبد الرحمان بن عبد الحق كان القاضي ابن أبي محلى خريج الزاوية الشيخية قد فشل في الاحتيال على شيخه وصهره سيدي عبد القادر بن محمد فناصبه العداء المعروف وعمد بعده للاحتيال على الشيخ محمد بن عبد الرحمان الذي ولاه تسيير الزاوية السكونية وأصبح شيخها الفعلي. لكنه ما لبث أن تخلى عنها لحساب طموحه السياسي ضد السعديين في القصة المعروفة.
ويجدر بنا أن ننقل كلمة لصاحب كتاب واحة فكيك الصفحة 47 وما يليها لتوضيح هذا المنحى :
"وتمدنا نصوص ابن أبي محلي بإفادات نستخلص منها أنه كان يخطط لمشروع سياسي طموح يكون لأهل فكيك فيه دور مهم، وعلى هذا الوجه نفسر قربه من الشيخ الصوفي عبد القادر السماحي الذي كان يتمتع بنفوذ لا قبل لأحد بامتصاصه على جميع المنطقة الجنوبية الشرقية. ففي إطار البحث عن وسائل أهدافه ارتأى أن يعتمد عليه بأن سعى إلى كسب وده وتمتين الصلة به، هذه الصلة التي توجت بالمصاهرة. غير أن الشيخ الصوفي، وكان داهية صعب المراس، تنبه إلى أن ارتباطهما لم يكن طبيعيا، وأن صهره أراده أداة طيعة في يده ليس إلا .. مما سيكون له وقع سيء على نفوذه الروحي والمالي، فقطع عليه الطريق لينقلب الود والصفاء بينهما. وبذلك الموقف الحاسم من السماحي نفسر توالي هجماته الشرسة وحملاته العنيفة. وإن تعجب فعجب تخصيصه كتبا بأكملها في ذمه والتشهير به. ولا نعدم فيها إشارات إلى مشاغله واهتماماته السياسية ..." انتهى .
والشيخ السماحي المذكور هنا هو نفسه الشيخ سيدي عبد القادر بن محمد صاحب الترجمة.
وغير خاف أن ابن أبي محلي قام فعلا بثورة على الأمير زيدان بمراكش واستولى على السلطة لما يقارب 3سنوات و8 أشهر إلى أن دارت عليه الدائرة فذاق هزيمة نكراء قتل فيها على أبواب مراكش
ومن أبرز الشيوخ الذين انتعشت هذه الزاوية في عصره العالم الزاهد الصالح سيدي أحمد بن محمد بن عبد الرحمان بن أبي بكر المسمى اختصارا أحمد بن أبي بكر السكوني. ومن أعظم تواضع هذا الشيخ الجليل أنه ربط صلات حميمة مع كل من الزاوية الناصرية والزاوية الشيخية على حد سواء. وتكفي الإشارة إلى أنه مؤلف كتاب تقوية إيمان المحبين في مناقب الشيخ سيدي عبد القادر السماحي لنعرف مدى تواضعه ومحبته للصالحين.
ج ـ الزاوية الونشريسية: هذه الزاوية، رغم تراجعها نسبيا في تلك الفترة، إلا أنها كانت لا تزال تستقطب عددا لا يستهان به من المريدين والأتباع .
وإلى جانب هذه الزوايا المحلية كانت هناك طرق سابقة أخرى منتشرة بين أهالي فكيك نذكر منها القادرية والزيانية والطيبة وغيرها.
كان من المفروض إذن أن يمثل وجود هذه الطرق العريقة بهذا الشكل عائقا كبيرا وسدا منيعا أمام ظهور أي طريقة جديدة، حتى ولو كانت محلية المنبع، ناهيك عن أن تكون وافدة. ومع ذلك فقد استطاعت الطريقة الشيخية أن تثبت ذاتها في ظل هذه الظروف، بل وتكتسح الساحة بشكل غير مسبوق كما شهد بذلك أكثر من واحد .
2) كونها نشأت في وسط فجيج الذي كان مركز إشعاع علمي كبير وقبلة لمجموعة من العلماء نظرا لتوفر الظروف الاجتماعية والسياسية الملائمة لطلب العلم بالواحة آنذاك. ومن لائحة العلماء الطويلة الذين عاشوا بفجيج في تلك الفترة نذكر على سبيل المثال :
أ ـ الفقيه الولي الصالح سيدي علي بن عيسى البرزوزي . كان عالما شهيرا تولى التدريس وإمامة المسجد العتيق وأنشأ زاوية تحمل اسمه ، وكان هذا الشيخ معاصرا لسيدي سليمان بن بوسماحة .
ب ـ الفقيه الصوفي الولي الصالح سيدي عبد الوافي بن أحمد الذي كان مثالا للتقوى وحسن السلوك والبراعة في فنون العلم، وكان هذا الشيخ يقوم بدور اجتماعي بارز. وقد عاش في القرن العاشر حيث كان معاصرا لسيدي عبد القادر بن محمد .
ج ـ الفقيه الإمام العادل سيدي عبد الحق بن محمد بن عبد الحق السكوني الذي كان لا يخشى في الله لومة لائم. تولى التدريس وإمامة المسجد والقضاء، وكان خير من قام بذلك حتى أدى به الصدع بالحق للاغتيال حوالي 980. وكان بدوره معاصرا لسيدي عبدا لقادر بن محمد .
د ـ الفقيه الأديب صاحب التصانيف سيدي عبد الرحمان بن محمد بن أبي بكر السكوني، تتلمذ على يد جملة من شيوخ فجيج فتضلع في العلوم الدينية والأدبية على حد سواء، وتولى القضاء والفتوى، وكان معاصرا بدوره للشيخ سيدي عبد القادر بن محمد.
ه ـ الفقيه الجليل سيدي محمد بن إبراهيم الأنصاري الذي كان يتولى التدريس وإمامة المسجد العتيق
و ـ الفقيه الولي الصالح سيدي منصور بن أبي القاسم بن ناصر الفجيجي، كان له باع طويل في العلوم الفقهية والتوحيد وله مجموعة من التصانيف. كما أسس زاوية كان لها صدى كبير في مجال العلم. وكان أيضا معاصرا للشيخ .
ولقد كان هذا التيار العلمي المتميز لوحده كفيلا أن يقوم سدا منيعا أمام انتشار الطريقة الشيخية، ـ خصوصا إذا عرفنا الصراع الدائم بين تيار العلماء وبين شيوخ الطرق الصوفيةـ لولا ما كانت تتمتع به من عوامل القوة الذاتية
3) الموقف العدائي الخطير الذي فجره من الداخل القاضي أحمد بن أبي محلى، موقف كان بإمكانه لوحده أن يصدع صف الزاوية ويشل حركتها نهائيا لو أنها لم تكن قائمة على أساس متين. فابن أبي محلى هذا :
ـ كان فقيها متمكنا قرأ بفاس وسجلماسة قبل أن يتخرج من الزاوية الشيخية التي كان يعتبر من أنجب خريجيها.
ـ كان أديبا بارعا أيضا كما يتبين من كتاباته التي تتميز بأسلوب أدبي رفيع.
ـ كان داهية صاحب بدماغوجية خطيرة وتأثير بليغ. يتجلى ذلك واضحا من مكانة التعظيم والتقدير التي كان يتمتع بها بين أتباعه حينما انتقل إلى الزاوية السكونية، حتى كان من تلاميذه من كان يرفعه إلى مرتبة تساوي أو تفوق مرتبة الرسول صلى الله عليه وسلم حسب ما ورد في مذكراته . (انظر " الواحة " ص 139.)
ـ كان بارعا في الدعاية والتشهير، مجتهدا في توظيفهما دون تورع لتحقيق طموحاته السياسية الكبيرة، ولو اقتضى الأمر أن يكون على حساب الزاوية التي تربى بين أحضانها والشيخ الذي كان له عليه عظيم الفضل. وقد كان يتمتع بلسان حاد لاذع لا يتحاشى الأعراض كما يتبين من كتاباته التي هاجم فيها شيخه بضراوة ونعته بأبشع النعوت وأذم الأوصاف دون خجل أو حياء. ويكفي أنه ألف في هذا الغرض كتبا كاملة تقشعر الجلود من مجرد سماع عناوينها.
ـ كان تارة يؤلب أتباعه في التشهير بالشيخ وبأتباعه، شأن ما فعل ابن بهلول في قصيدته اللاذعة التي وردت في الصفحة 138 من كتاب الواحة،
ـ وتارة أخرى يؤلب عوام السكان مثلما ورد في ص 48 من نفس المصدر،
ـ وتارة ثالثة يحاول أن يؤلب عليه علماء وفقهاء المدينة. ولما يئس من استجابة هؤلاء لجأ إلى مهاجمتهم بدورهم بقوله: "وهم أشبه بالألباء وهم الأقل إلا أنه حرموا رفيق التوفيق فباعوا منه دينهم بالدنيا فنصروه وآزروه على باطله وبهم اغترت العامة ". كما هاجمهم بصيغة أقصى بقوله :" ومن فحش فقهاء البلدان أن أئمة المساجد منهم يؤخرون لأجله الجمعة كما ذكرته خوفا منه وتبعا لهواه وحذرا أشلائه العامة عليهم وتلك عادته. فباعوا دينهم بالمداهنة فيه. ولو نصروا دينه لنصرهم عليه ولكنهم خافوه فسلط عليهم وذلك جزاء الظالمين. ولكنهم قد يعذرون لكون دهماء العامة يومئذ بفكيك تبعا له على باطله لجهلهم بحقيقته وبحق الله تعالى فاستحوذ عليهم فصار ينتقم بهم ممن شاء من خواص المسلمين إذا تعرضوا لشيء من نفاقه". ص 79
وبخوصو الخطورة التي كان يتميز بها القاضي ابن أبي محلي نذكر ما أورده:
الأستاذ بنعلي بوزيان من كتاب فجيج في عهد السعديين ص 286:
" ومن سوء حظ السماحي أنه وقع في قبضة محجاج حاذق لفنون القول، يعد عليه سقطاته واحدة واحدة، ـ في الأعم الأغلب ـ من مخالطيه، وربما زاد فيها من خياله، ومع ذلك فإن السماحي ضغطه بحكمته وقوته العددية التي لم تتأثر ـ في معظمها ـ بهذا الصراع. "
ولما كان ابن أبي محلي القاضي يمتلك كل هذه الصفات، تضاف إلى كونه بلغ ما بلغ من الشيخ، فقد كان من المفروض أن تجد ثورته العدائية ضد سيدي عبد القادر بن محمد استجابة عريضة من طرف العموم ظنا منهم أنه أدرى الناس بشيخه. استجابة كانت قد تنسف بالزاوية تماما أو على الأقل تحد من نشاطها إلى حد بعيد.
بيد أن دعايته خلاف ذلك، لم تزد الناس إلا تعلقا بالشيخ وارتباطا بزاويته، وما ذلك إلا لعلو كعب الشيخ وطول باعه وصدق دعوته و قيام زاويته على الأرضية الصلبة الخالصة لله، ما كانت لتتزحزح لمجرد دعاية، وما كان لله دام واتصل.
يتبع بحول الله .