إنّ ما اصطلح عليه بما قبل التاريخ (Préhistoire) هو فترة طويلة في حياة الانسانية تمتدّ منذ ظهوار الإنسان (حوالي 5 ملايين سنة) إلى اختراع الكتابة، وليس أمامنا –لمعرفة جوانب هذه لمسيرة الطويلة في حياة الإنسان – سوى البحث عن آثار هذا الإنسان مثل الأدوات التي يكون قد استعملها أو "صنعها" بل وحتى بقاياه مثل الهياكل العظمية والجماجم والأطراف.
ما هو موجود في الطبقات الجيولوجية أو على أديم الأرض من هذه البقايا يمكن التعبير عنه بأنّه أرشيف ماقبل التاريخ وهذا الأرشيف في الشمال الأفريقي يتوفّر على الكثير من "الوثائق" التي يمكن أن نستخلص منها مادّة معرفية ترسم صورة للوضع الذي كانت عليه هذه المنطقة خلال عصور ما قبل التاريخ على غرار مناطق حوض البحر المتوسط الأخرى.
كانت البعثات العلمية الأوربية أول من بدأ البحث في هذا المجال منذ بدايات القرن XX ، ولذلك تأثرت أعمال هذه البعثات بمنظومة الأفكار الكولونيالية السائدة آنذاك والتي تعتبر أوربا مركز الإبداع عبر التاريخ بما في ذلك ما قبل التاريخ، وسارت أبحاثهم وتقاريرهم الأثرية في هذا السياق بحيث اعتبروا ما هو موجود من مادّة أثرية في الشمال الأفريقي هو نتاج تأثيرات وصلتها من الضفة الشمالية للمتوسّط، بل امتدّ ذلك حتّى للتعمير البشري الذي اعادوه إلى هجرات من ايبريا وايطاليا عمّرت ما يسمّونه بأفريقيا المتوسطية، إلى درجة أنّ بعض الأبحاث تذكّرنا بالأساطير الإغريقية لما فيها من تأويلات غريبة تشبه الأساطير.
ليس سهلا الحديث عن منطقة محدودة في الجزائر مثل منطقة القبائل الشرقية (1) (Kabylie orientale) لأنّ عصور ما قبل التاريخ ليست فيها الحدود الإقليمية والإدارية الحالية، والبحث في هذه العصور يهتمّ بالأوضاع الجغرافية والجيولوجية التي تختلف كثيرا عمّا هو عليه الحال اليوم، فقد مرّ كوكب الأرض على امتداد عصور ما قبل التاريخ بالكثير من التغيّرات المناخية والطبيعية ذات الأثر العميق في حياة الإنسان ولعلّ من المفيد أن نلقي نظرة على البقايا الأثرية التي عثر عليها بالمنطقة خاصّة الساحل الذي عرف طوال الزمن الرابع امتدادات وتراجعات بحرية، أي تكوّن شواطئ متدرّجة تدلّ على التتابع الزمني.
عثر على آثار إنسان ما قبل التاريخ في هذه المنطقة في الطبقات الجيولوجية للمصاطب البحرية والنهرية وهو ما يسمح بتأريخ هذه المستويات لمعرفة التسلسل الحضاري للساحل الجزائري في عصور ما قبل التاريخ، بحيث تتميّز المنطقة الساحلية (2) المعروفة باسم الكورنيش القبائلي إلى ساحل قبائل القلّ (Kabylie de Collo) بأنّها أكثر السواحل الجزائرية توفّرا على بقايا أثرية قبل تاريخية يستخلص منها التواصل الحضاري من العصر الحجري لقديم الأسفل إلى فجر التاريخ، وأهمّ ما يميّز المنطقة على امتداد هذه العصور :
- وجود مؤكّد لآثار العصر الحجري القديم الأسفل
- وجود بقايا العصر الحجري القديم الأوسط (العاتري )
- تعدّد محطات الحضارة الإيبرومورية (Ibéro maurusien)
بدأت الأبحاث الأثرية قبل التاريخية في هذه المنطقة، منذ العشرينات من القرن XX فقد توصّل الباحث إرمان في تنقيباته بكهوف وملاجئ زيامة إلى لعثور على بقايا أثرية متنوعة : هياكل عظمية مع بقايا الطعام والحيوانات التي كان الإنسان يصطادها (3) ، وتلت بعد ذلك أبحاث وتنقيبات أرامبورغ (4) وبراهيمي (5) وساكسون (6) في مواقع أفالو بو رمل (Afalou bou r mel) وتازا (Taza) وتامرهات (Tamarhat) أثبتت وجود صناعة قبل تاريخية تتكوّن من أدوات حجرية صغيرة الحجم تعود إلى الحضارة الإيبرومورية (ما بين 25000 و 10000 سنة ق.م.)
وجدت آثار إنسان ما قبل التاريخ في هذه المنطقة في أديم الأرض أو في طبقات جيولوجية، كما أشرنا، وإذا وجدت بقايا صناعة حجرية ما في طبقة ما فإنّ ذلك مؤشّر يمكّن من تأريخها أي تحديد الفترة الزمنية للأدوات المكتشفة، سواء اكانت نباتية أو حيوانية، ومن دراسة كل البقايا التي يتمّ العثور عليها في مختلف الطبقات يمكن معرفة التتابع الحضاري عبر عصور ما قبل التاريخ، ولكن يمكن أن تخلو طبقة ما من بقايا الأثرية وحينئذ يفسّر ذلك بفترة فراغ حضاري.
بنى الاستعماريون فكرة مفادها أن الشمال الأفريقي هو أرض الفتوحات (Terre de conquète) عبر التاريخ، وفسروا خلو بعض الطبقات من بقايا أثرية بتوقّف "الانتاج الحضاري" بانتظار وصول "شعب" جديد ؟ ممّا جعل الباحثون الجزائريون يبذلون جهودهم لإثبات تفاهة هذه الأحكام ذات النزعة الكولونيالية ووجدوا في منطقة القبائل الشرقية الدليل الذي يفنّد مزاعم الفكر الاستعماري، فقد استخرجت بقايا وأدوات تعود إلى مختلف عصور ما قبل التاريخ ممّا يدل على التواصل الحضاري وأنّ الفراغ الذي بنى عليه مؤرخو وأثريو الفترة الاستعمارية استنتاجاتهم المغرضة هو في واقع الأمر فراغ في عقولهم.
القبائل الشرقية في عصور ما التاريخ
أ- في العصر الحجري القديم الأسفل
عمد الإنسان في هذا العصر إلى تشظية الحجر (صنع أدوات حجرية ذات الوجهين Bifaces) وصنع الفؤوس الحجرية التي استخدمها في أغراض شتّى: الحفر، قتل الحيوانات، قطع الأغصان، ... وقد أمدّتنا المواقع الأثرية بكمّية كبيرة من هذه الأدوات / فقد عثر بجبل مزغيطان وناحية قـنطرة على ادوات ذات الوجهين، وعلى فؤوس ذات الثلاثة وجوه، تعود إلى أكثر من 600000 سنة ق.م. كما عثر على مجموعة ثانية من أدوات تعود إلى 100000 سنة ق.م. أي إلى نهاية العصر الحجري القديم الأسفل.
ب- في العصر الحجري القديم الأوسط
يتميز هذا العصر بصناعة ادوات مصنّفة تحت اسم الأدوات العاترية تعود إلى حضارة بهذ الاسم امتدت في الزمان على 20000 سنة وامتدّت في المكان من حوض النيل الى ساحل المحيط الاطلنطي ومن ساحل المتوسط الى اعماق الصحراء، ومن بين أدواتها التي عثر عليها في المنطقة الأدوات ذات العنق وعلى فؤوس وسكاكين حجرية تتميّز بصغر حجمها وهو دليل على التطوّر والتواصل في هذه الصناعة، يقابله على الصعيد الاجتماعي بداية الاستقرار والتأقلم مع البيئة الطيعية.
ج- العصر الحجري ما بعد الوسيط :
عثر على آثار تصنّف ضمن أدوات الحضارة الإيبرومورية، في جبل تامزغيت، وفي تازا (ملبو Melbou) وتتصف هذه الأدوات بالتنوع ففيها المصنوعة من عظام الحيوانات مثل الدبابيس والمخارز والمقصات وحلي الزينة، ويعتبر صنّاع هذه الحضارة روّاد الأعمال الفنّية في الشمال الأفريقي قبل التاريخ فقد صنعوا تماثيل من الطين المشوي لحيوانات (7) يعود تاريخها إلى أكثر من 13000 سنة ق.م. كما اكتشفت البقايا العظمية لهذا الإنسان بموقع أفالو بو رمل م بين بجاية وجيجل ودلّت الآثار على أنّه كان ينظّم مسكنه إلى قسم للراحة وآخر لصنع الأدوات (8).
د- العصر الحجري الحديث
هذا العصر هو عصر ثورة انتاج الطعام وفيه اكتشف الانسان الزراعة وصتع الأوني الفخارية وبدأ يستقر في قرى زراعية، واكتشف المعادن (9)
في الأخير نشير إلى أنّ المنطقة لم تحظ بعد بدراسات ومسح أثري شامل لكشف كلّ أرشيفها الأثري.
هوامش
(1) ظهرت تسمية بلاد القبائل بصيغتها الحالية Kabylie في العهد الفرنسي، ولكن التسمية في حدّ ذاتها قديمة جدّا وتعود إلى الفترة الرومانية حيث كان اسمها بلاد القبائل الخمس (Quinquigentiani) وهي التسمية التي ترجمت في العربية إلى بلاد القبائل البربرية ثمّ اختصر الاسم ألى بلاد القبائل، ومنطقة القبائل الشرقية هي القسم الشرقي من بلاد القبائل عموما، وتمتدّ من سكيكدة شرقا إلى مصبّ وادي أقريون(Aguerioun) غربا، وهي محدودة جنوبا بالوادي الكبير وجبل كمبر.
(2) Dalloni (M.), l extension du paléolithique dans la zone littorale de l Algérie, actes de congrès panafricain de préhistoire , Alger, 1952 A.M.O. p. 257
(3) Erman (A.), le quaternaire des grottes de Ziama, B.S.H.M.A.N., T, XI, 120, n° 67.
(4), Arambourg (C.), et autres, les grottes paléolithiques de Béni seghoual, Archéol, de l inst, P.H., 1934, mém, n°13 pp. 252.
(5) Brahimi (C.), l industrie lithique de Tamarhat (Petite Kabylie) in Lybica, t, XVII, 1969, pp. 35-48.
(6) Saxon (E.C.), Resultsof vecent investigations at Tamarhat, Lybica, t, XIII, 1974, pp. 49-91.
(7) Hachi (S.), Figurines en terre cuite du gisement d(Afalou bou r mel, Libyca 1983-1984.
(8) Medigue (M.), Etude encore de l industrie de gisement préhistorique de Taza.
(9) Ramendo (I.), les industries préhistoriques de Djidjelli, libyca XIII, 1965, pp. 29-58.