المسيح المنتظر في المعتقد اليهودي
يمكن حصر فكر وعقيدة اليهود بالغيبيات باتجاهين اثنين: نهاية العالم والخلاص على يد المسيح المنتظر, وإذا كان يوم الرب يوما منتظرا عند الشعب اليهودي, حيث يحمل هذا اليوم النصر لشعب الله المختار على الأمم الأخرى حسب زعمهم, فإن هذا اليوم مرتبط ارتباطا وثيقا بفكرة تجديد العهد مع الرب, أو فكرة (العهد الجديد) عندما تتجدد أمة الله لتصبح جديرة بالله, وتصبح القدس (أورشليم) مدينة لا مثيل لها, ويقيم فيها الرب على جبل صهيون, ويتجمع المشردون من بني إسرائيل, وتزول فيها الأحقاد, بل يموت فيها الموت نفسه.
ولا يمكن لهذه الفكرة والعقيدة أن تتحقق بدون المسيح المخلص, أو ما يسمى عند اليهود (بالماشيح) وهي كلمة عبرية تعني (المسيح المخلِّص)، ومنها (مشيحيوت) أي (المشيحانية), وهي الاعتقاد بمجيء الماشيَّح، والكلمة مشتقة من الكلمة العبرية (مشح) أي (مسح) بالزيت المقدَّس, وقد كان اليهود على عادة الشعوب القديمة، يمسحون رأس الملك والكاهن بالزيت قبل تنصيبهما، علامة على المكانة الخاصة الجديدة, وعلامة على أن الروح الإلهية أصبحت تحل وتسري فيهما.
وكعادة اليهود في التحريف و التبديل لكل ما جاءهم من أنبيائهم من عند الله تعالى, فقد حرفوا كلام أنبيائهم الذين أخبروهم: 1- بمجيئ عيسى بن مريم وهو المسيح الحق, 2- كما أخبروهم بمجيئ المسيح الدجال في آخر الزمان, فما كان منهم إلا أن اختاروا المسيح الدجال, وكفروا بالمسيح عيسى بن مريم, بل ووصفوه في توراتهم بأبشع الأوصاف, وأشنع العبارات, فقد جاء في تلمودهم بأنه: موجود في لجات الجحيم بين الزفت والقطران والنار, وأمه مريم أتت به من زناها بالعسكري يوسف باندارا – والعياذ بالله – وغير ذلك من الأوصاف التي ننزه عين القارئ عن قراءتها.
التعريف بالمسيح المنتظر عند اليهود
شخص مُرسَل من الإله يتمتع بقداسة خاصة، إنسان سماوي وكائن معجز, خلقه الإله قبل الدهور, يبقى في السماء حتى تحين ساعة إرساله, وهو يُسمَّى (ابن الإنسان) لأنه سيظهر في صورة الإنسان, وإن كانت طبيعته تجمع بين الإله والإنسان, فهو تَجسُّد الإله في التاريخ، وهو نقطة الحلول الإلهي المكثف الكامل في إنسان فرد.
المسيح المنتظر عند اليهود ملك من نسل داود، سيأتي بعد ظهور النبي إليا ليعدل مسار التاريخ اليهودي، بل البشري، فينهي عذاب اليهود ويأتيهم بالخلاص, ويجمع شتات المنفيين ويعود بهم إلى صهيون ويحطم أعداء جماعة يسرائيل، ويتخذ أورشليم (القدس) عاصمة له، ويعيد بناء الهيكل، ويحكم بالشريعتين المكتوبة والشفوية اليهودية (التوراة والتلمود), ويعيد كل مؤسسات اليهود القديمة مثل السنهدرين، ثم يبدأ الفردوس الأرضي الذي سيدوم ألف عام، ومن هنا كانت تسمية (الأحلام الألفية) و(العقيدة الاسترجاعية).
من هو شخص المسيح المنتظر عند اليهود
اختلف اليهود في شخص المسيح المنتظر, غير أن أعظم الشخصيات وأهمها هو النبي إلياس, والذي يسميه اليهود (إيليا التشبي) أو (الياهو النبي), وقد كان في نسبه في بني إسرائيل خلاف كبير, ممل جعله إلى يومنا هذا من الأركان الغيبية في الفكر اليهودي, وقد كثر الحديث عنه في التلمود والمدارس وكتب التصوف اليهودي, واعتبر في نظر الكثيرين مساويا لموسى عليه السلام, بل اعتبر الوحيد من بني إسرائيل الذي يمكن أن يقارن موسى عليه السلام.
ويرى اليهود أن إليا مكث في الأرض مدة يدعو بني إسرائيل, ثم رفع إلى السماء حيا ولم يمت, وسينزل إلى الأرض في آخر الزمان, ليتم رسالة الخلاص للشعب اليهودي, والتي كلف بها.
ومن شدة تأثير فكرة المسيح المنتظر العميقة في العقيدة اليهودية وتعلقهم بها, ادعى كثير من اليهود على مدى التاريخ أنه المسيح المنتظر, فإذا كان المسيح المنتظر عند اليهود هو في الحقيقة المسيح الدجال, الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم أشد التحذير, فإن من ادعى من اليهود بأنه المسيح المنتظر, يكون عند المسلمين دجال الدجال.
ومن أبرز من ادعى أنه المسيح المنتظر من اليهود:
في العصر القديم يودغان وداود الرائي وديفيد رؤفيني ولومون ملكو، ولكن أبرزهم أبو عيسى الأصفهاني واسمه الحقيقي إسحق بن يعقوب, من مواليد أصفهان, كان خياطا أميا, عاش في زمن الخليفة عبد الملك بن مروان (865 ـ 705)، بينما يذهب الشهرستاني إلى أنه عاش في الفترة بين حكم الخليفة الأموي مروان بن محمد (744 ـ 750) والخليفة العباسي المنصور (754 ـ 775)، ويبدو أن هذا التاريخ الأخير أكثر دقة، فقد كانت هذه الفترة فترة انتقال شهدت سقوط الدولة الأموية وظهور الدولة العباسية، وعادة ما كانت الحمى المشيحانية تتصاعد بين اليهود (والأقليات بشكل عام) في مثل هذه الفترات.
وفي عام 755م أعلن أبو عيسى أنه الماشيَّح الذي سيحرِّر اليهود من الأغيار, وقاد بهذه الصفة تمردا ضد الحكم الإسلامي، وانضم له العديد من يهود فارس، لكن هذا التمرد تم إخماده بعد عدة سنوات وقُتل أبو عيسى.
لكن أتباعه كما هي العادة، أعلنوا أنه لم يقتل وإنما دخل كهفا واختفى, كما تداولوا بعض القصص عن المعجزات التي أتى بها، من بينها أنه ضرب المسلمين ضربة قوية, وأنه انضم لأبناء موسى في الصحراء ليطلق نبوءاته, وقد تأسست من بعده فرقة العيسوية التي ظلت قائمة حتى حوالي عام 930 م.
أما في العصر الحديث, فهناك كثير من الشخصيات اليهودية التي ادعت أنها المسيح المنتظر, ولكن أبرزهم شبتاي تسفي الذي ولد بأزمير وتلقى تعليما دينيا تقليديا, فدرس التوراة والتلمود واستغرق بدراسة التصوف اليهودي (القبالاه), عمل على ربط خلاص اليهود بشخصية المسيح المنتظر, فعدل بذلك صيغة الحلول الإلهي من الجماعة اليهودية إلى شخص المخلص (المسيح), ثم ادعى أنه المسيح المنتظر عام 1648م, فطرد من أزمير وتنقل بعد ذلك في كل من اليونان واسطنبول والقاهرة وفلسطين المحتلة.
ثم دخل القدس على فرس (كما هو متوقع من الماشيح) عام 1965م, وأعلن أنه المتصرف الوحيد في العالم كله, وأعلن أنه سيذهب إلى تركيا ويخلع السلطان, وأخذ يضفي على نفسه ألقابا يوقع بها رسائله منها: (ابن الإله البكر) (أبوكم يسرائيل) (أنا الرب إلهكم شبتاي تسفي) وقد قبض عليه في فبراير عام 1666 في اسطنبول وأودع السجن, قُدِّم بعد فترة من سجنه للمحاكمة، فأنكر دعوته وزعم أنه مجرد رجل يهودي عادي, كما أنه أعلن رغبته بالدخول للإسلام, فأشهر إسلامه نفاقا, وغير اسمه فأصبح (محمد أفندي) وتعلَّم العربية والتركية ودرس القرآن, وأسلمت زوجته من بعده، وسمت نفسها (فاطمة) ثم حذا حذوه كثير من أتباعه الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا اليهودية والكيد للإسلام, وقد أطلَق عليهم اسم (دونمه) (1).
ولكن تسفي مع هذا لم يقطع الأمل في أن يستمر في قيادة حركته، وظل كثير من أتباعه على إيمانهم به، لأن الماشيَّح في التصور اليهودي الصوفي (القبَّالي) (سيكون خَيِّراً من داخله ، شريراً من خارجه)، وهذه مواصفات تنطبق على تسفي تمام الانطباق.
ويتضح هنا تأثر تسفي بتفكير يهود المارانو بشأن ضرورة أن يُظهر المرء غير ما يُبطن, وقد نقل العثمانيون تسفي في نهاية الأمر إلى ألبانيا حيث مات بوباء الكوليرا عام 1676 م.
المسيح المنتظر في التوراة والتلمود
رغم عدم وضوح فكرة المسيح المنتظر عند اليهود في التوراة, ورغم قلة النصوص التي تحدثت عن هذه الفكرة, إلا أن اليهود أولوا الفكرة تأويلا كبيرا ومختلفا, فأصبح كل جيل يصنع مسيحه المنتظر حسب ظروفه وهواه, طبقا للصور الخيالية الوجدانية التي يحلم بها, وتعلقه بهذه الفكرة يزداد كلما زاد الاضطهاد الواقع على اليهود, مما جعلها الأمل الذي يتعلقون به.
ومن أبرز نصوص التوراة التي تحدثت عن المسيح المنتظر:
(ابتهجي جدا يا ابنة صهيون اهتفي يابنت أورشليم، هوذا ملكك يأتي إليك، هو عادل ومنصور، وديع وراكب على حمار ... ويتكلم بالسلام للأمم، وسلطانه من البحر ومن النهر إلى أقاصي الأرض) سفر زكريا 9/ 9- 10
وجاء في التلمود ( إن المسيح يعيد قضيب الملك إلى بني إسرائيل، فتخدمه الشعوب وتخضع له الممالك، وعندئذ يمتلك كل يهودي ألفين وثمانمائة عبد وثلاثمائة وعشرة أبطال يكونون تحت إمرته) بولس حنا مسعد ص 57
وفي سفر حزقيال وصف تفصيلي لكيفية احياء الله للموتى عندما يأتي المسيح:
(هكذا قال السيد الرب: هلم يا روح من الرياح الأربع، وهب على هؤلاء القتلى ليحيوا, فتنبأت كما أمرني، فدخل فيهم الروح فحيوا وقاموا على أقدامهم، جيش عظيم جدا جدا ثم قال لي: يا ابن آدم هذه العظام هي كل بيت إسرائيل هاهم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا ، فقد انقطعنا لذلك تنبأ وقل لهم: هكذا قال السيد الرب: هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم من قبوركم يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل) الإصحاح السابع والثلاثون فقرات ( 9 – 12 )
المسيح المنتظر بين الإسلام والمسيحية واليهود
تتفق الأديان الثلاثة على أن المعركة الكبرى والأخيرة التي ينتصر فيها دينها، ويتحقق لها وعدها، ويدمر فيها عدوها، لن تكون قيادتها من النوع المألوف لدى الناس، بل سيكون حامل لوائها منتظرا موعودا به، مؤيدا من عند اللّه، يسمى (المسيح)
يقول ابن القيم (رحمه الله): والأمم الثلاث تنتظر منتظرا يخرج في آخر الزمان؛ فإنهم وعدوا به في كل ملة.
وعلى هذا الأساس فإن معركة المستقبل ستكون بين مسيحين، أحدهما المسيح الدجال الذي يؤمن به اليهود ويسمونه ملك السلام والذي يهيئون لخروجه, ولكنهم لا يسمونه الدجال, بل يسمونه (الماشيح) ملك من نسل داود كما سبق.
والآخر هو المسيح بن مريم عليه السلام الذي يؤمن بنزوله وعودته المسلمون والنصارى, مع الاختلاف الكبير في مكان وتفاصيل نزوله وديانته ومهامه.
ويتفق اليهود والنصارى على أن المسيح المنتظر سيكون من بني إسرائيل، وسينزل بين بنى إسرائيل وسيكونون جنده وأعوانه، وستكون قاعدة ملكه هي القدس (أورشليم)، كما تتفق الطائفتان على أن تاريخ نزوله سيوافق رقما ألفيا (نسبة إلى الألف), ومستندهم في ذلك بعض التأويلات لما جاء في رؤيا يوحنا وحزقيال.
ويظهر جليا أن حلم النصارى بظهور المسيح وعودته للأرض ليقتل اليهود والمسلمين وكل من لا يدين بدينهم في معركة (هرمجدون) المشهورة, بينما حلم اليهود بخروج ملك من نسل داود, يقتل النصارى والمسلمين, ويخضع الناس لدولة إسرائيل, وهو المسيح الدجال, ومن هنا نفهم اتفاق اليهود والنصارى على إنشاء دولة إسرائيل في فلسطين تمهيدا لنزول المسيح المنتظر في هذا المكان.
ومع أن معنى ذلك أن حربا لا هوادة فيها ستقوم بين مسيح النصارى المنتظر (عيسى ابن مريم) ومسيح اليهود المنتظر (الدجال), إلا أن المكر اليهودي المعروف, والحقد والعداء النصراني للمسلمين, جعلهم يتفقوا على تأجيل الخوض في هذه التفاصيل, وحصر الاهتمام بمبدأ تهيئة نزول المسيح المنتظر, والقضاء على المسلمين العدو المشترك لكلا الطائفتين.
وأختم بحديث في وصف كل من المسيح عيسى بن مريم والمسيح الدجال , ليعلم الفرق بين عقائهم وعقائدنا , عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ (أُرَانِي اللَّيْلَةَ عِنْدَ الْكَعْبَةِ فَرَأَيْتُ رَجُلًا آدَمَ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ أُدْمِ الرِّجَالِ لَهُ لِمَّةٌ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ مِنْ اللِّمَمِ قَدْ رَجَّلَهَا تَقْطُرُ مَاءً مُتَّكِئًا عَلَى رَجُلَيْنِ أَوْ عَلَى عَوَاتِقِ رَجُلَيْنِ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ ثُمَّ إِذَا أَنَا بِرَجُلٍ جَعْدٍ قَطَطٍ أَعْوَرِ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّهَا عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ فَسَأَلْتُ مَنْ هَذَا فَقِيلَ الْمَسِيحُ الدَّجَّالُ) صحيح البخاري 9/33 برقم 6999
فشتان بين المسيح المنتظر بين عند اليهود والنصارى, والمسيح المنتظر عند المسلمين.
(1)كلمة تركية تعني (المرتدين) وفي أصلها مركبة من (دو) أي اثنين , و(نمة) بمنى نوع , أي الفرقة القائمة على نوعين من الأصول : النوع اليهودي والنوع الإسلامي , وقد حاول يهود الدونمة العدول عن هذه التسمية , حيث سموا أنفسهم (المؤمنين) (الرفاق) (المجاهدين) .
مراجع التقرير
الفكر الديني اليهودي حسن ظاظا
موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية د . عبد الوهاب المسيري
الفرق اليهودية المعاصرة د . أسماء سليمان السويلم
المسيح المنتظر وتعاليم التلمود د . محمد علي البار