قال أثير الدِّين أبو حيَّان النَّحوي الأندلسي(12) في ابنته نضار يذكر مرضها وصبرها ووفاتها ويعدِّد خلالها وصفاتها ـ رحمة الله عليها ـ :
أَمِـنْ بَعْدِ أن حـلّتْ نُـضَـيْـرَةُ في الرَّمْـسِ * تـطـيبُ حيـاتـي أو تـلـذُّ بـهـا نَـفْـسِـي
فــتــاةٌ عَــراهــا نـحــو سـتّـة أشـهـر * سُـقـامٌ غـريـبٌ جـاء مـختـلفَ الجِنْسِ
فَـحَـبْـنٌ وحُـمَّـى ثُـمَّ سُـلٌّ وسَـعْـلَــةٌ * وسَـكْـبٌ فـمـن يقـوى على عِلَلٍ خَمْسِ
وكــانـت رأتْ رؤيــا مــراراً وأنّـهــا * تـروح مـن الدُّنيـا إلـى حضـرة القُدْسِ
فَـقَـرَّ حَـشـاهـا واطـمـأنّـتْ لـما رأتْ * جِـنـانًـا وكـانـت مـن حيـاةٍ على يَـأْسِ
فمـا ضَجِرَتْ يومًا ولا اشتكتِ الضَّنَى * ولا ذَكَـرَتْ مـاذا تُـقاسـي مـن اليَـأْسِ
قَضَـتْ نَحْبَـهَا في يـوم الاثنـيـنِ بعدمـا * تـبـدَّى لـنـا قَرْنُ الـغَـزالـةِ كـالـوَرْسِ
فـصـلَّـى عـلـيـها النَّاسُ يُثْنُونَ وانْثَنَوْا * بـها لضـريحٍ مُظْلِمٍ مُوحِشِ الطَّـمْـسِ
يُـؤَنِّـسُـهَا فـي رَمْسِـهَا العـمـلُ الـذي * تَـقَـدَّمَـهـا أَعْـظِـمْ بـه ثَـمَّ مِـنْ أُنْـسِ
وراحـتْ إلــى ربٍّ كـريــمٍ نـظـيــفـةً * مُــبَــرَّأَةً مــن كــلِّ ذَامٍ ومِــنْ رِجْــسِ
ومـا وَلَدَ الـنِّـسْـوانُ أنـثـى شـبـيـهَـهَـا * وأنَّـى يـقـاسُ الأنـجـمُ الزُّهْرُ بالشّـمسِ
وكـانـتْ نُـضَـارُ نِـعْـمَـت الخـَوْدُ لم تَزَلْ * عـلى طـاعة الرَّحـمن تُـضْـحِـي كما تُمْسِي
نَــجِــيَّــةُ قُـــــــرْآنٍ تُــرَدِّدُ آيَــــــــهُ * مُـقَـسَّـمَــةً بــيــن الــتَّــدبُّــرِ والدَّرْسِ
وحـامـلـةُ الآثــارِ عــن ســيِّــد الـوَرَى * مـحـمَّـدٍ الـمـبـعــوثِ للـجـنِّ والإنـسِ
روتْـهـا بـمـصـر والـحـجـازِ وجـاوَرَتْ * بـمـكَّـةَ تَـسْـخُـو بالدَّنـانـيـرِ لا الفَـلْـسِ
وزارتْ رسـولَ الله أفـضــلَ مَــنْ مـشـى * بـطَـيْـبَـةَ واحْـتَـلَّـتْ بـأَرْبُـعِـهَـا الـدُّرْسِ
مُــصَــلِّــيَــةً حــيــنًا عــلــيـه وتــارةً * مُـسَـلِّـمَـةً فـي الـجـهر منـها وفي الهَمْسِ
وحــازتْ جـمــالًا بـارعًـا وفـصـاحــةً * فـأَوْضَـحُ مِـنْ شـمـسٍ وأَفْصَـحُ من قُسِّ
وتـكـتــبُ خـطًّــا نـادرًا ذا بـراعــــــةٍ * يُـرِيـكَ ازْدِهَـــاءَ الرَّوْضِ في أَبْهَجِ اللُّبْسِ
فـمـا الرَّوْضُ مَـطْــلُـولًا تَـفَـتَّـحَ زَهْـرُهُ * فَـراقَ لـذي عَـيْـنٍ وشَــاقَ لذي حِسِّ
بـأَبْـهَـجَ مـمَّـا قـد وَشَـتْــهُ أنــامــلٌ لـها * بـسـواد النَّـفس في أَبْيَضِ الطِّرْسِ
فـلـو أَبْـصَـرَتْـهُ لابنِ مُـقْـلَـةَ مُـقْـلَـةٌ * لأَغْضَتْ حياءً وَهْوَ قد عَضَّ في الخَمْسِ
سقـى روضـةً حَـلَّـتْ نُضَـارُ بـتُـرْبها * مـن الـمُزْنِ وَبْلٌ دائمُ السَّحِّ والبَجْسِ
ولا زال تَـسْـقـيـه سـحــائـبُ رحمةٍ * تُـوالـيــه فـي آتٍ وحـالٍ يلـي أمسِ
حُقَّ لأبي حيَّان أن يبكي فلذة كبد مثل نضار، ضربت لبنات جنسها أروع الأمثلة في طاعة الله تعالى، والاشتغال بحديث رسول الله ﷺ، والاهتمام بالعلم النَّافع، و الإقبال على العبادة، ولا أحسب في الدُّنيا والدًا إلَّا متمنِّيًا بكلِّ صدق أن يرزقه الله بابنة من هذا الطِّراز، تكون لوالديها قرَّة عين تشفع لهما يوم القيامة بإذن المولى، بعد أن أحسنَا تربيتها وفق الأصول الإسلاميَّة الرَّائعة.