[SIZE="6"][B][COLOR="Indigo"]ثانيا: طبيعة نظام عمل الشركات Régime fonctionnel des sociétés
يتميز القرن العشرين بأنه عصر التكتلات الاقتصادية بين الشركات الأمر الذي أدى لظهور فكرة مجموعات الشركات والتي تتعدى أنشطتها حدود الدولة الواحدة. هذا التغير الذي شهدته الشركات أدى إلى تمتع القائمين على إدارة هذه المشروعات بسلطات واسعة تدفعها إلى الانحراف المالي مما يوجب التدخل الجنائى من هنا كان ظهور الجرائم الخاصة بحماية المساهمين من عسف الانحراف بالسلطة من قبل القائمين على الإدارة، وكانت الجرائم الخاصة بردع الإساءة في إدارة أموال وائتمان الشركة.
إلى جانب كل ذلك فإننا قد لاحظنا وجود عدم توازن في السلطة داخل الشركات، خاصة شركات المساهمة، ناشئة كما قلنا عن السلبية التي يبديها المساهمين تجاه أنشطة الشركة. هذه الظاهرة ساعدت على ظهور نصوص جنائية تكفل للمساهمين ممارسة تأثير فعال داخل الجمعيات العمومية، ومنها الجرائم الخاصة بممارسة حق التصويت والدعوة لحضور الجمعية العمومية وكذلك الجرائم الخاصة بانعقاد وسير هذه الجمعيات.
ولضمان رقابة فعالة من قبل المساهمين فإنه كان يجب التغلب على ما أظهره الواقع العملى من قصور نظام الإعلام الموجة للمساهمين عن نشاط الشركة ووضعها المالي و التجاري. من هنا كان ظهور نصوص جنائية أخرى لحماية حق المساهمين في الإعلامDroit à l’information ولعقاب الإخلال في إجراءات الدعاية المفروضة على المؤسسين والقائمين على الإدارة.
ثالثا: تحول دور الدولة Transformation du rôle de l’Etat
أخر العوامل التي ساهمت في نمو وتطور القانون الجنائي للشركات هو التحول الذي طرأ على دور الدولة في الحياة الاقتصادية. فكما يكشف البعض، أنه فى خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر كان المبدأ هو الحرية التعاقدية بحيث كان دور الدولة ضئيلا في تنظيم النشاط الاقتصادي والتجاري في ظلها. ومع بدايات القرن العشرين فإن نظرة جديدة للدولة ودورها بدأت تتشكل وذلك على أثر الحرب العالمية الأولى مصحوبة بالأزمة الاقتصادية في عام 1929 و العديد من الفضائح المالية للعديد من رجال الأعمال. في هذه الفترة ظهرت الحاجة ملحة إلى ضرورة التدخل لحماية بعض الأنشطة الاقتصادية خاصة في مجال الأسعار والمنافسة. وكان على الدولة ضمان القيام بهذا الدور بحيث بدأنا الدخول في عصر تدخل الدولةL’interventionnisme étatique بعد أن ساد مبدأ الحرية الاقتصادية و الحرية القانونية.
وفي مجال الشركات فإن المرسوم بقانون الصادر في 8 أغسطس 1935 حول الشركات التجارية الذي أنشأ تجريمات جديدة خاصة بتأسيس وإدارة و رقابة الشركات هو أحد مظاهر هذا التدخل من قبل الدولة. هذه المهمة الجديدة أدت على المستوى القانوني إلى ظهور أفرع قانونية جديدة منها القانون الجنائي الاقتصادي، الذي يمثل أحد الظواهر القانونية الأكثر وضوحا خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية والذي يكشف بوضوح عن هذا المفهوم الجديد لدور الدولة في الحياة الاقتصادية.
ولقد كان القانون 24 يوليه 1966 تعبيراً أخر عن هذا التغيير فى دور الدولة، بل وهو نتيجة لظهور فكرة القانون الجنائى الاقتصادى وذلك على الرغم من أن التعريف الحالي لهذا الأخير، كمجموعة من القواعد الجنائية الموضوعية والإجرائية التي تهدف إلى ضمان أداء الدولة لسياستها في مجال الإنتاج وتوزيع الأموال وكذلك ضمان أداء دورها في استخدام هذه الأموال وتوزيع الخدمات ، لا يمكننا من تصنيف القانون الجنائي للشركات كأحد أفرع القانون الجنائي الاقتصادي، غير أن هذين الفرعين يشتركان رغم ذلك في هدف واحد ، خاصة بالنسبة للشركات التي تدعو للاكتتاب العامFaisant publiquement appel à l’épargne وهو حماية المصالح الاقتصادية القومية.
أيا ما كان الأمر فإن التدخل الجنائي في مجال الشركات أصبح حقيقة وأمر واقع خاصة في القانون الفرنسي الصادر فى 24 يوليه 1966 وعلى نحو أقل في القانون المصري رقم 159 لسنة 1981، وبالطبع لا يمكن أن تنصب الدراسة على كل النصوص الجنائية الواردة فى هذين القانونين لذا فقد تخيرنا فقط السياسة الجنائية التى تبناها المشرع والقضاء الفرنسى فى مجال إدارة أموال وائتمان الشركات خاصة إذا ما علمنا أن التشريع المصرى فى هذه النقطة يعتريه النقص تاركا الأمر للقواعد العامة التقليدية فى قانون العقوبات.
ويتصف النموذج الفرنسى فى مجال حماية أموال وائتمان الشركات بصفة المرونة على المستوى التشريعى ووجود إسهام خلاق على المستوى القضائى. ولكل من المستويين سوف نخصص الفصل الثانى والثالث من الدراسة.
الفصل الثانى
المرونة التشريعية فى مجال حماية الذمة المالية للشركة
تمثل حماية الذمة المالية للشركة أحد المشكلات الهامة فى القانون الجنائى للشركات، حيث تمثل هذه المشكلة الكثرة الغالبة من القضايا المعروضة أمام مختلف المحاكم ويبرر ذلك، كما سبق القول، هو السلطة الواسعة التى يتمتع بها القائمون على إدارة الشركات فى توجيه نشاطها وعناصرها المالية بما يسمح بالتالى فى نشوء العديد من الانحرافات.
ولقد كشفت التجربة عن أن مديرى الشركة غالبا ما لا يستشعرون التفرقة بين أموالهم الشخصية وأموال الشركة ذاتها، فيتصرفون وكأن هذه الأخيرة هى من قبل ما يملكون ويوجهونها لأغراض شخصية، كل ذلك على حساب المشروع ذاته الذى عهد إليهم بإدارته. وتكشف طول قائمة الفضائح المالية التى شهدتها فرنسا ومصر فى السنوات العشر الأخيرة عن الخطر الفادح الذى يحيق بالشخص المعنوى عندما يدار من قبل هذا النمط من المديرين.
ولا يمكننا من أجل الحد من هذه الانحرافات القول بتحجيم سلطات القائمين على الإدارة حيث أن متطلبات حياة الأعمال وحسن إدارة الشركة ذاتها يستوجبان أن يترك لهؤلاء حرية القيام بأعمال الإدارة, دون الإكثار من القيود والشكليات . من أجل ذلك كان اللجوء إلى نظام تجريمي خاص, دون المساس بالسير الطبيعى للمشروع, للعقاب على أعمال الإثراء الشخصى والتى تعارض المصلحة العامة للشركة. L’intérêt social هذا النظام التجريمى الخاص هو ما يعرف بجريمة إساءة أموال وائتمان الشركات التى أنشأها المشرع الفرنسى بالمرسوم بقانون 8 أغسطس سنة 1935. فلقد أضاف هذا المرسوم إلى المادة 15 من القانون 24 يوليو 1867 فقرة سادسة لكى يعاقب "كل مدير لشركة توصية بالأسهم استعمل عمدا أموال أو ائتمان الشركة فى غير الغرض الذى أنشئت من أجلة". وتقرر المادة 45 من ذات القانون تطبيق هذا النص على مديرى شركات المساهمة ثم أتى المرسوم الصادر فى 30 أكتوبر 1935 ليطبق ذات النص فى مجال الشركات ذات المسئولية المحدودة . هذه النصوص تم تبنيها، بعد إجراءات تعديلات أخرى فى الصياغة، بموجب القانون الجديد 24 يوليو 1966 الخاص بالشركات التجارية والمعمول به حتى الآن فى فرنسا.
وبتقرير التدخل التشريعى على هذا النحو فإن المشرع الفرنسى أراد تحقيق هدفين: أولهما هدف الإدارة الأمينةGestion loyale للذمة المالية للشركة Patrimoine social والتى تمثل بشكل غير مباشر حماية للأموال المشتركة للمساهمين والشركاء أنفسهم. والرغبة فى تحقيق هذا الهدف يجعل من جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات جريمة ذات غرض حمائىInfraction protectrice للأقلية من الشركاء Associés minoritaires ضد تعسف الأغلبية وضد السلطة شبة المطلقة التى يتمتع بها القائمين على الإدارة.
وحيث أن الذمة المالية للشركة إنما تمثل الضمان العام للدائنينGage général des créanciers , فإن هدفا أخر أراد المشرع تحقيقه من وراء إنشاء هذه الجريمة وهو ضمان التكامل المالى للذمة المالية للشركةL’intégrité du patrimoine حتى يضمن للدائنين الحد الأقصى من الائتمان. فمن مصلحة هؤلاء هو الحد من التصرفات غير المشروعة للمديرين التى تضعف من هذا الضمان أو تؤدى إلى فقدانه كاملا . وجملة القول هو أن هذا الخلق التشريعى يتعلق, كما يقول الفقه الأنجلوسكسونى, بتجريم لحماية الثقة والأمانةIncrimination fiduciaire والذى يهدف إلى عقاب الإخلال بواجب الأمانةDevoir de fidélité الواقع على عاتق المدير تجاه الشركة التى يديرها .
وفى إطار القانون الفرنسى الحالى للشركات التجارية لسنة 1966 فإن تجريم إساءة أموال وائتمان الشركات يندرج فى المواد 437-3 فيما يتعلق بالشركات المساهمة و 425–4 فيما يتعلق بالشركات ذات المسئولية المحدودة. يضاف إلى ذلك المادة 460 والتى تقضى بتطبيق هذه الجريمة فيما يتعلق بشركات التوصية بالأسهم. هذه المواد, والتى تتطابق فى ألفاظها, تعاقب : كل مدير استعمل بسوء نية أموال وائتمان الشركة مع علمه بأن هذا الاستعمال يتعارض مع مصلحة الشركة ويستهدف تحقيق أغراض شخصية أو تفضيل شركة أو مشرع أخر له فيه مصلحة مباشرة أو غير مباشرة.
Les dirigeants qui, de mauvaise foi, ont fait des biens ou u crédit de la société un usage qu’ils savaient contraire à l’intérêt de celle-ci, à des fins personnelles ou pour favoriser une autre société ou entreprise dans laquelle ils étaient intéressés directement ou indirectement.
وباستقراء هذا النص يتبين لنا أن المشرع الفرنسى قد استعمل ألفاظا يشوبها الغموض وعدم الوضوح ضاربا بذلك بأحد أركان الشرعية الجنائية. غير أن هذا الأمر مقصود لتحقيق مرونة تشريعية تستهدف الردع الفعال للأى شكل من أشكال الانحراف المالى خاصة مما لا ينطبق عليه النصوص التقليدية فى جرائم الأموال. وتتعلق هذه المرونة التشريعية سواء بماديات الجريمة، وهى كما يظهر من النص عنصرين أولهما استعمال أموال وائتمان الشركة وثانيها تعارض هذا الاستعمال مع مصلحة الشركة, وسواء بالعناصر المعنوية أو النفسية الخاصة بالجانى والتى لا تتعلق بمجرد خطأ فى الإدارةFaute de gestion ناشئ عن عدم يقظة أو تبصر أو قلة الكفاءة من قبل المدير، والذى لا يدخل تحت طائلة العقاب الجنائى وإنما يمكن أن يثير فقط المسئولية المدنية للمدير, ولكنها تتعلق بعنصر نفسى مبنى على سوء النية وتحقيق المصلحة الشخصية.
ولأغراض الدراسة هذا العام بدبلوم العلوم الجنائية فسوف نركز فقط على المظهر الأول من مظاهر المرونة المتعلق بماديات الجريمة محاولين استظهار المقصود بالاستعمال والمقصود بالاستعمال المتعارض وتحديد فكرة مصلحة الشركة. فمن المعلوم أنه على الخلاف من التجريم الخاص بخيانة الأمانة، الذى يستوجب، وفقا للمبادئ التقليدية، الاختلاس أو التبديد Détournement ou dissipation فإن ماديات جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات لا ينصرف إلا لمجرد الاستعمال البسيط والمجرد للأموال أو الائتمان والذى يكشف بمفرده عن عدم الأمانة فى إدارة الشركة ويكفى كى يعد استعمالا تعسفيا على نحو ما تصفه المحاكم (مبحث أول). غير أن هذا الاستعمال وحده لا يكفى لترتيب النتائج الجنائية ولا يقع تحت طائلة العقاب إلا حيث يكون استعمالا مضادا لمصلحة الشركةUsage contraire à l’intérêt social فما المقصود بهذا التضاد أو التعارض وما المقصود بمصلحة الشركة ؟ (مبحث ثان).
المبحث الأول :الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة
إن استخدام لفظ استعمال من قبل المشرع الفرنسى إنما استهدف به سد النقص الذى ظهر فى تطبيق جريمة خيانة الأمانة فى مجال الشركات التجارية، وهذا يدعونا إلى البحث أولا فى مظاهر هذا النقص قبل أن نحدد فى فرع ثان مضمون هذا الاستعمال التعسفى والمحل الذى يرد عليه.
الفرع الأول :خيانة الأمانة وحماية الذمة المالية للشركة
على الرغم من أن ظهور تجريم خاص بحماية الذمة المالية للشركة, والتى تتمثل فى أموالها وائتمانها, لم يتحدد إلا فى عام 1930، إلا أنه لا يجب الاعتقاد بأنه قبل هذا التاريخ لم تكن هذه الذمة مشمولة بالحماية الجنائية. فقبل هذا التاريخ بذل القضاء الفرنسى جهدا كبيرا كى يتعقب الانحرافات المالية فى مجال الشركات بمحاولة إخضاعها للنصوص الخاصة بخيانة الأمانة (المادة 408 عقوبات فرنسى قديم وحاليا المادة 314 عقوبات فرنسى جديد).
غير أن وضع هذا التجريم محل التطبيق فى مجال الشركات قد صادفته عقبات كثيرة ناشئة عن أن المادة 408 عقوبات لا تجرم إلا أفعال الاختلاس والتبديد الأمر الذى يندر حدوثه وارتكابه من قبل القائمين على الإدارة، الأمر الذى يبرر ظهور التجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات والذى يعد وفقا للشراح الابن أو النص المدللTexte gâté لخيانة الأمانة . وإذا كان الأمر كذلك فيما يتعلق بخيانة الأمانة فى صياغتها القديمة الواردة فى المادة 408 عقوبات فرنسى فإن التساؤل يثور عن مدى الحاجة إلى تجريم خاص بحماية أموال وائتمان الشركات فى ضوء التعديل الذى أوردة المشرع الفرنسى على خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة الواردة بالمادة 314/1 عقوبات فرنسى جديد.
أولا: دور خيانة الأمانة فى صياغتها القديمة فى حماية الذمة المالية للشركة
كما سبق القول فإنه قبل عام 1935 استخدم القضاء الفرنسى، من أجل ردع الانحرافات المالية الخاصة بأموال وائتمان الشركات, نص المادة 408 الخاص بخيانة الأمانة, ولقد كانت نقطة البداية عنده هى تبنى الفكرة المعروفة بنظرية "الوكالة عن الشركاء"Mandat social , والتى وفقا لها فإن فى كل شركة توجد بين الشركاء والقائمين على الإدارة رابطة وكالة يعهد بمقتضاها لهؤلاء بإدارة الذمة المالية للشركة فيما تقتضيه مصلحتها. غير أن تطبيق هذه النظرية سرعان ما صادفته الصعوبات الأمر الذى استوجب من القضاء أحيانا التوسع فى تفسير نص المادة 408 فى غير الحالات التى يقتضيه التطبيق التقليدى للنص والمعنى الضيق لخيانة الأمانة المبنى على عنصرى الاختلاس والتبديد.
1- نظرية الوكالة عن الشركاء La théorie du mandat social
إن عدم وجود نص خاص ينطبق على الأفعال الماسة بالذمة المالية للشركة ألزم القضاء بتحويل دور جريمة خيانة الأمانة, الذى ينصرف إلى حماية الملكية الفردية فى العلاقات بين الأفراد الطبيعيين بعضهم البعضRapports d’individu à individu ، إلى دور يهدف إلى حماية هيكل مستقل ومنظم من قبل القانون آلا هو الشركة ذاتها. ولقد كان باب هذا التحول هو خلق ما يعرف بنظرية الوكالة بين الشركاء . والتخريج القضائى لهذه النظرية مؤداه الأتى: حيث أن عقد الشركة ذاته لا يرد ضمن العقود المحددة بنص المادة 408 وحيث أن القانون 28 أبريل 1832 كان قد أضاف عقد الوكالة, الذى يعرف بأنه العقد الذى بموجبة يعهد الشخص إلى شخص أخر بسلطة القيام بعمل لحسابه وبإسمه (المادة 1984 مدنى فرنسى و 699 مدنى مصرى), إلى جملة العقود التى حال مخالفتها يقع الشخص تحت طائلة العقاب عن خيانة الأمانة, فإنه يمكن اعتبار المديرين بناء على هذا التعريف المدنى وكلاء Mandataires عن المساهمين ، ويتعين عليهم عندئذ الالتزام بإدارة أموال الشركة لمصلحة هذه الأخيرة ويخضعون عند الإخلال بهذا الالتزام إلى نصوص خيانة الأمانة وخاصة إذا ما تضمن الإخلال اختلاسا أو تبديدا لأموال الشركة .
ولقد كانت بداية نشأه نظرية الوكالة بين المديرين والشركاء الحكم الصادر فى 18 مارس 1842 عن محكمة استئناف روان .Rouen وفى إجابة الحكم على التساؤل عما إذا كان فعل الاختلاس الذى ارتكبه أحد مديرى شركة التوصيةSociété en commandite مما ينطبق عليه نص خيانة القانون الوارد فى المادة 408 عقوبات قالت المحكمة إنه من المهم البحث عن الرابطة بين مدير شركة التوصية وبين بقية الشركاء. وبالبحث فإن هؤلاء ليسوا مجرد مقرضو أموالBailleurs de fonds لكنهم فى حقيقة الأمر شركاء حقيقيين ولهم الحق, بمقتضى الثقة التى أولوه إياها فى إدارة الشركة, مطالبته بالحسابات التى تعكس نشاط الشركة. وحيث أنه ليس من المقبول القول بأن هذا المدير لا يمارس سلطات بموجب وكالة عنهم, وحيث أن المدير ما هو إلا وكيل عن بقية الشركاء وأنه تلقى عنهم مهمة إدارة الشركة فيما فيه المصلحة العامة لبقية الشركاء, وحيث أنه لم يكن أمينا حيال ما يقع عليه من التزامات وأنه قد انتهك الوكالة الملقاة علية باختلاسه أموال الشركة فإن يرتكب عندئذ جريمة خيانة الأمانة.
هذا القضاء ذاته كان قد تأكد بعد عدة سنوات فى حكم لمحكمة النقض صادر فى 5 أغسطس 1845 أيدت فيه المحكمة تطبيق المادة 408 عقوبات على مديرى شركة التوصية بقولها : إنه من المقرر قانونا أن عقد الشركة لا يستبعد تواجد رابطة الوكالة بين الشركاء وبين القائمين على الإدارة. فذات العقد الذى تنشأ به الشركة ويحدد حقوق الشركاء يمكن أن يتضمن بيان السلطات الممنوحة إلى أحد المتعاقدين لإدارة الشركة فيما فيه مصلحة بقية الشركاء. وعلى الرغم من اندماج هذه الوكالة فى ذات عقد الشركة, فإن هذا لا يغير من حقيقتها ويستوجب إعمال كافة أثارها ومنها التزام الوكيل بالعمل فى حدود وكالته ومكنة عزله ومكنة مجازاته حال ارتكاب خطأ أو غش يتعلق بما يقوم به من أعمال بمقتضى هذه الوكالة.
وفى أعقاب هذا الحكم توالت العديد من الأحكام التى تؤكد فيها محكمة النقض قضائها سالف الذكر .
غير أنه إذا كان من السهل الاعتراف بفكرة الوكالة فى الشركات التى مازال يظهر فيها أثرا للمفهوم العقدى للشركةConception contractuelle ، وهى شركات الأشخاص ( التضامن والتوصية البسيطة والمحاصة)، فإن الاعتراف بهذه الفكرة فى مجال شركات الأموال، خاصة شركات المساهمة، والتى يسودها المفهوم النظامى أو القانونى للشركةConception institutionnelle يعد أمرا محل شك. ففى هذا النوع من الشركات تتوقف حدود الإرادة على مجرد الاتفاق على تكوين أو الدخول فى الشركة بينما ينظم القانون ذاته هذا الشخص القانونى من حيث كيفية تأسيسه وإدارته وكيفية انقضائه، مبينا خلال ذلك حقوق وواجبات المساهمين وحقوق وواجبات القائمين على الإدارة، مما يصعب معه القول بوجود هذه الوكالة حيث يضعف دور الإرادة فى هذه الشركات.
وللتغلب على هذه المشكلة ذهب الفقه إلى القول بأن الوكالة فى مجال الشركات التجارية لم تعد ذلك المفهوم المدنى المبنى على السلطة المخولة من شخص إلى أخر للقيام بعمل لمصلحته ولحسابه الشخصى ولكنة مفهوم أكثر رحابة يتعلق بالرابطة بين الشخص المعنوى ذاته وبين الأشخاص الطبيعيين والتى بمقتضاها يمنح الشخص المعنوى هذا الأخير السلطات الضرورية التى تمكنه من القيام بأعمال الإدارة لما فيه مصلحة الشخص المعنوى ذاته .
وفى ضوء هذا التفسير فإنه يمكن تطبيق نصوص خيانة الأمانة على جميع أشكال الشركات التجارية والمدنية وحتى على الجمعيات وشركات الواقع Sociétés de fait وحتى على النقابات. وهو ذات الأمر فى شركات المحاصةSociété en participation حيث يمكن لأحد الشركاء, فى علاقته ببقية الشركاء أن يكون وكيلا بما يرتبه هذا التكييف من نتائج على المستوى الجنائى .
فى كل هذه الأنواع من الشركات توجد بين القائمين على الإدارة وبقية الشركاء نوع من الوكالة العامة Mandat général، ولا يهم بعد ذلك طبيعة هذه الوكالة، فيمكنها أن تكون وكالة مكتوبة أو شفاهية, مجانية أو بأجر، بل ويمكن للوكالة أن تكون ضمنيةTacite . ويكفى فى جميع الأحوال بالقول بوجود هذه الوكالة بين الشركة والقائم على إدارتها هو قبول مهمة القيام بالإدارة، حيث تقع عندئذ على عاتق هذا الأخير ممارسة سلطات الإدارة فيما فيه المصلحة المطلقة للشركة.
وتطبيقا لهذا فإنه يعد مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة رئس مجلس إدارة شركة المساهمة الذى يستمر رغم قرار مجلس الإدارة فى الحصول على بدل تمثيل, أو يستعمل - ولو فى مصلحة الشركة - عائد الاكتتاب فى الأسهم قبل غلق باب الاكتتاب Clôture de la souscription. ولا ينفى الإخلال بالوكالة القائمة وجود ترخيص سابقAutorisation préalable أو تصديق لاحقApprobation من مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية للمساهمين، بل على العكس يمكن لهذا الترخيص، حسب الظروف، أن يعد نوعا من الاشتراك فى خيانة الأمانة. كما لا ينفى هذه الوكالة, وبالتالى خيانة الأمانة، أن يكون القائم على الإدارة يملك أغلبية الأسهم أو رأس المال .
2- التفسير الموسع من قبل القضاء للمادة 408 عقوبات
إذا كان تطبيق نظرية الوكالة عن الشركاء قد يبدو واضحا إلا أن النتيجة التى توصلت إليها هذه النظرية، آلا وهى تطبيق جريمة خيانة الأمانة، أمر يصعب التسليم به علي إطلاقه، فقد لا ينصرف فعل المدير إلى ارتكاب احد عناصر السلوك الإجرامى لخيانة الأمانة في صورة الاختلاس أو التبديد المباشر للأموال الشركة المعهود إليه بإدارتها. فغالبا ما يسمح هذا الهيكل القانونى بارتكاب أعمال وحيل تخرج عن التفسير الضيق لهاتين الفكرتين.
من هنا جاء دور القضاء في التوسع في تفسير المادة 408 عقوبات وخاصة فيما يتعلق بالسلوك الذي تتم به خيانة الأمانة. وعلي هذا اتجه القضاء تطبيقا لذلك باعتبار اختلاسا مكونا للسلوك المادى لخيانة الأمانة مجرد الاستعمال للأموال الشركة لتمويل صفقات غير رابحة وتوزيع مكافآت ومزايا تعسفية نظرا لتوزيعها خفية علي أعضاء مجلس الإدارة أو لأن مبالغها مبالغ فيها Montant excessif. واعتبر من قبيل خيانة الأمانة أيضا سلوك مدير الشركة الذي يظهر تحقيق أرباح في السنة المالية التي يباشر فيه عملة كى يقنع مجلس الإدارة بالموافقة على منح قروض أو سلف يزعم قابليها للاسترداد إلى شركة أخرى Des avances prétendument remboursables . وفعل المدير الذي يقبل بإسم الشركة ولمصلحة الغير كمبيالات مجاملة Effets de complaisance بحيث يتم إبراء الدين من خلال أموال الشركة ذاتها.
كذلك طبق القضاء نص المادة 408 في حالة استعمال أموال الشركة في غير الغرض الذي أنشئت من أجله الشركةFins étrangères à l’objet social سواء أكان ذلك بهدف المضاربة في سوق معين أو بهدف تحقيق أرباح سريعة أو كان ذلك بهدف تحريك الأموال من مشروع إلي مشروع أخر يكون للقائمين على الإدارة في هذا الأخير مصلحة شخصية.
ورغم هذه التطبيقات, التي تكشف عن قضاء جرئ ومجامل, فإن هذا التوسع مازال لا يفي بتحقيق سياسة الردع في مجال أموال وائتمان الشركات. فمازال هناك من الأفعال غير المشروعة التي تمس بهذه الأخيرة ولكنها تندرج تحت وصف خيانة الأمانة سواء لأنه من الصعب إدراج الأفعال المرتكبة تحت وصف الاختلاس أو التبديد بالمعني الضيق لهما أو سواء كان السلوك الإجرامي لا يمثل إلا مجرد امتناع أو إهمال أو لأن الشيئ الذي ورد عليه فعل الاختلاس لا يرد ضمن الأشياء المحصورة فى المادة 408 عقوبات (كمبيالات – بضائع - إيصالات - تذاكر...).
ولنا أن نتسآل كيف يمكن أن نطبق نص خيانة الأمانة على أحد المديرين الذي لا يتوافر في حقه إلا أنه أمر بإبرام صفقه تبدو غير مربحة بالنسبة للشركة ولكنة يمكن أن يجنى هو ذاته منها ربح شخصي ؟ وكيف يمكن تطبيق النص على الفعل الضار بائتمان الشركة المتمثل فى تقديم توقيع الشركة لضمان ديون أو كمبيالات شخصية ؟ من المتعذر إدخال مثل هذه الفروض وغيرها في مفهوم الاختلاس والتبديد. يضاف إلي ذلك أن خيانة الأمانة لا تتعلق إلا بالمنقولات بما لا يسمح بتعقب أفعال الاختلاس الواردة علي العقارات رغم أنها تمثل جزا هاما من الذمة المالية للشركة .
لكل هذا كان يلزم التدخل بإنشاء جريمة خاصة تناسب حقيقة الواقع داخل الشركات ولكى يتوافق القانون الجنائى مع واقع الإدارة. وهذا التدخل تستوجبه طبيعة الحياة الاقتصادية والتجارية والتي لا يمكنها التوافق أو التلائم مع قضاء مضطرب لا يحكمه تشريع ، وهو الأمر الذي تجنبه المشرع الفرنسي بالمرسوم بقانون 8 أغسطس 1935 ومن بعده قانون الشركات الفرنسي الحالي الصادر في 24 يوليه 1966.
ورغم التدخل التشريعى بجريمة خاصة تتعلق بحماية أموال وائتمان الشركات إلا أن تجريم خيانة الأمانة عاد من جديد يطل برأسه مع صدور قانون العقوبات الفرنسى الجديد والذى تبنى فى المادة 314/1 صياغة جديدة ومرنة لخيانة الأمانة تخالف نص المادة 408 من قانون العقوبات القديم. هذا النص الجديد يعرف خيانة الأمانة بأنها "اختلاس أصول Fonds أو قيم Valeurs أو أموال Biens أيا ما كانت إضرار بالغير إذا سلمت إليه مع قبوله ردها أو عرضها أو أن يستعملها استعمالا معينا".
ويقرر الفقه أن المشرع الفرنسى بهذه الصياغة الجديدة، التى تجرى تعديلات جوهرية بالمقارنة بالمادة 408، قد فتح من جديد باب الجدل حول ضرورة الاحتفاظ بتجريم خاص لأموال وائتمان الشركات قائلين بأنه يكفى بالتالى تطبيق هذا النص الخاص بخيانة الأمانة. ثانيا:اء المنافسة من جديد بين التجريمين يتعين أن نطرح التساؤل التالى: هل يمكن أن تكفل خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة الحماية الكافية لأموال وائتمان الشركات ؟
ثانيا : دور خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة فى حماية الذمة المالية للشركة
أحد الأسئلة التى ألحت على الفقه عند صدور قانون العقوبات الفرنسى الجديد هو إذا ما كان نص المادة 314/1 الخاص بتعريف خيانة الأمانة يمكن أن يستوعب حالات إساءة أموال وائتمان الشركات الواردة بالمواد 425/4 و437/3 من قانون الشركات خاصة بعد الانتقادات الشديدة التى بدأ يوجهها الفقه الفرنسى فى الفترة الأخيرة لهذا التجريم الأخير بحيث يمكن الاستغناء عن هذا التجريم لصالح النص العام ذلك لأن هذا التجريم الخاص بإساءة الأموال ما هو إلا شكل من أشكال خيانة الأمانة يتوائم مع طبيعة ونمط حياة الشركة. وبمعنى أخر آلا يفى النص الجديد لخيانة الأمانة بمتطلبات الحماية والردع الجنائيين فى مجال الشركات التجارية ؟
للإجابة على هذا التساؤل نبين أولا موقف الفقه المؤيد لهذا الحل طارحا بالتالى النظرية التى أطلقنا عليها نظرية الامتصاص أو الاستيعاب Théorie de l’absorption - بمعنى استيعاب النص العام الجديد للنص الخاص بقانون الشركات - قبل أن نبين رأينا فى الموضوع.
1- مضمون نظرية الاستيعاب أو الامتصاص
يعبر جانب من الفقه عن أسفه للاحتفاظ بالتجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات, رغم ما يثيره من مشكلات على الصعيد القانونى والقضائى فى السنوات العشر الأخيرة , رغم أن هذا التجريم لم يعد ليضيف جديدا فى أعقاب التعديل الذى أجراه المشرع على صياغة خيانة الأمانة بالمادة 314/1 عقوبات. ويؤيد هذا الرأى منطقة بنوعين من الحجج أولهما يبنى على مرونة الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة وثانيهما يبنى على المزايا التى تمنحها الصياغة الجديدة لمديرى الشركات.
أ- مرونة الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة
أحد الأسباب التى اضطلع الفقه بترديدها لبيان عدم الحاجة لتجريم خاص بحماية أموال وائتمان الشركات هو أن النص الجديد لخيانة الأمانة يتميز بالمرونة والرحابة التى تستوعب كل الحالات التى كان النص الخاص قد جاء لتغطيتها.
فنص المادة 314/1 بالمقارنة بنص المادة 408 عقوبات قد ألغى القائمة المحددة للعقود الستة التى كان يتعين توافر إحداها لقيام خيانة الأمانة. هذا الهجر لفكرة العقود كشرط مفترض يهدف إلى تبسيط وتحسين الردع الجنائى بالتخفيف عن القاضى عبئ الالتزام بالتكييف بما مؤداه أن أى رابطة عقدية أو غير عقدية Extracontractuelle لم تعد شرطا لقيام خيانة الأمانة وأن غيابها لا ينفى قيام الجريمة . وعلى ذلك فمديرى الشركات شأنهم كشأن المستأجر أو المودع لدية أو الوكيل أو المقرض أو العامل ... الخ لم يصبحوا بمنأى عن الملاحقة الجنائية على أساس خيانة الأمانة.
وعلى أساس هذه الصياغة المرنة , فإنه يمكن توجيه الاتهام - على أساس خيانة الأمانة - من التصرفات أو القرارات الصادرة من جانب واحد Unilatérales ومنها التصرفات التى تقرر السحب من خزانة الشركة لصالح الدائنين الشخصيين للمدير ذاته أو لصالح أحد أفراد أسرته أو لصالح شركة أخرى. ومن ذلك أيضا التصرفات التى تهدف إلى تحميل الشركة نفقات شخصية للمدير أو تقرير مكافأة شخصية له Auto rémunération أو تقديم ما يثبت تعهد الشركة بضمان الالتزامات القانونية لشخص أو لشركة أخرى .
وقد أضاف هذا الجانب من الفقه أيضا أنه مع بعض المرونة فى تفسير أركان خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة فإننا يمكن أن نصل إلى فكرة الاستيعاب أو الامتصاص. فمثلا التسليم Remise كركن فى خيانة الأمانة يمكننا أن نعطيه تعريفا يتطابق مع الطريقة التى يتلقى بها المدير فى الشركة الأهلية للإدارة والتصرف فى أموال الشركة بحيث يصبح هذا المفهوم ليس فقط التسليم كعمل مادى محض Acte purement matériel ينتقل به المال من أحد الأشخاص إلى شخص أخر ولكن يفهم على أنه تسليم بالمعنى القانونى أو كعمل قانونى ناشئ عن القرار الصادر بتعينهم سواء من مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية أو مجلس المراقبة. ويبدو أن محكمة النقض الفرنسية مالت لهذا الاتجاه عندما قضت بأنه يعد تسليما فى معنى خيانة الأمانة انتقال الأموال بموجب تحويل من حساب إلى أخر .
من ناحية أخرى فإنه إذا كان النص الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات يستوجب أن يتم استعمال المال ضد مصلحة الشركة أو فيما يخالف مصلحتها فإن النص الجديد يصل إلى ذات الحقيقة ويحقق ذات الهدف حينما أدخل فى مفهوم خيانة الأمانة التسليم الذى يستهدف من بين ما يستهدف أن يجرى استعمال المال استعمالا معينا Usagé déterminé وهو ما يعنى إمكانية القول بأنه الاستعمال المخالف لمصلحة الشركة عند تطبيق هذا النص فى مجال الشركات. وهو ما يعنى الوحدة بين النصين مما يستوجب الإبقاء على النص العام وحده.
ويختم هذا الجانب من الفقه الجزء الأول من الحجج بقوله أن ورود عبارة أى مال Bien quelconque يفسح المجال لتطبيقات قضائية لخيانة الأمانة فى غير حالات الأموال المنقولة بحيث يمكن أن يمتد التطبيق لأى شكل من الأموال يدخل ضمان عناصر الذمة المالية للشركة. ويدلل الفقه على ذلك بالحكم الذى أصدرته محكمة النقض الفرنسية عندما أكدت أن التسجيل فى الحسابات للقيم المنقولة غير المادية Incorporelle تمثل مالا فى معنى خيانة الأمانة سواء فى صياغتها القديمة أو الجديدة . وعلى ذلك فالسماح بتطبيق النص على الأموال غير المادية قد يشجع القضاء فى بسط التطبيق فى حالات أخرى ومنها العقارات.
ب- المزايا التى تمنحها الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة
أبدى بعض الفقه من اجل تأييد نظرية الاستيعاب أو الامتصاص حجج أخرى قائمة علي المزايا التي يمنحها التجريم الجديد لخيانة الأمانة لمديري الشركة بالمقارنة بالتجريم الخاص المتعلق بجريمة إساءة أموال وائتمان الشركة.
فوفقا لهذا الاتجاه فإن التجريم العام - خيانة الأمانة – فى ثوبه الجديد يمكن أن يكون علاجا للعيوب التي أظهرها التجريم الخاص علي المستوي القضائي الناشئ عن طبيعة الصياغة القانونية المرنة التي سمحت للقضاء بالوصول إلي تفسيرات شديدة التوسع تتعارض مع مبادئ الشرعية الجنائية وتهدد طبيعة الحرية التي يجب أن يتمتع بها مديري الشركة في سير النشاط التجاري والاقتصادي لهذه الأخيرة، الأمر الذي جعل الكثيرين من الفقهاء يطالبون بالتدخل التشريعي لتعديل هذا التجريم الخاص.
علاوة علي ذلك فإن التجريم العام في صياغته الجديدة, أو حتى في ظل الصياغة القديمة, يوفر حماية أكبر لمديري الشركات. فمثلا فقد قضي بأن التأخير في رد الشيئ المسلم لا يمكن أن يكون من حيث المبدأ اختلاسا إذ يمكن أن يبرر هذا التأخير بدافع الإهمال فقط الأمر الذي يعني أن الإهمال لا يكفي لتكوين القصد الجنائى المتمثل في نية تغير الحيازة وهو ما لا يسمح به التجريم الخاص بإساءة أموال الشركة والذي اكتفي القضاء في قيامها بمجرد الامتناع أو الإهمال وهو ما يتعارض مع المبادئ العامة في قانون العقوبات التي لا تعاقب علي الامتناع إلا بنص خاص الأمر الذى لا يتوافر في المواد 425/4 و 437/3 الخاصة بإساءة أموال الشركة.
ويكشف التطبيق القضائى أيضا عن أن القضاء يرفض تطبيق نص خيانة الأمانة لمجرد تحقيق الشركة لخسائر ما لم يثبت وجود قصد الانحراف Malversation من قبل القائم عل الإدارة. فالقضاء يتشدد في إثبات قصد الاختلاس ولا يكفي في ثبوت وجوده أفعال أو أعمال تنم عن سوء في الإدارة وهو ما يختلف عن موقف القضاء من جريمة إساءة أموال الشركة حيث قضي بتطبيق هذه الجريمة في حالة تجاوز حدود عمل من أعمال الإدارة أدي لخسائر متى تبين أن هذا العمل يمثل مخاطرة مبالغ فيها Prise de risque excessive وما كان يجب أن يتم .
كما يتجه القضاء لإثبات ركن الاستعمال لغرض شخصي لأموال الشركة في حق مدير الشركة كركن من أركان جريمة إساءة أموال وائتمان الشركة بالاكتفاء في بعض الأحوال بوجود قرائن دالة على ذلك. ومن ذلك اعتباره السحب الذي يتم خفية Prélèvement de manière occulte لمبالغ مالية من خزانة الشركة قرينة علي أن الاستعمال تم لغرض شخصي ، وهو ما لا يوجد بشان خيانة الأمانة إذ يتشدد القضاء ويجري تحليلا دقيقا لكل حالة علي حدة لإثبات الجريمة في كافة عناصرها المادية والمعنوية. ففى إحدى الدعاوى أكدت محكمة النقض أن ملاحظة وجود تقصير في تحصيل أموال لصالح الشركة لا يكفي لإثبات قصد الاختلاس .
علي ذات المنوال فإن التجريم العام لخيانة الأمانة أكثر ميزة لمديري الشركات من التجريم الخاص فيما يتعلق بالتقادم Prescription. فقد استقر القضاء على أن نقطة بداية التقادم بخصوص التجريم الخاص يبدأ في وقت لاحق علي ارتكاب الجريمة - آلا وهو من وقت علم المجني عليه وقدرته على ممارسة الدعوى العمومية – خروجا على المبدأ العام فيما يتعلق بالجرائم الوقتية . أما فيما يتعلق بخيانة الأمانة فإن القضاء, رغم خروجه أيضا علي القواعد العامة في التقادم في الجرائم الوقتية, فإنه اكتفي باعتبار التقادم ساريا من وقت ظهور الجريمة والقدرة على اكتشافها وهو الوضع الأفضل لمديري الشركة حيث يبدأ التقادم في جميع الأحوال من وقت اكتشاف الجريمة مما يمنع المجني عليه من الاستفادة من إهماله عندما لا يسعى لاكتشافها .
ولا يمثل اللجوء إلي تجريم خيانة الأمانة حماية لمديري الشركة بل يمثل أيضا حماية للغير. فبينما لا تعد جريمة إساءة أموال الشركة من بين الجرائم التي يمكن أن تعقد مسئولية الشخص المعنوي جنائيا فإن خيانة الأمانة تسمح بذلك بحيث تنعقد مسئولية الشركة ذاتها كشخص معنوي عن هذه الجريمة إلي جانب مسئولية الشخص الطبيعي وفقا للشروط المنصوص عليها في المادة 121/2 عقوبات فرنسي جديد. كذلك فإن قبول الادعاء المدني في إساءة أموال الشركة, وفقا لما استقر عليه القضاء , يقتصر علي الشخص المعنوى ذاته عن طريق ممثليه وعلى الشركاء مع استبعاد الدائنين والعمال ومراقبو الحساب على أساس أن ضرر هؤلاء ليس إلا ضررا غير مباشر، وهو ما يراه البعض متعارضا مع المصالح التى أتى هذا التجريم لتحقيقها .
هذا التعارض لا أثر له عند تطبيق جريمة خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة والتى تهدف إلى حماية مصالح الغير بما يمنع الخلاف حول المصالح التى يهدف إلى حمايتها هذا التجريم. وتطبيقاً لذلك فإن لكل من يدعى ضرراً شخصياً ومباشراً أن يباشر دعواه عن خيانة الأمانة. فمثلا تقبل دعوى المورد ضد مدير الشركة الذى يختلس البضائع التى سلمت للشركة وكذلك دعوى مساهمو الشركة الوليدة Filiale ضد مديرى الشركة الأم Société mère عن الاستعمال التعسفى لبعض عناصر الذمة المالية للشركة الوليدة . وجمله القول أن نص خيانة الأمانة فى صياغته الجديدة يفتح باب الدعوى المدنية دون أى قيد مبنى على صفه المدعى Qualité du demandeur بما يسمح بحماية فعالة لكل الشركاء الاقتصاديين للشركة Partenaires économiques de la société.
2- نقد نظرية الاستيعاب أو الامتصاص
رغم كل المزايا التى يمكن أن يحققها الاكتفاء بالتجريم العام المتعلق بخيانة الأمانة فى صياغته الجديدة فى مجال الشركات والانحرافات الواقعة من القائمين على إدارتها بالمقارنة للتجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات فإننا نرى أن هذا لا يكفى لتبرير الاكتفاء بتجريم واحد ويكفى بدأه القول بأن التجريم الخاص فى مجال الشركات التجارية ينفرد بعقوبة أشد من تلك المقررة لخيانة الأمانة ( 5 سنوات حبس للإساءة الأموال و3 سنوات فى حالة خيانة الأمانة مع وحدة فى الجزاء المالى 2 مليون ونصف المليون فرنك) مما يستتبع القول بعدم وجود تشابه كامل بين الجريمتين ويجعل للتجريم الخاص مزاياه فى هذا المجال .
حقيقا أن الوضع الحالى يمكن أن يخلق حالة من التعدد الصورى Concours idéal بين الجريمتين غير أن وفقا للقواعد العامة فى قانون العقوبات فإن التكيف الأشد عقوبة هو الذى يتعين تطبيقه، وهو فى هذا الصدد جريمة إساءة أموال الشركات، بل ويمكن تطبيق القاعدة الثانية بحل التنازع بين النصوص وهى الخاصة بتطبيق النص الخاص وتقيده للنص العام، فالنص الخاص يفضل دائما النص العام ويقيده Specialia generalibus derogant مما يوجب تطبيق النصوص الخاصة بقانون الشركات فيما تضمنته من نصوص خاصة .
ويمكننا أن نضيف تأييدا لقولنا هو أن التجريم الخاص إنما يتوائم مع المفهوم الحديث للشركات, والذى وفقا له ينظر إلى الشركة على أنها نظام قانونى وفكرة فنية أكثر منها عقدا، وهو الأمر الذى لا تستجيب له جريمة خيانة الأمانة التى لا يمكن أن تلعب دورها فى محيط الشركات إلا من خلال فكرة عقد الوكالة بحيث ينظر إليها على أنها نوعا من الانحراف بعقد الوكالة بين الشركاء والمديرون Détournement de mandat social.
حقا إن الصياغة الجديدة للمادة 314/1 عقوبات فرنسى جديد لا تفترض وجود عقدين أو صيغة عقدية معينة كشرط مفترض لقيام خيانة الأمانة غير أن صياغة النص توجب "قبول تسلم الأموال" Biens qui lui ont été remis et qu’elle a acceptés، هذه الإشارة إلى فكرة القبول تفترض وجود صيغة اتفاقية أو عقدية تكون بمثابة الأساس الذى قام عليه التسليم .
ولا يمكن النيل من هذه الحجة بالقول بأن إساءة أموال وائتمان الشركات عند ظهورها عام 1935 وبعد ذلك فى قانون الشركات لسنة 1966 إنما ارتبط بالمفهوم العقدى للشركة، حيث لم يكن المفهوم التأسيسى أو الفنى (كنظام قانونى) بدأ يترسخ بعد، إذ سمحت الصياغة الغامضة للتجريم وألفاظه المرنة للقضاء بتطبيق هذا التجريم فى حالات ينتفى فيها كل فكرة للعقد - خاصة عقد الوكالة - ومن ذلك تطبيق جريمة إساءة أموال الشركات على المدير الفرد فى المشرع الفردى ذو المسئولية المحددة Entreprise Unipersonnelle à Responsabilité Limitée ‘‘EURL‘‘ وهو شكل جديد من أشكال الشركات سمح به رغم قيامة على مساهم واحد كان قد اقتطع جزءا من أموال الشخصية لتتشكل به الذمة المالية الخاصة بالشركة، وبالطبع لا يمكن القول بوجود رابطة عقدية فى إطار شركة تقوم على مساهم واحد. كل هذا يجعل من جريمة إساءة الأموال تجريما متوافقا مع الأنماط الجديدة والمفاهيم الجديدة فى مجال الشركات.
فلا يمكننا الحديث عن أن القائمين على الإدارة يتصرفون بناء على عقد وكالة عن الشركاء اللهم إلا فى مجال شركات الأشخاص التى ما زالت تحتفظ بالمفهوم العقدى، فكما يقول العميد Ripert "إن مديرى الشركات مكلفون بهامهم ليس لكونهم وكلاء فى المعنى الذى يعطيه القانون المدنى لهذا اللفظ ولكن لكونهم مخولون لسلطات قانونية منحها لهم القانون بحسبانهم جهاز من أجهزة الشركة كشخص معنوى" . ولا يمكن بالتالى تأسيس الجرائم التى تعاقب على الإخلال بهذه السلطات بناء على فكرة الوكالة .
وبناء عليه فإن كل فكرة للحد من التجريم فى مجال الشركات بإلغاء نص التجريم الخاص بإساءة الأموال اكتفاء بالنص العام لخيانة الأمانة يعد مرفوضا ولا نؤيد تطبيق هذه الأخيرة إلا فى الأحوال التى لا تتوافر فيها أركان التجريم الخاص إذ العدالة والمنطق تقتضى عدم ترك الجانى يفلت بجرمه. فجملة القول أن خيانة الأمانة لا يمكن أن تلعب إلا دور المساعد Le suppléant أو المكمل فقط.
ونختتم نقدنا لنظرية الامتصاص أو الاستيعاب بقولنا أنه مهما توسعنا فى تفسير منى "المال" الوارد فى النص الجديد لخيانة الأمانة فإننا لا يمكن أن نصل إلى نتيجة مؤداها أن هذا النص ينطبق على كل أنواع الأموال. فخيانة الأمانة – حتى فى صياغتها الجديدة - لا تتعلق إلا بالأموال المنقولة Biens mobiliers. فبمطالعة الأعمال التحضيرية لقانون 22 يوليه 1992 يتبين لنا أن القائمين على تعديل قانون العقوبات لم يرغبوا أن يغيروا من هذه الحقيقة. ففى المشروع التمهيدى كان ينص على أن خيانة الأمانة تقع باختلاس "أى شيئ" Chose quelconque غير أن هذه الصياغة الواسعة, التى قد تسمح بدخول العقارات فيها, كانت سببا لاستبدال كلمة شيئ بكلمة مال Bien. وعلى هذا فلا يمكن أن تكون خيانة الأمانة هى السلاح الفعال فى مجال الانحرافات الخاصة بإدارة الشركات إذا تقع غالبية الصفقات على أموال عقارية مما يوجب الاحتفاظ بإساءة أموال الشركات كتجريم خاص. والنتيجة النهائية لكل هذا هو أن اتهام أحد الأشخاص عن جريمة جريمة خيانة الأمانة وانتهاء التحقيق إلى براءته لا يمنع من توجيه اتهام جديد مبنى على جريمة إساءة أموال الشركة اللهم إلا إذا اصطدمنا بقاعدة عدم العقاب عن ذات الفعل مرتين Non bis in idem بحيث تتحقق الوحدة بين التكيفين فى المحل والسبب والأشخاص .
الفرع الثانى:مفهوم و محل الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة
كما سبق القول فإن تبنى لفظ الاستعمال من قبل المشرع الفرنسى كجوهر للسلوك الذى تتم به جريمة إساءة أموال أو ائتمان الشركات إنما أريد به تغطية أكبر عدد ممكن من الانحرافات المالية التى لا تسمح بها جريمة خيانة الأمانة حتى فى صياغتها الجديدة. هذا الأمر يدعونا إلى البدء فى تحديد مفهوم هذا الشكل من أشكال السلوك ثم تحديد المحل الذى يرد عليه.
أولا: مفهوم الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة
أراد المشرع بتبنى لفظ الاستعمال تجريم أكبر قدر من الأفعال الممكن أن تمس بالذمة المالية للشركة Patrimoine social. مما يعنى أن المشرع تبنى مفهوما موسعا يتعدى به مفهومى الاختلاس والتبديد الوارد فى تجريم خيانة الأمانة. وإذا كان هذا الأمر من الوضوح إلا أن هناك تشككاً فيما إذا كان هذا السلوك أريد به أيضا أن يتخطى حالات الامتناع.
1- التجاوز الواضح لأفعال الاختلاس أو التبديد
تكشف المشروعات التمهيدية التى قدمت فى عام 1935 لإدخال تجريم خاص بأموال وائتمان الشركات عن أن المشرع عمد إلى تبنى لفظ مرن. فلقد رفض البرلمان الاقتراح الذى قدم فى يونيو عام 1934 والذى كان قد وافق عليه مجلس الشيوخ والذى يجرم أفعال "السحب" Prélèvements التى يجريها مدير الشركة، ومن هنا جاء استخدام لفظ "الاستعمال". وإذا كان هذا اللفظ يغطى الركن المادى فى جريمة خيانة الأمانة وهى التبديد والاختلاس إلا أنه يتعداها أيضا، لذا فقد قضى بأنه يعد استعمالا مجرما فى معنى جريمة إساءة أموال الشركات منح مكافآت مغالى فيها Rémunérations abusives أو مزايا عينية Avantages en nature وكذلك اعتبرت الغرفة الجنائية لمحكمة النقض مرتكبا جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات المدير الذى يقيد كمديونية على الشركة قيمة بضائع لم تسلم بعد والذى ثبت استفادته من مكافآت متجاوزة الحد ومزايا عينية" .
ومما لاشك فيه أن الشكل الأكثر خطورة للاستعمال التعسفى لأموال وائتمان الشركة هو الذى يتم عن طريق تغير طبيعة الحيازة من حيازة ناقصة إلى الادعاء بملكية المال. ويتم هذا التغير بصورتين إحداها مباشرة والأخرى غير مباشرة.
أما عن التغيير المباشر فمن قبيل ذلك قيام رئيس مجلس الإدارة Président-directeur général (PDG) بمنح نفسه مكافأة غير مبرر محسوبة على أموال الشركة رغم علمه بأن الشركة منذ سنوات فى حالة فعليه للتوقف عن الدفع Cessation de paiements . ومن قبيل ذلك أيضا قيام رئيس مجلس الإدارة بإنشاء شركة خاصة به لإنتاج منتج أكثر حداثة مع وضعة تحت تصرف هذه الشركة المواد الأولية وعمال وائتمان الشركة التى يريدها مع عرضة لهذا المنتج فى السوق منافسا به منتج الشركة التى يديرها . ومن قبيل ذلك أيضا قيام مدير الشركة باستقطاع مبالغ مالية من ثمن بيع قطعة أرض مملوكة للشركة وتحويلها مرة أخرى للمشترى وليبدو الأمر وأنه تخفيض غير معلن لثمن الأرض ثم استعمال هذا المبلغ فى أغراض شخصية . أما التغير غير المباشر للحيازة فيم ذلك عادة عن طريق الحيل والألاعيب المحاسبية Artifices de comptabilités ومن ذلك الامتناع عن تسجيل إحدى العمليات فى دفاتر الشركة أو استعمال حسابات صورية Comptes simulés أو إجراء تحويل Virement من حساب إلى حساب أخر يبدو به هذا الأخير فى وضع المديونية.
ولقد خلق اشتمال لفظ الاستعمال لأفعال التبديد والاختلاس شكلا من أشكال التنازع فى شكل التعدد الصورى بين جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات وبين جريمة الإفلاس إذا ما ارتكبت هذه الأخيرة عن طريق اختلاس أو تبديد أحد عناصر الذمة المالية (المادة 197/2 من قانون 85-98 الصادر فى 25 يناير 1985)، بمعنى أخر فإن الركن المادى لكلا الجريمتين يمكن أن يتحقق نتيجة أفعال متشابهة تؤدى إما إلى إفقار الذمة المالية ناشئة عن إنقاص فى أصول الشركة Diminution d’actif أو زيادة فى خصومها Aggravation du passif. وعلى ذلك فإن البدء فى إجراءات التسوية أو فى إجراءات التصفية القضائية والتى أصبحت شرطا مفترضا منذ صدور قانون 25 يناير 1985 يتعين التثبت منة قبل الإدانة بجريمة الإفلاس يمكن أن يقود القاضي إلي تقرير إدانة أخرى عن إساءة أموال الشركات .
هنا يثور التساؤل حول كيفية حل هذا التنازع في التكييف في حالة التعدد الصوري. في رأى البعض فإنه من الأفضل لدى القاضى أن يستبقى تكييف جريمة الإفلاس سواء أكانت أفعال التبديد أو الاختلاس سابقة أو لاحقة علي التوقف عن الدفع متي كانت الأفعال المرتكبة تهدف إلي تجنب أو تأخير تقدير هذه الحالة أو كانت تمس بالرصيد القائم بما يؤدي إلي عجز المدين عن الوفاء بديونه المستحقة . وفى رأى البعض الأخر أن التعدد بين الجريمتين يجب أن يعالج في إطار قواعد التعدد الحقيقي بين الجرائم Concours réel d’infractions والتي تتعلق بأفعال متميزة وتختلف عن بعضها البعض مرتكبة من قبل ذات الشخص دون أن يحاكم عن احد الأفعال قبل ارتكابه لفعل أخر، مما مؤداه وجوب الإدانة عن كلا الجريمتين حيث تتعدد المصالح المحمية وحيث أن الجاني بفعل الاختلاس أو التبديد قد أوقع اعتداءا علي مصلحة الشركة ذاتها وعلي الضمان العام للدائنين. ولقد تبني القضاء هذا الحل من قبل عندما وجد تعددا حقيقيا بين خيانة الأمانة وإساءة أموال الشركة وبين هذه الأخيرة والرشوة . ويستند هذا الرأى إلى موقف محكمة النقض الذي يجري علي اعتبار التعدد بين الجرائم تعددا حقيقيا حينما يثبت أن الفعل الذي أتاه الجاني يتميز باركان معنوية مختلفة ومتمايزة Eléments moraux distinctement incriminés أو تمثل انتهاكاً لمصالح جماعية أو فردية متمايزة . ومع ثبوت حالة التعدد الحقيقى هذه فإن الحل يتأتى من خلال تطبيق العقوبة الأشد مع الإشارة في حكم الإدانة للجريمة الأقل خطورة (م 132-3 فقرة 2 عقوبات فرنسي).
ولقد ذهبت بعض أحكام القضاء قبل صدور القانون 25 يناير 1985 إلى الحكم بان كلا التجريمين يمكن الأخذ بهما سواء أكانت الأفعال المجرمة قد وقعت قبل التوقف عن الدفع أو بعدة . غير أن محكمة النقض قد عدلت عن قضائها بحكم صادر في 10 فبراير 1986 أكدت فيه أن تاريخ التوقف عن الدفع هو الذي يفرق بين جريمة الإفلاس وبين إساءة أموال الشركات. فحينما ترتكب أفعال التبديد أو الاختلاس من قبل أحد مديرى شركات الأموال في وقت تستطيع فيه الشركة الوفاء بديونها فإنه يتعين تكييف هذه الأفعال على أنها إساءة أموال الشركات فى حين إذا ما ارتكبت تلك الأفعال فى أعقاب صدور حكم بإعلان حالة التوقف عن الدفع فإنه يتعين تكييف فعل الاختلاس على أنه احد عناصر جريمة الإفلاس . وقد أكدت محكمة النقض هذا القضاء في حكم أخر لها صادر في 23 يوليه 1996 عندما أكدت خطا محكمة الاستئناف حينما أدانت مدير الشركة عن إساءة أموال الشركات رغم أن الأفعال التي أقيمت عنها الدعوى قد وقعت لاحقة للتوقف عن الدفع. ولقد جري قضاء محكمة النقض على هذا فى أحكام أخرى .
ورغم أن هذا القضاء يبدو منطقيا فإننا رغم ذلك نرى فيه مساسا بمبدأ الشرعية الجنائية حيث تتوحد الأفعال الصادرة من الجانى - سواء قبل التوقف عن الدفع أو بعدة - ورغم ذلك فإنه يتعين إعطاء هذه الأفعال اسما وتكيفا مختلفا فى كل مرة .
وإذا كان تغيير الحيازة بأفعال التبديد أو الاختلاس هو أحد الأشكال الواضحة التى يتضمنها وتدخل تحت لواء لفظ الاستعمال الوارد فى تجريم إساءة الأموال والائتمان، إلا أن هذا الاستعمال يمكن أن يتحقق بشكل مستقل دون أى رابطة بالتبديد أو الاختلاس كأحد أركان خيانة الأمانة الواردة بالمادة 314/1 عقوبات فرنسى. فهنا يبرز تجاوز هاتين الفكرتين ويبرز تمايز التجريم الخاص فى مجال الشركات ودورة فى الردع . فليس من الضرورى إثبات أن الجانى قد أجرى تغييرا فى طبيعة الحيازة أو أنه تعمد الأضرار بالذمة المالية للشركة. وهنا يظهر أن الطبيعة الحقيقية لجريمة إساءة أموال وائتمان الشركات أنها تعاقب على عمل من أعمال الإدارة المخالف لمصلحة الشركة وليس على عمل يضر ضررا ماديا بالشركة.
وعلى هذا فيجب فهم هذا اللفظ بمعنى واسع وشامل وعلى أنه كل عمل من أعمال الإدارة (كالاستفادة من بعض المزايا, قروض، سلف, إيجارات الخ ...) وبمعنى أخر فإن هذا اللفظ يبعد كلياً عن أعمال التصرف ليتعلق فقط بمجرد أعمال الإدارة Simples actes d’administration. وعلى هذا فقد حكم بارتكاب أحد مديرى الشركات لجريمة إساءة الأموال بسحبة هامش الربح الإجمالى Marge brute فى حين أنه لا يحق له أن يسحب إلا هامش الربح الصافى Marge nette وهو ما لم يتحقق فى هذه الدعوى. وعلى أثر ذلك فقد أكدت المحكمة أن المشرع لا يجرم فقط أفعال الاختلاس أو الاستيلاء على أموال الشركة من قبل القائمين على الإدارة ولكن أيضا مجرد الاستعمال السيئ أو التعسفى .
وقد حكم أيضا بأنه يعد استعمالا تعسفيا لأموال الشركة وجود شكل من أشكال عدم التميز بين الذمم المالية, أى بين الذمة المالية المستقلة للشركة والذمة المالية الخاصة للقائمين على إدارتها Confusion entre le patrimoine de la société et le patrimoine propre de ses dirigeants. ومن هذا القبيل, منح المدير لنفسه رهنا على عقارات الشركة ضمانا لديونه تجاه الشركة التى يديرها ، وفى دعوى أخرى رفضت محكمة النقض دفع أحد المديرين الذى يدير شركة مساهمة تعمل فى مجال التشييد المؤسس على أنه مجرد مدين للشركة مما لا تتوافر معه شروط الاستعمال السيئ والمخالف لمصلحة الشركة. فلقد أثبتت المحكمة بحقه أنه قام بأفعال تنم عن انه قد خلط بين ذمته المالية وذمة الشركة المستقلة وأنه لإخفاء معالم انحرافاته قد أمسك حسابات مضللة وغامضة يملؤها التناقص والفجوات . وحكم أيضا بوجود الاستعمال السيئ فى حالة قيام الشركة بشراء أرض بسعر المتر عشرة فرنكات رغم أن الشركة البائعة قد أعلنت رغبتها من قبل عن بيع المتر بعشرين سنتيما فقط .
2- التجاوز غير المؤكد لأفعال الارتكاب
السؤال الذى يطرح نفسه هو مدى إمكانية ارتكاب جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات بأفعال الامتناع Abstention ، وبمعنى أخر هل يتماثل الامتناع مع الاستعمال التعسفى ؟ من الضرورى التأكيد على أن جريمة إساءة أموال الشركات تتم بأفعال إيجابية من قبل مرتكب السلوك الإجرامى مما مؤداه أن الإهمال أو الإخلال بالالتزام العام بالحرص والحيطة لا يشكل استعمالا تعسفيا فى معنى المواد 425/4 و 437/3 والتى لا تسمح صياغتها إلا بعقاب الأفعال الايجابية .
ويتعين التأكيد على حقيقة مؤداها أن جرائم الامتناع, التى تمثل فى القانون العام استثناء على الأصل, إنما تمثل فى مجال الشركات الكثرة الغالبة من الجرائم ويبرر ذلك – كما يقول العميد Vitu - الحاجة إلى دفع الأفراد إلى التصرف حيث يفهم الامتناع حاليا وفى فروض كثيرة على أنه خروج على مقتضيات الواجب لم تعد تتقبله التشريعات Indiscipline inadmissible.
ويمتد تجريم الامتناع طوال حياة الشركة، فحال تأسيس الشركة يجرم المشرع الفرنسى مثلا الامتناع عن عمل إعلان التوافق Déclaration de conformité (مادة 480 من قانون الشركات الملغاة بالقانون 1994) والذى كان يجب أن يصدر عن المؤسسين بحيث يقرون فيه القيام بكافة إجراءات التأسيس وتوافقها مع نصوص القانون. كما يجرم أيضا إغفال الإعلان المتعلق بتوزيع الحصص بين المساهمين (مادة 423 من قانون 1966). وحال إدارة الشركة يجرم المشرع الامتناع عن الإمساك ببعض الدفاتر المحاسبية (مادة 426 و مادة 439) والامتناع عن تعيين مراتب حسابات (مادة 430 و 455) وامتناع مراقب الحسابات عن إبلاغ النيابة العامة بالوقائع الجنائية التى تصل إلى عملة (مادة 457). وحال تصفية الشركة واتخاذ إجراءات التسوية القضائية فالمشرع يجرم مثلا عدم الإمساك ببعض الدفاتر محاسبية (مادة 197).
فيما يتعلق بإساءة أموال أو ائتمان الشركات يبدو أن القضاء لم يتردد فى مرحلة أولى بعقاب أفعال الامتناع دون أن يقرر تعارض هذه الحالة السلبية مع فكرة الاستعمال التعسفى. ففى حكم لمحكمة النقض صادر فى 15 مارس 1972 أكدت المحكمة أن فكرة الاستعمال التعسفى يمكن أن تنشأ عن الامتناع عن التصرف. ويتعلق الأمر فى هذه الدعوى بامتناع المدير عن المطالبة بثمن البضائع لدى شركة كان توجد له فيها مصلحة . وهذا الموقف يختلف عما تبنته محكمة النقض فى مجال الجرائم الملحقة بالإفلاس حيث قضت بأن امتناع المدير عن المطالبة بالسمسرة التى تستحقها شركته لدى شركة أخرى لا يتمثل فى إفلاسا بالتدليس ففعل الاختلاس لأموال الشركة يستوجب عملا إيجابيا ، الأمر الذى اعتبره البعض تعارضا فى موقف القضاء بين الجريمتين رغم أنه يوجد فى كثير من الحالات تعدد نموذجى بينهما .
ويبدو أن قضاة الموضوع يتوجهون ذات الاتجاه الرامى إلى اعتبار بعض أفعال الامتناع استعمالا متعسفا لأموال الشركة. فمحكمة استئناف Angers قضت فى حكم لها بأنه"يرتكب إساءة أموال الشركات مدير شركة المسئولية المحدودة الذى لا يحد بطريقة تلقائية من مكافأته إذا ما ظهر أن الشركة تحقق خسائر" .
غير أن تحليل بعض الأحكام الحديثة يكشف عن أن محكمة النقض الفرنسية التزمت التقيد بالقواعد العامة التى توجب عدم تجريم الامتناع إلا بنص صريح مما مؤداه تطلب عمل ايجابى لتحقق السلوك الإجرامى لإساءة أموال وائتمان الشركات. ففى إحدى الدعاوى اتهم كل من رئيس مجلس إدارة إحدى شركات الاقتصاد المختلط Société d’économie mixte (التى تجمع فى رأس مالها بين مساهمة القطاع الخاص والدولة) وكذلك نائبة بحجة أنهما قد قاما بدفع فواتير ومنح أموال لصالح شركة أخرى يقوم النائب على إدارتها. بيد أن محكمة النقض قضت ببراءة رئيس مجلس إدارة الشركة بحجة أنه وإن كان يعلم ويتستر على تصرفات نائبه فإن ذلك لا يكون مساهمة شخصية منه ولا يكون استعمالا تعسفيا فى معنى جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات .
ونحن نتفق مع ما ذهب إليه هذا القضاء من عدم المساواة بين الاستعمال وبين الامتناع كما لا نوافق على ما قال به البعض من أن العقاب على الامتناع فى جريمة إساءة أموال الشركات هو شكل من أشكال الجرائم الايجابية بطريق الامتناع حيث أن هذا الشكل من أشكال الجرائم غالبا ما يرفضه القضاء لما فيه من شبه التجريم بطريق القياس غير المقبول فيما يتعلق بالقوانين الأسوأ للمتهم. وهذا ما يدعونا حرصا على الشرعية الجنائية والتزاما بها إلى مطالبة المشرع بالتدخل لتجريم الامتناع واعتباره من قبيل الاستعمال الضار بمصلحة الشركة فى معنى جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات.
ثانيا: محل الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة
الذمة المالية محل الحماية فى مجال إساءة أموال وائتمان الشركات تتكون من طائفتين من القيم المالية، الأولى هى أموال الشركة والثانية هى ائتمان الشركة، وفى تفسير هذين المصطلحين توجد بعض الصعوبات.
1- الاستعمال التعسفى للأموال L’usage abusif des biens
ما المقصود بالأموال التى تتشكل منها الذمة المالية للشركة ؟ توجد فى الواقع بعض الحالات العامة التى لا تشكل صعوبة أمام القضاء, غير أنه توجد بعض الصعوبات فيما يتعلق بالمكافآت المتجاوزة أو المبالغ فيها، فقد وضع القضاء حدودا للاعتبار مثل هذه المكافآت شكلا من أشكال إساءة أموال الشركات.
أ- الحالات العامة لإساءة الأموال
تفهم أموال الشركة على أنها القيم Valeurs أيا كانت طبيعتها التى تتشكل منها أصول ورصيد الشركةActifs de la société. ومثال ذلك المصانع والورش والعقارات وبراءات الاختراع وعناصر المحل التجارى والآلات والمواد الأولية الخ التى تدخل فى ذمة الشركة وتملكها أو لها عليها سلطات الحائز. ولا يوجد فارق فى تجريم إساءة الأموال بين الأموال المنقولة والأموال العقارية، مادية أو غير مادية وبين أموال قابلة للاستهلاك Fongible أو غير قابلة للاستهلاك Non fongible أو أن يكون الاستعمال تم بشكل عادى وبسيط أو بطريقة احتيالية وخفية .
ويعرف البعض أموال الشركة المقصودة بالحماية واستعمالها التعسفى فى معنى القانون بأنها "مجموع الذمة المالية المنقولة والعقارية للشركة والتى تهدف إلى تحقيق مصلحة الشركة. واستعمالها هو القيام, ليس فقط بأعمال التصرف كالبيع والرهن والحوالة لمصلحة الغير، ولكن أيضا القيام بأعمال الإدارة كالقرض وتقديم السلف والإيجار وشراء الأسهم فى البورصة الخ .
ويبين من هنا الفارق الهام بين جريمة إساءة الأموال وبين جريمة خيانة الأمانة حيث لا تتعلق الأخيرة إلا بالأموال المنقولة فقط. وعلى ذلك فيمكن إدانة القائم على إدارة عقار مملوك للشركة بحسبانه مستأجر لهذا العقار عندما يجرى على الأموال المؤجرة دون تصريح أو إذن بعض التعديلات التى تنقص من قيمته التجارية مما يلحق الضرر بالشركة المالكة. ومن قبيل ذلك أيضا المدير الذى يؤجر أحد عقارات الشركة بسعر بخس Loyer dérisoire لمصلحة شركة أخرى له فيها مصلحة ما.
ويحاول البعض التفرقة بين رأس المال Capital وما بين الاحتياطى Réserve حيث تمثل هذه الأخيرة طائفة من أموال الشركة ولكننا لا ندخل فى عناصر الذمة المالية التى يجرى استعمالها لتحقيق غرض الشركة مما مؤداه عدم وقوع مديرى الشركة تحت طائلة العقاب حال استعمالهم هذه الاحتياطيات على خلاف العناصر التى تدخل فى تكوين رأس مال الشركة . غير أننا نرى أن هذه التفرقة لا محل لها حيث أن مفاهيم رأس المال والاحتياطيات هى مفاهيم مجردة Abstraite ومحاسبية فى المقام الأول بحيث يصعب عندما يوجد استعمال تعسفى للأموال التفرقة بين ما قد وقع على الاحتياطيات و ما وقع على رأس المال.
وقبل كل شيئ فإن المال يجب أن يكون فى حوزة الشركة. بحيث يجب أن يتأكد القاضى أن المال هو جزء من الذمة المالية للشركة ذاتها كشخص معنوى وليس جزءا من أموال الغير أو مجموعة من المساهمين. ولا يهم ما إذا كان هذا المال فى حيازة الشركة بصفتها مالكة أو مجرد مستأجرة أو مودع لديها. وعلى هذا فقد حكم بأنه لا يعد مرتكبا لجريمة إساءة أموال الشركات مدير الشركة الذى يحتفظ لعدة شهور بسيارة مؤجرة بواسطة الشركة وفقا لنظام التأجير التمويلى Crédit-bail والتى لم يدفع عنها بعد أى إيجار حيث أن السيارة لم تصبح بعد جزءا من رصيد الشركة وأموالها وأن الشركة لم تخرج من خزانتها أى مال على سبيل الوفاء بأقساط الإيجار . كذلك قضى بأنه لا يرتكب جريمة إساءة الأموال العاطل الذى يتحصل على إعانة من الدولة من أجل إنشاء مشروع ولكنة ينفق الإعانة على أهواءه الشخصية بدلا من إنفاقها فى الغرض الذى صرفت من أجلة على أساس أن الإعانة قد دخلت الذمة المالية للشخص ذاته ولم تكتسب الشركة الشخصية المعنوية بعد .
ومن بين الحالات الشائعة فى العمل لقيام إساءة أموال الشركات هو ترك المدير الحساب الجارى المفتوح بينه وبين الشركة مدينا أو مكشوفا. فالمشرع الفرنسى لا يحظر قيام هذا النوع من الحساب الجارى بين الشركة ومديرها أو مساهميها Compte courant d’associé ولكن يحظر السلف أو القروض التى تمنحها الشركة لمساهميها أو مديرها وكذلك يحظر ترك الحساب الجارى المفتوح مدينا أو مكشوفا Découvert (المادة 106/1 والمادة 148/1). فترك الحساب مديناً أو دون غطاء يفهم منه على أنه نوع من القرض ممنوح من قبل الشركة لصالح أحد مديرها أو أحد المساهمين فيها. ورغم أن المستفيد من الحساب لا يقصد الاستيلاء على الأموال إلا أن وجود التزام قانونى بالرد المرتبط بعقد القرض يكشف عن الاستعمال المتعسف الذى تقوم به الجريمة .
وعلى هذا أدانت الغرفة الجنائية لمحكمة النقض الفرنسية مدير شركة المسئولية المحددة الذى احتفظ بحساب جارى مدين ويسحب منة على المكشوف. ولم تقبل المحكمة دفع المدير المبنى على أنه كان دائنا للشركة بمصاريف ومكافآت أخرى إذ أن المشرع يحظر مطلق هذا الشكل من أشكال الحسابات . فهذا الحل يمثل اعتداء على الذمة المالية للشركة ويعرض خزانتها للخطر خاصة وأن المدير قد أجرى السحب على المكشوف كنوع من القرض بفوائد ذات قيمة أقل من تلك التى تمنحها المؤسسات البنكية. ويكشف هذا الحكم عن أمر أخر وهو أنه لا يمكن للمدير أن يجرى بنفسه المقاصة بين حق دائنيته لدى الشركة ومبلغ أخر مساوى يسحبه على المكشوف من الحساب الجارى القائم بينة وبين الشركة. وعلى هذا أدانت محكمة النقض فى حكم سابق لها فعل المدير الذى أصدر كمبيالات لدائنين مسحوبة على حسابه الجارى بينه وبين الشركة حتى ولو كان هذا الحساب دائنا .
ب - الحالات الخاصة بالمكافآت المغالى فيها Rémunérations excessives
يكشف العمل عن أن من بين الحالات التى تطرح على القضاء بصفة مستمرة وتتواتر بشأنها الأحكام حالات المرتبات والمكافآت المتجاوزة وذات القيمة العالية التى تمنح لمديرى الشركات. وسوف نكتفى هنا لأغراض الدراسة بتحديد أمرين، الأول هو الحد الذى عنده يبدأ اعتبار المكافأة أو المنحة متجاوزة أو مغال فيها وثانيا ما إذا كانت المزايا التى تمنح على أساس نسبة من رقم الأعمال Rémunération au chiffre d’affaires تعد بصفة مطلقة أو فى حد ذاتها مكافأة مغالى فيها.
- الحد الذى تبدأ عنده المغالاة
رقابة المكافآت التى تمنح لمديرى الشركات هو مظهر وتعبير عن الرغبة فى تنقية حياة الأعمال حيث يكشف القضاء الجنائى هنا عن بعض التشدد. والسؤال الذى يثور هو مدى إمكانية وضع حدا للمغالاة بحيث يمكن - عند تجاوزه - تطبيق الأحكام الخاصة بإساءة أموال الشركات. فى الواقع فإنه لا يوجد معيار موضوعى للتقدير أو للتقييم فى هذا الشأن، لذا فللقضاء الحرية الكاملة فى تحديد الحد الذى عنده تبدأ المغالاة فى قيمة المكافأة أو المنحة. فتكشف الأحكام عن نسبية هذه الفكرة La relativité de la notion de rémunérations excessive.
فقد تنشأ المغالاة - كما أشارت بعض الأحكام - عن عدم وجود ترخيص أو إذن سابق من الجهة صاحبة الولاية والاختصاص بتحديد مكافآت ومزايا القائمين عن الإدارة. فيما يتعلق بالشركات ذات المسئولية المحدودة SARL فإن قانون الشركات الفرنسى صامت عن هذه النقطة تمسكا بمبدأ عدم التدخل فى شئون إدارة الشركات La non immixtion dans la gestion des sociétés، وعادة ما يترك تحديد هذا الأمر للنظام القانونى للشركة أو للجمعية العمومية. أما فيما يتعلق بشركات المساهمة فإن هذه المكافآت تتحدد بمبلغ إجمالى يتحدد كل سنة من قبل الجمعية العمومية ثم يقوم مجلس الإدارة بتوزيعها على أعضاءه وفقا لما يراه الأعضاء (مادة 108). ويجرى التوزيع عادة على أساس حضور الجلسات ويمكن أن يتحدد زيادة فى المكافآت على أساس استرداد نفقات الانتقال أو عند قيام أحد الأعضاء بمهمات خاصة للشركة أو ما إذا كان يجمع العضو بين عضوية مجلس الإدارة وبين كونه عاملا فى الشركة بموجب عقد عمل. وفى العادة فإن مكافآت رئيس مجلس الإدارة PDG يتحدد على أساس التقدم الذى تحزه الشركة (غالبا نسبة من الأرباح) ويجرى تحديد هذه النسبة من قبل مجلس الإدارة ذاته (مادة 110 من قانون 1966).
ويجرى القضاء على اعتبار أن من قبيل إساءة أموال شركات منح المكافآت دون إذن من الجهة المختصة بذلك. فقد قضت محكمة النقض فى حكم لها فى 26 يونيه 1978 بإدانة رئيس مجلس إدارة شركة مساهمة لقيامه بسحب أموال من خزانة الشركة فى شكل مكافآت ومزايا للأعضاء مجلس الإدارة بزعم وجود اتفاق وتشاور بهذا الشأن أجراه المجلس الذى لم يكن مشكلا فى هذا الوقت. فلقد أكدت المحكمة أن عمل المدير هذا وقيامه من تلقاء نفسه بالحصول على مزايا شخصية إنما هو عمل ضد مصلحة الشركة ويعرضها إلى مخاطر مالية. ولا يهم إذا ثبت أن هذا المجلس فى وقت سابق قد وافق على مزايا أزيد مما قام المدير هذه المرة بمنحة لنفسه .
نفس الاتجاه أكدته محكمة النقض فى حكم لها بخصوص شركة ذات مسئولية محدودة إذ أكدت أنه يعد إساءة أموال شركات قيام المدير باسترداد نفقات الانتقال دون إذن مسبق من الجمعية العمومية للشركاء . ويقدم لنا الحكم الصادر فى 6 أكتوبر 1980 من الغرفة الجنائية لمحكمة النقض الفرنسى عناصر أخرى للتقدير. يتعلق الأمر بمدير شركة المساهمة الذى وزع مكافآت مغالى فيها بناء على ترخيص أو إذن جزئى من قبل المجلس رغم أنه ثبت أن الشركة فى هذه الفترة قد خفضت من حجم نشاطها التجارى وأنه لتمام توزيع هذه المبالغ قد أجرى قرضا بإسم الشركة بفوائد عالية وأن توزيع هذه المكافآت قد جرى دون مراعاة لقيمة العمل الحقيقى الذى يقوم به رئيس مجلس الإدارة . كما يؤكد القضاء فى دعوى أخرى أن التصديق اللاحق من قبل الجمعية العامة أو مجلس الإدارة لا ينفى قيام الجريمة. وعلى هذا فقد قضت محكمة النقض بقيام إساءة أموال الشركة فى حق مديرى شركة المسئولية المحدودة الذى ثبت تغيبه طوال الوقت عن الشركة وأنه لم يباشر عملا جديا فى الشركة. وفى هذه الدعوى - رغم الملاحظات التى أبداها مراقب الحسابات - فإن الجمعية العمومية قد صدقت على موازنة الشركة وعلى ما وزع من مكافآت على القائمين على الإدارة غير أن هذا التدخل اللاحق لا ينفى عن الفعل صفته الإجرامية، لأنه فى مجال جرائم الأموال فإن رضا المجنى عليه لا يكون ذو أثر إلا إذا كان سابقا على الجريمة وألا أعتبر عفوا لا ينفى الجريمة إذا صدر بعد وقوع الفعل .
وتكشف بعض أحكام القضاء الفرنسى على أن تقدير المغالاة فى مجال المزايا والمكافآت الممنوحة للقائمين على الإدارة إنما يتوقف على الحالة المالية للشركة. لذا قد أدين مدير أحد شركات المساهمة الذى ثبت عنه أنه قام بتوزيع أجور وحوافز لا تتوافق مع حالة الشركة التى ثبت أنها مدينة ولا تدفع ديونها المستحقة للعديد من الموردين . وتؤكد محكمة جنح باريس فى حكم حديث لها - صادر فى 28 يناير 2000 - هذا الموقف بالنظر إلى أن الحالة المالية للشركة ثبت ضعفها وعجزها عن سداد الكثير من ديونها المستحقة للغير رغم أنه ثبت من واقع تقرير الخبير أن مدير الشركة قد قام فى أعوام 1991 و 1992 و 1994 بمنح حوافز ومكافآت بناء على إذن سابق من مجلس الإدارة وأنه ثبت أن المدير يقوم بأعمال وجهود كبيرة فى إدارة الشركة ساعدت فى حصول أحد الشركات التى يديرها على جائزة .
- الحوافز والمكافآت على شكل نسبة من رقم الأعمال
الحوافز والمكافآت التى تأخذ شكل نسبة من رقم الأعمال ليست من ضمن الطرق الحسابية المنصوص عليها فى قانون 24 يوليه 1966 بخصوص مكافآت مديرى شركات المساهمة والشركات ذات المسئولية المحدودة بيد أنه يجب القول أن هذا القانون لم يحظرها صراحة أيضا. ويتعين بداءة القول بأن هذا الشكل من أشكال الحوافز قد يكون خطرا على الشركة خاصة إذا ما كان توزيعها يجعل من الربحية التى حققتها الشركة فى فترة ما غير ذات قيمة أو تضعفها أو يجعل الحساب الختامى للشركة عن تلك الفترة يثبت مديونيتها.
غير أن هذا الشكل من الحوافز قد يكون مفيدا لنمو الشركة إذا وزع بشكل يؤدى إلى السماح لها بتحقيق أرباح فى فترات أخرى كما لو كان المستفيد من الحافز عاملا فى الشركة أو ممثلى العمال فى مجلس الإدارة Membre du personnel على عكس لو كان المستفيد مديرا للشركة أو عضوا فى مجلس إدارتها إذ قد يخلق ذلك تعارضا بين مصلحة هذا المستفيد وبين المصلحة العامة لبقية المساهمين ومصلحة الشركة عاما مما يشجع على الانحراف المالى تفضيلا لمصلحة هذا المستفيد. وهذا ما جعل محكمة استئناف باريس فى قضية Bon Marché تتجه إلى اعتبار مكافأة تعسفية المكافأة التى توزع تبعا لنسبة من رقم الأعمال دون النظر إلى ما أثبتته حسابات استغلال المنشأة من خسائر . وفى حكم أخر أكدت محكمة جنح السين أنه وإن كان المبدأ أن المكافآت التى تمثل نسبة من رقم الأعمال لا يكون فى ذاته إساءة للأموال الشركات إلا أنه يجب اعتباره كذلك إذا ما ثبت أن هذا التوزيع لم تراعى فيه تحقيق التوازن بين النصيب المستقطع للشركاء بحصة أكثر من 90% وبين شركاء الأقلية الأمر الذى أدى - كما أثبتت المحكمة - إلى فقد كل قيمة مالية للحصص المملوكة للشركاء المديرين وإلى أن يفقد حملة السندات من شركاء الأقلية كل قيمة فعلية لها Stériliser pratiquement la valeur de celles attribuées aux porteurs de parts minoritaires.
ويمكننا الإشارة أيضا إلى حكم الغرفة الجنائية لمحكمة النقض الفرنسية فى 14 فبراير 1974 والتى فيها منحت شركة Area إلى شركة Forment عمولة بنسبة 10% على سعر البيع لمنتج معين من هذه الشركة الأخيرة إلى الشركة الأولى. ورغم أن مجلس إدارة شركة Area قد وافق على منح هذه العمولة وقد صدقت عليها الجمعية العمومية إلا أن المحكمة ارتأت فى ذلك إساءة لأموال الشركة على اعتبار أن هذه النسبة قد احتسبت من رقم أعمال الشركة وليس من أرباحها الصافية . ومن هنا فقد استنتج بعض الفقهاء إلى أنه يمثل عملا مضادا لمصلحة الشركة وبالتالى إساءة لأموال الشركات كل حوافز أو مكافأة أو عمولة ليست محسوبة على أساس صافى الأرباح ولكن كنسبة من رقم الأعمال .
وعلى عكس هذا الاتجاه فإن البعض يرى أن تقديم المنح أو الحوافز على أساس نسبة من رقم الأعمال لا يمثل فى جميع الأحوال إساءة لأموال الشركات. فيتعين لتحديد الإساءة أو التعسف أن نتبين ما إذا كانت النسبة تتوافق أو تتناسب مع الخدمات المقدمة من قبل الشخص المستفيد أم لا، فلا توجد إساءة أو تعسف إذا ما ثبت أن هذا الأخير تتوافر فيه الكفاءة والتكوين العملى وأن أى مشروع أخر كان سيمنحه ذات المزايا . ويؤكد هذا الفقه على أن القضاء لم يقطع باعتبار هذا النوع من الحوافز أو المكافآت إساءة لأموال الشركات، فبنص الحكم سالف الذكر لمحكمة باريس يتبين أن المحكمة اعتبرته تعسفا متى ثبت من الحسابات الختامية لاستغلال المنشأة أن الشركة تحقق خسائر، مما مؤداه أنه إذا كشفت نتائج الشركة عن صلابة مركزها المالى فإن هذا النوع من المكافآت أو الأجور لا يكون محظورا.
ويمكننا أن نؤكد رجاحة هذا الرأى الثانى حيث تكشف بعض الأحكام عن اعتماد القضاة على معايير معينة يتعين استجلائها قبل الإقرار بوجود التعسف من عدمه. ومن ذلك حكم محكمة استئناف جرنوبل Grenoble والتى أكدت فيه أنه حال وجود نوع من الحوافز والمكافآت محددة بنسبة من رقم الأعمال فإن القاضى بناء على تقرير الخبير المحاسبى يتعين لتقرير وجود إساءة أموال الشركات أن يتبين الأتى :
- ما جرى عليه العمل فى هذا الشأن فى المنطقة التى يقع بها المشروع من قبل المشروعات المشابهة ؛
- قيمة المبلغ الممنوح وما إذا كان مغالى فيه بالنظر إلى كفاءة المستفيد ( مؤهلاته وقدراته وخدماته داخل الشركة ؛
- الحسابات الختامية وواقع الحالة المالية للشركة من حيث الأرباح أو الخسائر وتأثير هذا الشكل من التوزيع على المركز المالى لها.
وفى ضوء ذلك فقد جاء حكم لمحكمة استئناف باريس مؤكدا معايير محكمة جرنوبل عندما أكدت أن مديرى الشركة ذات المسئولية المحدودة عندما منحوا أنفسهم من واقع سلطتهم داخل الشركة مكافآت وحوافز على أساس نسبة من رقم الأعمال فإنهم قد أثقلوا كاهل الشركة بمصاريف عامة مما هز من مركزها المالى حيث كشفت الحسابات الختامية للشركة عن أن الأرباح المحققة هى أرباح تصل إلى حد الوهمية وأن الشركة عانت فى أعوام سابقة من أزمات مالية وتجارية . وهذا ما قضت به محكمة النقض فى حكمها فى 19 أكتوبر 1971 عندما أكدت أن هذا النوع من الحوافز أو الأجور ما منح وما فرض إلا نظرا للمركز المؤثر لمدير الشركة على بقية أعضاء الإدارة وللحصول منهم على موافقات للدخول فى صفقات ومغامرات تجارية أدت إلى حدوث هزة فى المركز المالى للشركة .وأنه ثبت من واقع هذا الحكم أن القائمين على إدارة الشركة ذات المسئولية المحدودة الذين يملكون أكثر من 80% من حصص الشركة قد أثروا على الجمعية العمومية للحصول على القرارات التى تروق لهم وأنهم قد أجروا تعديلات فى النظام الأساسى للشركة يسمح لهم بتوزيع حوافز ومكافآت متمثلة فى نسبة من رقم الأعمال والذى حسب أولا على أنه 0.40% وعدل بعد ذلك ليتجاوز 0.80%، كما أن القائمين على الإدارة لم يحددا وعاء رقم الأعمال التى تحسب النسبة على أساسه فقد اعتبروا أن هذا الوعاء يشمل الضرائب المستحقة على الشركة بينما قبل تعديل النظام الأساسى للشركة لم يكن لهؤلاء إلا نسبة محسوبة على أساس الأرباح قبل توزيعها الأمر الذى كان يمثل سياسة مالية وتجارية فعالة وتحمى المصلحة العامة للشركة.