القانون الجنائي للأعمال - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الجامعة و البحث العلمي > الحوار الأكاديمي والطلابي > قسم أرشيف منتديات الجامعة

قسم أرشيف منتديات الجامعة القسم مغلق بحيث يحوي مواضيع الاستفسارات و الطلبات المجاب عنها .....

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

القانون الجنائي للأعمال

 
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2013-01-20, 11:09   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
الموجة الرابعة
عضو مبـدع
 
الصورة الرمزية الموجة الرابعة
 

 

 
إحصائية العضو










Flower2 القانون الجنائي للأعمال

1- حول فكرة القانون الجنائي للأعمال

كشفت السنوات الأخيرة، ومع تنامى صيحات العولمة La globalisation ou la mondialisation والخصخصة La prévitisation التى بدأت تضرب العديد من الثوابت المجتمعية التى لطالما دافعنا عنها لعقود طويلة فى مناهجنا التعليمية ووسائلنا الإعلامية، عن إحدى المشكلات التى بدأت تؤرق الفقه الجنائى, لما لها من أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية، ألا وهى مشكلة الانحراف المالى من قبل القائمين على إدارة المشروعات التجارية والاقتصادية، وخاصة التي تتخذ منها شكل الشركة سبيلا لممارسة نشاطها. فلقد سمح هذا الهيكل القانوني (الشركة)، والذي قد يتعدى إقليم الدولة الواحدة، مكونا ما يعرف بالشركات عابرة الحدود، للكثيرين من خربى الذمة إلى الانحراف بسلطتهم في إدارة المشروع أملين تكوين الثروات الطائلة، بل واتخاذه أحيانا ستارا لجمع الأموال من بين أيدى الجمهور في إطار الدعوة للاكتتاب العام في أسهم الشخص المعنوى الوليد الذي غالبا ما يكون شركة وهميةSociété fictive سرعان ما يهرب مؤسسيها دون أن تطولهم يد القانون تاركين ورائهم ألاف الأسر وقد تبددت أحلامهم التي سعوا إلى تحقيقها حال المشاركة والاستثمار فيها.

هنا يطل علينا القانون الجنائى برأسه دافعا الفقه إلى التساؤل حول إمكانية رسم سياسة جنائية وعقابية رادعة تؤمن للمساهمين في مجال الشركات إدارة جيدة وأمينة لأموالهم التي ساهموا بها والكيفية التى يمكن بها للقانون الجنائى أن يعوض غياب القوة المضادة والتي كان يجب أن يتمتع بها المساهمين من خلال الجمعيات العمومية للشركات، للقوة التي يتمتع بها القائمين على إدارة المشروعات التجارية والاقتصادية.
يجب علينا بادئ ذى بدء أن نؤكد على أن تلاقى القانون الجنائى بمجتمع رجال الأعمال والقائمين على إدارة الشركات قد أفرز منذ سنوات عديدة وخاصة فى فرنسا ما يسميه الفقهاء بالقانون الجنائى للأعمالDroit pénal des affaires ، والذي يعرف بأنه الفرع من القانون الجنائى الذي يهتم بحياة المشروع التجاري La branche du droit pénal intéressée par la vie de l’entreprise، والذي يستهدف توفير الحماية الجنائية للأفراد الذين يربطهم نشاط ما مع المشروع ضد أي شكل من أشكال الانحراف أو الإساءة1Certaines formes d’abus. ولقد بدأ هذا الفرع يمثل أرضا خصبة للجدل والنقاش في الفقه الجنائى الفرنسى وخاصة في السنوات العشر الأخيرة حين بدأت وسائل الإعلام المختلفة تسلط الأضواء على العديد من رجال الأعمال والوزراء الذين انحرفوا بسلطتهم وساهموا في تبديد رؤوس أموال العديد من الشركات الفرنسية. هذا الانحراف الذي يمثل صداعا مزمنا للحكومة الفرنسية الحالية والذي على أثرة تقدمت هذه الأخيرة بالعديد من مشروعات القوانين لتقوية قبضة القانون الجنائى في هذا المجال إلا أن هذه المشروعات جميعها باءت بالفشل نظراً للصراع السياسى القائم ولوجود مراكز القوى لا تبغى لهذه المشروعات أن تجد طريقها للنجاح1.
ولعلنا نبادر إلى القول بأن التدخل الجنائى في حياة الأعمال يعد أمراً غريبا للقائمين على هذه الأخيرة. فحياة الأعمال مجال يستعصى على القيود القانونية عموما ويبغى الجميع، مشرعين ورجال أعمال، أن يسودها عديد من الحريات الأساسية التي تشجع الطاقات على المنافسة والاستثمار، ومنها حرية ممارسة التجارة Liberté d’entreprendre وحرية المنافسةLiberté de concurrencer و حرية التعاقدLiberté de contracter .
غير أن الإجماع على هذا الأمر لا يعنى وجوب وقوف أفرع القانون عامة والقانون الجنائى خاصة على الحياد وبعيدا عن هذا المجال. فالمعلوم أن في هذا المجال - مجال الأعمال - يتمتع القائمين على هذا الحقل بالسلطة والنفوذ الذى يؤهلهم إلى الانحراف والإساءةL’abus ، لذا لزم التدخل لوضع الحدود والقيود اللازمة لكبح جماح هذه السلطة.
وقد تلعب نظرية التعسف في استعمال الحقThéorie d’abus de droit دورها في هذا المجال لتمثل الأداة الضابطة للتجاوزات المرتكبة من قبل رجال الأعمال2Cette théorie peut jouer en matière d’affaires un rôle régulateur, correcteur des excès manifestes. بيد أن الجزاءات المدنية لتلك النظرية - ( البطلانLa nullité - التعويضLes dommages intérêts ) - تعد غير ناجعة فى الكثير من الأحيان، مما يؤهل القانون الجنائى لأن يتدخل بقوة فى هذا الحقل بجزاءاته المختلفة ليمارس سياستا الردع والعقاب ضد الاستعمال السيئL’usage abusif والمنحرف للأموالLes biens وائتمانCrédit المشروعات والشركات التجارية.
وهناك حقيقة يجب التأكيد عليها وهى أن الانحراف والتعسف فى إدارة أموال وائتمان الشركات لا يمثل الشكل الوحيد لانحراف رجال الأعمال أو ما يسمى إجرام رجال الأعمال Criminalité des affaires. فالتجاوزاتLes excès المرتكبة فى هذا المجال، والتى يجرمها القانون الجنائى للأعمال، يمكن تقسيمها إلى قسمين :
الأول يتعلق بالعلاقات القانونية خارج أو حول المشروع التجارى Autour de l’entreprise ، والثانى يتعلق بالعلاقات القانونية داخل هذا الأخير Au sein de l’entreprise . فبالنسبة للطائفة الأولى من الجرائم فإن فرع القانون الجنائى للأعمال يجرم عددا من الانحرافات التى تمثل اعتداء على مصالح متشعبة منها على سبيل المثال ما يمثل اعتداء على مصالح الشركاء الاقتصاديين للمشروعLes partenaires de l’entreprise، كالدائنينLes créanciers (كجرائم الإفلاس1)، والمنافسينLes concurrents (كجرائم المضاربة على الأسعارSpéculation sur les prix وجرائم المنافسة غير المشروعة والممارسات الماسة بحرية المنافسةPratiques anticoncurrentielles والاتفاقات غير المشروعة Entente illicite واستغلال المركز الاحتكارى فى السوق والاستغلال الاقتصادىExploitation abusive de position dominante ou de 2dépendance économique)، و المستهلكينLes consommateurs (كالجرائم الخاصة بالدعاية الكاذبة أو الخادعة publicité mensongère ou trompeuse أو البيوع التعسفية3Ventes agressives ) والدولة ذاتها (كالجرائم الضريبية والجمركية).
أما بالنسبة للطائفة الثانية فإن فرع القانون الجنائى للأعمال يجرم بعض الأفعال التى تمثل اعتداء على مصالح القوى القائمة داخل المشروع وهما العمالSalariés (مثل الجرائم المتعلقة بالحقوق الجماعيةDroits collectifs والفرديةDroits individuelles للعمال وما يتعلق بتنظيم العمل ذاته الخ ...) والمساهمين أو الشركاء داخل المشروع Les actionnaires ou les associés ، أو ما نسميهم حائزى رأس المالDétenteurs du capital (كالجرائم الواقعة حال تأسيس الشركة مثل الإعلانات الكاذبة عند تجميع رأس المالFausses déclarations dans la constitution du capital وما يتعلق بالتدليس فى تقدير الحصص العينيةMajorations frauduleuses d’apports en nature أو إصدار وتداول أسهم شركات تأسست على خلاف أحكام القانونEmission ou négociation d’actions de sociétés irrégulièrement constituées وكالجرائم الواقعة حال إدارة الشركة ذاتها، كما فى جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات L’abus de biens ou de crédit sociaux وكتقديم أو نشر موازنة كاذبة La présentation ou la publication de faux bilans وتوزيع أرباح صورية Distribution de dividendes fictifs4)
هذا التقسيم يوضح لنا أن فرع قانون الجنائى للأعمال يضم فى ذاته أفرع قانونية عديدة منها القانون الجنائى للمنافسة، القانون الجنائى للمستهلك والقانون الجنائى للشركات والقانون الجنائى للعمل الخ... غير أننا لا نستهدف بهذه الدراسة إجراء توصيف لكل هذه الجرائم أو التجاوزات الممكنة فى حياة رجال الأعمال وفى حياة المشروع التجارى، بل إننا نستهدف استجلاء سياسة المشرع الفرنسى الجنائية بصدد طائفة معينة من هذه الأفعال ألا وهى ما يتعلق فقط بإدارة أموال وائتمان الشركات بحسبانها أخطر الأفعال تأثيرا على الاقتصاد والذى تمثل الشركات عمادة وركنه الركين، ولنا فيما مارسته شركات توظيف الأموال فى السنوات السابقة وما أحدثته من هزة فى المجتمع المصرى لسند يدعم هذا الاختيار.
2- حول أزمة السياسة الجنائية فى مواجهة جرائم الشركات
إن إلقاء الضوء على سياسة المشرع والقضاء الفرنسيين فى مواجهة الاعتداءات على أموال وائتمان الشركات ليمثل ضرورة ملحة، إذ ستبرز لنا الدراسة كيف أن النصوص القانونية فى مجتمع لا يجب أن تصبح قوالب جامدة تستعصى على التعديل والتفسير كى تواجه متغيرات الزمن وما قد يتفتق ذهن المنحرفين من أساليب ملتوية لجمع ثرواتهم وإخفاء معالمها. فلقد خلق القضاء الفرنسى لنفسه سياسة برجماتية فى هذا المجال لا تتقيد بحرفية النصوص (رغم ما قد يستتبع ذلك من خروج على الشرعية الجنائية) راغبا فى تطهير حياة الأعمال مما قد يصيبها من انحراف، ويظهر ذلك من خلال التطبيقات القضائية وتفسيراته للمادتين 425/4 و437/3 من القانون 24 يوليو سنة 1966 الخاص بالشركات التجارية.

وستبرز لنا الدراسة أيضا قصور المشرع المصرى فى هذا المجال، فلازالت جريمتى خيانة الأمانة(م 341) والنصب (م 336) تمثلان السلاح الوحيد لمواجهة الانحرافات فى مجال أموال وائتمان الشركات الخاصة التى لا تملكها الدولة والتى لا تسهم فيها الدولة بنصيب والتى هى محور اهتمامنا فى هذه الدراسة. فهاتين الجريمتين - علاوة على ضعف العقوبة المقررة لهما - لم ينشأن لمواجهة الانحرافات فى مجال إدارة أموال الشركات، ويجدا محلا للتطبيق بحسب الأصل فى العلاقات بين الأفراد الطبيعيين1، كما أن شروط تطبيق هاتين الجريمتين تقف حائلا دون الردع الكافى للإساءة والانحراف الواقع من قبل مديرى المشروعات2.

فجريمة النصبL’escroquerie يتعين لقيامها أن تتوافر الشروط المتطلبة بالمادة 336 عقوبات مصرى (المادة 313/1 عقوبات فرنسى) وأهمها أن تتوافر الوسائل الاحتياليةManoeuvres frauduleuses التى توحى بصدق ادعاء الجانى كى يتوصل إلى الاستيلاء على أموال الغير. فلا يكفى مجرد الكذب أو ما يسمى الكذب العارى1Simple mensonge . فالكذب لا يبلغ مبلغ الطرق الاحتيالية إلا إذا كان مصحوبا بأعمال مادية وخارجية تحمل المجنى عليه على الاعتقاد بصحته. ولذلك فإن جريمة النصب لا تتحقق بمجرد الأقوال والادعاءات الكاذبة مهما بالغ القائل فى تأكيد صحتها حتى تأثر بها المجنى عليه2.كما أن المادة 336 تحدد أهدافا معينة يتعين أن يتوافر إحداها كى تقوم جريمة النصب، وأهمها الإيهام بوجود مشروع كاذب أو الإيهام بوجود واقعة مزورة أو إحداث الأمل بحصول ربح وهمى3. وفى خارج هذه الأحوال لا يمكن للقضاء أن يطبق النصوص الخاصة بجريمة النصب. علاوة على ذلك فإن النصب يتطلب أفعالا ايجابية ولا يمكن أن تقع بطريقة الامتناع4، مما يتعذر معه فى كثير من الأحيان أن تفى جريمة النصب بدورها فى ردع الإساءة الواقعة من قبل مديرى الشركة على أموال وائتمان هذه الأخيرة.

هذا العجز ينطبق أيضا على جريمة خيانة الأمانةL’abus de confiance (م 341 عقوبات مصرى – م 314 عقوبات فرنسى) والذى ينقسم إلى عجز ناشئ عن محل الجريمة Objet de l’infraction وإلى عجز ناشئ عن النشاط المجرم L’action incriminée .

أما بالنسبة لمحل الجريمة فإن خيانة الأمانة لا تنطبق إلا بالنسبة للمال المنقول، فالقاعدة أن العقارات لا ينطبق بشأنها هذا التجريم على أساس أن الملكية العقارية لا تتعرض لذات المخاطر التى تتعرض لها ملكية الأموال المنقولة5En incriminant l’abus de confiance, la loi n’a voulu garantir que la propriété, et la propriété immobilière n’est pas exposée aux même dangers que la propriété mobilière، ومن المعلوم أن أموال الشركات كثيرا ما تحتوى على أصول عقارية يصعب بشأنها تطبيق نصوص خيانة الأمانة عند الانحراف فى إداراتها. ومن ناحية أخرى فإن هذه الجريمة لا تنطبق إلا إذا جرى تسليم المال المنقول بناء على عقد من عقود الأمانة وهى الوديعة والإجارة والرهن وعارية الاستعمال والوكالة، وإذا كان من اليسير القول بأن مدير الشركة يعد وكيلا عن بقية الشركاء فإن هذا القول يصح فى مجال شركات الأشخاص (شركات التضامن - التوصية البسيطة) أما شركات الأموال (المساهمة - والتوصية بالأسهم)، والتى قد يتعدى مساهميها مئات الآلاف وقد تتعدد جنسيتهم فإنه يصعب التسليم بتكييف رابطة العلاقة بين مدير الشركة (رئيس مجلس الإدارة أو عضو مجلس الإدارة المنتدب) على أنها رابطة وكالة.

أما فيما يتعلق بالنشاط المجرم، فإن خيانة الأمانة لا تقع إلا بعمل مادى يتضمن الاختلاسDétournement أو التبديدDissipation يضاف اليهما الاستعمالUsage وفقا للنص المصرى. وعلى الرغم من أهمية هذا النشاط الأخير فى تعقب الكثير من الانحرافات فإن الفقه يدرج على عدم أهميته وضرورة حذفه على أساس أنه نوع من التكرار. وفى هذا يقول الأستاذ أحمد أمين : {إن النص على لفظ الاستعمال إلى جانب أفعال الاختلاس والتبديد يعد تزيدا من المشرع لا داعى له. ويقول أنه إذا كان الشارع قد أراد به الاستعمال المقترن بنية التملك فلا يكون قد جاء بمعنى جديد لأن الاستعمال على هذا الوجه لا يخرج عن أن يكون اختلاسا بالمعنى المتقدم وإن كان قد أراد به الاستعمال المجرد عن نية التملك فإنه يكون بذلك قد خالف الإجماع وأدخل فى جريمة خيانة الأمانة صورا اتفق الشراح على عدم جواز العقاب عليها}1.
على ذلك يمكن القول أن نشاطا الاختلاس والتبديد هما ركيزة الجريمة وبهما يغير الأمين نيته وحيازته للشيء من الحيازة الناقصةPossession précaire إلى الحيازة الكاملة. غير أن هذان النشاطان قد لا يصلحان فى كثير من الأحيان فى مكافحة أشكال الإساءة والانحراف المختلفة ومع تعقد الأساليب التى يلجأ إليها مديرى الشركات للاستيلاء على أموال الشركة. ولعل هذا هو ما دعى المشرع الفرنسى إلى إنشاء تجريم خاص لحماية أموال وائتمان الشركات يعوض به النقص القائم فى جريمة خيانة الأمانة، ذلك النقص الذى يتأكد إذا علمنا أن هذه الجريمة تتطلب إثبات الضرر كركن لازما لقيام الجريمة2.

إن القانون الجنائى للشركات بما يحتويه من تجريمات متعددة تستغرق كل حياة الشركة من لحظة ميلادها وتأسيسها مرورا بسيرها وإدارتها إلى حين انتهائها ليمثل بالتالى ضرورة لحماية الادخار العام وحماية الغير المتعاملين مع هذه الأشخاص القانونية حيث يتبسط هذا الفرع فى تحديد الأركان التى تقوم عليها الجرائم التى يشملها، ففى مجال حماية أموال وائتمان الشركات يكتفى المشرع بمجرد الاستعمال السيئSimple usage abusif لهذه الأموال كلفظ مرن يقبل أن يدخل فيه كل سبل التحايل المتخيلة من قبل القائمين على إدارة الشركة. ويكتفى هذا الفرع أيضا فى كثير من جرائمه بمجرد الكذب، خاصة فى الجرائم المتعلقة بتأسيس الشركة، فلا يهم البحث عن الهدف الذى كان يبتغيه الجانى من جراء الكذب، فالوسائل الاحتيالية مجرمة فى حد ذاتها بصرف النظر عن الغايةFinalité من استخدامها1. ويكتفى أيضا بمجرد الامتناع الذين يوهمان الغير فى صلابة المركز المالى للشركة ولا يتطلب شرط الضرر لاكتمال العناصر القانونية لجرائمه ولا يتطلب من القاضى أن يثبت أن هناك افتقاراً للذمة المالية للشركةAppauvrissement du patrimoine social قد وقع حتى تنعقد المسئولية عن جريمة إساءة أموال وائتمان الشركة.

وستكشف لنا الدراسة أيضا أن خصوصية النظام التجريمى والعقابى الخاص بمجال الشركات لا يتوقف عند حد قواعد الموضوعRègles de fond ولكن يمتد أيضا إلى القواعد الإجرائية أو قواعد الشكل Règles de forme ففى القانون الجنائى العام إذا كان تعين المسئول يتأتى كنتيجة مباشرة لإجراء التكييف القانونى للوقائع فإنه فى مجال القانون الجنائى للشركات فإن الأمر يبدو أكثر تعقيدا حيث يصعب تعيين المسئول عن الجريمة إذا ما ارتكبت من قبل هيئة أو جهاز جماعى للشركةOrgane collectif (مجلس الإدارة مثلا أو حكومة المديرين Directoire فى شركات المساهمة ذات النظام الحديث فى فرنسا). هنا يعتنق القانون الجنائى للشركات مبدأ تعدد المسئولينPluralité de responsables والذى لا يعنى أن تقع المسئولية على عاتق جملة المديرين فى الجهاز الجماعى فى كل مرة ترتكب جريمة ولكنة يعنى أن النصوص القانونية تتعين لكل جريمة، وبشكل مسبق على ارتكابها، المسئول عنها أو جملة المسئولين عنها وما على القاضى إلا أن يثبت فقط من وجود المساهمة الفعلية لهذا المدير الذى سبق تعينه كمسئول قانونى عن الجريمة، مما يعنى أن القانون الجنائى للشركات يعتنق في هذا الصدد مبدأ تركيز المسئولية الجنائية لمديري الشركات وفى شخصهم فقطPrincipe de canalisation de la responsabilité pénale aux seules dirigeants sociaux2.

هذا المبدأ تأكد أيضا باعتناق مبدأ استحالة الإعفاء من المسئولية الجنائية سواء بناء على تفويض السلطة Délégation de pouvoir أو بناء على وجود إذن سابقAutorisation أو تصديق لاحقApprobation من الجمعية العمومية للمساهمينAssemblée générale des actionnaires . وقد تأكد أيضا بتوسعة نطاق المسئولية الجنائية لكى تشمل إلى جانب المدير القانونى Dirigeant de droit مسئولية المدير الفعلى Dirigeant de fait والذى قام بارتكاب أعمال غير مشروعة تمس إدارة الشركة دون أن يتمتع فى ذلك بأى سلطة قانونية يعينها النظام الأساسى للشركة Statut de la société.
ولقد أسهم القضاء الفرنسى بدور كبير فى إبراز خصوصية القانون الجنائى فى مجال الشركات. فلقد كان لهذا القضاء دوره الخلاق عندما شيد نظرية متكاملة بصدد المسئولية الجنائية عن إساءة أموال وائتمان الشركات إذا ما ارتكبت الجريمة بين عدة شركات تكون فيما بينها مجموعة شركاتGroupe des sociétés، رغم أن النصوص القانونية المجرمة لهذه الأفعال الماسة بالأموال والائتمان لا توحى بوجود هذا السبب الجديد من أسباب الإباحة1. وكان للقضاء دوره أيضا فيما أدخلة من تعديلات على نظام تقادم الدعوى العمومية وعلى من له الحق فى رفع الدعوى المدنية الناشئة عن إساءة أموال وائتمان الشركات وكذلك التوسعة من دور المجنى عليه وبعض جهات الرقابة فى تحريك الدعوى العمومية عنها كل ذلك على التفصيل الذى سنراه فى موضعه من هذه الدراسة2.
ولعل أكبر ما تبرزه الدراسة هى سرعة التحرك التشريعى والقضائى والمرونة التى تتوافر فى المجتمعات الغربية لمواجهة الانحرافات المالية إيمانا منها بالدور الهام الذى تسهم به الشركات - وعلى الأخص شركات المساهمة3Sociétés anonymes - فى بناء المجتمع الرأسمالى و الاقتصاد الحر، وإيمانا بضرورة توفير المناخ الملائم لها للأداء دورها الاقتصادى المنشود. لذا كان حرص هذه المجتمعات على اللجوء للردع الجنائى حال الانحراف بإدارة الشركات. هذا التدخل يبرره بالضرورة ضعف المركز القانونى للمساهمين داخل الشركات. فمن الناحية القانونية، فإن للمساهمين كل السلطة داخل الجمعيات العمومية باعتبارها روح الشخص المعنوىL’âme de la personne morale ولهم السيطرة شبة الكاملةQuasi-domination على مجريات الأمور داخل الشركة. فلهم داخل هذا الجهاز (الجمعية العمومية) سلطة الرقابة والإذن والتصديق. فهناك، على ما يذكره بعض الفقه4، قدر من الديمقراطية تسود حال إدارة الشركة، وخاصة شركات المساهمة. وفقاً لهذه الديمقراطية فإن الإدارة تمارس سلطاتها نيابة عن المساهمين وعليها أن تخدم المصالح الجماعية لهؤلاء.
غير أن التحليل الواقعى والعملىL’analyse pragmatique لحياة الشركةVie sociale وكيفية سيرها يكشف على أن المساهمين هم ملوك تملك ولا تحكم، محرمون من حقوقهم التى منحها إياهم القانون. فهم أشبة بالقطيع الذى طالما يأكل ويجد ما يغذيه فإن ليس له حق نقد من يقدم له الطعام. فما علة تحمل مشقة حضور الجمعيات العامة والمشاركة فيما يدور ورقابة ما يعرض فيها وما يتخذ من قرارات طالما تحقق لهم الإدارة ربحا فى نهاية السنة المالية. من هنا لا يجد المساهمون فى غالب الأحيان الدافع للمساهمة فى شئون وأعمال الشركةLes affaires sociales . فالغياب والامتناعL’absentéisme هما السنة الغالبة المتبعة من قبل المساهمين، بما يؤدى فى النهاية إلى نشوء نوع من الدكتاتورية من قبل إدارة الشركة أو ما سماه البعض "الطاغية غير المراقب Dictature incontrôlée "، لتمتعها بقدر كبير من الحرية فى عملها الأمر الذى يدفع إلى الانحراف بالسلطة والعبث بأموال الشركة. وبالجملة فإن الجمعيات العمومية للمساهمين أصبحت الجهاز غير الفعالL’organe le plus inefficace فهى تصدق، بأعين مغلقة، على المشروعات والأعمال والتوصيات التى يعرضها القائمين على الإدارة ، ولم يعد المساهمون سادةLes maîtres فى بيتهم، إننا أمام حكم أقلية Oligarchie خلقت داخل الشركة بفضل سلبية المساهمين Passivité des actionnaires وما منحوه للقائمين على الإدارة من وكالة على بياضMandat en blanc سهلت لهؤلاء ارتكاب الكثير من أشكال الإساءة والانحراف .
غير أن هذه السلطة القانونية والواقعية التى يتمتع بها القائمين على الإدارة ليست مطلقة، ولها ما يحدها. فنصوص القانون التجارى، عن طريق النظام الأساسى للشركة، يمكن أن يضع قيود على المدير فى إجراء بعض التصرفات ذات الخطورة الخاصة (كإجراء قرض ذو فائدة عالية أو يجاوز مبلغ معين)، أو قد يفرض عليه الحصول على إذن مسبقAutorisation préalable من الشركاء أومن عضو الرقابة ( الجمعية العمومية أو هيئة أو حكومة المديرينDirectoire )، ويمكن للجمعية العمومية للمساهمين أن تختص لنفسها بإجراء بعض التصرفات أو التصديق على ما قد يكون أجرته الإدارة من تصرفات.
غير أن أهم ما يحد من سلطة الإدارة هو وجود نظام جنائى رادع يلزمها بإتباع مسلك الأمانة والشرفLoyauté et honnêteté حال إدارة الشركة ويلزمها بالامتناع عما قد يضر بالمصلحة الجماعية للشركةL’intérêt social وذلك بغية الحفاظ على الادخار العام ومصلحة الغير (المساهمين المحتملون فى المستقبل).
هذا النظام الأخير هو محور دراستنا، ولقد تخيرنا النظام القانونى الفرنسى وسياسته الجنائية على المستوى التشريعى والقضائى لتكون محورا لهذا العمل نقدمه للمشرع والقضاء المصرى بغية تطوير النظام الجنائى القائم فى مجال حماية أموال وائتمان الشركات.
3- معالم ومشكلات الحماية الجنائية للذمة المالية للشركة فى القانون الفرنسى
أخضع المشرع الفرنسى أموال وائتمان الشركات لنظام تجريمى وعقابى خاص تضمنته نصوص المواد 425/4 و437/3 من القانون الصادر فى 24 يوليو 1966 الخاص بالشركات التجارية. هذا النظام الذى يعرف بإسم جريمة إساءة أموال أو ائتمان الشركات L’abus de biens ou du crédit des sociétés. هذه الجريمة التى تمثل العصب والنواة الصلبةNoyau dur للقانون الجنائى للأعمال والقانون الجنائى للشركات فى فرنسا وتمثل محور الحديث حاليا على الساحة الفرنسية نظرا لكثرة القضايا المتداولة بشأنها أمام المحاكم. والمتهم فيها عليه القوم والكثير من رجال السياسة الفرنسيين السابقين والمعاصرين، حتى أن البعض أطلق على هذه الجريمة البعبعEpouvantail لأنه لا يمر يوم إلا ونجد أحد الوزراء أو أحد رجال الحكم البارزين فى الأقاليم الفرنسية متورطا بوصفة فاعلا أو شريكا فى صفقه تقع تحت طائلة القانون بوصف إساءة أموال أو ائتمان إحدى الشركات. بل ولقد استعملها القضاء فى أحيان كثيرة خارج نظامها القانونى لتعقب بعض رجال الأعمال إذا ما انسدت أمام جهات التحقيق إمكانية تتبعهم عن جرائم كالرشوة أو استغلال النفوذ (بسبب التقادم مثلا)، حيث يجرى القضاء تكيفا أخر على أساس إساءة أموال الشركات.
وعلى المستوى القانونى تثير هذه الجريمة العديد من المشكلات التى تمثل مأزقا للمشرع وللقضاء فى أن واحد. وسيقتصر حديثنا هنا على مشكلتين تتناسب والوقت المخصص للمادة فى مرحلة الدراسات العليا . أول تلك المشاكل هو الغموض الشديد الذى يكتنف نصوص التجريم فى مجال حماية أموال أو ائتمان الشركات، تلك المشكلة التى أكدها البروفسير شافانChavanne بقوله "إن أول المشكلات التى تفرض نفسها عندما نتسآل عن كيفية عقاب الانحرافات فى مجال الشركات هو تحديد عناصر التجريم". هذه المشكلة المتعلقة بغموض التجريم تنطبق ذاتها على جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات والتى تخص " استعمال المديرين، عن علم و بسوء نية، للأموال أو ائتمان الشركة ضد مصلحة الشركةUn usage qu’ils savaient contraire à l’intérêt social وللأغراض شخصية A des fins personnelles أو بهدف تفضيل شركة أو مشروع أخر لهم فيه مصلحة مباشرة أو غير مباشرةou pour favoriser une autre société ou entreprise dans laquelle ils étaient intéressés directement ou indirectement". هنا يثور الجدل حول الحدود التى عندها يمكن للمدير أن يستخدم أموال وائتمان الشركة دون أن يقع تحت طائلة القانون وما هو مفهوم العمل المضاد لمصلحة الشركة ويكتنف الغموض أيضا مفهوم مصلحة الشركة ومفهوم المصلحة الشخصية. هذا الغموض و الثوب المرن والفضفاض لنصوص التجريم سمح للقضاة، كما سبق القول، إلى أن يتبنوا سياسة عقابية رادعة مرنة تمكنهم من الوصول إلى الإدانة عن هذه الجريمة إذا لم يستطيعوا، من خلال أوراق الدعوى، من توجيه الاتهام تحت وصف معين كان أولى بالتطبيق، كالرشوة واستغلال النفوذ، خاصة إذا كانت مدد التقادم قد انقضت لتمكن مديرى الشركة من إخفاء انحرافاتهم مدة طويلة من الزمن. الأمر الذى دفع بعض الفقه إلى القول بأن المشرع قد انتقل بجريمة إساءة أموال وائتمان الشركات من جريمة تناهض الاستيلاء غير المشروع على الأموال إلى جريمة تناهض مجرد الانحراف بإدارة الشركة وتوجيهها توجيه خاطئ Passage d’un délit d’appropriation illégitime à un délit de mauvaise gestion.
ثان المشكلات التى تتعلق بهذه الجريمة هى التساؤل حول إمكانية تطبيقا فى مجال مجموعات الشركات. فواضعى النصوص الجنائية فى قانون الشركات الفرنسى لم يأخذوا بعين الاعتبار إلا الإساءة المرتكبة فى الشركة الفرديةSociété isolée . غير أن التطور الاقتصادى، الذى أصاب المجتمع الفرنسى منذ سنوات عديدة، قد أفرز ما يسمى بظاهرة مجموعات الشركات بحيث أصبح من النادر أن توجد شركة تمارس بشكل فردى نشاطها التجارى. وفكرة مجموعات الشركات تقوم على ضرورة وجود التعاون المالىConcours financier بين الشركات الداخلة فى إطار المجموعة مما قد يستوجب إخراج أموال من خزانة إحدى الشركات لمساندة الأزمة المالية التى تواجهها شركة أخرى أو لمساعدتها على البدء فى خط إنتاج جديد أو إبرام صفقات يحتاجها النهوض بوضعها الاقتصادى، الأمر الذى قد يوقع الشركة المانحة تحت طائلة التجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات خاصة إذا ما خرج هذا المال دون مقابل أو مع العلم على عدم قدرة الشركة المستدينة على سداد ما اقترضته.
هنا يقع التصادم بين النص القانونى ومقتضيات الواقع الاقتصادى والتجارى، وللتوفيق بين الأمرين بدأ الفقه يطرح التساؤل التالى : ألا يمكن للعناصر التقليدية لجريمة إساءة أموال الشركات أن تفسر بشكل مرن بحيث لا تنطبق فى حالة مجموعات الشركات إذا توافرت شروط معينة ؟ فى الإجابة على هذا التساؤل بدأ القضاء الفرنسى يتبنى ما عرف بمبدأ إباحة جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات فى حالة ارتكابها بين شركات تكون فيما بينها ما يسمى بمجموعة الشركات. فالأفعال التى كان يمكن عقابها إذا ما ارتكبت فى إطار شركة فردية تصبح، وفق شروط معينة، مباحة إذا ثبت أن التعاون المالى ما كان إلا بين شركات تكون مجموعةGroupe .
"Les actes pouvant être abusifs dans une société isolée sont justifiés, sous certaines conditions, s’ils sont commis au sein d’un groupe des sociétés"
وفق هذا القضاء فإن مجموعة الشركات تعد سببا للإباحة أنشأه القضاء الفرنسى دون سند من النصوص القانونية. و يلقى هذا الحل القضائى، رغم عدم تقنينه حتى اليوم من قبل المشرع الفرنسى، ترحيبا فقهيا ويحاول الفقه دائما أن يبحث له عن أساس قانونى ضمن أسباب الإباحة المعروفة (حالة الضرورة مثلا) كى يجنب القضاء النقد بعدوانه على دور المشرع فى خلق النصوص. هذا الحل يثير بالتالى التساؤل حول حدود الإباحة الناشئة عن فكرة مجموعات الشركات وشروطها وطبيعة تلك الإباحة .
وبعيدا عما يثيره هذا التجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات من تساؤلات قانونية محضة، فإنه يحدث قلقا فى دوائر الحكم فى فرنسا وبين كبار رجال الأعمال تبرزه كل يوم النشرات الإخبارية و الصحف القومية . فلقد تزايدت الفضائح المالية التى صدر فى شأنها أحكام بالإدانة فى حق عدد كبير من رجال المال والسياسة منهم على سبيل المثال ألان كرنيون وزير الاتصالات الأسبق وعمدة جرنوبل السابق وفيليب دى كانسون النائب بالجمعية الوطنية عن منطقةVar وموريس أدف بيف العمدة الاشتراكى لمنطقةThiers وكريستوف كمبادليس السكرتير القومى للحزب الاشتراكى للعلاقات الخارجية ولويز إيفون كاستا أمينة الصندوق السابقة لحزب التجميع من أجل الجمهورية وميشيل نوار وزير التجارة الخارجية الأسبق وعمدة ليون السابق وبيير مبهينير وبرنارد بوسون وجاك بارو الوزراء السابقين من أحزاب الوسط وبرنارد تابى وزير المدن الأسبق .
هذا الاهتمام الإعلامى، خاصة إذا ما تناولت القضية مثل هذه الطوائف، له تأثيره السلبى على المستوى الأخلاقى لرجال الأعمال بحيث أصبح المتهمون فى هذه القضايا يخافون الضجة الإعلامية التى تصاحب القضية أكثر ما يهابون الإدانة الناشئة عنها . هذا التأثير السلبى يظهر بوضوح إذا استفاد الشخص محل الاتهام بعد ذلك من الأمر بالأوجه أو البراءة عند إحالة الدعوى أمام القضاء خاصة إذا علمنا أن هذه التبرئة كثيرا ما لا تجد بين رجال الإعلام التغطية الكافية التى تنالها القضية عند بدايتها . هذا الأمر لا يمكن التسامح فيه لما يحدثه كل ذلك من انخفاض فى أسعار أسهم الشركة داخل البورصة يؤدى فى كثير من الأحيان بإفلاس الشركة رغم أنها فى الأصل مجنيا عليها من جراء الأفعال التى ارتكبها القائمين على إدارة الشركة بما يهدد المتعاملين معها من دائنين وموردين وعاملين فيها .
ويكشف الفقه عن نوع من القلق الإحصائى فيما يتعلق بالدعاوى المتعلقة بإساءة أموال وائتمان الشركات. فلقد أكدت الدراسات أن أحكام الإدانة فى هذا الصدد تضاعفت ثلاث مرات فى أقل من عشر سنوات . ويفسر البعض هذه الزيادة بالراحة التى يشعر بها الخصوم عند اللجوء للقضاء الجنائى والسرعة فى الفصل الأمر غير المتوافر عند اللجوء لجهات القضاء المدنى أو التجارى وكذلك يفسرها البعض بأن توجيه الاتهام بوصف إساءة أموال الشركات هو أسهل فى إثباته، نظرا للمرونة التى يتمتع بها نص التجريم .
وفى هذا الصدد أشار البعض إلى أن هذه الأحكام قد تزايدت من 300 إدانة فى عام 1988 إلى 400 فى المتوسط منذ 1991 وفى عام 1993 قد سجلت الدائرة الجنائية بمحكمة النقض 694 إدانة فى مجال جرائم الشركات منها فقط 501 عن جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات ، مما حذا بالبعض إلى القول إلى أن هذه الجريمة أصبحت المصدر الأساسى للمنازعات فى مجال القانون الجنائى للأعمال L’abus de biens sociaux est la source principale du *******ieux du droit pénal des affaires. وقد بلغت هذه الأحكام 310 إدانة فى عام 1994 و 355 إدانة عام 1995 و 388 عام 1996 .
وقد أظهر استطلاع للرأى أجراه مركزSofres لحساب مجلة L’Entreprise أن 15% من رجال الأعمال يخشون الاتهام بوصف إساءة أموال الشركات وأن 61% منهم لا يرون أى خطورة فى دفع الشركة فواتير شخصية عن انتقالات أو تناول الوجبات فى المطاعم. بينما يرى 40% منهم أن اصطحاب رفيق فى رحلة عمل على نفقه الشركة لا يمثل أى خطورة ويرى 19% منهم أنة ليسوا على استعداد لدفع أى عمولاتCommissions للحصول على أى صفقه. كما عبر 43% من رجال الأعمال عن استيائهم من التدخل الجنائى وتشدد القضاء فى هذا المجال ويتمنى 71% منهم ألا يساوى القضاة بين الإثراء الشخصىL’enrichissement personnel وبين بقية الأفعال التى تمس بإدارة الشركة، وأكد 69% ممن شملهم الاستطلاع أنهم قد اتخذوا سياسات مختلفة فى إدارة الشركة على أثر اتهام الكثير من رجال الأعمال عن إساءة أموال الشركات التى يديرونها مما يعوق الطموح وروح المبادأة التى يجب أن يتحلى بها رجل الأعمال حال إدارته للمشروع التجارى .
كل ذلك قد فتح منذ سنوات باب الجدل حول ضرورة اتخاذ سياسة للحد من التجريم فى مجال الشركات وفى مجال القانون الجنائى للأعمال بصفة عامة ، مما حدا بوزير العدل الفرنسى أبان صدور القانون الخاص بالشركات التجارية الصادر فى 24 يوليو 1966 إلى الاعتراف مؤخرا أن من أكبر أخطاءة هو أنه قد ساهم فى إدخال النصوص الجنائية فى قانون الشركات . هذه الحاجة إلى الحد من التجريم والعقاب يبرره البعض بأن "التضخم التشريعى الجنائىL’inflation pénale يؤدى إلى الحد من الأثر الرادع للجزاءL’effet dissuasif de la sanction وأن مديرى الشركات يعتادون على التصرفات غير المشرعة وينظرون بالتالى إلى الجزاء الجنائى على أنه خطر لصيق بوظائفهمRisque inhérent à leurs fonctions يجب الاعتياد عليه" .
ولقد تعاظم الجدل حول مشكلة الحد من التجريم والعقاب فى مجال الشركات فى أعقاب نشر التقرير المعروف باسم تقرير مارينىRapport Marini ، الذى قدمه السيناتور فيليب مارينى إلى رئيس الوزراء بناء على طلبة فى إطار الخطوات المتخذة لتطوير قانون الشركات الفرنسى بما فيه من مواد جنائية تتعدى 160 مادة . وفقا لهذا التقرير فإنه لا يجب الاحتفاظ إلا بالتجريمات التى تتطلب القصد العام أو الخاص بين أركانها بحيث يجب رفع وصف التجريم عن الأفعال التى تقع تحت وصف الإهمال. وفقا لهذا المعيار فإن هناك خمس طوائف من الجرائم يتعين الاحتفاظ بوصفها الجنائى وتشمل : ما يتعلق بالحسابات المالية للشركة، وما يتعلق بانعقاد الجمعيات العمومية، وما يتعلق بإصدار الأوراق المالية، وما يتعلق بإدارة الشركة وأخيرا ما يتعلق بتصفيتها.
فى ضوء ذلك فإن من المستبعد تماما رفع وصف التجريم عما يتعلق بإدارة أموال وائتمان الشركات، غير أن ذلك لا يعفى من ضرورة التدخل بإجراء التعديلات التى يرها الفقه لازمة للوصول إلى هيكل تجريمى مناسب يحقق سياسة الردع حماية للادخار العام ويكفل العقاب الفعال لكل انحراف فى إدارة المشروعات والشركات التجارية.
4- تقسيم الدراسة
إن إبراز النموذج التشريعى الفرنسى لحماية أموال وائتمان الشركات وإيضاح الأسلوب الذى اتبعه القضاء من أجل سد الثغرات التى تعترى النصوص التجريمية فى هذا المجال يقتضى منا القول إلى أن السياسة الجنائية فى هذا المجال تقوم على أمرين: الأول هو انتهاج منهج تجريمى مرن يسمح بتتبع جميع الانحرافات الماسة بأموال وائتمان الشركات حتى أن البعض تحدث فى هذا المجال عن فكرة التجريم غير المحدودL’incrimination inclassable أو الذى لا يمكن وضع معالم واضحة تقتضيها الشرعية الجنائية وهو الأمر الذى تخصص له الفصل الثانى من الدراسة. الأمر الثانى الذى يميز السياسة الجنائية فى فرنسا فى مجال حماية أموال وائتمان الشركات هو الدور الخلاق للقضاء وابتداعه للحلول خارج دائرة النص الجنائى وفقا لما تقتضيه متطلبات الحماية الجنائية للأموال وائتمان الشركات. ولعل أظهر دليل على ذلك هو نظرية الإباحة الناشئة عن فكرة مجموعات الشركات وهو ما سنخصص له الفصل الثالث من هذه الدراسة.
غير أن قبل هذا و ذلك يثور سؤال مبدئى يهم المشرع المصرى فى هذه المرحلة التى تتعالى فيها الأصوات مطالبا بتشديد العقاب فى مجال الانحرافات المالية والتدخل أحيانا بتجريمات جديدة، هذا التساؤل يدور حول العوامل التى دفعت المشرع الفرنسى إلى التدخل جنائيا فى مجال الشركات وما هو الموقف الفقهى من هذا التدخل فى مجال الأعمال وعلاقات التجارة، حيث يبدو للبعض أن هناك تصادما يصل لحد التعارض بين فرعين من أفرع القانون مختلفين فى الطبيعة هما القانون الجنائى القائم على مبادئ صارمة وتعريفات محددة تقتضيها الشرعية الجنائية والثانى هو القانون التجارى أو قانون الأعمال الذى يحكم عالما يتطلب المرونة والسرعة فى المعاملات. لهذا التساؤل نخصص الفصل الأول من دراستنا.
فى ضوء ذلك فسوف تجرى خطتنا فى هذا العمل على النحو التالى:
الفصل أول: ضرورات التدخل الجنائى فى مجال الشركات التجارية
الفصل الثانى: المرونة التشريعية فى مجال حماية الذمة المالية للشركة
الفصل الثالث: الدور الخلاق للقضاء فى مجال حماية الذمة المالية للشركة


الفصل الأول
ضرورات التدخل الجنائى فى مجال الشركات التجارية
إن تلاقى القانون الجنائى والشركات التجارية، باعتبارها عصب حياة الأعمال، قد شغل الفقه منذ سنوات طويلة واقتضى الأمر الخلاف حول ضرورات هذا التدخل على رأيين: الأول يرى ضرورة استبعاد النظام العقابى القائم على دعائم جنائية مفضلا التسامح و التغاضى عن بعض الأفعال غير المشروعة عن ذلك النظام القائم على الشك والاشتباه في القائمين على الإدارة في مجال الشركات . غير أن البعض يتحدث عن ضرورة اختيار الطريق الجنائى لردع الانحراف وضبط حركة الإدارة داخل الشركة ولا يرون في تلاقى القانون الجنائي وحياة الشركة بالوضع الحالى سوى انعدام الفاعلية فى بعض النواحى مما يتعين إحداث التعديل في هذه العلاقة دون فصمها كلية. ولقد أظهر المشرع الفرنسى ميلا للرأى الثانى الأمر الذى أصبح سمه وعلامة لقانون الشركات الفرنسى والذى يضم بين جنباته قسما كاملا للنصوص العقابية في مجال الشركات تتعدى نحو 160 مادة. هذا الاختيار من قبل المشرع الفرنسى يوجب البحث في دعائمه (مبحث أول) كما يوجب التساؤل حول العوامل التي ساهمت في تطور هذا الفرع من أفرع القانون الجنائى (مبحث ثان).

المبحث الأول
دعائم التدخل الجنائى لحماية الذمة المالية للشركة
للتعرف على دعائم التدخل الجنائى في مجال الشركات التجارية يتعين علينا أن نبرز المصدر الذي ينتمي إليه هذا الشكل من أشكال التدخل. وهنا يتفق الفقه على أن القانون الجنائى الذي يخص مجال الشركات التجارية هو أحد الفروع الهامة التي ساهمت في نمو الفرع الجنائى الأكبر المسمى بالقانون الجنائي للأعمال . وإذا كان هنا اتفاق على ذلك إلا أن هناك اختلاف حول المعيار الذي على أساسه اعتبرت جرائم الشركات ضمن جرائم الأعمال Criminalité d’affaires وتتسم بسماتها، وهذا التساؤل يهمنا نحن الدارسين المصريين و العرب نظراً لحداثة فرع القانون الجنائى للأعمال وندرة الدراسات حول كثير من جوانبه. هذا الأمر يتعين علينا إيضاحه (فرع أول) قبل أن نبين الجدل حول التدخل الجنائى فى هذا المجال (فرع ثان) والأسباب التى دعت إلى قبول هذا التدخل (فرع ثالث).




الفرع الأول
معايير تصنيف جرائم قانون عقوبات الأعمال
لقد شهدت المجتمعات الأوروبية، ومنها المجتمع الفرنسى، في نهايات القرن التاسع عشر وخلال القرن العشرين تطورا هائلا في مجال المعاملات التجارية الأمر الذي استدعى الحاجة إلي نظام عقابى خاص لهذا المجال أطلق عليه تسمية القانون الجنائي للأعمال Droit pénal des affaires. هذا الأمر يشهده المجتمع المصرى منذ منتصف السبعينات على أثر إتباع سياسات الانفتاح والرأسمالية مما أدى إلى خلق طبقة جديدة عرفت باسم طبقة رجال الأعمال، تلك الطبقة التي مارس بعض المنتمين إليها أنشطتهم فى إطار قانونى مهلهل وغير فعال، ويكفى للتدليل على ذلك الأزمة التي شهدتها مصر على أثر شركات توظيف الأموال التى فى مكافحاتها على المستوى الجنائى لم تفلح نصوص النصب وخيانة الأمانة بعقوباتها الفاضحة. هنا بدأت الأصوات تطالب بالتدخل الجنائى فى مجال الأعمال للإحداث الأثر الرادع ولضبط حركة المعاملات التجارية داخل المجتمع، الأمر الذي سيؤدى، فى السنوات القادمة، إلى نمو دراسات القانون الجنائى للأعمال من جانب المشتغلين بالدراسات الجنائية في مصر. فما هو هذا الفرع الذي يطل برأسه علينا ويدفعنا التطور الاقتصادى في المجتمع المصرى إلى التعرف عليه.
نبدأ بالقول إلى أن هذا الفرع يتسم بالغموض الشديد بحيث أنه من المتعذر أن نضع له حدودا واضحة مما دعا البعض إلى الاكتفاء بالقول بأنه هناك قانون جنائي خاص يتعين على المشتغل بالمعاملات التجارية التعرف عليه دون الحاجة إلى التعمق أكثر من ذلك في تحديد تعريف لهذا الفرع . وربما ينشأ هذا الغموض نتيجة عدم وضوح فكرة المعاملات التجارية ذاتها Affaires التي يحكمها فرع قانونى خاص يسمى باسمها يطلق عليه قانون الأعمال Droit des affaires . نخلص من ذلك إلى أنه ليس هناك تعريفا واضح وواحد للقانون الجنائي للأعمال وكل ما يمكن قوله إلى أنه فرع قانونى يحكم عالما يسمى بذات الاسم (عالم الأعمال) دون أن يستطيع الباحث القانونى التعرف على حدوده بدقة .
غير أن المتخصصين فى مجال القانون الجنائى للأعمال Pénalistes des affaires يتفقون على عدة معايير لتعريف هذا الفرع ولتحديد المعيار الذي على أساسه تدخل جرائم الشركات في عداد ما يعرف بجرائم الأعمال. هذه المعايير تنقسم إلى ثلاث: الأول معيار حصرى نوعىCritère énumératif et qualitatif ، وهو معيار قانونى يجد مصدرة في النصوص التشريعية والتوصيات الدولية إلى جانب بعض السمات الخاصة بالجريمة ذاتها مثل تعقيدها و خطورتها إلى جانب فنيتهComplexité, gravité et technicité . أما المعيار الثانى هو المعيار الشخصىCritère subjectif الذى يؤسس على فكرة الصفة المهنية للجانىQualité professionnelle du délinquant . أما المعيار الثالث فهو المعيار الموضوعى Critère objectif الذى يبنى على فكرة المشروع الاقتصادى والتجارى و التى تشغل بال الجنائيين منذ فترة بعيدة.





أولا: المعيار الحصرى والنوعى Critère énumératif et qualitatif

هذا المعيار فى تحديد القانون الجنائى للأعمال وما يندرج تحت لوائه قد تم يبنيه من قبل المشرع الفرنسى من خلال نصوص القانون رقم 75–70 الصادر فى 6 أغسطس عام 1975 والذى ينظم الاتهام والتحقيق والحكم فى الجرائم الاقتصادية والمالية. فهذا القانون قد أنشأ جهات قضائية متخصصة، يطلق عليها المشرع الفرنسى اسم الغرف الاقتصاديةChambres économiques لتختص بالجرائم المنصوص عليها حصراً فى المادة 704 من قانون الإجراءات الجنائية وتأتى على قائمة هذه الجرائم جرائم الشركات المنصوص عليها بالقانون رقم 66–537 الصادر فى 24 يوليو 1966 علاوة على الجرائم الخاصة بالتسوية والتصفية القضائية للمشروعات وجرائم التشييد والملكية الذهنية والضرائب والجمارك والاستهلاك والبورصة والبنوك وأخيرا الجرائم الماسة بحرية المنافسة التجارية.

غير أن المشرع لم يجعل من اختصاص هذه الغرف بهذه الجرائم مبدأ عاماً اكتفاء بالمعيار الحصرى للجرائم لكنه أضاف معياراً مكملاً يعتمد على السمات الخاصة للجريمة. فإلى جانب لزوم توافر الطبيعة الاقتصادية والمالية لهذه الجرائم، والتى حددها المشرع تحديداً حصرياً منعا لكل جدل فقهى، فإن المشرع تطلب لزوم توافر قدر من التعقيدComplexité فى الجريمة حتى تدخل فى اختصاص الغرف الاقتصادية المنشأة بهذا القانون. ويهدف هذا المعيار إلى التضييق من عدد الجرائم المحالة لهذه الجهات وجعل مناط اختصاصها خروج الجريمة عن الفروض العادية لها وارتكابها بطرق معقدة يصعب الكشف عنها.
ولقد استشف الفقه من هذا أن ما يوصف بجريمة الأعمال إنما هى الجريمة التى تتصف بالطابع المالى إلى جانب اتصافها بالتعقيد. هذا التعقيد يكشف عنه الواقع القائم حاليا فى حياة الأعمال. فالانحرافات المالية يستخدم فى ارتكابها هياكل وهمية (كالشركات الوهمية) تمثل مجرد واجهة دون أن يكون لها وجود حقيقى. ويدخل فيها أيضا الجهات الائتمانية والبنوك إلى جانب مشروعات أخرى مساعدة تأخذ فى الغالب الشكل الهرمى وتمارس نشاطها فى إطار عبر وطنى أو متعدد الجنسيات . هذا التعقيد الذى يظهر أيضا فى المهارة التى يتمتع بها الجانى فى مثل هذه الجرائم، والذى يطلق عليه المجرم ذو اللياقة البيضاء, والذى يتستر خلف المستوى الاجتماعى المرموق والذى يسمح له بتسيير الصفقات المشبوهة يعاونه فى ذلك كبار رجال السياسة والحكم فى إطار عمليات الرشوة التى بدأت تأخذ حاليا نمط من أنماط المشروعية الواقعية بين صفوة رجال الأعمال ورجال السياسة والحكم .
غير أن هذا المعيار فى تعريف جرائم الأعمال والقانون الجنائى للأعمال، القائم على تعداد الجرائم إلى جانب فكرة التعقيد المالى والاقتصادى فى ارتكاب الجريمة, رغم تبنية على المستوى الدولى ، ورغم ما يتسم به من وضوح وسهولة قد وجهت له عدة عيوب تحد من هذه المزايا.
فعلاوة على أن هذا المعيار يعد بعيدا عن إرادة المشرع الذى لم يقصد تحديداً وضع تعريف لجرائم الأعمال، فإن الجريمة الموصوفة بهذا الوصف لا يشترط فيها أن تكون على قدر من الخطورة أو التعقيد أو الأهمية. فكما يشير أحد الفقهاء إلى أن الجرائم الموصوفة "بالأعمال" يمكن أن تكون على قدر من البساطةPeuvent être minimes وكونها لا يثير ارتكابها انتباه العامة ولا وسائل الإعلام فإنه لا يغير من طبيعتها أو وصفها. فيمكن لبعض التصرفات البسيطة أو العادية ولكنها ترتكب على سبيل التكرار أن تحدث أثرها على الحياة الاقتصادية والاجتماعية أكثر مما تحدثه قضية واحدة كبيرة تشد انتباه وسائل الإعلام والعامة من الناس. فالاستيلاء على جزء من رأس مال أحد الشركات يمكن لنا اعتباره جريمة أعمال حتى ولو انصب الأمر على مبلغ بسيط سواء اتخذ المدير فى ارتكابه للجريمة تدابير للتستر على جريمته وإخفائها أم لا. وعلاوة على ذلك فإن استخدام هذا المعيار يمكن أن يخرج جرائم عديدة تكثر فى عالم الأعمال كالرشوة والنصب والتزوير دون أن يعطى تبريراً لهذا الاستبعاد .
أمام هذه الانتقادات، لجأ الفقه فى تحديد مفهوم جرائم الأعمال وبيان الرابطة التى تربط كل من جرائم الشركات بغيرها من الجرائم التى يضمها فرع القانون الجنائى للأعمال إلى تبنى معيار يقوم على الصفة المهنية للجانى. مع اعتبار هذا المعيار معيار أساسى يمكن تكملته بعد ذلك بمعايير أخرى.

ثانيا: الصفة المهنية للجانى كمعيار أساسى La qualité professionnelle comme critère de base
اقتضى النقد الموجة للمعيار السابق فى تعريف القانون الجنائى للأعمال وبيان الرابطة بين جرائم الشركات وجرائم الأعمال اللجوء إلى معيار شخصى يبنى على الصفة المهنية للمجرم، الأمر الذى دعى البعض إلى القول إلى أن رجال الأعمال ذاتهم هم محور اهتمام هذا الفرع، سواء أكانوا أشخاصا طبيعية أو معنوية، رغم تعدد الطوائف التى تدخل تحت هذا الوصف دون أن يجمعها قدر من التجانس. وعلى ذلك يخرج من ذلك الأفراد العاديين حيث لا يجوز ملاحقتهم تحت وصف التجريمات التى تدخل فى عداد جرائم القانون الجنائى للأعمال، اللهم إلا تحت وصف الاشتراك إذا ثبت تدخلهم فى صفقات أملين تقليد هذه الطبقة . فجرائم الأعمال تخص إذا القائمين على إدارة المشروعات التجارية بغية الإضرار بالغير ممن يدخلون فى علاقات تجارية مع هذه الأخيرة. وما توصف هذه الجرائم بجرائم الأعمال إلا لأنها تمثل انتهاكا من قبل مهنيين أوجبت النصوص المتناثرة بالمدونات والقوانين ووفقا للأعراف التجارية بين المهنيين وما يربطهم من مواثيق شرف Codes de bonne conduite تحكم نشاطهم التجارى احترام واجب الأمانة فى إبرام الصفقات التجارية وفى تنفيذها.
لاشك أن هذا المعيار قد مس جانبا من الحقيقة, فالجانى فى هذا المجال يجب أن يكون فى جميع الأحوال مهنيا، فهذه الصفة هى القاسم المشترك بين جميع الجرائم التى يتفق الفقه على اعتبارها داخلة فى هذا الفرع القانونى وتعد بمثابة الشرط المفترض لمثل هذه الجرائم. ولنا أن نمثل بمدير الشركة الذى يساهم بقراراته الخاطئة فى إفقار الذمة المالية للشركة وكذلك المدير الذى يتلاعب بسوق الأوراق المالية لتحقيق أرباح طائلة غير مشروعة. ولنا أن نمثل أيضا بالتاجر الذى يتلاعب بدفاتره التجارية بنية التهرب من ضريبة الأرباح التجارية والصناعية المستحقة للدولة عن نشاطه أو بالسماسرة والوسطاء démarcheurs فى حالة إبرام بيوع تعسفية مع المستهلكين ولنا أن نضيف إلى ذلك من يتدخل بأسماء مستعارة كالعمال أو الإداريين بالمشروع لتهيئة عمليات النصب والغش التى يباشرها القائمين على الإدارة. خلاصة القول إلى أن هذه الصفة تخص كبار رجال الإدارة بالمشروعات التجارية ممن يمارسوا المهن الحرة والحرفيين والتجار .

غير أن اتخاذ الصفة المهنية كمعيار مطلق لتعريف جرائم الأعمال يعيبه أن قد يدخل فى طائفة هذه الجرائم أفعال ترتكب بواسطة مهنيين ولكنها أبعد ما تكون عن حقيقة جرائم الأعمال ولنا أن نمثل مثلا بالرعونة أو عدم الاحتراز فى القيادة التى يرتكبها أحد رجال الأعمال أو الفعل الفاضح أو المخل بالآداب المرتكب من رئيس أو عضو مجلس إدارة إحدى الشركات أو السرقة المرتكبة من أحد الموظفين بالشركة، ومن أجل تجنب هذا التوسع فإنه من المناسب اللجوء إلى معيار تكميلى يقوم على فكرة المشروع التجارى كمحدد لقانون جنائى الأعمال ولما يعتبر من قبيل جرائمه.



ثالثا: المشروع التجارى كمعيار تكميلى L’entreprise comme critère complémentaire

يختلف الفقه فى تعريف المشروع التجارى على مذهبين الأول مضيق ناظراً للمشروع على أنه وحدة للإنتاج تهدف إلى الربح داخل السوق والثانى موسع ينظر إليه على أنه تنظيم يهدف إلى الإنتاج أو التبادل أو تداول الأموال والخدمات. فهو وحدة اقتصادية وقانونية تجمع بين عناصر إنسانية ومادية بغية القيام بنشاط معين . وآيا ما كان الخلاف على مستوى فقه القانون التجارى فى تعريف هذه الفكرة فإنه على المستوى الجنائى قد رأى البعض إلى أنه لتوصيف الفعل بأنه جريمة من جرائم الأعمال فإنه يتعين علاوة على ضرورة ارتكاب الفعل ممن يتمتعون بالصفة المهنية, أن يرتكب الفعل داخل المشروع التجارى سواء أكان ذلك لحسابهم الشخصى أو كان لحساب المشروع ذاته.

وعلى ذلك فلقد عرفت الأستاذة دلماس مارتىDelmas-Marty ، أستاذة القانون الجنائى بجامعة باريس وأحد أكبر المتخصصين فى فرع القانون الجنائى للأعمال، هذا الفرع بأنه "الفرع من القانون الجنائى الذى يعاقب من ناحية على الاعتداءات على النظام المالى والاقتصادى والاجتماعى وعلى ما يمس رفاهية الحياة ويعاقب من ناحية أخرى على الاعتداءات على الملكية والثقة العامة وعلى السلامة الجسدية للأشخاص إذا ما تصرف الجانى داخل مشروع تجارى سواء كان ذلك لحسابه الشخصى أو لحساب المشروع ذاته إذا ما كان أسلوب ارتكاب الجريمة يرتبط بسلطات اتخاذ القرار اللازمة لمباشرة المشروع لنشاطه" .

هذا المعيار منظورا إليه كمعيار موضوعى نميل له حيث تبرز أهميته فى إسباغ نوع من الوحدة العضوية على القانون الجنائى للأعمال. فهذا الأخير يبدو على أنه كوكبة غير متجانسة من الجرائم وكمجموعة من التجريمات، الشبيهة بالجزر البلقانية، التى تهدف إلى خلق نوع من المنطق الجنائى يتناسب مع الإجرام فى محيط الأعمال . هذا التبعثر ينشأ فى حقيقة الأمر، كما قال أحد الفقهاء، عن الغموض وعدم الدقة التى تحيط بمصطلح "الأعمال" ذاته. فلهذا المعيار الفضل فى خلق نوع من الوحدة بحيث يكون طبيعيا معالجة جرائم الشركات مثلا مع الجرائم فى محيط قانون العمل وقانون حماية المستهلك أو البيئة حيث يجمع كل هذه الجرائم رابطة قرابة وتشابه مؤداها أنها تقع بواسطة مهنيين فى إطار المشروع التجارى والاقتصادى. علاوة على أن هذا المعيار يبرز لنا العلة التى من أجلها تدخل الجرائم العامة المتعلقة بالأموال (النصب - خيانة الأمانة) ضمن ما يعالجه الفقه تحت مفهوم جرائم الأعمال حيث تقع هذه الجرائم داخل المشروع التجارى وترتبط بنشاطه الإنتاجى .

الفرع الثانى
الجدل حول ضرورات التدخل الجنائى فى محيط الشركات

إذا كانت العلاقة بين القانون الجنائى للشركات والقانون الجنائى للأعمال قد أوضحناها حيث يظهر هذا الأخير بمثابة الأسرة أو العائلة التى تضم فى طياتها جرائم الشركات إلا أن العلاقة بين قانون الشركات والقانون الجنائى ذاته ما زالت محل جدل فقهى كبير يتنازعه الفقه بين رافضين للتدخل الجنائى فى محيط الشركات وبين مؤيد لهذا الاتجاه وبين الاتجاهين يقف البعض عند حد القول بأن القانون الجنائى فى محيط الشركات يتصف بعدم الفاعلية، وهو الأمر الذى سنبينه على نقطتين نخصص الأولى للاتجاه الرافض الذى يرى عدم ضرورة اللجوء إلى الشكل الجنائى لحل التنازع بين المصالح الناشئ بين المساهمين والقائمين على إدارة الشركة مكتفين بالحلول التى يكفلها القانون المدنى والتجارى فى هذا المجال، بينما نخصص الثانية للاتجاه القائل بأن الشكل الحالى للتدخل الجنائى فى محيط الشركات مصاب بعدم الفاعلية مبررا هذا بالعديد من الأسباب.


أولا: رفض الحماية الجنائية للذمة المالية للشركة

من وجهة نظر تجارية بحته فإن بعض الفقه قد رأى فى النصوص الجنائية التى بدأت تغزو الحقل التجارى والقوانين التى تنظم هذا الميدان، ومنها بالضرورة قوانين الشركات, تدخل غريب عن هذا الجسد ولا يمكن التسامح فيه إلا على مضض Tolérée à contrecœur . هذا القيد الجنائى يسير فى اتجاه مناهض لما تقتضيه حرية الحركة الواجبة فى حياة الأعمال والروح التى يجب أن تسود المشروع وهى الجرأة التجارية وتجريب إستراتجيات جديدة للنهوض بالمشروع ورفع إنتاجيته، وبالجملة حرية الحركة للقائمين على الإدارة الأمر الذى لا يمكن التوفيق بينة وبين التهديد بالجزاء الجنائى ، مما دعى أحد كبار فقهاء القانون التجارى إلى أن يأسف إلى أن عصر النهوض بالشركات (خاصة شركات الأموال) قد صاحبة تدخل من قبل القضاء الجنائى . ودعا فقيه أخر إلى القول بأن هذا الأسلوب هو أسلوب من أساليب العصور القديمة ولا يتناسب مع الدور الذى يجب أن تلعبه الشركات فى الاقتصاد الوطنى .
ولقد تعجب احد الفقهاء الأمريكان من الأسلوب الذى اتبعه المشرع الفرنسى فى قانون الشركات الصادر فى عام 1966 بتكثيف النصوص الجنائية داخلة قائلا: إن واضعى نصوص القانون الخاص بعام 1966 قد استكملوا عملهم بنصوص جنائية ذات حجم وقسوة ليس لها مثيل فى دول العالم المتمدين ولى أن أتسال بأى منطق قد قبل واضعو هذا القانون معاملة مديرو الشركات على ذات النسق الذى يعامل به الأشقياء أو المنحرفون .
‘‘Les auteurs de la réforme de 1966 ont complété leur ouvrage par des dispositions pénales d’une ampleur et d’une sévérité sans doute inégalée dans le monde civilisé…Je me demande par quel processus de raisonnement, les auteurs de cette loi ont cru néanmoins traiter les dirigeants des sociétés sur le même plan que les malfaiteurs‘‘.

وفى الحقيقة لقد برر واضعو نصوص التشريع الفرنسى الخاص بالشركات التدخل الجنائى وقسوة الجزاءات الجنائية فى هذا المجال بالتخفيف الذى سوف يحدث لهذه النصوص على المستوى العملى. فمن ناحية فإن النيابة العامة لها سلطة الموائمة والتقدير فى توجيه الاتهام بموجبها لا يقع بين يد القضاء إلا الجرائم الخطيرة أو التى تحدث ضررا اقتصاديا مؤثرا. ومن ناحية أخرى فإن القضاء ذاته يمكن أن يطبق هذه السلطة التقديرية عند اختيار الجزاء الجنائى مقدرا أحيانا اللجوء إلى استعمال العقوبات المخففة أو إيقاف التنفيذ فى أحيان أخرى .

غير أن هذا التبرير لم يفلت من النقد حسبما أشار به البعض من أن إدارة الشركة لا تستوجب هذا الحشد من النصوص الجنائية، كما أن النيابة العامة ليست وحدها السلطة التى تمارس قبضتها على الدعوى العمومية، فهذه السلطة يجب أن تتقاسمها مع المدعى المدنى أحيانا. كما أنه إذا كان بعض القائمين على تحريك الدعوى العمومية من رجال النيابة على دراية بالقواعد والقوانين الجنائية فى المجال التجارى والشركات فإن هذا لا ينطبق على جميع النيابات الأمر الذى ينطبق بدورة على القضاة .
ثانيا: عدم فاعلية الحماية الجنائية للذمة المالية للشركة

فى إطار النقد الموجه للتدخل الجنائى فى محيط الشركات فإن بعض الفقه قد رأى هذا التدخل بالشكل الذى هو عليه الآن أمر تعيبه عدم الفاعلية. ويظهر ذلك بوضوح فى حالة ما إذا كان القائمين على إدارة الشركة من قبيل القوى الاقتصادية فى المجتمع ويتمتعون بالقرب من الدوائر السياسية فيه. فى هذه الحالة فإن الجريمة فى الغالب تظل خفية وفى حالة اكتشافها ففى الغالب من الأحوال يجرى التعتيم على الانحرافات وفى القليل النادر إذا ما تمت المحاكمة فإن الجزاء الموقع يكون فى الغالب غير رادع وغير كافى . وعلى الرغم من النص على عقوبات جسيمة لجرائم الشركات تتراوح بين الحبس من سنة إلى 5 سنوات والغرامة التى تصل أحيانا إلى مليونين ونصف من الفرنكات فإن الواقع العملى يكشف عن تطبيق نادر لعقوبات الحبس ويقف العقاب الحقيقى عند حد الغرامة التى لا تجد فرصة حقيقية للوفاء بها. ويزداد الأمر غرابة إذا ما علمنا أن العقوبات التبعية لا توقع وفقا للتشريع الفرنسى على جرائم الشركات ، ولعل هذا ما دفع البعض عند تعديل جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات إلى المطالبة بتخفيض عقوبة الحبس من خمسة إلى ثلاث سنوات وإلى رفع عقوبة الغرامة إلى خمسة ملايين فرنك مبررين ذلك بالطبيعة الاقتصادية والمالية للجريمة.

وتظهر عدم الفاعلية بوضوح إذا ما نظرنا إلى أنه على الرغم من كثرة عدد الجرائم المنصوص عليها فى قانون الشركات (حوالى 130 جنحة وأكثر من عشرين مخالفة) فإن معظم هذه الجرائم لم يجد محلا من التطبيق وقليلا منها هو الذى يجد تعليقا من الفقه فى الدوريات المتخصصة. وكما يؤكد البروفسير بلوك Bouloc فإن مراجعة الأحكام التى أصدرتها محكمة النقض فى مجال فى مجال الشركات منذ عام 1966 يظهر أن معظم الأحكام الصادرة قد انصب على جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات وعدد أخر يتعلق بالجرائم الماسة بالنظام المحاسبى للشركةL’ordre comptable وكذلك بالرقابة على الشركة خاصة جريمة عدم الإبلاغ عن وقائع جنائيةLa non révélation de faits délictueux ، وخارج هذه الدائرة فإن الجرائم المتعلقة بتأسيس الشركات وانعقاد الجمعيات العمومية نادرا ما تجد تطبيقا عمليا. بل إن الجرائم الخاصة بتعديل رأس مال الشركة أو المساهمة فيه لم تجد تطبيقا عمليا واحدا .

ولتبرير عدم الفاعلية للتدخل الجنائى فى محيط الشركات فقد أبرز الفقه نوعين من الأسباب الواقعية: الأولى تتصل بقصور الوسائل المتاحة أمام السلطات القضائية لكشف الجريمة والثانية تتصل بالأساليب المالية الملتوية التى تتبعها المشروعات والقائمين على إدارة الشركات.

ففيما يتعلق بالسبب الأول المتصل بالوسائل المتاحة للسلطات القضائية للكشف عن الجرائم فى هذا المجال فإن كما لاحظت الأستاذة دلماس مارتى والأستاذ بلوك فإن الكشف عن جرائم الشركات غالبا ما يتأتى من قبل المجنى عليهLa victime . فقلما يأتى الكشف من قبل السلطات العامة المختصة اللهم إلا إذا كشفت الصدفة البحتة عنها. ورغم الدور الهام للمجنى عليه (المساهم) فإنه قلما يتدخل للكشف عن الانحرافات المالية التى اطلع عليها أو يشتبه فى وقوعها وذلك لعدة أسباب منها أنه قد لا يعلم أنه مجنى عليه أصلا فى الجريمة. فالشخص الذى يبيع أسهمه فى سوق الأوراق المالية فى فترة معينة لعلمه أن الفترة ملائمة قلما يقوم بالإبلاغ عن جريمة المعلومات التفضيليةL’information privilégiée عندما يعلم أن الشخص الذى اشترى الأسهم كان على علم سابق من خلال مديرى الشركة بأن سعر الأسهم سوف يزداد فى فترة لاحقة على الشراء مما يوقع المدير الذى أعطى المعلومات التفضيلية تحت طائلة القانون بوصفة ترتكب جريمة إفشاء سرية معلومات عن الوضع المالى للشركة لا يجوز الكشف عنها فى فترة معينةDélit d’initié . هنا كثيرا ما لا يعلم الشخص أنه مجنى عليه كما لا يعلم أن حقوقه مصونة من قبل القانون الجنائى.

كما أنه إزاء نظرة القضاء إلى أن جرائم الشركات ومنها جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات لا تهدف إلا لحماية الشركة ذاتها كشخص معنوى فإن ممثلى هذا الشخص هم وحدهم القادرين على التصرف على المستوى القضائى. وبالتالى ففى الغالب يتم الانتظار حتى وجود الفرصة المواتية بانتهاء الدور الوظيفى للمدير الذى انحرف بسلطته فى إدارة أموال الشركة حتى يمكن للسلطات الرقابية والقضائية أن تعلم بهذا الانحراف من خلال المدير الجديد أو مجلس الإدارة الجديد أو من خلال الأطراف المشاركة فى عمليات التسوية القضائية عند دخول المشروع فى أزمة مالية توجب تصفيته أو شهر إفلاسه . وبغير مثل هذه الفرصة فإنه لا يتسنى للسلطات القضائية العلم بالانحرافات المرتكبة من قبل القائمين على الإدارة.

ويمكن للبعض القول بأن وجود عضو الرقابة المتمثل فى مراقبى الحسابات Commissaires aux comptes داخل شركات المساهمةSociétés anonymes وبعض الشركات ذات المسئولية المحدودSociétés à responsabilité limitée لا يجعل لهذا السبب من أسباب عدم الفاعلية للتدخل الجنائى فى محيط الشركات أثرا حيث يلزم مراقبو الحسابات بالكشف للنيابة العامة عن الوقائع الجنائيةFaits délictueux التى تصل إلى علمهم (المادة 457 من قانون الشركات الفرنسى) . غير أن هذا القول مردود عليه بأن هذه الرقابة هى الأخرى يعيبها عدم الفاعلية نظراً للوضع الغامض لمراقب الحسابات داخل الشركة حيث تجرى مكافئه هذا الأخير من قبل مديرى الشركات التى يلزمه القانون بالكشف عن جرائمهم . بالإضافة إلى ذلك فإن المجلس القومى لمراقبى الحساباتCompagne Nationale des Commissaires aux Comptes قد أصدر فى 12 سبتمبر 1985 توصية مؤداها أن عمل مراقب الحسابات هو ضمان سلامة المعلومات المحاسبية والماليةFiabilité des informations comptables et financières المقدمة من المسئولين عن إدارة الشركة ولا يجب أن ينفصل الالتزام بالكشف عن الوقائع الجنائية الواقع على عاتق مراقب الحسابات عن هذا التحديد لمهمته داخل الشركة. ووفقا للمنشور الصادر فى 23 أكتوبر عام 1980 الصادر عن وزارة العدل وموجة إلى رجال النيابة العامة فإن الإبلاغ عن الانحرافات المحاسبية والمالية من قبل مراقب الحسابات لا ينطبق إلا بشأن الوقائع الجنائية الواضحةFaits significatifs والعمديةFaits délibérés . وبالتالى فإن على الرغم من وجود هذا العنصر الهام من عناصر الرقابة داخل الشركة فإنه ليست كل الوقائع الجنائية قادرة على الوصول إلى سلطات التحقيق والاتهام والحكم.

يضاف إلى كل ذلك أن القضاء يتشدد فى قبول الدعوى المدنية من قبل بعض الأشخاص كالدائنين والعاملين بالشركة أو المرفوعة من قبل جمعيات الدفاعAssociations de défense ، مثل تلك المرفوعة من تجمع المساهمين المكونين لما يسمى برابطة المساهمين Syndicat d’actionnaires، التى لم تصب بضرر شخصى ومباشر وفقا لما تشترطه المواد 2 و 3 إجراءات جنائية فرنسى .

أما بالنسبة للنوع الثانى من الأسباب التى قدمها الفقه لتبرير عدم فاعلية التدخل الجنائى فى مجال الشركات فتتعلق بالتعقيد المالى أو الأسلوب المالى الملتوى الذى يتبعه المشروع التجارى أو الشركة عند مباشرة نشاطه. ومن قبيل ذلك قيام الشركة, خاصة شركات المساهمة, بشراء أسهم شركة أخرى ثم بيعها إلى شركة ثالثه والقيام بعمليات الاندماج والانشطار. ومن قبيل ذلك أيضا القيام بالعمليات المالية خارج إقليم الدولة وفى مناطق تتمتع بنظم ضريبية متساهلة وتمنح مزايا هائلة لتأسيس الشركات على إقليمها وبنظم بنكية تفرض سرية صارمة على حسابات عملائها (سويسرا, لكسمبورج، موناكو الخ) بحيث يجعل من الصعب إجراء التحقيقات من قبل السلطات الوطنية لتتبع الانحرافات المالية الواقعة. ويتطلب الأمر غالبا وجود تعاون قضائى مع السلطات الأجنبية عن طريق الإنابة القضائية الدوليةCommission rogatoire internationale التى تقف عدة شروط لتحد من فاعليتها كشرط التجريم المزدوجDouble incrimination وعدم الاصطدام مع وجود السر المهنى وبحظر تبادل المعلومات للأغراض ضريبية Fins fiscales.

وعلى الرغم مما يسمح به القانون الفرنسى من منح الاختصاص للقاضى الفرنسى إذا وقع أحد العناصر المكونة للركن المادى للجريمة على الإقليم الفرنسى (المادة 113/2 عقوبات فرنسى جديد – المادة 693 عقوبات فرنسى قديم) وتوسع القضاء الفرنسى فى تطبيق هذا النص عندما قرر فى حكم له صادر فى 7 نوفمبر 1974 بتطبيق جريمة الإخفاءRecel على من يحصل على معلومات تفضيلية تتعلق بأسهم إحدى الشركات المتداولة فى سوق الأوراق المالية حتى ولو كان استعمال هذه المعلومات سيجرى بالخارج ، فإن تدخل وسطاء أجانب وإجراء العمليات على إقليم دولة أجنبية يجعل من الصعب الحصول على المعلومات المفيدة للإجراء التحقيقات مما يؤدى فى النهاية إلى صدور أمر بحفظ أو أمر بالأوجه للإقامة الدعوى .

كل هذه الأسباب تجعل من التدخل الجنائى فى مجال الشركات حبراً على ورق مما لا يردع الانحرافات المالية الواقعة فى هذا المجال ويجعل من الجرائم المنشئة فى هذا الصدد لحماية أداء الشركات حال نشوئها وحال إدارتها مجرد كلمات صماء لا يظهر دورها كصمام أمانSoupape de sécurité إلا فى الحالات الفاضحة.




الفرع الثالث
حتمية التدخل الجنائى فى مجال الشركات

رغم الاعتراف من جانبنا بكل ما قيل حول عدم الفاعلية التى أصابت التدخل الجنائى فى مجال إدارة الشركات فإننا مع ذلك لا نقر أبدا بفكرة عدم لزوم الدور الجنائى فى هذا المجال. فكما أكد أحد الفقهاء إننا لا يمكن القول بعدم جدوى القانون بمجرد أن جريمة ما لم تجد محلا للتطبيق. فمجرد وجودها يردع كثيرين عن مخالفتها Le fait qu’aucune infraction n’ait été relevée n’implique pas l’inutilité de la loi. Sa seule présence dissuade un grande nombre de citoyens de la transgresser . هذه الوجهة من النظر يجب تأييدها حيث تؤكد الشواهد أن حالات الانحراف بإدارة الشركة فى تزايد مستمر وكما يؤكد المنشور الوزارى الصادر فى 20 أكتوبر 1981 عن وزارة العدل الفرنسية فإن اللجوء لنصوص جنائية صارمة هو أمر لا مفر منة من أجل مناهضة الانحرافات المالية داخل الشركات. بل ويدعو وزير العدل فى هذا المنشور القاضى الجنائى إلى التصرف بحزم تجاه إجرام رجال الأعمال حيث يمثل الانحراف اعتداء ليس فقط على المصالح المالية للمساهمين بل على المصالح الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع ككل حيث يهتز الهيكل الاقتصادى والمالى للدولة ذاتها ويهز بالتالى ثقة الجمهور فى سياستها الاقتصادية مما يخش معه هرب رأس المال الوطنى والأجنبى وإحجامه عن الاستثمار فيها.

والواقع أن النظرة الحمائية للمساهمين, خاصة ممن لا يشتركون فى الإدارة ذاتها, وحماية الادخار العام والغير المتعاملين مع الشركة هو الذى شجع على إلباس قانون الشركات الفرنسى طابعة الجنائى حيث فشلت الجزاءات المدنية والتجارية (البطلان والتعويض) فى تحجيم الانحرافات فى الإدارة. ويقول أحد الفقهاء فى ذلك "أنه من أجل حماية الشركاء ودائنى الشركة ضد الأساليب المنحرفة وغير الأمنية للقائمين على إدارتها فإنه لا يكفى التسليم بالمسئولية المدنية والجزاءات المهنية. فإننا فى الواقع لم نجد علاجا ناجعا وأكثر فاعليه من التهديد بالعقوبات الجنائية الصارمة" .

هذه الحقيقة يؤكدها الشعور الدائم للمواطن العادى بأنه لا يعتبر خارجا عن القانون إلا من ينتهك النصوص الجنائية ويعتبر من قبيل الذكاء ودعوة للفخر وأمرا غير مشين التحايل على قواعد القانون المدنى أو التجارى وما يشابهها. من هنا جاء تفضيل الجزاء الجنائى دائما على الأنواع الأخرى من الجزاءات. فالمشرع لدية الاعتقاد أن هذا المنحى يضمن التطبيق الفعال لنصوص القانون بأفضل مما لو ترك الأمر لجزاءات من نوع أخر.

وتنكشف لنا أهمية اللجوء للجزاء الجنائى عندما نحلل البطلانLa nullité مثلا كجزاء مدنى وتجارى طبيعى ومنطقى لأى تصرف تم بالمخالفة للنصوص الآمرة التى تحكم الشركات. فهذا الجزاء يبدو لنا فى هذا المجال, خاصة بعد عدة سنوات من حياة الشركة, كارثة وإجراء غير عادل فى أثاره ويخلق نوعا من عدم الاستقرار فى العلاقات القانونية. فهذا الجزاء له نتائج أكثر خطورة فى مجال الشركات منه فى أى عقد أخر، حيث أن نشاط الشركة يهم طائفة كبيرة من الأشخاص من المساهمين والغير حسنى النية ممن تعاملوا مع الشركة كالعمال بها والموردين وغيرهم ممن يكون رجوعهم على مؤسسى الشركة عند القضاء بالبطلان بحقوقهم أمر تكتنفه الكثير من الصعوبات ويصبح أمرا مشكوكا فيه. بل إن خطورة هذا الجزاء تظهر حينما يمتد البطلان ليس فقط إلى تصرف من تصرفات الشركة ولكن إلى عقد الشركة ذاتها.

ويكفينا دليلا على ضرورة الاستعانة بالجزاء الجنائى فى هذا المجال أنه مع بداية الثلاثينيات من القرن الماضى، حينما بدأ المشرع الفرنسى فى الأخذ بفكرة التدخل الجنائى فى محيط الشركات عن طريق جرائم خاصة بعيدا عن القواعد التقليدية المتعلقة بجرائم الأموال، بدأ عدد المنازعات والانحرافات الخاصة بإدارة الشركة فى التناقص ولا يمكن إسناد هذه الظاهرة إلا للخوف من هذا الحارس الجديد المسمى بالقاضى الجنائى La peur de ce gendarme qu’est le juge pénal.

أيا ما كان الأمر فإن التدخل الجنائى فى محيط الشركات التجارية أصبح حقيقة واقعه فى القانون الفرنسى الصادر فى 24 يوليو 1966 ولنا أن نقرر بأن هذا التدخل إنما تبرره ثلاثة أمور:

1- الحاجة لإعادة التوازن بين السلطات داخل الشركة
2- حماية المصلحة العامة ضد احتمالات الانحراف من قبل القائمين على الإدارة
3- حماية روح المبادأة اللازمة لنجاح الإدارة داخل الشركة
وسنوالى شرح هذه العناصر على النحو التالى:




1- إعادة التوازن بين السلطات داخل الشركةLe rééquilibrage des pouvoirs sociaux

إن تنظيم إدارة الشركات, وفق قانون 24 يوليو 1966, قد يبدو أنه يتصف بالطابع الديمقراطى الذى يظهر فيه المساهمين وكأن لهم اليد العليا داخل الشركة. فمن خلال تجمعهم فى إطار الجمعية العمومية فإن لهم حق اتخاذ القرارات الهامة فى حياة الشركة، ومنها تعيين وعزل القائمين علي الإدارة ورقابة الأداء والتصديق والأذن ببعض التصرفات، بينما يظهر القائمين على الإدارة فى وضع التابعين.

غير أن هذا المنظور الديمقراطى قد صادفه الفشل. فالتجربة العملية ومنطق حياة الأعمال قد أثبتت أن هناك تناقضا بين ما تضعه النصوص القانونية وبين حقائق التطبيق الواقعى والذى يخفى وراء هذا الشكل الديمقراطى نمطا من حكم الأقلية يتسيد فيه القائمين على الإدارة على قلتهم. فأولئك عمليا يمارسون سلطات واسعة يديرون بها دفة الأمور ويبدو وكأن المساهمين أو الشركاء وقد قد عبروا عن رضاء سلبى أو ضمنى بالتنازل عن السلطة. ويبدون كما عبر الفقيه Ripert بأنهم أصبحوا كقطيع بين يدى القائمين عن الإدارة .

هذا الخلل فى علاقات السلطة داخل الشركة، الذى يبرره فى رأينا فكرة سلبية المساهمينPassivité des actionnaires داخل الجمعيات العمومية ، استوجب الاعتماد على التدخل الجنائى من أجل حماية المساهمين من عسف التصرفات غير المشروعة أو غير الأمينة من قبل القائمين على الإدارة ولإعادة التوازن بين الحكام والمحكومين، على حد قول أحد الفقهاء ، عجزت عن تحقيقه نصوص القانون المدنى والتجارى بل وعجزت أيضا عن تحقيقه الجرائم العامة الواردة فى قانون العقوبات .

فهاهو العميد Hamel فى تقديمه لمؤلف القانون الجنائى الخاص لشركات المساهمةDroit pénal spécial des sociétés anonymes يتسآل هل من الضرورى أن يتدخل المشرع الجنائى فى حياة الشركة ؟ ويجيب على هذا التساؤل إيجابا بقوله : أنه إذا كان صحيحا أن القانون التجارى أو قانون الأعمال هو قانون يتعين أن يدافع من يطبق عليهم عن مصالحه الشخصية بالأسلحة التى يعرفها عالم الأعمال (الوسائل التى يكفلها القانون المدنى والتجارى للاقتضاء الحقوق) دون الحاجة إلى اللجوء إلى السلاح المرعب المتمثل فى القانون الجنائى الذى يجب أن يقف بعيدا عن هذا التناحر, غير أن هذا مشروط بتكافؤ الأسلحة بين الطرفين, بحيث لا يسمح معه لطرف أن يوجه لخصمه ضربة محظورة. وتفحص واقع الحياة داخل الشركة يكشف لنا عن الهوة التى تفصل المساهمين عن القائمين عن الإدارة وعن عدم تكافؤ بين الطرفين ومن هنا كانت الحاجة للجزاءات الجنائية .

غير أن هذا الفقيه قد ارتأى أن الجزاء الجنائى يجب ألا يطبق إلا على رجال الأعمال الذين يتصرفون بقصد الغش. فهذا الأخير يجب أن يكون الأساس للردع الجنائى فى هذا المجال بحيث يترك للجزاءات المدنية الساحة فى حالة التقصير أو الإهمال فى الإدارة.

ويكشف أيضا الفقيه Chavanne هذه الحقيقة حول ضرورة التدخل الجنائى لإعادة التوازن فى السلطة داخل الشركة بقوله: قد يبدو التدخل الجنائى فى حياة الأعمال أمر غير مرغوب فيه كى لا يعرقل روح المبادأة للقائمين على التجارة ويجعلهم يجبنوا عن تحمل المخاطر رغم أن روح المغامرة من بين شروط العمل التجارى والاقتصادى. وقد يبدو هنا كفاية النصوص المدنية، غير أن هذا إذا صح بالنسبة للحياة التجارية العادية حيث يكون التجار جميعا على قدم المساواة فإنه لا يصح بالنسبة لحياة الشركات. فالشركة هى أداة رائعةMerveilleux instrument للنصب على الأشخاص ولارتكاب الانحرافات المالية، ويبدو فيها الشركاء أو المساهمين وكأنهم فى قبضة القائمين على الإدارة مما يوقعهم فى وضع غير متكافئ يوجب اللجوء للردع الجنائى .

ونحن من جانبنا نؤكد صلاحية هذا المبرر لقبول تدخل القانون الجنائى فى مجال إدارة الشركات وبنصوص خاصة تناسب هذا المجال خاصة مع التزايد الكبير فى حجم إجرام ذوى الياقات البيضاء ورجال الأعمال بحيث لا يجب ترك هذا دون رادع فعال. فالحرية التجارية والاقتصادية، التى ينميها حاليا الشعور العام فى العالم بأثره، يجب أن يقابلها قدر من المسئولية، ولا يمكن فى رأينا القول بأن هذا القدر من المسئولية قد تم الأخذ به إلا إذا كان مصحوبا بدعم من النصوص الجنائية .

2- حماية المصلحة العامة La protection de l’intérêt général

بالإضافة إلى هذه الرغبة فى إعادة التوازن بين السلطات داخل الشركة أو بمعنى أخر الرغبة فى رسم حدود معينة لسلطة القائمين على الإدارة فإننا نلمح للتدخل الجنائى فى مجال إدارة الشركات دورا أكثر خطورة ألا وهو حماية المصلحة العامة أو بمعنى أخر الادخار العام فى الدولة من ناحية والغير المتعاقدين مع الشركة من ناحية أخرى.

وتبرر حماية الادخار العام فى محيط الشركات، فى شق كبير منها، نشأة القانون الجنائى للشركات، بل هو المبرر الأساسى إذا تحدثنا عن الشركات بالأسهمSociétés par actions . فالقانون الجنائى فى محيط الشركات يهدف أولا إلى بث الثقة فى الادخار العام كى ينمو ويتطور بل إن تحقيق هذا الهدف يمثل واجب قومىDevoir national حيث يعتبر الادخار أحد القوى المحركة للحياة الاقتصادية ويمثل عصب نموها وهو ما يوجب أن يحس الادخار العام فى الدولة أنه قد توافرت له حماية ملائمة.

ولقد سبق القول بأن التجريمات العامة المبنية على خيانة الأمانة لا تكفى لدعم الثقة وحماية الادخار العام وفشل هذا التجريم كما سبق القول إلى ضيق فكرة المحل الذى يرد عليه النشاط الإجرامى أو إلى طبيعة النشاط ذاته والذى يجب أن ينصرف إلى تغيير فى طبيعة الحيازةIntervention de la possession وانتقالها من حيازة ناقصة إلى حيازة بغرض التملك. غير أن الواقع العملى قد كشف عن أن هناك من الاعتداءات مالا ينصب على مال معين من أموال الشركة بل يصيب أو يضرر بإدارة الشركة ككل لا يتجزأ، ويكفينا مثالا على ذلك الاتفاقيات المعقودة بين مجموعة شركات لتفضيل شركة معينة بعروض إضرار بشركة أخرى دون أن يكون هناك بالضرورة تحريكا لجزء من رأس المال أو أرباح فى صورة ائتمان أو الأضرار التى تنشأ من جانب القائمين على الإدارة نتيجة الإهمال أو الامتناع كالتأخير فى تحصيل حق أو مال معين للشركة لدى الغير.

وتكشف هذه الأمثلة وغيرها، كما يذكر أحد الفقهاء ، عن النقص الذى يعتور التقنينات اللاتينيةCodes pénaux de type latin والتى لا تحتوى على جريمة خاصة "بالإدارة غير الأمنية" Délit de gestion déloyale والتى تعاقب "كل من يقع عليه التزام قانونى أو تعاقدى بأن يسهر على حماية المصالح المالية للغير إذا ما أخل بهذا الالتزام". هذا الفشل استوجب بالتالى التدخل بنصوص جنائية خاصة تتناسب مع حياة الشركة وتتناسب مع الأهمية التى يعنيها المشرع بالادخار العام فى المجتمع.

والادخار العام، الذى ينصرف أول ما ينصرف إلى الأشخاص الذين أصبحوا من حملة الأسهمActions أو السنداتObligations ، يستوجب عدد من العناصر أولها أن يتوافر عنصر نفسى جماعى نحو الاستهلاك الحذر أو الإنفاق المحسوب مما يؤدى فى النهاية إلى تراكم فى رأس المال من قبل الأفراد وثانيها أن يتوافر عنصر إيجابى يتمثل فى أن يجد المدخرينEconomiseurs بعض المصالح أو الأهداف التى ينون تحقيقها عن طريق الاستثمار بمدخراتهم لدى الغير والعنصر الأخير هو أن يتوافر عنصر الثقة والأمان خاصة على الجانب القانونى .

وهنا منشأ الخطورة من ترك الانحراف بإدارة الشركة دون ردع حيث يبدأ انعدام الثقة من قبل المستثمرين أو مالكى رأس المال. فبعض خربى الذمة قد يتوسلون من أجل تحقيق مأربهم باستعمال بعض الحيل من أجل جذب رؤوس الأموال ومنها إنشاء الشركات الوهمية أو التى تمثل واجهةSociétés de façade دون نشاط حقيقى, مع استخدام حسابات مزوره وميزانيات لا تعبر عن واقع الشركة مع توزيع أرباح عالية ووهمية تمثل فى حقيقتها جزء من رأس المال من أجل بث الثقة فى الجمهور. ومن قبيل ذلك أيضا إنشاء شركات وليدةFiliales يكون هدفها امتصاص الأرباح التى تحققها الشركة الأمSociété mère .

وإزاء هذه الخطورة كان لزوم التدخل الجنائى على نسق ما قرره المشرع الفرنسى فى القانون الخاص بالشركات التجارية. فإذا كان الفعل الذى يحدثه القتل يصيب فرد أو عائلة ما فإن فضيحة مالية واحدة قد تؤدى إلى انهيار فى الاقتصاد العام على أثر ما يتولد عنها من تصرفات غير محسوبة خاصة من صغار المدخرين أو على الأقل قد تؤدى برأس المال, الذى يعرف بجبنه، إلى الانتقال من قطاع اقتصادى معين إلى قطاع أخر اللهم إلا إذا أدى الأمر فى النهاية إلى هروبه كاملا إلى خارج البلاد.

وكما ينصرف هدف التدخل الجنائى فى إدارة الشركات إلى حماية الادخار العام المتمثل فى حاملى الأسهم والسندات فإن حماية الغير المتعاملين مع الشركة يمثلا هدفا أخر لهذا التدخل، حيث يتعاظم فى الآونة الأخيرة، كما سبق القول، طرق التحايل المتخذة شكل تكوين شركات وهمية التى لا يكون لها نشاط حقيقى. فإذا كان الاقتصاديين المعاصرين لم يترددوا فى القول بأن الرأسمالية المعاصرة لم يكن لها أى تطور بدون الشركات، خاصة الشركات بالأسهم، فإن لنا أن نقول بأن النصب لم يكن ليأخذ أبعادا حديثة دون الشركات أيضا خاصة شركات الأموال. فيعجز رجل الأعمال بمفردة، مهما تيسرت له وسائل، أن يخدع الغير فى حين يصبح طريقه أكثر سهولة عند ظهوره على رأس إحدى الشركات. فميكانيزم الشركة يعطى خربى الذمة الأداة التى يمكن أن تنصب الفخاخ للجمهور وحائزى رأس المال . فتأسيس شركات الأموال التى تدعو للاكتتاب العام كانت هى أسهل السبل لتجميع الأموال من الجمهور حيث لا يهدف هذا التأسيس إلى الاستفادة بالشخصية المعنوية لتحقيق مصالح الجميع ولكن لتحقيق رغبات قلة من الغامرين الذين يختفون خلف الشركة.

والتكتيك المستخدم لكسب ثقة الجمهور لدفعه إلى إيداع الأموال يبدأ عادة باتخاذ اسم رنان للشركة الوليدة "مثلا البنك الأمريكى الأوربى, أو الشركة الإسلامية ...الخ". بعد ذلك يتشكل مجلس إدارة توضع فيه أسماء عديد من الشخصيات العامة المشهورة وغالبا ما يكونوا من رجال الدين الذين ينالون الاحترام مثل ما عليه الحال فى مجتمعنا المصرى، ثم بعد ذلك يتم تجنيد عدد من المندوبين الماليين يقومون بترويج بيع الأسهم، حتى عن طريق المرور على منازل كبار المدخرين ، وما أن يتم تصريف العدد الكافى من الأسهم حتى يختفى المؤسسون بالأموال المجمعة تاركين وراءهم ألاف الأفراد مع قصاصات أوراق تمثل كوبونات الأسهم التى لم يعد لها قيمة.

كل هذا دعى إلى الاستعانة بجزاءات صارمة ورادعة تكفل الحماية لهؤلاء المتعاملين وتكفل هامش من الأمان والذى بدونه لا يتشجع هؤلاء للتعامل مع الشركة الوليدة. هذا الأسلوب هو ما اتبعه المشرع الفرنسى حيث استبان له عجز جريمة النصب عن كفالة هذه الحماية التى تفترض وفق المادة 313/1 استخدام الجانى, كى يدفع الغير إلى تسليم أمواله إلى استخدام وسائل احتيالية معينة لا يكفى معها مجرد الكذب أو ما يسمى بالكذب العارى. لذا فقد تدخل المشرع بتجريمات خاصة يكتفى فيها بمجرد وأحيانا بمجرد الامتناع الذى قد يخدع الغير حول حقيقة المشروع حتى ولو لم يصاحبه أفعال خارجية مؤيدة وباعثة على الاعتقاد بصدق الجانى.

3- حماية روح المبادأة La protection de l’esprit de l’initiative

حينما يتدخل المشرع الجنائى فى مجال الشركات فإن عليه أن يأخذ فى اعتباره أمرين هامين أولهما أن يضمن مناخا من الأمن لتشجيع الادخار العام، وثانيها ألا يعطى انطباعا بأنه استهدف بالنصوص الجنائية أن يخلق "بعبعا"Epouvantail لإخافة القائمين على الإدارة، الأمر الذى يشعرهم أنهم تحت رقابة دائمة تحجمهم بالتالى عن المخاطرة التجارية المطلوبة من أجل النهوض بالمشروع التجارى.

هذا الأمر هو الذى دفع البعض من رجال العمال إلى التأكيد على أن اللجوء إلى الوسائل الجنائية لا يترك لهم حرية العمل مما يدعوهم دائما إلى طلب التدخل لتعديل النصوص الحالية الخاصة لحماية أموال وائتمان الشركات الواردة فى المواد 420 و437 من قانون الشركات الفرنسى









 


قديم 2013-01-20, 11:26   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
الموجة الرابعة
عضو مبـدع
 
الصورة الرمزية الموجة الرابعة
 

 

 
إحصائية العضو










Flower2 القانون الجنائي للأعمال

[SIZE="6"][B][COLOR="Indigo"]ثانيا: طبيعة نظام عمل الشركات Régime fonctionnel des sociétés

يتميز القرن العشرين بأنه عصر التكتلات الاقتصادية بين الشركات الأمر الذي أدى لظهور فكرة مجموعات الشركات والتي تتعدى أنشطتها حدود الدولة الواحدة. هذا التغير الذي شهدته الشركات أدى إلى تمتع القائمين على إدارة هذه المشروعات بسلطات واسعة تدفعها إلى الانحراف المالي مما يوجب التدخل الجنائى من هنا كان ظهور الجرائم الخاصة بحماية المساهمين من عسف الانحراف بالسلطة من قبل القائمين على الإدارة، وكانت الجرائم الخاصة بردع الإساءة في إدارة أموال وائتمان الشركة.

إلى جانب كل ذلك فإننا قد لاحظنا وجود عدم توازن في السلطة داخل الشركات، خاصة شركات المساهمة، ناشئة كما قلنا عن السلبية التي يبديها المساهمين تجاه أنشطة الشركة. هذه الظاهرة ساعدت على ظهور نصوص جنائية تكفل للمساهمين ممارسة تأثير فعال داخل الجمعيات العمومية، ومنها الجرائم الخاصة بممارسة حق التصويت والدعوة لحضور الجمعية العمومية وكذلك الجرائم الخاصة بانعقاد وسير هذه الجمعيات.

ولضمان رقابة فعالة من قبل المساهمين فإنه كان يجب التغلب على ما أظهره الواقع العملى من قصور نظام الإعلام الموجة للمساهمين عن نشاط الشركة ووضعها المالي و التجاري. من هنا كان ظهور نصوص جنائية أخرى لحماية حق المساهمين في الإعلامDroit à l’information ولعقاب الإخلال في إجراءات الدعاية المفروضة على المؤسسين والقائمين على الإدارة.

ثالثا: تحول دور الدولة Transformation du rôle de l’Etat

أخر العوامل التي ساهمت في نمو وتطور القانون الجنائي للشركات هو التحول الذي طرأ على دور الدولة في الحياة الاقتصادية. فكما يكشف البعض، أنه فى خلال القرنين الثامن عشر و التاسع عشر كان المبدأ هو الحرية التعاقدية بحيث كان دور الدولة ضئيلا في تنظيم النشاط الاقتصادي والتجاري في ظلها. ومع بدايات القرن العشرين فإن نظرة جديدة للدولة ودورها بدأت تتشكل وذلك على أثر الحرب العالمية الأولى مصحوبة بالأزمة الاقتصادية في عام 1929 و العديد من الفضائح المالية للعديد من رجال الأعمال. في هذه الفترة ظهرت الحاجة ملحة إلى ضرورة التدخل لحماية بعض الأنشطة الاقتصادية خاصة في مجال الأسعار والمنافسة. وكان على الدولة ضمان القيام بهذا الدور بحيث بدأنا الدخول في عصر تدخل الدولةL’interventionnisme étatique بعد أن ساد مبدأ الحرية الاقتصادية و الحرية القانونية.

وفي مجال الشركات فإن المرسوم بقانون الصادر في 8 أغسطس 1935 حول الشركات التجارية الذي أنشأ تجريمات جديدة خاصة بتأسيس وإدارة و رقابة الشركات هو أحد مظاهر هذا التدخل من قبل الدولة. هذه المهمة الجديدة أدت على المستوى القانوني إلى ظهور أفرع قانونية جديدة منها القانون الجنائي الاقتصادي، الذي يمثل أحد الظواهر القانونية الأكثر وضوحا خاصة في أعقاب الحرب العالمية الثانية والذي يكشف بوضوح عن هذا المفهوم الجديد لدور الدولة في الحياة الاقتصادية.

ولقد كان القانون 24 يوليه 1966 تعبيراً أخر عن هذا التغيير فى دور الدولة، بل وهو نتيجة لظهور فكرة القانون الجنائى الاقتصادى وذلك على الرغم من أن التعريف الحالي لهذا الأخير، كمجموعة من القواعد الجنائية الموضوعية والإجرائية التي تهدف إلى ضمان أداء الدولة لسياستها في مجال الإنتاج وتوزيع الأموال وكذلك ضمان أداء دورها في استخدام هذه الأموال وتوزيع الخدمات ، لا يمكننا من تصنيف القانون الجنائي للشركات كأحد أفرع القانون الجنائي الاقتصادي، غير أن هذين الفرعين يشتركان رغم ذلك في هدف واحد ، خاصة بالنسبة للشركات التي تدعو للاكتتاب العامFaisant publiquement appel à l’épargne وهو حماية المصالح الاقتصادية القومية.

أيا ما كان الأمر فإن التدخل الجنائي في مجال الشركات أصبح حقيقة وأمر واقع خاصة في القانون الفرنسي الصادر فى 24 يوليه 1966 وعلى نحو أقل في القانون المصري رقم 159 لسنة 1981، وبالطبع لا يمكن أن تنصب الدراسة على كل النصوص الجنائية الواردة فى هذين القانونين لذا فقد تخيرنا فقط السياسة الجنائية التى تبناها المشرع والقضاء الفرنسى فى مجال إدارة أموال وائتمان الشركات خاصة إذا ما علمنا أن التشريع المصرى فى هذه النقطة يعتريه النقص تاركا الأمر للقواعد العامة التقليدية فى قانون العقوبات.

ويتصف النموذج الفرنسى فى مجال حماية أموال وائتمان الشركات بصفة المرونة على المستوى التشريعى ووجود إسهام خلاق على المستوى القضائى. ولكل من المستويين سوف نخصص الفصل الثانى والثالث من الدراسة.

الفصل الثانى
المرونة التشريعية فى مجال حماية الذمة المالية للشركة

تمثل حماية الذمة المالية للشركة أحد المشكلات الهامة فى القانون الجنائى للشركات، حيث تمثل هذه المشكلة الكثرة الغالبة من القضايا المعروضة أمام مختلف المحاكم ويبرر ذلك، كما سبق القول، هو السلطة الواسعة التى يتمتع بها القائمون على إدارة الشركات فى توجيه نشاطها وعناصرها المالية بما يسمح بالتالى فى نشوء العديد من الانحرافات.

ولقد كشفت التجربة عن أن مديرى الشركة غالبا ما لا يستشعرون التفرقة بين أموالهم الشخصية وأموال الشركة ذاتها، فيتصرفون وكأن هذه الأخيرة هى من قبل ما يملكون ويوجهونها لأغراض شخصية، كل ذلك على حساب المشروع ذاته الذى عهد إليهم بإدارته. وتكشف طول قائمة الفضائح المالية التى شهدتها فرنسا ومصر فى السنوات العشر الأخيرة عن الخطر الفادح الذى يحيق بالشخص المعنوى عندما يدار من قبل هذا النمط من المديرين.

ولا يمكننا من أجل الحد من هذه الانحرافات القول بتحجيم سلطات القائمين على الإدارة حيث أن متطلبات حياة الأعمال وحسن إدارة الشركة ذاتها يستوجبان أن يترك لهؤلاء حرية القيام بأعمال الإدارة, دون الإكثار من القيود والشكليات . من أجل ذلك كان اللجوء إلى نظام تجريمي خاص, دون المساس بالسير الطبيعى للمشروع, للعقاب على أعمال الإثراء الشخصى والتى تعارض المصلحة العامة للشركة. L’intérêt social هذا النظام التجريمى الخاص هو ما يعرف بجريمة إساءة أموال وائتمان الشركات التى أنشأها المشرع الفرنسى بالمرسوم بقانون 8 أغسطس سنة 1935. فلقد أضاف هذا المرسوم إلى المادة 15 من القانون 24 يوليو 1867 فقرة سادسة لكى يعاقب "كل مدير لشركة توصية بالأسهم استعمل عمدا أموال أو ائتمان الشركة فى غير الغرض الذى أنشئت من أجلة". وتقرر المادة 45 من ذات القانون تطبيق هذا النص على مديرى شركات المساهمة ثم أتى المرسوم الصادر فى 30 أكتوبر 1935 ليطبق ذات النص فى مجال الشركات ذات المسئولية المحدودة . هذه النصوص تم تبنيها، بعد إجراءات تعديلات أخرى فى الصياغة، بموجب القانون الجديد 24 يوليو 1966 الخاص بالشركات التجارية والمعمول به حتى الآن فى فرنسا.

وبتقرير التدخل التشريعى على هذا النحو فإن المشرع الفرنسى أراد تحقيق هدفين: أولهما هدف الإدارة الأمينةGestion loyale للذمة المالية للشركة Patrimoine social والتى تمثل بشكل غير مباشر حماية للأموال المشتركة للمساهمين والشركاء أنفسهم. والرغبة فى تحقيق هذا الهدف يجعل من جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات جريمة ذات غرض حمائىInfraction protectrice للأقلية من الشركاء Associés minoritaires ضد تعسف الأغلبية وضد السلطة شبة المطلقة التى يتمتع بها القائمين على الإدارة.

وحيث أن الذمة المالية للشركة إنما تمثل الضمان العام للدائنينGage général des créanciers , فإن هدفا أخر أراد المشرع تحقيقه من وراء إنشاء هذه الجريمة وهو ضمان التكامل المالى للذمة المالية للشركةL’intégrité du patrimoine حتى يضمن للدائنين الحد الأقصى من الائتمان. فمن مصلحة هؤلاء هو الحد من التصرفات غير المشروعة للمديرين التى تضعف من هذا الضمان أو تؤدى إلى فقدانه كاملا . وجملة القول هو أن هذا الخلق التشريعى يتعلق, كما يقول الفقه الأنجلوسكسونى, بتجريم لحماية الثقة والأمانةIncrimination fiduciaire والذى يهدف إلى عقاب الإخلال بواجب الأمانةDevoir de fidélité الواقع على عاتق المدير تجاه الشركة التى يديرها .

وفى إطار القانون الفرنسى الحالى للشركات التجارية لسنة 1966 فإن تجريم إساءة أموال وائتمان الشركات يندرج فى المواد 437-3 فيما يتعلق بالشركات المساهمة و 425–4 فيما يتعلق بالشركات ذات المسئولية المحدودة. يضاف إلى ذلك المادة 460 والتى تقضى بتطبيق هذه الجريمة فيما يتعلق بشركات التوصية بالأسهم. هذه المواد, والتى تتطابق فى ألفاظها, تعاقب : كل مدير استعمل بسوء نية أموال وائتمان الشركة مع علمه بأن هذا الاستعمال يتعارض مع مصلحة الشركة ويستهدف تحقيق أغراض شخصية أو تفضيل شركة أو مشرع أخر له فيه مصلحة مباشرة أو غير مباشرة.
Les dirigeants qui, de mauvaise foi, ont fait des biens ou u crédit de la société un usage qu’ils savaient contraire à l’intérêt de celle-ci, à des fins personnelles ou pour favoriser une autre société ou entreprise dans laquelle ils étaient intéressés directement ou indirectement.

وباستقراء هذا النص يتبين لنا أن المشرع الفرنسى قد استعمل ألفاظا يشوبها الغموض وعدم الوضوح ضاربا بذلك بأحد أركان الشرعية الجنائية. غير أن هذا الأمر مقصود لتحقيق مرونة تشريعية تستهدف الردع الفعال للأى شكل من أشكال الانحراف المالى خاصة مما لا ينطبق عليه النصوص التقليدية فى جرائم الأموال. وتتعلق هذه المرونة التشريعية سواء بماديات الجريمة، وهى كما يظهر من النص عنصرين أولهما استعمال أموال وائتمان الشركة وثانيها تعارض هذا الاستعمال مع مصلحة الشركة, وسواء بالعناصر المعنوية أو النفسية الخاصة بالجانى والتى لا تتعلق بمجرد خطأ فى الإدارةFaute de gestion ناشئ عن عدم يقظة أو تبصر أو قلة الكفاءة من قبل المدير، والذى لا يدخل تحت طائلة العقاب الجنائى وإنما يمكن أن يثير فقط المسئولية المدنية للمدير, ولكنها تتعلق بعنصر نفسى مبنى على سوء النية وتحقيق المصلحة الشخصية.

ولأغراض الدراسة هذا العام بدبلوم العلوم الجنائية فسوف نركز فقط على المظهر الأول من مظاهر المرونة المتعلق بماديات الجريمة محاولين استظهار المقصود بالاستعمال والمقصود بالاستعمال المتعارض وتحديد فكرة مصلحة الشركة. فمن المعلوم أنه على الخلاف من التجريم الخاص بخيانة الأمانة، الذى يستوجب، وفقا للمبادئ التقليدية، الاختلاس أو التبديد Détournement ou dissipation فإن ماديات جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات لا ينصرف إلا لمجرد الاستعمال البسيط والمجرد للأموال أو الائتمان والذى يكشف بمفرده عن عدم الأمانة فى إدارة الشركة ويكفى كى يعد استعمالا تعسفيا على نحو ما تصفه المحاكم (مبحث أول). غير أن هذا الاستعمال وحده لا يكفى لترتيب النتائج الجنائية ولا يقع تحت طائلة العقاب إلا حيث يكون استعمالا مضادا لمصلحة الشركةUsage contraire à l’intérêt social فما المقصود بهذا التضاد أو التعارض وما المقصود بمصلحة الشركة ؟ (مبحث ثان).


المبحث الأول :الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة

إن استخدام لفظ استعمال من قبل المشرع الفرنسى إنما استهدف به سد النقص الذى ظهر فى تطبيق جريمة خيانة الأمانة فى مجال الشركات التجارية، وهذا يدعونا إلى البحث أولا فى مظاهر هذا النقص قبل أن نحدد فى فرع ثان مضمون هذا الاستعمال التعسفى والمحل الذى يرد عليه.

الفرع الأول :خيانة الأمانة وحماية الذمة المالية للشركة

على الرغم من أن ظهور تجريم خاص بحماية الذمة المالية للشركة, والتى تتمثل فى أموالها وائتمانها, لم يتحدد إلا فى عام 1930، إلا أنه لا يجب الاعتقاد بأنه قبل هذا التاريخ لم تكن هذه الذمة مشمولة بالحماية الجنائية. فقبل هذا التاريخ بذل القضاء الفرنسى جهدا كبيرا كى يتعقب الانحرافات المالية فى مجال الشركات بمحاولة إخضاعها للنصوص الخاصة بخيانة الأمانة (المادة 408 عقوبات فرنسى قديم وحاليا المادة 314 عقوبات فرنسى جديد).

غير أن وضع هذا التجريم محل التطبيق فى مجال الشركات قد صادفته عقبات كثيرة ناشئة عن أن المادة 408 عقوبات لا تجرم إلا أفعال الاختلاس والتبديد الأمر الذى يندر حدوثه وارتكابه من قبل القائمين على الإدارة، الأمر الذى يبرر ظهور التجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات والذى يعد وفقا للشراح الابن أو النص المدللTexte gâté لخيانة الأمانة . وإذا كان الأمر كذلك فيما يتعلق بخيانة الأمانة فى صياغتها القديمة الواردة فى المادة 408 عقوبات فرنسى فإن التساؤل يثور عن مدى الحاجة إلى تجريم خاص بحماية أموال وائتمان الشركات فى ضوء التعديل الذى أوردة المشرع الفرنسى على خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة الواردة بالمادة 314/1 عقوبات فرنسى جديد.

أولا: دور خيانة الأمانة فى صياغتها القديمة فى حماية الذمة المالية للشركة

كما سبق القول فإنه قبل عام 1935 استخدم القضاء الفرنسى، من أجل ردع الانحرافات المالية الخاصة بأموال وائتمان الشركات, نص المادة 408 الخاص بخيانة الأمانة, ولقد كانت نقطة البداية عنده هى تبنى الفكرة المعروفة بنظرية "الوكالة عن الشركاء"Mandat social , والتى وفقا لها فإن فى كل شركة توجد بين الشركاء والقائمين على الإدارة رابطة وكالة يعهد بمقتضاها لهؤلاء بإدارة الذمة المالية للشركة فيما تقتضيه مصلحتها. غير أن تطبيق هذه النظرية سرعان ما صادفته الصعوبات الأمر الذى استوجب من القضاء أحيانا التوسع فى تفسير نص المادة 408 فى غير الحالات التى يقتضيه التطبيق التقليدى للنص والمعنى الضيق لخيانة الأمانة المبنى على عنصرى الاختلاس والتبديد.

1- نظرية الوكالة عن الشركاء La théorie du mandat social

إن عدم وجود نص خاص ينطبق على الأفعال الماسة بالذمة المالية للشركة ألزم القضاء بتحويل دور جريمة خيانة الأمانة, الذى ينصرف إلى حماية الملكية الفردية فى العلاقات بين الأفراد الطبيعيين بعضهم البعضRapports d’individu à individu ، إلى دور يهدف إلى حماية هيكل مستقل ومنظم من قبل القانون آلا هو الشركة ذاتها. ولقد كان باب هذا التحول هو خلق ما يعرف بنظرية الوكالة بين الشركاء . والتخريج القضائى لهذه النظرية مؤداه الأتى: حيث أن عقد الشركة ذاته لا يرد ضمن العقود المحددة بنص المادة 408 وحيث أن القانون 28 أبريل 1832 كان قد أضاف عقد الوكالة, الذى يعرف بأنه العقد الذى بموجبة يعهد الشخص إلى شخص أخر بسلطة القيام بعمل لحسابه وبإسمه (المادة 1984 مدنى فرنسى و 699 مدنى مصرى), إلى جملة العقود التى حال مخالفتها يقع الشخص تحت طائلة العقاب عن خيانة الأمانة, فإنه يمكن اعتبار المديرين بناء على هذا التعريف المدنى وكلاء Mandataires عن المساهمين ، ويتعين عليهم عندئذ الالتزام بإدارة أموال الشركة لمصلحة هذه الأخيرة ويخضعون عند الإخلال بهذا الالتزام إلى نصوص خيانة الأمانة وخاصة إذا ما تضمن الإخلال اختلاسا أو تبديدا لأموال الشركة .

ولقد كانت بداية نشأه نظرية الوكالة بين المديرين والشركاء الحكم الصادر فى 18 مارس 1842 عن محكمة استئناف روان .Rouen وفى إجابة الحكم على التساؤل عما إذا كان فعل الاختلاس الذى ارتكبه أحد مديرى شركة التوصيةSociété en commandite مما ينطبق عليه نص خيانة القانون الوارد فى المادة 408 عقوبات قالت المحكمة إنه من المهم البحث عن الرابطة بين مدير شركة التوصية وبين بقية الشركاء. وبالبحث فإن هؤلاء ليسوا مجرد مقرضو أموالBailleurs de fonds لكنهم فى حقيقة الأمر شركاء حقيقيين ولهم الحق, بمقتضى الثقة التى أولوه إياها فى إدارة الشركة, مطالبته بالحسابات التى تعكس نشاط الشركة. وحيث أنه ليس من المقبول القول بأن هذا المدير لا يمارس سلطات بموجب وكالة عنهم, وحيث أن المدير ما هو إلا وكيل عن بقية الشركاء وأنه تلقى عنهم مهمة إدارة الشركة فيما فيه المصلحة العامة لبقية الشركاء, وحيث أنه لم يكن أمينا حيال ما يقع عليه من التزامات وأنه قد انتهك الوكالة الملقاة علية باختلاسه أموال الشركة فإن يرتكب عندئذ جريمة خيانة الأمانة.

هذا القضاء ذاته كان قد تأكد بعد عدة سنوات فى حكم لمحكمة النقض صادر فى 5 أغسطس 1845 أيدت فيه المحكمة تطبيق المادة 408 عقوبات على مديرى شركة التوصية بقولها : إنه من المقرر قانونا أن عقد الشركة لا يستبعد تواجد رابطة الوكالة بين الشركاء وبين القائمين على الإدارة. فذات العقد الذى تنشأ به الشركة ويحدد حقوق الشركاء يمكن أن يتضمن بيان السلطات الممنوحة إلى أحد المتعاقدين لإدارة الشركة فيما فيه مصلحة بقية الشركاء. وعلى الرغم من اندماج هذه الوكالة فى ذات عقد الشركة, فإن هذا لا يغير من حقيقتها ويستوجب إعمال كافة أثارها ومنها التزام الوكيل بالعمل فى حدود وكالته ومكنة عزله ومكنة مجازاته حال ارتكاب خطأ أو غش يتعلق بما يقوم به من أعمال بمقتضى هذه الوكالة.

وفى أعقاب هذا الحكم توالت العديد من الأحكام التى تؤكد فيها محكمة النقض قضائها سالف الذكر .

غير أنه إذا كان من السهل الاعتراف بفكرة الوكالة فى الشركات التى مازال يظهر فيها أثرا للمفهوم العقدى للشركةConception contractuelle ، وهى شركات الأشخاص ( التضامن والتوصية البسيطة والمحاصة)، فإن الاعتراف بهذه الفكرة فى مجال شركات الأموال، خاصة شركات المساهمة، والتى يسودها المفهوم النظامى أو القانونى للشركةConception institutionnelle يعد أمرا محل شك. ففى هذا النوع من الشركات تتوقف حدود الإرادة على مجرد الاتفاق على تكوين أو الدخول فى الشركة بينما ينظم القانون ذاته هذا الشخص القانونى من حيث كيفية تأسيسه وإدارته وكيفية انقضائه، مبينا خلال ذلك حقوق وواجبات المساهمين وحقوق وواجبات القائمين على الإدارة، مما يصعب معه القول بوجود هذه الوكالة حيث يضعف دور الإرادة فى هذه الشركات.

وللتغلب على هذه المشكلة ذهب الفقه إلى القول بأن الوكالة فى مجال الشركات التجارية لم تعد ذلك المفهوم المدنى المبنى على السلطة المخولة من شخص إلى أخر للقيام بعمل لمصلحته ولحسابه الشخصى ولكنة مفهوم أكثر رحابة يتعلق بالرابطة بين الشخص المعنوى ذاته وبين الأشخاص الطبيعيين والتى بمقتضاها يمنح الشخص المعنوى هذا الأخير السلطات الضرورية التى تمكنه من القيام بأعمال الإدارة لما فيه مصلحة الشخص المعنوى ذاته .

وفى ضوء هذا التفسير فإنه يمكن تطبيق نصوص خيانة الأمانة على جميع أشكال الشركات التجارية والمدنية وحتى على الجمعيات وشركات الواقع Sociétés de fait وحتى على النقابات. وهو ذات الأمر فى شركات المحاصةSociété en participation حيث يمكن لأحد الشركاء, فى علاقته ببقية الشركاء أن يكون وكيلا بما يرتبه هذا التكييف من نتائج على المستوى الجنائى .

فى كل هذه الأنواع من الشركات توجد بين القائمين على الإدارة وبقية الشركاء نوع من الوكالة العامة Mandat général، ولا يهم بعد ذلك طبيعة هذه الوكالة، فيمكنها أن تكون وكالة مكتوبة أو شفاهية, مجانية أو بأجر، بل ويمكن للوكالة أن تكون ضمنيةTacite . ويكفى فى جميع الأحوال بالقول بوجود هذه الوكالة بين الشركة والقائم على إدارتها هو قبول مهمة القيام بالإدارة، حيث تقع عندئذ على عاتق هذا الأخير ممارسة سلطات الإدارة فيما فيه المصلحة المطلقة للشركة.

وتطبيقا لهذا فإنه يعد مرتكبا لجريمة خيانة الأمانة رئس مجلس إدارة شركة المساهمة الذى يستمر رغم قرار مجلس الإدارة فى الحصول على بدل تمثيل, أو يستعمل - ولو فى مصلحة الشركة - عائد الاكتتاب فى الأسهم قبل غلق باب الاكتتاب Clôture de la souscription. ولا ينفى الإخلال بالوكالة القائمة وجود ترخيص سابقAutorisation préalable أو تصديق لاحقApprobation من مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية للمساهمين، بل على العكس يمكن لهذا الترخيص، حسب الظروف، أن يعد نوعا من الاشتراك فى خيانة الأمانة. كما لا ينفى هذه الوكالة, وبالتالى خيانة الأمانة، أن يكون القائم على الإدارة يملك أغلبية الأسهم أو رأس المال .

2- التفسير الموسع من قبل القضاء للمادة 408 عقوبات

إذا كان تطبيق نظرية الوكالة عن الشركاء قد يبدو واضحا إلا أن النتيجة التى توصلت إليها هذه النظرية، آلا وهى تطبيق جريمة خيانة الأمانة، أمر يصعب التسليم به علي إطلاقه، فقد لا ينصرف فعل المدير إلى ارتكاب احد عناصر السلوك الإجرامى لخيانة الأمانة في صورة الاختلاس أو التبديد المباشر للأموال الشركة المعهود إليه بإدارتها. فغالبا ما يسمح هذا الهيكل القانونى بارتكاب أعمال وحيل تخرج عن التفسير الضيق لهاتين الفكرتين.

من هنا جاء دور القضاء في التوسع في تفسير المادة 408 عقوبات وخاصة فيما يتعلق بالسلوك الذي تتم به خيانة الأمانة. وعلي هذا اتجه القضاء تطبيقا لذلك باعتبار اختلاسا مكونا للسلوك المادى لخيانة الأمانة مجرد الاستعمال للأموال الشركة لتمويل صفقات غير رابحة وتوزيع مكافآت ومزايا تعسفية نظرا لتوزيعها خفية علي أعضاء مجلس الإدارة أو لأن مبالغها مبالغ فيها Montant excessif. واعتبر من قبيل خيانة الأمانة أيضا سلوك مدير الشركة الذي يظهر تحقيق أرباح في السنة المالية التي يباشر فيه عملة كى يقنع مجلس الإدارة بالموافقة على منح قروض أو سلف يزعم قابليها للاسترداد إلى شركة أخرى Des avances prétendument remboursables . وفعل المدير الذي يقبل بإسم الشركة ولمصلحة الغير كمبيالات مجاملة Effets de complaisance بحيث يتم إبراء الدين من خلال أموال الشركة ذاتها.

كذلك طبق القضاء نص المادة 408 في حالة استعمال أموال الشركة في غير الغرض الذي أنشئت من أجله الشركةFins étrangères à l’objet social سواء أكان ذلك بهدف المضاربة في سوق معين أو بهدف تحقيق أرباح سريعة أو كان ذلك بهدف تحريك الأموال من مشروع إلي مشروع أخر يكون للقائمين على الإدارة في هذا الأخير مصلحة شخصية.

ورغم هذه التطبيقات, التي تكشف عن قضاء جرئ ومجامل, فإن هذا التوسع مازال لا يفي بتحقيق سياسة الردع في مجال أموال وائتمان الشركات. فمازال هناك من الأفعال غير المشروعة التي تمس بهذه الأخيرة ولكنها تندرج تحت وصف خيانة الأمانة سواء لأنه من الصعب إدراج الأفعال المرتكبة تحت وصف الاختلاس أو التبديد بالمعني الضيق لهما أو سواء كان السلوك الإجرامي لا يمثل إلا مجرد امتناع أو إهمال أو لأن الشيئ الذي ورد عليه فعل الاختلاس لا يرد ضمن الأشياء المحصورة فى المادة 408 عقوبات (كمبيالات – بضائع - إيصالات - تذاكر...).

ولنا أن نتسآل كيف يمكن أن نطبق نص خيانة الأمانة على أحد المديرين الذي لا يتوافر في حقه إلا أنه أمر بإبرام صفقه تبدو غير مربحة بالنسبة للشركة ولكنة يمكن أن يجنى هو ذاته منها ربح شخصي ؟ وكيف يمكن تطبيق النص على الفعل الضار بائتمان الشركة المتمثل فى تقديم توقيع الشركة لضمان ديون أو كمبيالات شخصية ؟ من المتعذر إدخال مثل هذه الفروض وغيرها في مفهوم الاختلاس والتبديد. يضاف إلي ذلك أن خيانة الأمانة لا تتعلق إلا بالمنقولات بما لا يسمح بتعقب أفعال الاختلاس الواردة علي العقارات رغم أنها تمثل جزا هاما من الذمة المالية للشركة .

لكل هذا كان يلزم التدخل بإنشاء جريمة خاصة تناسب حقيقة الواقع داخل الشركات ولكى يتوافق القانون الجنائى مع واقع الإدارة. وهذا التدخل تستوجبه طبيعة الحياة الاقتصادية والتجارية والتي لا يمكنها التوافق أو التلائم مع قضاء مضطرب لا يحكمه تشريع ، وهو الأمر الذي تجنبه المشرع الفرنسي بالمرسوم بقانون 8 أغسطس 1935 ومن بعده قانون الشركات الفرنسي الحالي الصادر في 24 يوليه 1966.

ورغم التدخل التشريعى بجريمة خاصة تتعلق بحماية أموال وائتمان الشركات إلا أن تجريم خيانة الأمانة عاد من جديد يطل برأسه مع صدور قانون العقوبات الفرنسى الجديد والذى تبنى فى المادة 314/1 صياغة جديدة ومرنة لخيانة الأمانة تخالف نص المادة 408 من قانون العقوبات القديم. هذا النص الجديد يعرف خيانة الأمانة بأنها "اختلاس أصول Fonds أو قيم Valeurs أو أموال Biens أيا ما كانت إضرار بالغير إذا سلمت إليه مع قبوله ردها أو عرضها أو أن يستعملها استعمالا معينا".

ويقرر الفقه أن المشرع الفرنسى بهذه الصياغة الجديدة، التى تجرى تعديلات جوهرية بالمقارنة بالمادة 408، قد فتح من جديد باب الجدل حول ضرورة الاحتفاظ بتجريم خاص لأموال وائتمان الشركات قائلين بأنه يكفى بالتالى تطبيق هذا النص الخاص بخيانة الأمانة. ثانيا:اء المنافسة من جديد بين التجريمين يتعين أن نطرح التساؤل التالى: هل يمكن أن تكفل خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة الحماية الكافية لأموال وائتمان الشركات ؟

ثانيا : دور خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة فى حماية الذمة المالية للشركة

أحد الأسئلة التى ألحت على الفقه عند صدور قانون العقوبات الفرنسى الجديد هو إذا ما كان نص المادة 314/1 الخاص بتعريف خيانة الأمانة يمكن أن يستوعب حالات إساءة أموال وائتمان الشركات الواردة بالمواد 425/4 و437/3 من قانون الشركات خاصة بعد الانتقادات الشديدة التى بدأ يوجهها الفقه الفرنسى فى الفترة الأخيرة لهذا التجريم الأخير بحيث يمكن الاستغناء عن هذا التجريم لصالح النص العام ذلك لأن هذا التجريم الخاص بإساءة الأموال ما هو إلا شكل من أشكال خيانة الأمانة يتوائم مع طبيعة ونمط حياة الشركة. وبمعنى أخر آلا يفى النص الجديد لخيانة الأمانة بمتطلبات الحماية والردع الجنائيين فى مجال الشركات التجارية ؟

للإجابة على هذا التساؤل نبين أولا موقف الفقه المؤيد لهذا الحل طارحا بالتالى النظرية التى أطلقنا عليها نظرية الامتصاص أو الاستيعاب Théorie de l’absorption - بمعنى استيعاب النص العام الجديد للنص الخاص بقانون الشركات - قبل أن نبين رأينا فى الموضوع.

1- مضمون نظرية الاستيعاب أو الامتصاص

يعبر جانب من الفقه عن أسفه للاحتفاظ بالتجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات, رغم ما يثيره من مشكلات على الصعيد القانونى والقضائى فى السنوات العشر الأخيرة , رغم أن هذا التجريم لم يعد ليضيف جديدا فى أعقاب التعديل الذى أجراه المشرع على صياغة خيانة الأمانة بالمادة 314/1 عقوبات. ويؤيد هذا الرأى منطقة بنوعين من الحجج أولهما يبنى على مرونة الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة وثانيهما يبنى على المزايا التى تمنحها الصياغة الجديدة لمديرى الشركات.

أ- مرونة الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة

أحد الأسباب التى اضطلع الفقه بترديدها لبيان عدم الحاجة لتجريم خاص بحماية أموال وائتمان الشركات هو أن النص الجديد لخيانة الأمانة يتميز بالمرونة والرحابة التى تستوعب كل الحالات التى كان النص الخاص قد جاء لتغطيتها.

فنص المادة 314/1 بالمقارنة بنص المادة 408 عقوبات قد ألغى القائمة المحددة للعقود الستة التى كان يتعين توافر إحداها لقيام خيانة الأمانة. هذا الهجر لفكرة العقود كشرط مفترض يهدف إلى تبسيط وتحسين الردع الجنائى بالتخفيف عن القاضى عبئ الالتزام بالتكييف بما مؤداه أن أى رابطة عقدية أو غير عقدية Extracontractuelle لم تعد شرطا لقيام خيانة الأمانة وأن غيابها لا ينفى قيام الجريمة . وعلى ذلك فمديرى الشركات شأنهم كشأن المستأجر أو المودع لدية أو الوكيل أو المقرض أو العامل ... الخ لم يصبحوا بمنأى عن الملاحقة الجنائية على أساس خيانة الأمانة.

وعلى أساس هذه الصياغة المرنة , فإنه يمكن توجيه الاتهام - على أساس خيانة الأمانة - من التصرفات أو القرارات الصادرة من جانب واحد Unilatérales ومنها التصرفات التى تقرر السحب من خزانة الشركة لصالح الدائنين الشخصيين للمدير ذاته أو لصالح أحد أفراد أسرته أو لصالح شركة أخرى. ومن ذلك أيضا التصرفات التى تهدف إلى تحميل الشركة نفقات شخصية للمدير أو تقرير مكافأة شخصية له Auto rémunération أو تقديم ما يثبت تعهد الشركة بضمان الالتزامات القانونية لشخص أو لشركة أخرى .

وقد أضاف هذا الجانب من الفقه أيضا أنه مع بعض المرونة فى تفسير أركان خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة فإننا يمكن أن نصل إلى فكرة الاستيعاب أو الامتصاص. فمثلا التسليم Remise كركن فى خيانة الأمانة يمكننا أن نعطيه تعريفا يتطابق مع الطريقة التى يتلقى بها المدير فى الشركة الأهلية للإدارة والتصرف فى أموال الشركة بحيث يصبح هذا المفهوم ليس فقط التسليم كعمل مادى محض Acte purement matériel ينتقل به المال من أحد الأشخاص إلى شخص أخر ولكن يفهم على أنه تسليم بالمعنى القانونى أو كعمل قانونى ناشئ عن القرار الصادر بتعينهم سواء من مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية أو مجلس المراقبة. ويبدو أن محكمة النقض الفرنسية مالت لهذا الاتجاه عندما قضت بأنه يعد تسليما فى معنى خيانة الأمانة انتقال الأموال بموجب تحويل من حساب إلى أخر .
من ناحية أخرى فإنه إذا كان النص الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات يستوجب أن يتم استعمال المال ضد مصلحة الشركة أو فيما يخالف مصلحتها فإن النص الجديد يصل إلى ذات الحقيقة ويحقق ذات الهدف حينما أدخل فى مفهوم خيانة الأمانة التسليم الذى يستهدف من بين ما يستهدف أن يجرى استعمال المال استعمالا معينا Usagé déterminé وهو ما يعنى إمكانية القول بأنه الاستعمال المخالف لمصلحة الشركة عند تطبيق هذا النص فى مجال الشركات. وهو ما يعنى الوحدة بين النصين مما يستوجب الإبقاء على النص العام وحده.

ويختم هذا الجانب من الفقه الجزء الأول من الحجج بقوله أن ورود عبارة أى مال Bien quelconque يفسح المجال لتطبيقات قضائية لخيانة الأمانة فى غير حالات الأموال المنقولة بحيث يمكن أن يمتد التطبيق لأى شكل من الأموال يدخل ضمان عناصر الذمة المالية للشركة. ويدلل الفقه على ذلك بالحكم الذى أصدرته محكمة النقض الفرنسية عندما أكدت أن التسجيل فى الحسابات للقيم المنقولة غير المادية Incorporelle تمثل مالا فى معنى خيانة الأمانة سواء فى صياغتها القديمة أو الجديدة . وعلى ذلك فالسماح بتطبيق النص على الأموال غير المادية قد يشجع القضاء فى بسط التطبيق فى حالات أخرى ومنها العقارات.
ب- المزايا التى تمنحها الصياغة الجديدة لخيانة الأمانة

أبدى بعض الفقه من اجل تأييد نظرية الاستيعاب أو الامتصاص حجج أخرى قائمة علي المزايا التي يمنحها التجريم الجديد لخيانة الأمانة لمديري الشركة بالمقارنة بالتجريم الخاص المتعلق بجريمة إساءة أموال وائتمان الشركة.

فوفقا لهذا الاتجاه فإن التجريم العام - خيانة الأمانة – فى ثوبه الجديد يمكن أن يكون علاجا للعيوب التي أظهرها التجريم الخاص علي المستوي القضائي الناشئ عن طبيعة الصياغة القانونية المرنة التي سمحت للقضاء بالوصول إلي تفسيرات شديدة التوسع تتعارض مع مبادئ الشرعية الجنائية وتهدد طبيعة الحرية التي يجب أن يتمتع بها مديري الشركة في سير النشاط التجاري والاقتصادي لهذه الأخيرة، الأمر الذي جعل الكثيرين من الفقهاء يطالبون بالتدخل التشريعي لتعديل هذا التجريم الخاص.

علاوة علي ذلك فإن التجريم العام في صياغته الجديدة, أو حتى في ظل الصياغة القديمة, يوفر حماية أكبر لمديري الشركات. فمثلا فقد قضي بأن التأخير في رد الشيئ المسلم لا يمكن أن يكون من حيث المبدأ اختلاسا إذ يمكن أن يبرر هذا التأخير بدافع الإهمال فقط الأمر الذي يعني أن الإهمال لا يكفي لتكوين القصد الجنائى المتمثل في نية تغير الحيازة وهو ما لا يسمح به التجريم الخاص بإساءة أموال الشركة والذي اكتفي القضاء في قيامها بمجرد الامتناع أو الإهمال وهو ما يتعارض مع المبادئ العامة في قانون العقوبات التي لا تعاقب علي الامتناع إلا بنص خاص الأمر الذى لا يتوافر في المواد 425/4 و 437/3 الخاصة بإساءة أموال الشركة.

ويكشف التطبيق القضائى أيضا عن أن القضاء يرفض تطبيق نص خيانة الأمانة لمجرد تحقيق الشركة لخسائر ما لم يثبت وجود قصد الانحراف Malversation من قبل القائم عل الإدارة. فالقضاء يتشدد في إثبات قصد الاختلاس ولا يكفي في ثبوت وجوده أفعال أو أعمال تنم عن سوء في الإدارة وهو ما يختلف عن موقف القضاء من جريمة إساءة أموال الشركة حيث قضي بتطبيق هذه الجريمة في حالة تجاوز حدود عمل من أعمال الإدارة أدي لخسائر متى تبين أن هذا العمل يمثل مخاطرة مبالغ فيها Prise de risque excessive وما كان يجب أن يتم .

كما يتجه القضاء لإثبات ركن الاستعمال لغرض شخصي لأموال الشركة في حق مدير الشركة كركن من أركان جريمة إساءة أموال وائتمان الشركة بالاكتفاء في بعض الأحوال بوجود قرائن دالة على ذلك. ومن ذلك اعتباره السحب الذي يتم خفية Prélèvement de manière occulte لمبالغ مالية من خزانة الشركة قرينة علي أن الاستعمال تم لغرض شخصي ، وهو ما لا يوجد بشان خيانة الأمانة إذ يتشدد القضاء ويجري تحليلا دقيقا لكل حالة علي حدة لإثبات الجريمة في كافة عناصرها المادية والمعنوية. ففى إحدى الدعاوى أكدت محكمة النقض أن ملاحظة وجود تقصير في تحصيل أموال لصالح الشركة لا يكفي لإثبات قصد الاختلاس .

علي ذات المنوال فإن التجريم العام لخيانة الأمانة أكثر ميزة لمديري الشركات من التجريم الخاص فيما يتعلق بالتقادم Prescription. فقد استقر القضاء على أن نقطة بداية التقادم بخصوص التجريم الخاص يبدأ في وقت لاحق علي ارتكاب الجريمة - آلا وهو من وقت علم المجني عليه وقدرته على ممارسة الدعوى العمومية – خروجا على المبدأ العام فيما يتعلق بالجرائم الوقتية . أما فيما يتعلق بخيانة الأمانة فإن القضاء, رغم خروجه أيضا علي القواعد العامة في التقادم في الجرائم الوقتية, فإنه اكتفي باعتبار التقادم ساريا من وقت ظهور الجريمة والقدرة على اكتشافها وهو الوضع الأفضل لمديري الشركة حيث يبدأ التقادم في جميع الأحوال من وقت اكتشاف الجريمة مما يمنع المجني عليه من الاستفادة من إهماله عندما لا يسعى لاكتشافها .

ولا يمثل اللجوء إلي تجريم خيانة الأمانة حماية لمديري الشركة بل يمثل أيضا حماية للغير. فبينما لا تعد جريمة إساءة أموال الشركة من بين الجرائم التي يمكن أن تعقد مسئولية الشخص المعنوي جنائيا فإن خيانة الأمانة تسمح بذلك بحيث تنعقد مسئولية الشركة ذاتها كشخص معنوي عن هذه الجريمة إلي جانب مسئولية الشخص الطبيعي وفقا للشروط المنصوص عليها في المادة 121/2 عقوبات فرنسي جديد. كذلك فإن قبول الادعاء المدني في إساءة أموال الشركة, وفقا لما استقر عليه القضاء , يقتصر علي الشخص المعنوى ذاته عن طريق ممثليه وعلى الشركاء مع استبعاد الدائنين والعمال ومراقبو الحساب على أساس أن ضرر هؤلاء ليس إلا ضررا غير مباشر، وهو ما يراه البعض متعارضا مع المصالح التى أتى هذا التجريم لتحقيقها .

هذا التعارض لا أثر له عند تطبيق جريمة خيانة الأمانة فى صياغتها الجديدة والتى تهدف إلى حماية مصالح الغير بما يمنع الخلاف حول المصالح التى يهدف إلى حمايتها هذا التجريم. وتطبيقاً لذلك فإن لكل من يدعى ضرراً شخصياً ومباشراً أن يباشر دعواه عن خيانة الأمانة. فمثلا تقبل دعوى المورد ضد مدير الشركة الذى يختلس البضائع التى سلمت للشركة وكذلك دعوى مساهمو الشركة الوليدة Filiale ضد مديرى الشركة الأم Société mère عن الاستعمال التعسفى لبعض عناصر الذمة المالية للشركة الوليدة . وجمله القول أن نص خيانة الأمانة فى صياغته الجديدة يفتح باب الدعوى المدنية دون أى قيد مبنى على صفه المدعى Qualité du demandeur بما يسمح بحماية فعالة لكل الشركاء الاقتصاديين للشركة Partenaires économiques de la société.

2- نقد نظرية الاستيعاب أو الامتصاص

رغم كل المزايا التى يمكن أن يحققها الاكتفاء بالتجريم العام المتعلق بخيانة الأمانة فى صياغته الجديدة فى مجال الشركات والانحرافات الواقعة من القائمين على إدارتها بالمقارنة للتجريم الخاص بإساءة أموال وائتمان الشركات فإننا نرى أن هذا لا يكفى لتبرير الاكتفاء بتجريم واحد ويكفى بدأه القول بأن التجريم الخاص فى مجال الشركات التجارية ينفرد بعقوبة أشد من تلك المقررة لخيانة الأمانة ( 5 سنوات حبس للإساءة الأموال و3 سنوات فى حالة خيانة الأمانة مع وحدة فى الجزاء المالى 2 مليون ونصف المليون فرنك) مما يستتبع القول بعدم وجود تشابه كامل بين الجريمتين ويجعل للتجريم الخاص مزاياه فى هذا المجال .

حقيقا أن الوضع الحالى يمكن أن يخلق حالة من التعدد الصورى Concours idéal بين الجريمتين غير أن وفقا للقواعد العامة فى قانون العقوبات فإن التكيف الأشد عقوبة هو الذى يتعين تطبيقه، وهو فى هذا الصدد جريمة إساءة أموال الشركات، بل ويمكن تطبيق القاعدة الثانية بحل التنازع بين النصوص وهى الخاصة بتطبيق النص الخاص وتقيده للنص العام، فالنص الخاص يفضل دائما النص العام ويقيده Specialia generalibus derogant مما يوجب تطبيق النصوص الخاصة بقانون الشركات فيما تضمنته من نصوص خاصة .

ويمكننا أن نضيف تأييدا لقولنا هو أن التجريم الخاص إنما يتوائم مع المفهوم الحديث للشركات, والذى وفقا له ينظر إلى الشركة على أنها نظام قانونى وفكرة فنية أكثر منها عقدا، وهو الأمر الذى لا تستجيب له جريمة خيانة الأمانة التى لا يمكن أن تلعب دورها فى محيط الشركات إلا من خلال فكرة عقد الوكالة بحيث ينظر إليها على أنها نوعا من الانحراف بعقد الوكالة بين الشركاء والمديرون Détournement de mandat social.
حقا إن الصياغة الجديدة للمادة 314/1 عقوبات فرنسى جديد لا تفترض وجود عقدين أو صيغة عقدية معينة كشرط مفترض لقيام خيانة الأمانة غير أن صياغة النص توجب "قبول تسلم الأموال" Biens qui lui ont été remis et qu’elle a acceptés، هذه الإشارة إلى فكرة القبول تفترض وجود صيغة اتفاقية أو عقدية تكون بمثابة الأساس الذى قام عليه التسليم .

ولا يمكن النيل من هذه الحجة بالقول بأن إساءة أموال وائتمان الشركات عند ظهورها عام 1935 وبعد ذلك فى قانون الشركات لسنة 1966 إنما ارتبط بالمفهوم العقدى للشركة، حيث لم يكن المفهوم التأسيسى أو الفنى (كنظام قانونى) بدأ يترسخ بعد، إذ سمحت الصياغة الغامضة للتجريم وألفاظه المرنة للقضاء بتطبيق هذا التجريم فى حالات ينتفى فيها كل فكرة للعقد - خاصة عقد الوكالة - ومن ذلك تطبيق جريمة إساءة أموال الشركات على المدير الفرد فى المشرع الفردى ذو المسئولية المحددة Entreprise Unipersonnelle à Responsabilité Limitée ‘‘EURL‘‘ وهو شكل جديد من أشكال الشركات سمح به رغم قيامة على مساهم واحد كان قد اقتطع جزءا من أموال الشخصية لتتشكل به الذمة المالية الخاصة بالشركة، وبالطبع لا يمكن القول بوجود رابطة عقدية فى إطار شركة تقوم على مساهم واحد. كل هذا يجعل من جريمة إساءة الأموال تجريما متوافقا مع الأنماط الجديدة والمفاهيم الجديدة فى مجال الشركات.

فلا يمكننا الحديث عن أن القائمين على الإدارة يتصرفون بناء على عقد وكالة عن الشركاء اللهم إلا فى مجال شركات الأشخاص التى ما زالت تحتفظ بالمفهوم العقدى، فكما يقول العميد Ripert "إن مديرى الشركات مكلفون بهامهم ليس لكونهم وكلاء فى المعنى الذى يعطيه القانون المدنى لهذا اللفظ ولكن لكونهم مخولون لسلطات قانونية منحها لهم القانون بحسبانهم جهاز من أجهزة الشركة كشخص معنوى" . ولا يمكن بالتالى تأسيس الجرائم التى تعاقب على الإخلال بهذه السلطات بناء على فكرة الوكالة .

وبناء عليه فإن كل فكرة للحد من التجريم فى مجال الشركات بإلغاء نص التجريم الخاص بإساءة الأموال اكتفاء بالنص العام لخيانة الأمانة يعد مرفوضا ولا نؤيد تطبيق هذه الأخيرة إلا فى الأحوال التى لا تتوافر فيها أركان التجريم الخاص إذ العدالة والمنطق تقتضى عدم ترك الجانى يفلت بجرمه. فجملة القول أن خيانة الأمانة لا يمكن أن تلعب إلا دور المساعد Le suppléant أو المكمل فقط.

ونختتم نقدنا لنظرية الامتصاص أو الاستيعاب بقولنا أنه مهما توسعنا فى تفسير منى "المال" الوارد فى النص الجديد لخيانة الأمانة فإننا لا يمكن أن نصل إلى نتيجة مؤداها أن هذا النص ينطبق على كل أنواع الأموال. فخيانة الأمانة – حتى فى صياغتها الجديدة - لا تتعلق إلا بالأموال المنقولة Biens mobiliers. فبمطالعة الأعمال التحضيرية لقانون 22 يوليه 1992 يتبين لنا أن القائمين على تعديل قانون العقوبات لم يرغبوا أن يغيروا من هذه الحقيقة. ففى المشروع التمهيدى كان ينص على أن خيانة الأمانة تقع باختلاس "أى شيئ" Chose quelconque غير أن هذه الصياغة الواسعة, التى قد تسمح بدخول العقارات فيها, كانت سببا لاستبدال كلمة شيئ بكلمة مال Bien. وعلى هذا فلا يمكن أن تكون خيانة الأمانة هى السلاح الفعال فى مجال الانحرافات الخاصة بإدارة الشركات إذا تقع غالبية الصفقات على أموال عقارية مما يوجب الاحتفاظ بإساءة أموال الشركات كتجريم خاص. والنتيجة النهائية لكل هذا هو أن اتهام أحد الأشخاص عن جريمة جريمة خيانة الأمانة وانتهاء التحقيق إلى براءته لا يمنع من توجيه اتهام جديد مبنى على جريمة إساءة أموال الشركة اللهم إلا إذا اصطدمنا بقاعدة عدم العقاب عن ذات الفعل مرتين Non bis in idem بحيث تتحقق الوحدة بين التكيفين فى المحل والسبب والأشخاص .

الفرع الثانى:مفهوم و محل الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة

كما سبق القول فإن تبنى لفظ الاستعمال من قبل المشرع الفرنسى كجوهر للسلوك الذى تتم به جريمة إساءة أموال أو ائتمان الشركات إنما أريد به تغطية أكبر عدد ممكن من الانحرافات المالية التى لا تسمح بها جريمة خيانة الأمانة حتى فى صياغتها الجديدة. هذا الأمر يدعونا إلى البدء فى تحديد مفهوم هذا الشكل من أشكال السلوك ثم تحديد المحل الذى يرد عليه.

أولا: مفهوم الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة

أراد المشرع بتبنى لفظ الاستعمال تجريم أكبر قدر من الأفعال الممكن أن تمس بالذمة المالية للشركة Patrimoine social. مما يعنى أن المشرع تبنى مفهوما موسعا يتعدى به مفهومى الاختلاس والتبديد الوارد فى تجريم خيانة الأمانة. وإذا كان هذا الأمر من الوضوح إلا أن هناك تشككاً فيما إذا كان هذا السلوك أريد به أيضا أن يتخطى حالات الامتناع.

1- التجاوز الواضح لأفعال الاختلاس أو التبديد

تكشف المشروعات التمهيدية التى قدمت فى عام 1935 لإدخال تجريم خاص بأموال وائتمان الشركات عن أن المشرع عمد إلى تبنى لفظ مرن. فلقد رفض البرلمان الاقتراح الذى قدم فى يونيو عام 1934 والذى كان قد وافق عليه مجلس الشيوخ والذى يجرم أفعال "السحب" Prélèvements التى يجريها مدير الشركة، ومن هنا جاء استخدام لفظ "الاستعمال". وإذا كان هذا اللفظ يغطى الركن المادى فى جريمة خيانة الأمانة وهى التبديد والاختلاس إلا أنه يتعداها أيضا، لذا فقد قضى بأنه يعد استعمالا مجرما فى معنى جريمة إساءة أموال الشركات منح مكافآت مغالى فيها Rémunérations abusives أو مزايا عينية Avantages en nature وكذلك اعتبرت الغرفة الجنائية لمحكمة النقض مرتكبا جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات المدير الذى يقيد كمديونية على الشركة قيمة بضائع لم تسلم بعد والذى ثبت استفادته من مكافآت متجاوزة الحد ومزايا عينية" .

ومما لاشك فيه أن الشكل الأكثر خطورة للاستعمال التعسفى لأموال وائتمان الشركة هو الذى يتم عن طريق تغير طبيعة الحيازة من حيازة ناقصة إلى الادعاء بملكية المال. ويتم هذا التغير بصورتين إحداها مباشرة والأخرى غير مباشرة.

أما عن التغيير المباشر فمن قبيل ذلك قيام رئيس مجلس الإدارة Président-directeur général (PDG) بمنح نفسه مكافأة غير مبرر محسوبة على أموال الشركة رغم علمه بأن الشركة منذ سنوات فى حالة فعليه للتوقف عن الدفع Cessation de paiements . ومن قبيل ذلك أيضا قيام رئيس مجلس الإدارة بإنشاء شركة خاصة به لإنتاج منتج أكثر حداثة مع وضعة تحت تصرف هذه الشركة المواد الأولية وعمال وائتمان الشركة التى يريدها مع عرضة لهذا المنتج فى السوق منافسا به منتج الشركة التى يديرها . ومن قبيل ذلك أيضا قيام مدير الشركة باستقطاع مبالغ مالية من ثمن بيع قطعة أرض مملوكة للشركة وتحويلها مرة أخرى للمشترى وليبدو الأمر وأنه تخفيض غير معلن لثمن الأرض ثم استعمال هذا المبلغ فى أغراض شخصية . أما التغير غير المباشر للحيازة فيم ذلك عادة عن طريق الحيل والألاعيب المحاسبية Artifices de comptabilités ومن ذلك الامتناع عن تسجيل إحدى العمليات فى دفاتر الشركة أو استعمال حسابات صورية Comptes simulés أو إجراء تحويل Virement من حساب إلى حساب أخر يبدو به هذا الأخير فى وضع المديونية.

ولقد خلق اشتمال لفظ الاستعمال لأفعال التبديد والاختلاس شكلا من أشكال التنازع فى شكل التعدد الصورى بين جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات وبين جريمة الإفلاس إذا ما ارتكبت هذه الأخيرة عن طريق اختلاس أو تبديد أحد عناصر الذمة المالية (المادة 197/2 من قانون 85-98 الصادر فى 25 يناير 1985)، بمعنى أخر فإن الركن المادى لكلا الجريمتين يمكن أن يتحقق نتيجة أفعال متشابهة تؤدى إما إلى إفقار الذمة المالية ناشئة عن إنقاص فى أصول الشركة Diminution d’actif أو زيادة فى خصومها Aggravation du passif. وعلى ذلك فإن البدء فى إجراءات التسوية أو فى إجراءات التصفية القضائية والتى أصبحت شرطا مفترضا منذ صدور قانون 25 يناير 1985 يتعين التثبت منة قبل الإدانة بجريمة الإفلاس يمكن أن يقود القاضي إلي تقرير إدانة أخرى عن إساءة أموال الشركات .

هنا يثور التساؤل حول كيفية حل هذا التنازع في التكييف في حالة التعدد الصوري. في رأى البعض فإنه من الأفضل لدى القاضى أن يستبقى تكييف جريمة الإفلاس سواء أكانت أفعال التبديد أو الاختلاس سابقة أو لاحقة علي التوقف عن الدفع متي كانت الأفعال المرتكبة تهدف إلي تجنب أو تأخير تقدير هذه الحالة أو كانت تمس بالرصيد القائم بما يؤدي إلي عجز المدين عن الوفاء بديونه المستحقة . وفى رأى البعض الأخر أن التعدد بين الجريمتين يجب أن يعالج في إطار قواعد التعدد الحقيقي بين الجرائم Concours réel d’infractions والتي تتعلق بأفعال متميزة وتختلف عن بعضها البعض مرتكبة من قبل ذات الشخص دون أن يحاكم عن احد الأفعال قبل ارتكابه لفعل أخر، مما مؤداه وجوب الإدانة عن كلا الجريمتين حيث تتعدد المصالح المحمية وحيث أن الجاني بفعل الاختلاس أو التبديد قد أوقع اعتداءا علي مصلحة الشركة ذاتها وعلي الضمان العام للدائنين. ولقد تبني القضاء هذا الحل من قبل عندما وجد تعددا حقيقيا بين خيانة الأمانة وإساءة أموال الشركة وبين هذه الأخيرة والرشوة . ويستند هذا الرأى إلى موقف محكمة النقض الذي يجري علي اعتبار التعدد بين الجرائم تعددا حقيقيا حينما يثبت أن الفعل الذي أتاه الجاني يتميز باركان معنوية مختلفة ومتمايزة Eléments moraux distinctement incriminés أو تمثل انتهاكاً لمصالح جماعية أو فردية متمايزة . ومع ثبوت حالة التعدد الحقيقى هذه فإن الحل يتأتى من خلال تطبيق العقوبة الأشد مع الإشارة في حكم الإدانة للجريمة الأقل خطورة (م 132-3 فقرة 2 عقوبات فرنسي).

ولقد ذهبت بعض أحكام القضاء قبل صدور القانون 25 يناير 1985 إلى الحكم بان كلا التجريمين يمكن الأخذ بهما سواء أكانت الأفعال المجرمة قد وقعت قبل التوقف عن الدفع أو بعدة . غير أن محكمة النقض قد عدلت عن قضائها بحكم صادر في 10 فبراير 1986 أكدت فيه أن تاريخ التوقف عن الدفع هو الذي يفرق بين جريمة الإفلاس وبين إساءة أموال الشركات. فحينما ترتكب أفعال التبديد أو الاختلاس من قبل أحد مديرى شركات الأموال في وقت تستطيع فيه الشركة الوفاء بديونها فإنه يتعين تكييف هذه الأفعال على أنها إساءة أموال الشركات فى حين إذا ما ارتكبت تلك الأفعال فى أعقاب صدور حكم بإعلان حالة التوقف عن الدفع فإنه يتعين تكييف فعل الاختلاس على أنه احد عناصر جريمة الإفلاس . وقد أكدت محكمة النقض هذا القضاء في حكم أخر لها صادر في 23 يوليه 1996 عندما أكدت خطا محكمة الاستئناف حينما أدانت مدير الشركة عن إساءة أموال الشركات رغم أن الأفعال التي أقيمت عنها الدعوى قد وقعت لاحقة للتوقف عن الدفع. ولقد جري قضاء محكمة النقض على هذا فى أحكام أخرى .
ورغم أن هذا القضاء يبدو منطقيا فإننا رغم ذلك نرى فيه مساسا بمبدأ الشرعية الجنائية حيث تتوحد الأفعال الصادرة من الجانى - سواء قبل التوقف عن الدفع أو بعدة - ورغم ذلك فإنه يتعين إعطاء هذه الأفعال اسما وتكيفا مختلفا فى كل مرة .
وإذا كان تغيير الحيازة بأفعال التبديد أو الاختلاس هو أحد الأشكال الواضحة التى يتضمنها وتدخل تحت لواء لفظ الاستعمال الوارد فى تجريم إساءة الأموال والائتمان، إلا أن هذا الاستعمال يمكن أن يتحقق بشكل مستقل دون أى رابطة بالتبديد أو الاختلاس كأحد أركان خيانة الأمانة الواردة بالمادة 314/1 عقوبات فرنسى. فهنا يبرز تجاوز هاتين الفكرتين ويبرز تمايز التجريم الخاص فى مجال الشركات ودورة فى الردع . فليس من الضرورى إثبات أن الجانى قد أجرى تغييرا فى طبيعة الحيازة أو أنه تعمد الأضرار بالذمة المالية للشركة. وهنا يظهر أن الطبيعة الحقيقية لجريمة إساءة أموال وائتمان الشركات أنها تعاقب على عمل من أعمال الإدارة المخالف لمصلحة الشركة وليس على عمل يضر ضررا ماديا بالشركة.

وعلى هذا فيجب فهم هذا اللفظ بمعنى واسع وشامل وعلى أنه كل عمل من أعمال الإدارة (كالاستفادة من بعض المزايا, قروض، سلف, إيجارات الخ ...) وبمعنى أخر فإن هذا اللفظ يبعد كلياً عن أعمال التصرف ليتعلق فقط بمجرد أعمال الإدارة Simples actes d’administration. وعلى هذا فقد حكم بارتكاب أحد مديرى الشركات لجريمة إساءة الأموال بسحبة هامش الربح الإجمالى Marge brute فى حين أنه لا يحق له أن يسحب إلا هامش الربح الصافى Marge nette وهو ما لم يتحقق فى هذه الدعوى. وعلى أثر ذلك فقد أكدت المحكمة أن المشرع لا يجرم فقط أفعال الاختلاس أو الاستيلاء على أموال الشركة من قبل القائمين على الإدارة ولكن أيضا مجرد الاستعمال السيئ أو التعسفى .

وقد حكم أيضا بأنه يعد استعمالا تعسفيا لأموال الشركة وجود شكل من أشكال عدم التميز بين الذمم المالية, أى بين الذمة المالية المستقلة للشركة والذمة المالية الخاصة للقائمين على إدارتها Confusion entre le patrimoine de la société et le patrimoine propre de ses dirigeants. ومن هذا القبيل, منح المدير لنفسه رهنا على عقارات الشركة ضمانا لديونه تجاه الشركة التى يديرها ، وفى دعوى أخرى رفضت محكمة النقض دفع أحد المديرين الذى يدير شركة مساهمة تعمل فى مجال التشييد المؤسس على أنه مجرد مدين للشركة مما لا تتوافر معه شروط الاستعمال السيئ والمخالف لمصلحة الشركة. فلقد أثبتت المحكمة بحقه أنه قام بأفعال تنم عن انه قد خلط بين ذمته المالية وذمة الشركة المستقلة وأنه لإخفاء معالم انحرافاته قد أمسك حسابات مضللة وغامضة يملؤها التناقص والفجوات . وحكم أيضا بوجود الاستعمال السيئ فى حالة قيام الشركة بشراء أرض بسعر المتر عشرة فرنكات رغم أن الشركة البائعة قد أعلنت رغبتها من قبل عن بيع المتر بعشرين سنتيما فقط .
2- التجاوز غير المؤكد لأفعال الارتكاب

السؤال الذى يطرح نفسه هو مدى إمكانية ارتكاب جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات بأفعال الامتناع Abstention ، وبمعنى أخر هل يتماثل الامتناع مع الاستعمال التعسفى ؟ من الضرورى التأكيد على أن جريمة إساءة أموال الشركات تتم بأفعال إيجابية من قبل مرتكب السلوك الإجرامى مما مؤداه أن الإهمال أو الإخلال بالالتزام العام بالحرص والحيطة لا يشكل استعمالا تعسفيا فى معنى المواد 425/4 و 437/3 والتى لا تسمح صياغتها إلا بعقاب الأفعال الايجابية .

ويتعين التأكيد على حقيقة مؤداها أن جرائم الامتناع, التى تمثل فى القانون العام استثناء على الأصل, إنما تمثل فى مجال الشركات الكثرة الغالبة من الجرائم ويبرر ذلك – كما يقول العميد Vitu - الحاجة إلى دفع الأفراد إلى التصرف حيث يفهم الامتناع حاليا وفى فروض كثيرة على أنه خروج على مقتضيات الواجب لم تعد تتقبله التشريعات Indiscipline inadmissible.

ويمتد تجريم الامتناع طوال حياة الشركة، فحال تأسيس الشركة يجرم المشرع الفرنسى مثلا الامتناع عن عمل إعلان التوافق Déclaration de conformité (مادة 480 من قانون الشركات الملغاة بالقانون 1994) والذى كان يجب أن يصدر عن المؤسسين بحيث يقرون فيه القيام بكافة إجراءات التأسيس وتوافقها مع نصوص القانون. كما يجرم أيضا إغفال الإعلان المتعلق بتوزيع الحصص بين المساهمين (مادة 423 من قانون 1966). وحال إدارة الشركة يجرم المشرع الامتناع عن الإمساك ببعض الدفاتر المحاسبية (مادة 426 و مادة 439) والامتناع عن تعيين مراتب حسابات (مادة 430 و 455) وامتناع مراقب الحسابات عن إبلاغ النيابة العامة بالوقائع الجنائية التى تصل إلى عملة (مادة 457). وحال تصفية الشركة واتخاذ إجراءات التسوية القضائية فالمشرع يجرم مثلا عدم الإمساك ببعض الدفاتر محاسبية (مادة 197).

فيما يتعلق بإساءة أموال أو ائتمان الشركات يبدو أن القضاء لم يتردد فى مرحلة أولى بعقاب أفعال الامتناع دون أن يقرر تعارض هذه الحالة السلبية مع فكرة الاستعمال التعسفى. ففى حكم لمحكمة النقض صادر فى 15 مارس 1972 أكدت المحكمة أن فكرة الاستعمال التعسفى يمكن أن تنشأ عن الامتناع عن التصرف. ويتعلق الأمر فى هذه الدعوى بامتناع المدير عن المطالبة بثمن البضائع لدى شركة كان توجد له فيها مصلحة . وهذا الموقف يختلف عما تبنته محكمة النقض فى مجال الجرائم الملحقة بالإفلاس حيث قضت بأن امتناع المدير عن المطالبة بالسمسرة التى تستحقها شركته لدى شركة أخرى لا يتمثل فى إفلاسا بالتدليس ففعل الاختلاس لأموال الشركة يستوجب عملا إيجابيا ، الأمر الذى اعتبره البعض تعارضا فى موقف القضاء بين الجريمتين رغم أنه يوجد فى كثير من الحالات تعدد نموذجى بينهما .

ويبدو أن قضاة الموضوع يتوجهون ذات الاتجاه الرامى إلى اعتبار بعض أفعال الامتناع استعمالا متعسفا لأموال الشركة. فمحكمة استئناف Angers قضت فى حكم لها بأنه"يرتكب إساءة أموال الشركات مدير شركة المسئولية المحدودة الذى لا يحد بطريقة تلقائية من مكافأته إذا ما ظهر أن الشركة تحقق خسائر" .

غير أن تحليل بعض الأحكام الحديثة يكشف عن أن محكمة النقض الفرنسية التزمت التقيد بالقواعد العامة التى توجب عدم تجريم الامتناع إلا بنص صريح مما مؤداه تطلب عمل ايجابى لتحقق السلوك الإجرامى لإساءة أموال وائتمان الشركات. ففى إحدى الدعاوى اتهم كل من رئيس مجلس إدارة إحدى شركات الاقتصاد المختلط Société d’économie mixte (التى تجمع فى رأس مالها بين مساهمة القطاع الخاص والدولة) وكذلك نائبة بحجة أنهما قد قاما بدفع فواتير ومنح أموال لصالح شركة أخرى يقوم النائب على إدارتها. بيد أن محكمة النقض قضت ببراءة رئيس مجلس إدارة الشركة بحجة أنه وإن كان يعلم ويتستر على تصرفات نائبه فإن ذلك لا يكون مساهمة شخصية منه ولا يكون استعمالا تعسفيا فى معنى جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات .

ونحن نتفق مع ما ذهب إليه هذا القضاء من عدم المساواة بين الاستعمال وبين الامتناع كما لا نوافق على ما قال به البعض من أن العقاب على الامتناع فى جريمة إساءة أموال الشركات هو شكل من أشكال الجرائم الايجابية بطريق الامتناع حيث أن هذا الشكل من أشكال الجرائم غالبا ما يرفضه القضاء لما فيه من شبه التجريم بطريق القياس غير المقبول فيما يتعلق بالقوانين الأسوأ للمتهم. وهذا ما يدعونا حرصا على الشرعية الجنائية والتزاما بها إلى مطالبة المشرع بالتدخل لتجريم الامتناع واعتباره من قبيل الاستعمال الضار بمصلحة الشركة فى معنى جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات.


ثانيا: محل الاستعمال التعسفى للذمة المالية للشركة

الذمة المالية محل الحماية فى مجال إساءة أموال وائتمان الشركات تتكون من طائفتين من القيم المالية، الأولى هى أموال الشركة والثانية هى ائتمان الشركة، وفى تفسير هذين المصطلحين توجد بعض الصعوبات.

1- الاستعمال التعسفى للأموال L’usage abusif des biens

ما المقصود بالأموال التى تتشكل منها الذمة المالية للشركة ؟ توجد فى الواقع بعض الحالات العامة التى لا تشكل صعوبة أمام القضاء, غير أنه توجد بعض الصعوبات فيما يتعلق بالمكافآت المتجاوزة أو المبالغ فيها، فقد وضع القضاء حدودا للاعتبار مثل هذه المكافآت شكلا من أشكال إساءة أموال الشركات.

أ- الحالات العامة لإساءة الأموال

تفهم أموال الشركة على أنها القيم Valeurs أيا كانت طبيعتها التى تتشكل منها أصول ورصيد الشركةActifs de la société. ومثال ذلك المصانع والورش والعقارات وبراءات الاختراع وعناصر المحل التجارى والآلات والمواد الأولية الخ التى تدخل فى ذمة الشركة وتملكها أو لها عليها سلطات الحائز. ولا يوجد فارق فى تجريم إساءة الأموال بين الأموال المنقولة والأموال العقارية، مادية أو غير مادية وبين أموال قابلة للاستهلاك Fongible أو غير قابلة للاستهلاك Non fongible أو أن يكون الاستعمال تم بشكل عادى وبسيط أو بطريقة احتيالية وخفية .

ويعرف البعض أموال الشركة المقصودة بالحماية واستعمالها التعسفى فى معنى القانون بأنها "مجموع الذمة المالية المنقولة والعقارية للشركة والتى تهدف إلى تحقيق مصلحة الشركة. واستعمالها هو القيام, ليس فقط بأعمال التصرف كالبيع والرهن والحوالة لمصلحة الغير، ولكن أيضا القيام بأعمال الإدارة كالقرض وتقديم السلف والإيجار وشراء الأسهم فى البورصة الخ .

ويبين من هنا الفارق الهام بين جريمة إساءة الأموال وبين جريمة خيانة الأمانة حيث لا تتعلق الأخيرة إلا بالأموال المنقولة فقط. وعلى ذلك فيمكن إدانة القائم على إدارة عقار مملوك للشركة بحسبانه مستأجر لهذا العقار عندما يجرى على الأموال المؤجرة دون تصريح أو إذن بعض التعديلات التى تنقص من قيمته التجارية مما يلحق الضرر بالشركة المالكة. ومن قبيل ذلك أيضا المدير الذى يؤجر أحد عقارات الشركة بسعر بخس Loyer dérisoire لمصلحة شركة أخرى له فيها مصلحة ما.

ويحاول البعض التفرقة بين رأس المال Capital وما بين الاحتياطى Réserve حيث تمثل هذه الأخيرة طائفة من أموال الشركة ولكننا لا ندخل فى عناصر الذمة المالية التى يجرى استعمالها لتحقيق غرض الشركة مما مؤداه عدم وقوع مديرى الشركة تحت طائلة العقاب حال استعمالهم هذه الاحتياطيات على خلاف العناصر التى تدخل فى تكوين رأس مال الشركة . غير أننا نرى أن هذه التفرقة لا محل لها حيث أن مفاهيم رأس المال والاحتياطيات هى مفاهيم مجردة Abstraite ومحاسبية فى المقام الأول بحيث يصعب عندما يوجد استعمال تعسفى للأموال التفرقة بين ما قد وقع على الاحتياطيات و ما وقع على رأس المال.

وقبل كل شيئ فإن المال يجب أن يكون فى حوزة الشركة. بحيث يجب أن يتأكد القاضى أن المال هو جزء من الذمة المالية للشركة ذاتها كشخص معنوى وليس جزءا من أموال الغير أو مجموعة من المساهمين. ولا يهم ما إذا كان هذا المال فى حيازة الشركة بصفتها مالكة أو مجرد مستأجرة أو مودع لديها. وعلى هذا فقد حكم بأنه لا يعد مرتكبا لجريمة إساءة أموال الشركات مدير الشركة الذى يحتفظ لعدة شهور بسيارة مؤجرة بواسطة الشركة وفقا لنظام التأجير التمويلى Crédit-bail والتى لم يدفع عنها بعد أى إيجار حيث أن السيارة لم تصبح بعد جزءا من رصيد الشركة وأموالها وأن الشركة لم تخرج من خزانتها أى مال على سبيل الوفاء بأقساط الإيجار . كذلك قضى بأنه لا يرتكب جريمة إساءة الأموال العاطل الذى يتحصل على إعانة من الدولة من أجل إنشاء مشروع ولكنة ينفق الإعانة على أهواءه الشخصية بدلا من إنفاقها فى الغرض الذى صرفت من أجلة على أساس أن الإعانة قد دخلت الذمة المالية للشخص ذاته ولم تكتسب الشركة الشخصية المعنوية بعد .

ومن بين الحالات الشائعة فى العمل لقيام إساءة أموال الشركات هو ترك المدير الحساب الجارى المفتوح بينه وبين الشركة مدينا أو مكشوفا. فالمشرع الفرنسى لا يحظر قيام هذا النوع من الحساب الجارى بين الشركة ومديرها أو مساهميها Compte courant d’associé ولكن يحظر السلف أو القروض التى تمنحها الشركة لمساهميها أو مديرها وكذلك يحظر ترك الحساب الجارى المفتوح مدينا أو مكشوفا Découvert (المادة 106/1 والمادة 148/1). فترك الحساب مديناً أو دون غطاء يفهم منه على أنه نوع من القرض ممنوح من قبل الشركة لصالح أحد مديرها أو أحد المساهمين فيها. ورغم أن المستفيد من الحساب لا يقصد الاستيلاء على الأموال إلا أن وجود التزام قانونى بالرد المرتبط بعقد القرض يكشف عن الاستعمال المتعسف الذى تقوم به الجريمة .

وعلى هذا أدانت الغرفة الجنائية لمحكمة النقض الفرنسية مدير شركة المسئولية المحددة الذى احتفظ بحساب جارى مدين ويسحب منة على المكشوف. ولم تقبل المحكمة دفع المدير المبنى على أنه كان دائنا للشركة بمصاريف ومكافآت أخرى إذ أن المشرع يحظر مطلق هذا الشكل من أشكال الحسابات . فهذا الحل يمثل اعتداء على الذمة المالية للشركة ويعرض خزانتها للخطر خاصة وأن المدير قد أجرى السحب على المكشوف كنوع من القرض بفوائد ذات قيمة أقل من تلك التى تمنحها المؤسسات البنكية. ويكشف هذا الحكم عن أمر أخر وهو أنه لا يمكن للمدير أن يجرى بنفسه المقاصة بين حق دائنيته لدى الشركة ومبلغ أخر مساوى يسحبه على المكشوف من الحساب الجارى القائم بينة وبين الشركة. وعلى هذا أدانت محكمة النقض فى حكم سابق لها فعل المدير الذى أصدر كمبيالات لدائنين مسحوبة على حسابه الجارى بينه وبين الشركة حتى ولو كان هذا الحساب دائنا .

ب - الحالات الخاصة بالمكافآت المغالى فيها Rémunérations excessives

يكشف العمل عن أن من بين الحالات التى تطرح على القضاء بصفة مستمرة وتتواتر بشأنها الأحكام حالات المرتبات والمكافآت المتجاوزة وذات القيمة العالية التى تمنح لمديرى الشركات. وسوف نكتفى هنا لأغراض الدراسة بتحديد أمرين، الأول هو الحد الذى عنده يبدأ اعتبار المكافأة أو المنحة متجاوزة أو مغال فيها وثانيا ما إذا كانت المزايا التى تمنح على أساس نسبة من رقم الأعمال Rémunération au chiffre d’affaires تعد بصفة مطلقة أو فى حد ذاتها مكافأة مغالى فيها.

- الحد الذى تبدأ عنده المغالاة

رقابة المكافآت التى تمنح لمديرى الشركات هو مظهر وتعبير عن الرغبة فى تنقية حياة الأعمال حيث يكشف القضاء الجنائى هنا عن بعض التشدد. والسؤال الذى يثور هو مدى إمكانية وضع حدا للمغالاة بحيث يمكن - عند تجاوزه - تطبيق الأحكام الخاصة بإساءة أموال الشركات. فى الواقع فإنه لا يوجد معيار موضوعى للتقدير أو للتقييم فى هذا الشأن، لذا فللقضاء الحرية الكاملة فى تحديد الحد الذى عنده تبدأ المغالاة فى قيمة المكافأة أو المنحة. فتكشف الأحكام عن نسبية هذه الفكرة La relativité de la notion de rémunérations excessive.
فقد تنشأ المغالاة - كما أشارت بعض الأحكام - عن عدم وجود ترخيص أو إذن سابق من الجهة صاحبة الولاية والاختصاص بتحديد مكافآت ومزايا القائمين عن الإدارة. فيما يتعلق بالشركات ذات المسئولية المحدودة SARL فإن قانون الشركات الفرنسى صامت عن هذه النقطة تمسكا بمبدأ عدم التدخل فى شئون إدارة الشركات La non immixtion dans la gestion des sociétés، وعادة ما يترك تحديد هذا الأمر للنظام القانونى للشركة أو للجمعية العمومية. أما فيما يتعلق بشركات المساهمة فإن هذه المكافآت تتحدد بمبلغ إجمالى يتحدد كل سنة من قبل الجمعية العمومية ثم يقوم مجلس الإدارة بتوزيعها على أعضاءه وفقا لما يراه الأعضاء (مادة 108). ويجرى التوزيع عادة على أساس حضور الجلسات ويمكن أن يتحدد زيادة فى المكافآت على أساس استرداد نفقات الانتقال أو عند قيام أحد الأعضاء بمهمات خاصة للشركة أو ما إذا كان يجمع العضو بين عضوية مجلس الإدارة وبين كونه عاملا فى الشركة بموجب عقد عمل. وفى العادة فإن مكافآت رئيس مجلس الإدارة PDG يتحدد على أساس التقدم الذى تحزه الشركة (غالبا نسبة من الأرباح) ويجرى تحديد هذه النسبة من قبل مجلس الإدارة ذاته (مادة 110 من قانون 1966).

ويجرى القضاء على اعتبار أن من قبيل إساءة أموال شركات منح المكافآت دون إذن من الجهة المختصة بذلك. فقد قضت محكمة النقض فى حكم لها فى 26 يونيه 1978 بإدانة رئيس مجلس إدارة شركة مساهمة لقيامه بسحب أموال من خزانة الشركة فى شكل مكافآت ومزايا للأعضاء مجلس الإدارة بزعم وجود اتفاق وتشاور بهذا الشأن أجراه المجلس الذى لم يكن مشكلا فى هذا الوقت. فلقد أكدت المحكمة أن عمل المدير هذا وقيامه من تلقاء نفسه بالحصول على مزايا شخصية إنما هو عمل ضد مصلحة الشركة ويعرضها إلى مخاطر مالية. ولا يهم إذا ثبت أن هذا المجلس فى وقت سابق قد وافق على مزايا أزيد مما قام المدير هذه المرة بمنحة لنفسه .

نفس الاتجاه أكدته محكمة النقض فى حكم لها بخصوص شركة ذات مسئولية محدودة إذ أكدت أنه يعد إساءة أموال شركات قيام المدير باسترداد نفقات الانتقال دون إذن مسبق من الجمعية العمومية للشركاء . ويقدم لنا الحكم الصادر فى 6 أكتوبر 1980 من الغرفة الجنائية لمحكمة النقض الفرنسى عناصر أخرى للتقدير. يتعلق الأمر بمدير شركة المساهمة الذى وزع مكافآت مغالى فيها بناء على ترخيص أو إذن جزئى من قبل المجلس رغم أنه ثبت أن الشركة فى هذه الفترة قد خفضت من حجم نشاطها التجارى وأنه لتمام توزيع هذه المبالغ قد أجرى قرضا بإسم الشركة بفوائد عالية وأن توزيع هذه المكافآت قد جرى دون مراعاة لقيمة العمل الحقيقى الذى يقوم به رئيس مجلس الإدارة . كما يؤكد القضاء فى دعوى أخرى أن التصديق اللاحق من قبل الجمعية العامة أو مجلس الإدارة لا ينفى قيام الجريمة. وعلى هذا فقد قضت محكمة النقض بقيام إساءة أموال الشركة فى حق مديرى شركة المسئولية المحدودة الذى ثبت تغيبه طوال الوقت عن الشركة وأنه لم يباشر عملا جديا فى الشركة. وفى هذه الدعوى - رغم الملاحظات التى أبداها مراقب الحسابات - فإن الجمعية العمومية قد صدقت على موازنة الشركة وعلى ما وزع من مكافآت على القائمين على الإدارة غير أن هذا التدخل اللاحق لا ينفى عن الفعل صفته الإجرامية، لأنه فى مجال جرائم الأموال فإن رضا المجنى عليه لا يكون ذو أثر إلا إذا كان سابقا على الجريمة وألا أعتبر عفوا لا ينفى الجريمة إذا صدر بعد وقوع الفعل .

وتكشف بعض أحكام القضاء الفرنسى على أن تقدير المغالاة فى مجال المزايا والمكافآت الممنوحة للقائمين على الإدارة إنما يتوقف على الحالة المالية للشركة. لذا قد أدين مدير أحد شركات المساهمة الذى ثبت عنه أنه قام بتوزيع أجور وحوافز لا تتوافق مع حالة الشركة التى ثبت أنها مدينة ولا تدفع ديونها المستحقة للعديد من الموردين . وتؤكد محكمة جنح باريس فى حكم حديث لها - صادر فى 28 يناير 2000 - هذا الموقف بالنظر إلى أن الحالة المالية للشركة ثبت ضعفها وعجزها عن سداد الكثير من ديونها المستحقة للغير رغم أنه ثبت من واقع تقرير الخبير أن مدير الشركة قد قام فى أعوام 1991 و 1992 و 1994 بمنح حوافز ومكافآت بناء على إذن سابق من مجلس الإدارة وأنه ثبت أن المدير يقوم بأعمال وجهود كبيرة فى إدارة الشركة ساعدت فى حصول أحد الشركات التى يديرها على جائزة .

- الحوافز والمكافآت على شكل نسبة من رقم الأعمال

الحوافز والمكافآت التى تأخذ شكل نسبة من رقم الأعمال ليست من ضمن الطرق الحسابية المنصوص عليها فى قانون 24 يوليه 1966 بخصوص مكافآت مديرى شركات المساهمة والشركات ذات المسئولية المحدودة بيد أنه يجب القول أن هذا القانون لم يحظرها صراحة أيضا. ويتعين بداءة القول بأن هذا الشكل من أشكال الحوافز قد يكون خطرا على الشركة خاصة إذا ما كان توزيعها يجعل من الربحية التى حققتها الشركة فى فترة ما غير ذات قيمة أو تضعفها أو يجعل الحساب الختامى للشركة عن تلك الفترة يثبت مديونيتها.

غير أن هذا الشكل من الحوافز قد يكون مفيدا لنمو الشركة إذا وزع بشكل يؤدى إلى السماح لها بتحقيق أرباح فى فترات أخرى كما لو كان المستفيد من الحافز عاملا فى الشركة أو ممثلى العمال فى مجلس الإدارة Membre du personnel على عكس لو كان المستفيد مديرا للشركة أو عضوا فى مجلس إدارتها إذ قد يخلق ذلك تعارضا بين مصلحة هذا المستفيد وبين المصلحة العامة لبقية المساهمين ومصلحة الشركة عاما مما يشجع على الانحراف المالى تفضيلا لمصلحة هذا المستفيد. وهذا ما جعل محكمة استئناف باريس فى قضية Bon Marché تتجه إلى اعتبار مكافأة تعسفية المكافأة التى توزع تبعا لنسبة من رقم الأعمال دون النظر إلى ما أثبتته حسابات استغلال المنشأة من خسائر . وفى حكم أخر أكدت محكمة جنح السين أنه وإن كان المبدأ أن المكافآت التى تمثل نسبة من رقم الأعمال لا يكون فى ذاته إساءة للأموال الشركات إلا أنه يجب اعتباره كذلك إذا ما ثبت أن هذا التوزيع لم تراعى فيه تحقيق التوازن بين النصيب المستقطع للشركاء بحصة أكثر من 90% وبين شركاء الأقلية الأمر الذى أدى - كما أثبتت المحكمة - إلى فقد كل قيمة مالية للحصص المملوكة للشركاء المديرين وإلى أن يفقد حملة السندات من شركاء الأقلية كل قيمة فعلية لها Stériliser pratiquement la valeur de celles attribuées aux porteurs de parts minoritaires.

ويمكننا الإشارة أيضا إلى حكم الغرفة الجنائية لمحكمة النقض الفرنسية فى 14 فبراير 1974 والتى فيها منحت شركة Area إلى شركة Forment عمولة بنسبة 10% على سعر البيع لمنتج معين من هذه الشركة الأخيرة إلى الشركة الأولى. ورغم أن مجلس إدارة شركة Area قد وافق على منح هذه العمولة وقد صدقت عليها الجمعية العمومية إلا أن المحكمة ارتأت فى ذلك إساءة لأموال الشركة على اعتبار أن هذه النسبة قد احتسبت من رقم أعمال الشركة وليس من أرباحها الصافية . ومن هنا فقد استنتج بعض الفقهاء إلى أنه يمثل عملا مضادا لمصلحة الشركة وبالتالى إساءة لأموال الشركات كل حوافز أو مكافأة أو عمولة ليست محسوبة على أساس صافى الأرباح ولكن كنسبة من رقم الأعمال .

وعلى عكس هذا الاتجاه فإن البعض يرى أن تقديم المنح أو الحوافز على أساس نسبة من رقم الأعمال لا يمثل فى جميع الأحوال إساءة لأموال الشركات. فيتعين لتحديد الإساءة أو التعسف أن نتبين ما إذا كانت النسبة تتوافق أو تتناسب مع الخدمات المقدمة من قبل الشخص المستفيد أم لا، فلا توجد إساءة أو تعسف إذا ما ثبت أن هذا الأخير تتوافر فيه الكفاءة والتكوين العملى وأن أى مشروع أخر كان سيمنحه ذات المزايا . ويؤكد هذا الفقه على أن القضاء لم يقطع باعتبار هذا النوع من الحوافز أو المكافآت إساءة لأموال الشركات، فبنص الحكم سالف الذكر لمحكمة باريس يتبين أن المحكمة اعتبرته تعسفا متى ثبت من الحسابات الختامية لاستغلال المنشأة أن الشركة تحقق خسائر، مما مؤداه أنه إذا كشفت نتائج الشركة عن صلابة مركزها المالى فإن هذا النوع من المكافآت أو الأجور لا يكون محظورا.

ويمكننا أن نؤكد رجاحة هذا الرأى الثانى حيث تكشف بعض الأحكام عن اعتماد القضاة على معايير معينة يتعين استجلائها قبل الإقرار بوجود التعسف من عدمه. ومن ذلك حكم محكمة استئناف جرنوبل Grenoble والتى أكدت فيه أنه حال وجود نوع من الحوافز والمكافآت محددة بنسبة من رقم الأعمال فإن القاضى بناء على تقرير الخبير المحاسبى يتعين لتقرير وجود إساءة أموال الشركات أن يتبين الأتى :
- ما جرى عليه العمل فى هذا الشأن فى المنطقة التى يقع بها المشروع من قبل المشروعات المشابهة ؛
- قيمة المبلغ الممنوح وما إذا كان مغالى فيه بالنظر إلى كفاءة المستفيد ( مؤهلاته وقدراته وخدماته داخل الشركة ؛
- الحسابات الختامية وواقع الحالة المالية للشركة من حيث الأرباح أو الخسائر وتأثير هذا الشكل من التوزيع على المركز المالى لها.

وفى ضوء ذلك فقد جاء حكم لمحكمة استئناف باريس مؤكدا معايير محكمة جرنوبل عندما أكدت أن مديرى الشركة ذات المسئولية المحدودة عندما منحوا أنفسهم من واقع سلطتهم داخل الشركة مكافآت وحوافز على أساس نسبة من رقم الأعمال فإنهم قد أثقلوا كاهل الشركة بمصاريف عامة مما هز من مركزها المالى حيث كشفت الحسابات الختامية للشركة عن أن الأرباح المحققة هى أرباح تصل إلى حد الوهمية وأن الشركة عانت فى أعوام سابقة من أزمات مالية وتجارية . وهذا ما قضت به محكمة النقض فى حكمها فى 19 أكتوبر 1971 عندما أكدت أن هذا النوع من الحوافز أو الأجور ما منح وما فرض إلا نظرا للمركز المؤثر لمدير الشركة على بقية أعضاء الإدارة وللحصول منهم على موافقات للدخول فى صفقات ومغامرات تجارية أدت إلى حدوث هزة فى المركز المالى للشركة .وأنه ثبت من واقع هذا الحكم أن القائمين على إدارة الشركة ذات المسئولية المحدودة الذين يملكون أكثر من 80% من حصص الشركة قد أثروا على الجمعية العمومية للحصول على القرارات التى تروق لهم وأنهم قد أجروا تعديلات فى النظام الأساسى للشركة يسمح لهم بتوزيع حوافز ومكافآت متمثلة فى نسبة من رقم الأعمال والذى حسب أولا على أنه 0.40% وعدل بعد ذلك ليتجاوز 0.80%، كما أن القائمين على الإدارة لم يحددا وعاء رقم الأعمال التى تحسب النسبة على أساسه فقد اعتبروا أن هذا الوعاء يشمل الضرائب المستحقة على الشركة بينما قبل تعديل النظام الأساسى للشركة لم يكن لهؤلاء إلا نسبة محسوبة على أساس الأرباح قبل توزيعها الأمر الذى كان يمثل سياسة مالية وتجارية فعالة وتحمى المصلحة العامة للشركة.










قديم 2013-01-20, 11:27   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
الموجة الرابعة
عضو مبـدع
 
الصورة الرمزية الموجة الرابعة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

وجملة القول أن هذا الشكل من الأجور والحوافز يعد أمرا مشبوها إذ قد يخلق تعارضا بين مصالح الشركة ومصلحة المديرين المستفيدين مما يدفع هؤلاء بالتضحية بالمصلحة العليا للشركة حفاظا على مصالحهم المالية. فهو على الأقل سلوكا خطرا مما يتعين تجنبه بقدر الإمكان.

2- الاستعمال التعسفى للائتمان L’usage abusif du crédit

لا ينصب الحظر فقط على الاستعمال التعسفى للأموال وإنما يمتد أيضا إلى حظر الاستعمال التعسفى للائتمان. هذا اللفظ شديد الغموض الذى ينظر إليه على أنه إحدى ابتكارات المرسوم بقانون 8 أغسطس 1935 المنشئ لجريمة إساءة أموال وائتمان الشركات بهدف حماية ليس فقط العناصر المادية أو القانونية للشركة ولكن أيضا بهدف حماية العناصر المعنوية التى تشكل مركزها التجارى فى السوق وربما بهدف تجريم أحد أشكال الشروع فى إساءة الأموال .

من هنا يظهر أنه بتجريم إساءة الائتمان فإن المشرع أراد تتبع الانحرافات التى يمكن أن تسبب ضررا معنويا واحتماليا للشركة قد يمس فيما بعد بحالتها المالية لما قد تحققه من خسائر مما يشكل فى النهاية إساءة أموال. وفى ضوء ذلك فقد عرف البعض الائتمان بأنه "السمعة التجارية للشركة التى تنشأ عن سلامة أداء المشروع وقوة رأس مالها وطبيعة أعمالها"
‘‘La renommée commerciale de la société, née de la bonne marche de l’entreprise et de la nature de ses affaires‘‘.

ومن بين الحالات الشهيرة والذائعة لإساءة الائتمان هو تعريض الشخص المعنوى - عن طريق التوقيع باسمه Signature sociale - لخطر وجود مدفوعات مالية بصفته مدينا أو إسقاط حق دائنية مستحق له بما يمثل خطرا ما كان يجب فى العادة أن يتعرض له .

ويتعين فهم هذا المصطلح أيضا بحيث يشمل إساءة القدرة المالية Capacité financière التى يظهرها المشروع للغير . ومن ذلك ضمان الشركة للديون الشخصية للمدير أو لديون عشيقته أو قبول الشركة لكمبيالات مجاملة دون مقابل . كما يمكن اعتبار إساءة ائتمان وجود حساب جارى مدين بين الشركة وأحد مديرها والذى يعد فى هذه الحالة قرضا بقيمة المبلغ المدين به هذا المدير . ومن ذلك أيضا إجراء القروض والسلف والضمانات للشركاء فى غير الحالات التى يقرها قانون الشركات والذى يقصر هذا الأمر على حالة ما إذا كان الشريك نفسه شخصا معنويا (المادة 51 و 106 من قانون 1966).

ويمكننا أن نفهم من ذلك أن الائتمان يعد قد أسيئ استعماله إذا ما تعرض المشروع للخطر عملا فكرة تعريض الشيئ للخطر Mise de la chose en péril. فكما يقول أحد الفقهاء "إن هذه الأفعال التى تمس بالائتمان لا تضر مباشرة بحركة الأموال داخل الشركة ولكن هناك احتمال للخطر بأن تؤدى حال استحقاق أحد حقوق الشركة إلى ضياعه مما قد يكون هداما للشركة كاملا" .

غير أنه لا يجب أن نصل إلى حد اعتبار كل تعريض للخطر نوعا من إساءة الائتمان، ومن ذلك الأساليب التى لاتصل بالمشروع إلى حد الخسارة أو خطر الخسارة حتى ولو كانت تهز قليلا من صورة المشروع وثقة الجمهور فيه متى كان ذلك لا يصل أيضا إلى أن تفقد المؤسسات المالية ثقتها فى هذا المشروع .

وجماع القول بعد هذا العرض لمحل الاستعمال التعسفى للأموال وللائتمان أنه لا محل لوجود الإساءة إذا لم ينصب ذلك على أحد عناصر الذمة المالية للشركة كما لا محل للتجريم إذا ثبت عدم وجود أى شكل من أشكال الاستعمال. ومن ذلك مثلا تعين شخص غير كفئ فى الشركة ومن قبيل ذلك أيضا المدير الذى يتنازل فى مزاد كى يترك الصفقة لصالح شركة أخرى منافسة مقابل بعض المزايا.

غير أنه لا يجب الظن بأن هذه الأفعال لا تقع تحت طائلة العقاب، ذلك أن المشرع الفرنسى - فى ذات قانون الشركات - قد جرم بالمواد 425/5 و 437/4 عمل القائمين على الإدارة الذين قاموا باستعمال سلطات الإدارة الممنوحة لهم للقيام بأعمال يعلمون أنها مضادة لمصلحة الشركة وكان ذلك لتحقيق مصلحة شخصية أو بهدف تفضيل شركة أو مشروع أخر لهم فيها مصلحة مباشرة أو غير مباشرة. هذين النصين - الذين تتوحد صياغاتهما - يسمحان للقاضى بتتبع الأفعال والانحرافات التى تضر بإدارة الشركة ولكنها لا تنصب على ذمتها المالية. هذا التحليل ينشأ عن الإجماع الفقهى بإعطاء لفظ "سلطات" Pouvoirs الوارد بالنصين معنى مرنا يشمل ليس فقط حق الشخص فى التصرف بإسم شخص أخر بموجب وكالة أعطيت إياه - وهى الوكالة على بياض Mandat en blanc المعطاة للمديرين ولكن يشمل أيضا مجموع الحقوق المتعلقة بالإدارة التى يحوزها المدير بموجب القانون أو النظام الأساسى للشركة
L’ensemble des droits relatifs à l’administration de la société, détenus par les gérants ou administrateurs en vertu de la loi ou des statuts .

المبحث الثانى:الاستعمال المضاد لمصلحة الشركة L’insatisfaction de l’intérêt social

لا تكتمل أركان جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات إلا إذا ثبت أن الفعل الذى قام به المدير يمثل عملا مضادا لمصلحة الشركة. غير أن تعقيد حياة الأعمال التجارية لا يسمح فى كثير من الأحوال بتحديد هذه الفكرة التى تعد فى حقيقة الأمر أحد المفاهيم الأساسية فى قانون الأعمال وتمثل ركيزة من ركائز القانون التجارى بفروعه المختلفة. ويتجه العديد من فقهاء القانون التجارى إلى القول بأن فكرة مصلحة الشركة فكرة غير واقعية وليس لها أى معنى حقيقى، مؤكدين على أنها ذات مفهوم غير قابل للتعريف Indéfinissable وغامض Ambiguë ومتعدد الأشكال Polyforme مما يوقع القضاة فى حيرة حال البحث عن الحلول للمشكلات المتصلة بهذه الفكرة ومنها تحديد مضمونها من قبل القاضى الجنائى فى إطار جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات .

ومن هنا يتعين أن نبين فى نقطتين مضمون فكرة مصلحة الشركة (فرع أول) ثم بيان كيفية تقدير السلوك المضاد لمصلحة الشركة (فرع ثان).

الفرع الأول :مضمون مصلحة الشركة فى جرائم الشركات

مصلحة الشركة أحد الأفكار الرئيسية التى يقوم عليها تنظيم إدارة المشروع التجارى فهى المرشد والبوصلة La boussole التى توجه المدير نحو السلوك الواجب اتخاذه لسلامة الشركة ولضمان الأداء الرقابى على عمل الإدارة . وبتبنى مثل هذه الفكرة فإن المشرع يقدم المفتاح الذى بمقتضاه يمكن تجنب أو عقاب الانحرافات المحتملة الضارة بمصالح بقية القائمين على الإدارة ومن ورائهم المساهمين. وعلى الرغم من أن هذه الفكرة تبدو كأحد الأفكار الأساسية فى قانون الشركات إلا أن الفقه لم يوليها الكثير من عنايته وقد يكون ذلك راجعا إلى ظهورها حديثا وإغفال المشرع لتحديد مضمون هذه الفكرة. فلقد اكتفى المشرع مثلا فى القانون المدنى فى المادة 1848 بالقول بأنه "يمكن للمدير أن يقوم بكل أعمال الإدارة متى كانت فى مصلحة الشركة" وعلى هذا جرى أيضا نص المادة 13 من قانون الشركات الفرنسى حينما قالت ’’فى العلاقات بين الشركاء وفى حالة عدم الاتفاق على تحديد السلطات داخل النظام الأساسى للشركة فإن المدير يمكنه القيام بكافة أعمال الإدارة متى كانت فى مصلحة الشركة’’. واستخدمت المواد 425/4 و 437/3 من قانون الشركات ذات المصطلح فيما يخص جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات دون أن تضع تحديدا له.

ويتوزع الفقه فى تحديد مفهوم "مصلحة الشركة" على جانبين: الأول ينظر لها على أنها المصلحة المشتركة للمساهمين والثانى ينظر لها على أنها مصلحة الشركة ذاتها كشخص معنوى مستقل.

أولا: مصلحة الشركة كتعبير عن المصلحة المشتركة للمساهمين

حمل البروفسير ٍSchmidt لواء الدفاع عن هذا الاتجاه قائلا بأن مصلحة الشركة مقصود بها المصلحة المشتركة لمجموع المساهمينL’intérêt commun des actionnaires ومستندا فى ذلك إلى تبنيه للمفهوم العقدى للشركة واعتمادا على أن القانون الاقتصادى الفعال فى النظام الرأسمالى الذى يجب أن يسود هو الربح Profit. فيقول هذا الفقيه بأن هذه الفكرة ليست إلا مجموع المصالح الفردية أو الطائفية Intérêts individuels ou catégoriels للمساهمين أو الشركاء ولا تنفصل عن ذلك . فالشركاء والمساهمين لهم ذات الرغبات والطموحات داخل الشركة ولا يجدون مصلحة هذه الأخيرة إلا بالتمثيل الإجمالى لهذه الكتلة من الرغبات. ويقع تحديد المصلحة المشتركة للمساهمين والشركاء على عاتق الطائفة التى تحوز الأغلبية من بينهم وذلك نظرا لما لهم من تأثير داخل الشركة حتى ليبدو أن تحقيق مصالحهم الشخصية هو تعبير عن تحقيق مصلحة الشركة ككل.

ويرتكز الفقه المؤيد لهذا الاتجاه على أن المشرع فى المادة 1832 من القانون المدنى قد عبر عن أن هدف الشركة ما هو إلا اقتسام الأرباح التى تنشأ عن التجميع المشترك لأموال الشركاء. وذات المعنى تردده المادة 1833 حينما أكدت على أن كل شركة يجب أن يكون لها محل مشروع Objet licite وأن يستهدف تحقيق المصلحة المشتركة للشركاء. هذه النصوص تؤكد على مجموع المصالح التى تربط الشركاء والتركيز على أن الشركة إنما تكونت بهدف إشباع مصالح الشركاء والمساهمين والتى تتركز على اقتسام الأرباح الناشئة . وقد أخذ بذلك القضاء فى حكم Fruehauf والذى قالت فيه محكمة استئناف باريس على أن قاضى الأمور المستعجلة Juge des référés كان يجب أن يستوحى مصلحة الشركة من خلال المصالح الشخصية لبعض الشركاء والذين يكونون الأغلبية .

غير أننا لا ننحاز إلى هذا الاتجاه إذا أنه يتجاهل بتعريفه لمصلحة الشركة على أنها مجموع المصالح المشتركة للشركاء أو المساهمين حقيقة تتميز بها شركات الأموال - خاصة شركة المساهمة - عما عداها من الشركات وهى أن شركات الأموال يغيب فيها المفهوم التعاقدى وبالتالى فإن المصالح التى تمثلها الشركة تنفصل عن جملة الأفراد الذين يكونوها. بمعنى أخر فإن شركة المساهمة - التى قدمها الفقه على أنها تصوير للديموقراطية فى أبسط معانيها - لم تعد تشكل مجموعة من الأموال المتجانسة ذات الطبيعة الواحدة مقدمة من عدد من المساهمين لهم ذات الحقوق وذات المصالح داخل الشركة.

فداخل شركة المساهمة تتنوع المصالح فهناك المساهم الصغير الذى يأمل فى أن تحقق الشركة تقدما بحيث تحقق أرباحا ومن ثم يثرى ويحقق مكاسب مالية وهناك المساهم الذى يرغب فى أن تحقق الشركة إخفاقا فى مجال معين إذا ما كان يحوز فى شركة أخرى منافسة بنسبة أكثر من الأسهم. وداخل شركة المساهمة يتنوع أيضا المساهمين، فهناك المساهم المدخر Actionnaire épargnant الذى يهدف إلى الحصول على ربح مستمر ومستقر وهناك المساهم المضارب Actionnaire spéculateur ou boursicoteur والذى يجد مكسبه فى شراء وإعادة بيع الأسهم عند ارتفاع السعر فى بورصة الأوراق المالية. فالمساهم الكبير والذى يهتم بفرض سيطرته على الشركة يجد فى مواجهته المساهم الصغير والمساهم الذى يمثل الأغلبية يتصارع مع المساهم الذى ينتمى للأقلية. فالمساهم المميز الذى يمثل الأغلبية يتصارع مع المساهم العادى .

فليس هناك إذا ما يمنع من أن يستهدف المساهم تحقيق مصالح خاصة ولا تتشابه مطلقا مع مصالح بقية المساهمين بل وقد تتعارض مما يدعونا أن نضع هذه الفكرة فى مكانها الصحيح بحيث لا تعبر عن مجموع المصالح الفردية للمساهمين أو الشركاء بل تعبر عن مصلحة الشركة ككل باعتبارها شخصا معنويا وكيانا قانونيا مستقلا Entité juridique distincte.


ثانيا: مصلحة الشركة كتعبير عن مصلحة الشخص المعنوى

مصطلح مصلحة الشركة ذاته يؤدى بنا إلى إضفاء دلالتها على مصلحة الشركة بحسبانها شخصا معنويا مستقلا من بقية الشركاء أو المساهمين فيها وعن مصالحهم الفردية مجتمعة. فلكل من المصلحتين نطاقها وإطارها الخاص فمصلحة الشركة تشير إلى ما هو فى صالح الشخص المعنوى بينما المصلحة المشتركة للمساهمين تشير إلى أن كل مساهم يشارك فى إثراء الشركة Enrichissement social بحسب نسبة حقوقه الفردية. عندئذ تختلف مصلحة الشركة عن كل المصالح التى توجد داخل أو حول الشركة، وهى بهذا البعد تأخذ معنا قانونيا إذا أن فهم هذا المصطلح على هذا الوجه يتضمن حماية الشخص المعنوى ذاته بحيث أنه عند الإضرار بمصلحة الشركة فإن الشخصية القانونية للشركة تتعرض لذات الضرر مما مؤداه أن حماية مصلحة الشخص المعنوى تمر عبر حماية مصلحة الشركة ذاتها .

وهذا التفسير يتفق مع اتجاه الفقهاء إلى اعتبار المجنى عليه الأول فى جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات هى الشركة كشخص معنوى فتقول محكمة النقض فى حكم لها "لم يكن النص على هذه الجريمة يستهدف حماية مصلحة الشركاء ولكن حماية الذمة المالية للشركة ذاتها وحماية الغير"
Ce délit a été prévu non dans l’intérêt des associés mais pour protéger le patrimoine social dans l’intérêt de la société elle-même et des tiers.

غير أنه إذا كانت مصلحة الشركة لا يجب أن تختلط بالمصلحة المشتركة للمساهمين والشركاء فإن الإضرار بمصلحة الشركة يجب ألا تختلط أيضا بفكرة "عدم التوافق مع محل الشركة" La non-conformité à l’objet social الذى يعرف بأنه وصف للنشاط الصناعى والتجارى الذى تمارسه الشركة. فالخروج على التعداد المنصوص عليه فى النظام الأساسى للشركة للأنشطة التى يمكن أن تمارسها وإن أضر أو عرض للخطر مصلحة الشخص المعنوى ذاته فإنه لا يمثل بالضرورة تعارضا مع مصلحة الشركة La contrariété de l’objet social ne constitue pas forcement la contrariété de l’intérêt social.

وعلى ذلك قضى ببراءة مدير شركة كان قد أصدر شيكات مسحوبة على خزانة الشركة للوفاء بغرامة قضى بها على عامل سابق فى الشركة كان قد أدين عن سرقة حيث قالت المحكمة "إذا كان الثابت أن استعمال أموال الشركة كان مخالفا للغرض الذى من أجلة أنشئت الشركة إلا أنه من الصعب القول - حال اتخاذ القرار بذلك - أنه كان مخالف لمصلحة الشركة إذا من الثابت أن لو لم يفعل المدير ذلك لكانت الشركة مهددة بإضراب من عمالها يهدد نشاطها" .

ويتعين القول بان التفرقة بين مصلحة الشركة كتعبير عن مصلحة الشخص المعنوى ذاته وبين كونها تعبير عن المصالح الفردية المشتركة للمساهمين والشركاء أدى بالقضاء إلى إتباع حلول معينة منها:

- لا يكون إساءة أموال الشركات الإجراء الذى تتخذه إدارة الشركة ويؤدى إلى ضعف قيمة الأسهم - مما يضر بالمساهمين - متى كان ذلك لا يمس الذمة المالية للشركة. على العكس فإن إخراج مال من خزانة الشركة لدعم الحملة الانتخابية لعضو نقابى أو شخص ذو نفوذ يكون إساءة لأموال الشركة إذا أن ذلك يعرضها للاحتمالات الخسارة دون عوض حقيقى حتى لو كانت هذه العملية أدت عندما سلطت عليها الأضواء إلى زيادة أسعار الأسهم مما يحقق مصلحة المساهمين .

- موافقة الشركاء أو الجمعية العمومية لا يرفع الصفة الإجرامية عن إجراء سحب من خزانة الشركة فيما يضر بالذمة المالية للشركة ذلك أن المشرع يحمى هذه الأخيرة ويحمى الغير بذات القدر الذى يحمى به الشركاء . فكما أكد القضاء أن القرار الجماعى الصادر عن الشركاء لا ينفى أن الضمان المقدم من الشركة ذات المسئولية المحدودة لضمان دين شخصى لمديرها يمثل إساءة لأموال الشركة ذاتها .

- لا يجوز للمدير أن يدفع جرمه بإثبات أنه كان المسيطر والمهيمن على الشركة بملكيته للأكثر من 99% من الأسهم وأن الشركة تندمج فى شخصه. وعلى ذلك فقد حكم القضاء بتطبيق جريمة إساءة أموال الشركاء على الشريك الوحيد فى المشروع الفردى ذو المسئولية المحدودة EURL والذى يقوم على استقطاع فرد جزأ من أمواله لتكون الذمة المالية للمشرع ويكون هو المساهم الوحيد فيها . كما قضى علاوة على ذلك بأن المدير لا يمكن أن يدفع الجريمة عنه بادعاء أن الشركة مملوكة للأفراد عائلة .
هذه التطبيقات تدفعنا إلى الانتقال للنقطة التالية للبحث عن المعيار وكيفية تحديد العمل المضاد لمصلحة الشركة.

الفرع الثانى :تقدير العمل المضاد لمصلحة الشركة

منذ إدخال التجريم الخاص بإساءة أموال أو ائتمان الشركات فإن تقدير العمل المضاد لمصلحة الشركة قد واجهته ثلاث صعوبات أولها تحديد المعيار الذى على أساسه يتم تحديد الأفعال المناهضة أو الضارة بمصلحة الشركة، ولقد ذهب الفقه وبعض أحكام القضاء إلى تبنى معيار "خطر الخسارة" Risque de perte بحيث يكون عملا مضادا لمصلحة الشركة العمل الذى يعرض ذمة الشركة إلى خطر لم يكن ليجب أن تتعرض إليه Risque auquel il ne devrait pas être exposé. غير أن هذا المعيار له الكثير من المثالب التى توجب علينا بيانها.

وثالث المشكلات كانت تحديد السلطة المختصة بتقدير العمل المضاد لمصلحة الشركة. هل هو القاضى باعتباره المدافع عن النظام الاجتماعى وممثل السلطة العامة ؟ أم هى الجمعية العمومية للمساهمين باعتبارها الجهاز الرئيسى والأعلى داخل الشركة ؟ ،والتى وإن كانت لا تمثل السلطة العامة إلا أنها تتلقى بموجب القانون اختصاصا سياديا علي مقدرات الشركة وشئونها. ولكن قبل الإجابة على هذا التساؤل يتعين علينا أن نشير إلى المشكلة الثانية وهى ابراز الجدل الذي يثور حاليا بين الفقه وبين درجات المحاكم المختلفة حول مدى اعتبار العمل غير المشروع الصادر عن المدير - كجريمة الرشوة مثلا - عملا مضادا لمصلحة الشركة.

أولا: معيار العمل المضاد لمصلحة الشركة

إذا كانت فكرة مصلحة الشركة تمثل إطار العمل والسلوك الذى يجب على القائمين على الإدارة احترامه التزاما بمصلحة عليا تعلو على مصلحتهم الشخصية ورغبة فى ضمان حسن سير وأداء الشركة تحقيقا ولاستمرارية رخائها - كل ذلك فى إطار النظام الأساسى لها - إلا أننا رغم ذلك لا نجد فى كثير من الأحيان وسيلة أو ضابط يمكننا من تحديد ما إذا كان العمل الصادر يمثل تعارض مع هذه المصلحة العليا أم لا. غير أن تفحص أحكام القضاء تكشف عن أن هذا الأخير قد اتبع أحد معيارين لبيان تعارض استعمال أموال وائتمان الشركة فى بعض الحالات مع مصلحة هذه الأخيرة : إما غياب المقابل أو العوض Absence de contrepartie وإما الخطر الذى تواجه أو تتحمله الشركة Risque social على أثر العمل الصادر من القائم على الإدارة. وأيا ما كان قبولنا أو رفضنا لأحد هذين المعيارين أو لكلتهما فإن بعض الحدود يتعين الإشارة إليها عند تحليل أو تقدير العمل المضاد المرتكب من قبل القائم على الإدارة.

1- معيار غياب العوض أو المقابل

يتجه بعض الفقه إلى اعتبار العمل مضاداً لمصلحة الشركة Acte antisocial متى كان لا يقابله عوضا حقيقيا للشركة بل يمثل إهدارا للذمة المالية لها دون مقابل. بمعنى أخر يجب اعتباره استعمالا تعسفيا لأموال أو ائتمان الشركة كل تعاقد أو اتفاق يجرى بإسم الشركة وفى مقابلة لم تحصل الشركة على أى ميزة حاله وجادة. ويمثل لذلك بالسلف الممنوحة فى صفقة تجارية لم تساهم فيها الشركة أو بالضمان الممنوح دون عمولة. مثل هذه الأفعال تمثل فى نظر القانون الجنائى أفعالا مريبة يتعين وضعها تحت طائلة العقاب إذ لا تعرف حياة الأعمال المجانية فى العمل والتى لا يتأتى من ورآها عائد ما. مثل تلك الأعمال تمثل خروجا على هدف عقد الشركة ذاته والذى هو الحصول على الربح وتحقيقه مما يوقعها تحت وصف إساءة أموال وائتمان الشركات بموجب المواد 425/4 و 437/3 من قانون الشركات. لذا فقد قضى برفض الطعن المقدم ضد حكم البراءة متى تبين للمحكمة أن الصفقة كان يوجد فيها مقابلا اقتصاديا وتجاريا . ويبين من ذلك بمفهوم المخالفة أن حكم البراءة كان سينقض إذا ما ثبت غياب هذا المقابل.

ويرتفع وجه التعارض والريبة - فى رأى البعض - إذا ما ثبت أن للشركة مصلحة فى هذا العمل حتى لو كانت مصلحة احتمالية Aléatoire.

غير أن هذا الوجهة من النظر يتعين رفضها إذ أن واقع الحياة التجارية يشير أحيانا إلى أن عملا ما لا يمثل أى ميزة للشركة ولكنة ضرورى دون أن يضر بمصلحة الشركة ذاتها. فأحيانا تلجأ سلطة الإدارة إلى القيام بعمل كسلفه أو قرض أو ضمان صفقة معينة دون أى مقابل إذ يعلم المدير أنه فى المستقبل سوف يحصل على تسهيلات ومزايا من الشركة الموجه لصالحها العمل، وهذا يحدث غالبا بين الشركات التى تربطها سياسة تجارية واقتصادية واحدة فى إطار ما يسمى بمجموعات الشركات. فوجود هذه الوحدة توجب عملا إعطاء تسهيلات مالية متبادلة وحتى لو لم توجد مصلحة حالة أو محتملة إذ هذه الرابطة العضوية ووحدة المصير المشترك بين الشركتين توجب العون والمساعدة حتى دون مقابل واضح . وهذا ما حدا البعض إلى القول بأنه لا يتعين اعتبار عملا مضادا لمصلحة الشركة كل عمل أبيض Acte blancولكن فقط العمل الذى يعرض مصلحة الشركة لخطر الخسارة.
2- معيار خطر الخسارة

وفقا لهذا المعيار فإنه يعتبر عملا مضادا لمصلحة الشركة العمل الذى تنشأ عنه سارة للشركة أو تخش معه تحقيق هذه الخسارة دون وجود أى فرصة للمكسب. وأبسط الأمثلة على ذلك عمل المدير الذى يصدر شيكات مسحوبة على خزانة الشركة وفاء لديونه الشخصية. وعلى هذا يجمع الفقه على أنه يكفى لاعتبار العمل مضادا لمصلحة الشركة "أن يتضمن هذا العمل إما مخاطر الخسارة - أيا ما كان حجم هذه المخاطر طالما أنها مخاطر ما كان ليجب أن تتعرض لها الشركة - وإما ضياع فرصة الربح على الشركة" . وجملة القول هو العمل الذى يتأكد إضراره بالشركة أو على الأقل يسجل خطرا لا يؤمل أن يتأتى من وراءه أى فرصة للربح.
Un acte à coup sûr préjudiciable aux intérêts sociaux ou qui fait courir à la société un risque non susceptible d’être compensé par une chance de gain

وبالطبع ليس المقصود هنا هو الخطر المستحدث Risque crée الذى يفهمه البعض فى مجال المسئولية المدنية الذى يتأسس عليه تعويض الضرر فى مجال النشطة الخطرة. وليس المقصود هنا أيضا الوصول إلى إدانة شخص بشكل مسبق على أساس احتمالية حدوث ضرر أو نشوء ضرر احتمالى. ففى الواقع إن الخطر فى مجال إساءة أموال وائتمان الشركات يتعين تقديره بعيدا عن كل ضرر متحقق. فالصفقة أو العملية حتى وإن ثبت أنها تمت دون أدنى ضرر بالشركة فإن الجريمة يمكن أن تكتمل أركانها دون ضرورة انتظار نتيجة الصفقة التى تم عقدها المدير متى تبين أن هذا الأخير قد عرض الشركة دون سبب إلى خطر ما كان يجب أن تتعرض له .

ولا يهم ما إذا كان هذا الخطر - الذى هو خطر الخسارة دائما - بسيطا أو ضئيلا، إذ أن هذا الخطر وحده كفيل - كما يقول البعض - بإحداث اضطراب فى مسار الشركة وحركتها التجارية مما يعرض الشركة إلى نقص أرباحها ويؤثر على حصيلة خزانتها المالية بشكل أو بأخر .

غير انه لما كان خطر الخسارة أمر ملاصق بشكل شبة يومى لحياة الشركة وأن كل قرار تتخذه الإدارة يحمل فى طياته خطر الخسارة فإن هذا المعيار يمثل فكرة واسعة وغير منضبطة وقد يمثل أداة للضغط والابتزاز على القائمين على الإدارة بمنعهم من التصرف، مما حدا بالبعض إلى القول بأنه يجب تبنى تعريف ضيق لفكرة الخطر بموجبه يكون العمل المضاد ولمصلحة الشركة هو العمل الذى يعرض الشركة, دون ضرورة ملجئه, إلى مخاطر شاذة واستثنائية L’acte qui expose la société, sans nécessité pour elle, à des risques anormaux et exceptionnels. فتضاد العمل مع مصلحة الشركة لا يبنى على مجرد وجود الخطر ولكن على عدم تناسب هذا الخطر وعدم فائدته مع المزايا التى يرجى تحقيقها. فحياة الإدارة فى مجال التجارة لم تكن يوما ما دون خطر نظرا لروح المغامرة التى تسودها.

وتكشف أحكام القضاء عن تبنى معيار الخطر مما حدا بالبعض إلى القول بأن القضاء قد جعل من هذه الجريمة جريمة خطر Délit de risque. وان القضاء بلجوئه لهذه الفكرة يكون قد خلق نوعا من تشديد العقاب إذا ما قورنت إساءة الأموال بجريمة خيانة الأمانة التى تستوجب لقيامها إثبات الضرر . ولقد تبنى القضاء صيغة متشددة بقوله ‘‘الخطر الذى ما كان ليجب أن تتعرض له الشركة‘‘. ففى دعوى ثبت فيها أن المدير قد أصدر لصالح دائنيه كمبيالتين بمبلغ يقل عن رصيده بحسابه الجارى فى الشركة أكدت المحكمة أن الجريمة لا تتطلب حدوث ضرر فعلى للشركة بل إن الجريمة توجد مكتملة الأركان إذا ما ثبت أن الشركة تعرضت لخطر ما كان يجب أن تتعرض له . ولقد ردت محكمة النقض ذات الصيغة فى حكم أخر حينما قالت "يرتكب جريمة إساءة أموال الشركات مدير شركة المساهمة والذى هو أيضا مديرا لشركة ذات مسئولية محدودة الذى مزج بين ذمتهما المالية مستخدما حسب الضرورات أموال كل منهم لمصلحة الأخرى مما عرض ذمتهما المالية, بإرادته الآثمة, لخطر ما كان ليجب أن تتعرضا إليه" .

وفى حكم صادر فى 16 يناير 1989 أخذت محكمة النقض بفكرة الخطر الشاذ Risque anormal ناقضا حكم محكمة الاستئناف الذى اكتفى بالقول بأن عمل أعضاء حكومة المديرين فى شركة المساهمة التى تخضع لهذا النظام الذى يتمثل فى قبول القيام ببعض أعمال المقاولة من الباطن يعرض هذه الشركة للخطر وأن هذا الخطر لصيق بهذه الصفقة. فلقد قالت محكمة النقض بأنه كان يتعين على محكمة الاستئناف أن تبحث ما إذا كان هذا العمل وقت إبرام العقد يمثل للشركة خطرا شاذا أم لا .

وفى حكم Carignon الشهير فى 27 أكتوبر 1997 - والذى سنعرض له فيما بعد -أشارت محكمة النقض إلى أن تعريض الشركة لخطر الجزاء الجنائى أو الضريبى يمثل خطراً شاذاً ويمثل بالتالى عملاً مضاداً لمصلحة الشركة .

غير أن هذا المعيار يظهر أمران: الأول أنه لا يترك للقائمين على عمل الإدارة الحرية ولا ينمى روح المغامرة لديهم. فمن المنطقى أن كل عمل يستهدف الربح وإن اتخذ بكل قصد شريف يحمل فى طياته وفى حد ذاته خطرا. هذا عالما بالمستقبليات فطنا إبعاد خطر الخسارة عن أعمالة فى إدارة الشركة . فالمدير العادى - اللهم إلا إذا كان عالما بالمستقبليات Futurologue – لا يمكن أن يتأكد يقينا من صحة ونتائج أفعالة وقراراته، فقد تأتى الحوادث مخيبة لكل توقعاته وآماله. والقائمين على الإدارة وضعوا فى هذا المكان كى يتصرفوا لا أن يحجموا عن العمل خشية الخسارة وخشية الجزاء الجنائى فيما بعد ولا يمكن أن يكون هدف المشرع هو ذلك .
وينتقد هذا المعيار أيضا على أساس أنه يؤدى إلى عقاب المدير "سيئ الحظ" Malchanceuxوالذى لم ينجح فى صفقة ما. مما يجعل هذه الجريمة تمثل عقابا على "الغلط فى الإدارة" Erreur de gestion الأمر الذى لا يجرمه المشرع. فكما يقول الأستاذ Pinoteau "إن هذا المعيار يقدر العمل المضاد ليس وفقا لأثاره المتوقعة وقت اتخاذ العمل إنما بناء على أثاره التى تخلفت عنة" Juger d’un acte non pas par la manière dont ses effets pouvaient être envisagés, au moment où il fût accompli, mais par les résultats qui en ont découlé. فالصفقة التجارية لا يجب أن توصف بأنها عمل مضاد أو استعمال تعسفى لأموال الشركة بناء على مجرد عدم نجاحها أو أن التوقعات المرسومة قد كذبتها النتائج النهائية . هذه الطريقة فى تقدير العمل المضاد لمصلحة الشركة يجرنا إلى اعتبار "النجاح هو معيار مشروعية العمل"La réussite est le critère de la légitimité de l’action. هذا المعيار أو المفهوم الذى قال به لنيين فى مجال السياسة لا يمكن قبوله فى مجال الأعمال وحياة التجارة . فعقاب الخطر يبدو عاملا من عوامل عدم الاستقرار لمتخذى القرار داخل الشخص المعنوى مما قد يؤدى إلى النيل من حركة النمو والتطور التى تسود حياة الشركات.

3- حدود تقدير العمل المضاد لمصلحة الشركة

أيا ما كان المعيار الذى تبناه الفقه والقضاء لتقدير العمل المضاد لمصلحة الشركة, فإن على القضاء أن يأخذ ببعض الاحتياطات لضمان سلامة التحليل المنصب على العمل الصادر من القائم على الإدارة.

فمن ناحية، يتعين فحص العمل الصادر من المدير - من حيث تعارضه أو عدم تعارضه مع مصلحة الشركة - وذلك فى خلال الفترة الزمنية التى صدر فيها العمل أو إبرام الصفقة المطعون عليها C’est au jour de l’opération incriminée qu’il convient de se placer pour apprécier la situation لرؤية ما إذا كان يخشى أن ينتج عن هذا العمل نتائج ضاره بالشركة. وهذا الاتجاه يتفق مع تحليل البعض الذى يرى أن المشرع فى النصوص الخاصة بإساءة أموال وائتمان الشركات قد تطلب العلم من قبل المدير بتعارض العمل مع مصلحة الشركة. وعندئذ فإن الجريمة يجب لتحققها أن يكون القائم على الإدارة على دراية وعلم تام بأنه يتصرف بشكل يتعارض مع مصالح الشركة وهذا يجب تحليله وتقديره موضوعيا حال اتخاذ التصرف.

وعلى هذا فإن لتقدير العمل فإنه يجب التعرف على الهدف والغاية التى ابتغاها المدير أهى مصلحته الشخصية أم مصلحة الشركة ذاتها مع مراعاة الظروف المحيطة باتخاذ هذا العمل حال صدوره، فكما يقولون يجب أن نراعى اللحظة التى أتخذ فيها التصرف لا اللحظة التى أنتج فيها إثارة Il faut se placer au moment où l’acte a été accompli et non à celui où il a produit ses effets، الأمر الذى يتوافق مع مبادئ القانون الجنائى التى توجب فحص المسئولية الجنائية حال ارتكاب الفعل لتقرير العقاب من عدمه. وعلى هذا تواترت أحكام محكمة النقض الفرنسية قائلة ‘‘إنها لحظة ارتكاب الفعل محل النقد تلك وليس بعد ذلك التى يتعين أخذها فى الاعتبار لتحديد توافق الفعل من عدمه مع مصلحة الشركة، فلا يجب مراعاة الظروف التى طرأت وخيبت أمال المدير وتوقعاته ‘‘.

ففى حكم صادر فى 15 أكتوبر 1990 قضت محكمة النقض بنقض حكم محكمة الاستئناف ‘‘حيث أنه يظهر من الحكم محل الطعن أن المدعوين المتهمين عن إساءة أموال الشركة بوصفهم مديرين لشركة ذات مسئولية محدودة تسمى Schroeder والتى تمتلك عددا من المحلات الكبرى لبيع السلع والمنتجات المختلفة, وأن هذه الشركة قد استثمرت أسهم إحدى الشركات المساهمة تدعى Schmitt بمبلغ 1.198.313 فرنك وأنها منحت ذات الشركة مبلغا على سبيل القرض هو 1.166.440 فرنك مما أدى إلى افتقار خزانتها وذمتها المالية وأن الشركة لجأت إلى هذا الأمر لعدم قدرتها على الاستثمار الشخصى كل ذلك وفق قول محكمة الاستئناف يؤكد أركان جريمة إساءة أموال وائتمان الشكات. غير أن محكمة الاستئناف قد قصرت فى فحص ما إذا كان فى وقت ارتكاب هذه الأفعال للمتهمين مصالح شخصية مباشرة أو غير مباشرة فى الشركة الأخرى التى حصلت على القرض مما يتعين نقض الحكم‘‘ .

وفى دعوى أخرى وجه إلى مديرى الشركة أنهم قد اشتروا باسم الشركة أسهم شركة أخرى ولكن بمبلغ مغالى فيه وأنهم أبرموا عقود إيجار وبيع محل تجارى بشروط مجحفة Désavantageuses. ولكن محكمة النقض رفضت الطعن المقدم على حكم البراءة الصادر من محكمة الاستئناف حيث قالت "أنه لما كانت محكمة الاستئناف - لتقرير براءة المتهمون - قررت أن هؤلاء قد توجهوا إلى أحد بيوت الخبرة لتقدير قيمة أسهم الشركة محل الشراء المسماة SFMO ولتحديد المبلغ المقابل للإيجار وأنه يوجد المقابل الاقتصادى والتجارى وأنه لم يثبت أن فى ‘‘وقت إجراء الاتفاقات‘‘ حول الصفقة كان يوجد ما يثير الشك حول وجود غش أو أن المتهمون قد تصرفوا بسوء نية Au jour de l’opération, rien ne permettait de penser à une fraude.
فإن الصفقة فى مجملها لا تتعارض مع مصلحة الشركة التى يديرونها رغم أنه ثبت أن تلك الصفقة أدت بالشركة إلى صعوبات مالية وخسائر فى حركتها التجارية .

من ناحية أخرى، فإنه يجب مراعاة السياق الاقتصادى والتجارى للصفقة Le contexte économique et commercial de l’opération، بمعنى أن نوازن بين المخاطر التى يمكن أن تجرها الصفقة على الشركة وبين المزايا المحتملة .

بالطبع إن اتجاه القضاء فى تقدير العمل المضاد لمصلحة الشركة على أساس معيار الخطر "الخطر الذى ما كان للشركة أن تتحمله مقدرا فى لحظة اتخاذ القرار بالصفقة وإبرامها لا لحظة إنتاجها لأثارها" قد يتناسب مع القواعد العامة للقانون الجنائى، ولكن يظل السؤال مطروحا أليس من المناسب - كما يقول البعض - من وجهة نظر القانون الجنائى لأعمال تقدير العمل والصفقة وفق سياقها التى سارت عليه وبالحال الذى انتهت إليه. أليس فى ذلك قدر من العدالة أيضا .

فى الواقع إن هذا الاضطراب لا يثير دهشتنا باعتبار أن فكرة العمل المضاد لمصلحة الشركة فكرة نسبية مما يتعذر معه تحليل هذا العمل بشكل منضبط وحاسم. فالعمل المضاد لمصلحة شركة قد يكون متوافقا مع مصلحة شركة أخرى ترتبط مع هذه الشركة فى إطار مجموعة شركات تربطها مصالح تجارية واقتصادية عليا فيما يعرف بإسم مصلحة المجموعة L’intérêt du groupe. وأن صفقة ما قد يبدو أنها مكونة لإساءة الأموال بينما يمكن أن يوجد مقابل خفى وغير مرئى Contrepartie invisible ولكنه حقيقى Réelle وبالتالى تصبح الصفقة مفيدة للشركة. ويبدو ذلك واضحا فى مجال الائتمان حيث تظهر أثار التضحية المالية الممنوحة من شركة إلى شركة أخرى أثارها بعد ذلك حينما تقع الشركة المانحة فى ذات المأزق المالى.

هذه النسبية دفعت أحد القضاة إلى القول بأن الفائدة القانونية الوحيدة لفكرة مصلحة الشركة هى أنها تمكن من استبعاد "الأفعال العمدية الضارة بالشركة" Les actes délibérément nocifs à la société ولكنها لا تسمح بتقدير أثر هذه الأفعال وقيمتها بالنسبة للشركة . بمعنى أخر فإن فكرة مصلحة الشركة تسمح فقط بتقدير سلامة العمل Validité ولكنها لا تسمح بتقدير فاعليته Efficacité، حيث يتوقف ذلك على عدد من الظروف السياسية والاقتصادية والتى قد يكون بعضها وطنى وبعضها قد يكون دولى حسب حجم نشاط الشركة.

ثانيا: عدم مشروعية العمل وتعارضه مع مصلحة الشركة L’illicéité de l’acte et la contrariété de l’acte à l’intérêt social

تتعدد التطبيقات القضائية لفكرة العمل المضاد لمصلحة الشركة وتدور أكثر هذه التطبيقات حول الأفعال التى تؤدى إلى إفقار الذمة المالية للشركة دون وجود مقابل حقيقى ويبدأ ذلك من أول المكافآت والمرتبات المتجاوزة التى لا يقابلها عمل جاد أو الممنوحة بقرار فردى مرورا بالمزج بين الذمم المالية سواء الذمة المالية للقائم على الإدارة والذمة المالية للشركة وسواء الذمة المالية لعدد من الشركات التى تجرى إدارتها بواسطة ذات القائم على الإدارة. ويمثل لذلك أيضا برحلات الأعمال الوهمية والغرامات الشخصية مدفوعة بواسطة الشركة واستخدام موظفو ومهمات الشركة لأغراض شخصية أو إجراء صفقات بأسعار بخسة وبشروط مجحفة أو تسليم بضائع دون قبض الثمن أو إجراء مقصات وهمية Pseudo compensation لديون مستحقة للشركة أو إجراء بيوع بخسارة Vente à perte إلى أخر هذه النماذج التى نحيل القارئ الكريم إلى رسالتنا لمراجعتها والتعرف على الأحكام الصادرة فيها .

غير أن أهم التطبيقات التى أثارت جدلا خصبا فقها وقضاء هى تلك التى تدور حول مدى اعتبار العمل غير المشروع - كأن يدفع صاحب الشركة ومديرها رشوة مثلا لإرساء عطاء أو صفقة - عملا مضادا بذاته وبالضرورة لمصلحة الشركة مستوجبا توجيه الاتهام عن إساءة أموال أو ائتمان الشركات.

يبدو لنا من مطالعة أحكام القضاء والمتعلقة بقضايا شهيرة تنوع الحلول حول هذه النقطة، حتى أن أحد الفقهاء أكد بأن موقف محكمة النقض الفرنسية فى هذا الصدد متغير حسب تشكيل المحكمة ذاتها ويشبه التردد أمام هذه المشكلة رقصة الفالس Valse. ويبرر التردد فى الإجابة على هذا السؤال الخلط الدائم بين متطلبات حياة الأعمال وأسلوب حركتها وبين القواعد والقوالب القانونية السارية التى تشير بإصبع الاتهام إلى كل سلوك أو تصرف غير مشروع Pratique illicite.

إن أول الأحكام التى أثارت هذا التساؤل كان الحكم الصادر فى قضية Carpaye فى 22 أبريل 1992 والتى اتخذت فيها محكمة النقض موقفا حازما يهدف إلى تنقية حياة الأعمال متشبثة فى هذا الصدد باتجاه أخلاقى بحت Tendance moralisatrice. فى هذه الدعوى قام مديرين من مديرى شركة Carpaye - وهى شركة ذات مسئولية محدودة - بمحاولة رشوة عمدة مدينة Salazie- إحدى مقاطعات جزيرة Réunion الفرنسية - بهدف الحصول على صفقة تتعلق بالنقل المدرسى لمصلحة الشركة. وقام المديرون بدفع 200.000 فرنك من أموال الشركة فى سبيل ذلك. أدانت محكمة الاستئناف المتهمين عن إساءة أموال الشركة على أساس أن "ارتكاب الجرائم هدف لا يمكن أن يتوائم مع مصلحة الشركة محل الدعوى". وفى طعنهم على الحكم أمام محكمة النقض دفع المتهمون بأن محكمة الاستئناف لم تحدد المصلحة الخارجة عن مصلحة الشركة التى جرى سحب الأموال من أجاها سواء كانت مصلحة شخصية أو مصلحة شركة أخرى. إن سحب الأموال كان بهدف تحقيق مصلحة الشركة ألا وهو حصولها على صفقة ما، وأن من المتعارف علية فى حياة الأعمال هو ‘‘دفع العمولات المشبوهة بهدف الحصول على صفقة جديدة قد تكون حيوية وهامة للشركة ذاتها ولمصيرها فى السوق‘‘. غير أن محكمة النقض رفضت هذه الدفوع مؤكدا فى حزم " أن استعمال الأموال يكون بالضرورة تعسفيا إذا ما تم لهدف غير مشروع"
L’usage des biens de la société est nécessairement abusif lorsqu’il est fait dans un but illicite.

ولقد قيل أن هذا الحكم يخلق شكلا من عدم الاستقرار القضائى Insécurité judicaire بالنسبة لرجال الأعمال والقائمين على إدارة الشركات. بل ويقول أحد الفقهاء بأن هذا الحكم من الناحية العملية غير مبرر بل أنه فاضح Scandaleuse، حيث يتضح من هذا الحكم أن القضاء يستخدم إساءة أموال وائتمان الشركات لعقاب أفعال تدخل تحت أوصاف قانونية أخرى ولكن لم يتيسر توجيه الاتهام عنها لأسباب وظروف بعضها قانونى وبعضها من الواقع . لذلك يصف البعض هذه الجريمة بأنها "العربة الجنائية" Véhicule pénal أو أنها "عربة القمامة" Voiture-balai بالنسبة لقانون جنائى الأعمال وقانون جنائى الشركات، وهى بالنسبة لهذين القانونين شأنهما شأن المادة 1382 من القانون المدنى : بمعنى يلجأ إليها لتأسيس المسئولية عندما لا نجد أساسا أخر يلجأ إليه. إن هذه الجريمة صارت بحق أداة للسياسة الجنائية تستعملها كحيلة تمكن سلطة الاتهام من الوصول إلى الإدانة إذا لم يوجد بالملف شيئا أخر خاصة إذا تعذر إثبات وقائع الرشوة .

ومن أجل تبرير هذا القضاء قال بعض الفقه أن جريمة إساءة الأموال هى جريمة تخص الأشخاص المعنوية وبأن المساواة بين العمل التعسفى والعمل غير المشروع قائم على الأخذ بمفهوم ضيق للشخصية المعنوية يؤسس على نظرية عمل الحكومة Acte de gouvernement ومؤداها أن الشخصية المعنوية هو عمل يصدر من قبل الدولة وأن كل من يمنح هذه الشخصية - ومنها الشركات - تكتسب من الصفات ما هو ملازم للدولة ذاتها، ومن ذلك عدم إمكانية القيام بالأفعال المحظورة قانونا. فكما أن الدولة لا يمكن أن تفعل شرا فالشركة أيضا عملا بالقول القديم "أن الملك لا يرتكب شرا" Le roi ne peut mal faire وأن الجماعات التى تشكل شخصيتها تخضع لذات المبدأ.

هذا التبرير الوحيد لقضاء Carpaye محل نقد كبير. يكفى القول بأنه منذ بدأ سريان قانون العقوبات الفرنسى الجديد فى الأول من مارس 1994 ومع قبول مبدأ المسئولية الجنائية للأشخاص المعنوية لم تعد هذه الحجة محل قبول. فمنذ هذا التاريخ أصبح من الممكن أن تسأل جنائيا كل الأشخاص المعنوية العامة والخاصة فيما عدا الدولة.

كما يمكن أيضا انتقاد هذا القضاء لعدة أسباب . فمن ناحية يبدو أن النصوص قد فسرت بشكل واسع حيث لم يكن للمصلحة الشخصية وجود فى الدعوى بينما كانت المصلحة العامة للشركة هى الغرض من ارتكاب الجريمة، والمصلحة الشخصية ركن فى الجريمة يتعين إثباته من قبل الاتهام. بالإضافة إلى أن هذا القضـاء يخلط بين فكرتى محل أو غرض الشركة وفكرة مصلحة الشركة. فإذا كان ارتكاب جريمة يمثل عملا مخالفا ومتعارضا مع هدف الشركة وغرضها لكنه ليس بالضرورة مخالفا ومتعارضا مع مصلحة الشركة خاصة وأننا إذا طبقنا منطق هذا القضاء حتى النهاية فإن ارتكاب أى شكل من الجرائم كبر أو صغر بل والذى قد يمثل مخالفة تأديبية أو مدنية سيكون عملا خارجا عن هدف الشركة وبالتالى مسببا لجريمة إساءة الأموال.

يضاف إلى كل ذلك أن هذا القضاء يتجاهل حقائق حياة الأعمال والتى قد يمثل دفع العمولة غير المشروعة أو المشبوهة أمرا حيويا بالنسبة لمصلحة الشركة. ويكفى أن مصلحة الضرائب الفرنسية لم تكن تعتبر دفع مثل هذه العمولات عملا من أعمال الإدارة الشاذة Acte anormal de la gestion الذى يعرف بأنه العمل الذى يتم ارتكابه لتحقيق مصلحة أخرى مغايرة لمصلحة المشروع التجارى أو يحقق لهذا الأخير مصلحة ضعيفة أقل مما كان ينبغى جنيه من العمل. وبالتالى فالعمل غير المشروع لم يكن بالضرورة عملا من أعمال الإدارة الشاذة. ولما كان مفهوم هذا الأخير فى المجال الضريبى هو المعادل لفكرة العمل المضاد لمصلحة الشركة فى مجال الشركات فإنه يتعين الوصول لذات النتيجة وهو أن العمل الغير مشروع ليس بالضرورة عملا مضادا لمصلحة الشركة. ويجرى عمل مصلحة الضرائب على أنه إذا استوجب الحصول على صفقة دفع عمولة معينة ذات طبيعة غير مشروعة فإن مبلغها يتم استنزاله من وعاء الضريبة باعتبارها أموال دفعت لمصلحة المشروع .

وإذا كان مجلس الدولة الفرنسى كان فى فترة سابقة يعتبر العمل غير المشروع بالضرورة عملا شاذا من أعمال الإدارة باعتباره يعرض المشروع للخسارة أو لإنفاق زائد ويحرم المشروع من حصيلة أموال كانت فى ذمته المالية إلا أنه يتبين من ثلاث أحكام صادرة فى عام 1983 ما يغير هذا الموقف وإن اصطدام الأمر بأسس ومبادئ أخلاقية . فإذا كان يحكم المجال الضريبى فى هذا الشأن اتجاه أخلاقى سابق واتجاه واقعى حالى فإن هذا الأخير هو الذى ساد وصارت له الغلبة. ويتبين من مجمل هذه الأحكام الثلاث أن لاعتبار العمولة غير المشروعة عملا غير شاذ من أعمال الإدارة - وبالتالى تستنزل من وعاء الضريبة - يتعين توافر عدة شروط منها إثبات أن هناك صفقة معينة جرى دفع العمولة بشأنها وتناسب العمولة مع الصفقة محل التعاقد وتوافر أدلة ثبوت كعقود مكتوبة أو أذونات تحويل مصرفية. وقد يبرر هذا الاتجاه من قبل مجلس الدولة ومصلحة الضرائب ما تتعارف عليه الحكومة الفرنسية ذاتها فى تعاملها مع بعض دول أفريقيا ودول شرق أسيا وبلاد الخليج من دفع العمولات الخفية Commissions occultes لتمرير الصفقات .

بالطبع إن دفع رشوة معينة باستخدام أموال الشركة ليس عملا أخلاقيا ولا يمكن التساهل نحوه باعتبار ذلك قد يمثل هدما بطيئا لاقتصاد الدولة ذاتها لما فيه من مساس بأسس التنافس التجارى وباعتبار أنه لا يمكن أن تكون هناك جرائم سيئة يتعين تتبعها وجرائم حسنة يتعين التسامح فيها طالما فيها إفادة للمشروع التجارى. ولكن فى ذات الوقت لا يمكن التضحية بمبدأ الشرعية الجنائية حيث يستوجب هذا المبدأ الالتزام بصريح النص ومستوجباته فمثلا لا يمكن القول بأن القائمين على الإدارة حال دفعهم لعمولة على سبيل الرشوة للحصول على صفقة لصالح المشروع أنهم قد قاموا بعمل مضاد لمصلحة الشركة بل فى رأينا أن ذلك هو عين مصلحة الشركة مما يتعذر معه اكتمال أركان الجريمة عملا بمبدأ التفسير الضيق للنصوص الجنائية واحتراما لمبدأ الشرعية الحصن الحصين للقانون الجنائى وحامى حمى الحريات المدنية. ففى رأينا كان يجب فى هذه الدعوى أن نتبع التكييف السليم على الوقائع - وليكن بوصف الرشوة - ولا يجب أن تقف الصعوبات القانونية والواقعية التى حالت دون توجيه الاتهام بهذا التكيف باعثا على استخدام سلاح أخر المتمثل فى جريمة إساءة أموال الشركات إذ لا يجب أن تختلط الغايات بالوسائل.

على أثر الانتقادات التى قيلت بشأن حكم Carpaye والخوف الذى أصاب رجال الأعمال عقب صدوره أصدرت الغرفة الجنائية لمحكمة النقض حكما فى 11 يناير 1996 فى قضية Rosemain خففت فيه من غلواء قضائها السابق. وتتحصل وقائع الدعوى فى أن مدير أحد الفنادق التابع لشركة Berdal السياحية كان قد كون "حسابا سريا" Caisse noire يتم تغذيته خفية من مدفوعات تضاف على فواتير البار والمطعم الملحق بالفندق. ومن جملة 1.2 مليون فرنك تم جمعها تم تخصيص الربع لدفع مرتبات وحوافز عمال جرى استخدامها دون إخطار الجهات المختصة بوزارة العمل ولم يعلم باقى المبلغ – ثلاثة أرباع - أين يذهب. قضت محكمة الاستئناف بإدانة المدير عن إساءة أموال الشركات. وبالطعن على الحكم قضت محكمة النقض بتأييد الحكم على أساس "أن الأموال المسحوبة بطريقة خفيه بواسطة أحد المديرين يكون بالضرورة جرى استعمالها لهدف شخصى مما يكون جريمة إساءة أموال وائتمان الشركات"
Les fonds sociaux, prélevés de manière occulte par un dirigeant l’ont nécessairement été dans son intérêt personnel.

ويمثل هذا الحكم تخفيفا من القضاء السابق على أساس أن المحكمة لم تشر إلى المبلغ الذى يمثل ربع الحصيلة والذى استخدم فى تعين عمال بشكل غير مشروع. فما أدانته المحكمة هو المبلغ الذى يمثل 3/4 المبلغ والذى جرى استخدامه فى أمور خفية لم يعلن عنها. والنتيجة أن المحكمة لم ترى فى الفعل المفيد لمشروع المتمثل فى استخدام عمال دون إخطار الجهات المختصة و تخصيصا أموال لدفع رواتب لهم عملا يستوجب الإدانة عن إساءة الأموال. وهذا قضاء ضمنى بأن ليس كل عمل غير مشروع يمثل عملا مضادا لمصلحة الشركة. هذا التحليل هو ما أكده رئيس الدائرة الجنائية بمحكمة النقض بعد صدور هذا الحكم بوقت قليل حيث قال بأن قضاء الدائرة فى عام 1992 الخاص بحكم Carpaye يجب نسيانه وأن عقيدة محكمة النقض لا يمثلها إلا هذا الحكم الجديد الخاص بقضية Rosemain.

وهذا ما أكدته المحكمة فى حكم أخر صادر فى 20 يونيه 1996 حيث قام المدير الفعلى والمدير القانونى بخصم 10% من الحصيلة اليومية للشركة. نسبة معينة من هذه الحصيلة كانت تستخدم فى تغطية قيمة قرض كان قد عقده مدير الشركة ذاته لصالحه أما الجزء الباقى فلم يظهر فى أى الأغراض كان يستخدم. وقد أيدت محكمة النقض الإدانة بناء على قضائها السابق حيث أكدت أن ما ينفق من أموال بشكل خفى دون أن يعلم وجه الإنفاق يفترض أنه استخدم فى غرض شخصى مضاد لمصلحة الشركة ما لم يقم المدير بإثبات عكس ذلك. ويفهم من هذا الحكم أن المحكمة قد فتحت الباب للمدير بأن يثبت أن الأموال التى أنفقت ولو على أمر غير مشروع كانت لتحقيق مصلحة الشركة مما ينفى جريمة إساءة أموال أو ائتمان الشركات .

هذا الاتجاه الضمنى وغير الصريح قد تأكد صراحا فى حكم أخر صادر عن محكمة النقض فى 7 فبراير 1997 أطلق عليه رجال الأعمال لفظ "المفاجأة الإلهية" Divine surprise. فى هذه القضية الشهيرة المسماة قضية Noir-Botton أدين رئيس مجلس إدارة شركة kis عن إساءة الأموال بدعوى أنه قد دفع مبلغ مالى قيمته 760.000 فرنك إلى المدعو Botton بحجة قيام هذا الأخير بعمل دراسات جدوى لصالح شركة الأول. غير أن الاتهام أثبت أن هذه الدراسات كانت وهمية وأن المبلغ المدفوع ما كان إلا رشوة لكى يتدخل السيد Botton لدى صهره السيد Noir الذى يعمل وزيرا للتجارة الخارجية, لكى يرفع عن الشركة مبالغ مستحقة للخزانة العامة كانت حصلت عليها الشركة كإعانة تقدر بمبلغ 15 مليون فرنك على أساس أنها لم تحترم شروط منح الإعانة وشروط التعاقد. قضت محكمة استئناف ليون Lyon بإدانة مدير الشركة عن إساءة الأموال بحجة أن الفوائد المصاحبة للدفع كانت وهمية وأن دفع هذه المبالغ كان مخالفا لمصلحة الشركة، إذ أن هذا الفعل أدى وبدون مقابل إلى افتقار خزانتها. وبالطعن على الحكم أشار الطاعن إلى أن الحكم لم يستظهر المصلحة الشخصية كركن فى الجريمة وأن الدفع كان يستهدف أولا وأخيرا مصلحة الشركة حتى وإن كان ذلك تم بوصف الرشوة رغبة فى الاستفادة من نفوذ أحد رجال السياسة والحكم فى الدولة. فعدم مشروعية العمل لا تنفى أنه كان يستهدف مصلحة الشركة.

ولقد قضت محكمة النقض بقبول هذا الطعن على أساس القصور فى التسبب حيث لم تمكن محكمة الاستئناف محكمة النقض من أعمال رقابتها لأنه وإن كان سلوك رئيس مجلس الإدارة لدى صهر وزير التجارة مشكلا لجريمة - لم يرفع عنها اتهام - إلا أنه لا يخفى ما كان قد حققه هذا المسلك من فائدة للشركة أدت إلى تخفيض المبلغ واجب الدفع بنسبة 10 مليون فرنك كنوع من الإعفاءات الضريبية مما يقطع بعدم إفقار خزانة الشركة ويقطع بأن مصلحتها تم مراعاتها تماما.
هذا الحكم يمثل خطوة على الطريق الصحيح الذى يحترم مبدأ الشرعية والتفسير الضيق للنصوص ويمثل رسالة ضمنية إلى سلطة الاتهام وقضاة الموضوع بوجوب مراعاة التكييف الصحيح وبوجوب بدء التحقيق عن وقائع الرشوة واستغلال النفوذ وليس عن إساءة الأموال. فمتطلبات العقاب والسياسة الجنائية يجب ألا تقود إلى تبنى تفسيرا موسعا لنصوص جريمة إساءة الأموال وإن تطلبت فى الحقيقة تعديل النصوص الخاصة بالرشوة واستغلال النفوذ التى لا تسمح شروطها وقيودها الإجرائية من توجيه الاتهام أو الإدانة فى مثل هذه الدعاوى. وبمعنى أخر فإن أصول السياسة الجنائية والعقابية تفرض أن يكون العقاب من خلال الأدوات الطبيعية وبالنصوص الحقيقية المخصصة لذلك Textes ad hoc وليس باستعمال أداة ملتوية أو نص مشوه Texte déformé. إن إساءة الأموال لا يجب أن يكون السلاح المطلق L’arme absolue أو الأداة العامة أو تكون الوسيلة المهداة لسلطة الاتهام لكى يلجأ إليها فى كل مرة يغلق فيها باب التحقيق عن وقائع معينة بحجة وجود صعوبات معينة تتعلق بالإثبات أو بتقادم الدعوى.

غير أن محكمة النقض, وبعد عدة أشهر من هذا الحكم الأخير, وكعادتها المتقلبة بشأن النقطة مثار البحث ورغبتها الدائمة فى التوسع فى تفسير النصوص الجنائية الخاصة بالشركات، قضت فى حكم لها فى 27 أكتوبر 1997 فى الدعوى الشهيرة المسماة قضية Carignon بأنه أيا ما كانت المصلحة المحققة للشركة أو التى يمكن أن تجنيها فى المدى القصير فإن استعمال أموال الشركة لهدف واحد وهو ارتكاب جريمة كالرشوة مثلا يعد عملا مخالفا لمصلحة الشركة حيث يعرض هذا الأمر الشخص معنوى إلى خطر شاذ وهو الجزاءات الجنائية والضريبية ضده وضد القائمين على إدارته ويمس بائتمانه وسمعته .
Quel que soit l’avantage à court terme qu’elle – la société – peut procurer, l’utilisation des fonds tel que la corruption est contraire à l’intérêt social en ce qu’elle expose la personne morale au risque anormal de sanctions pénales ou fiscales contre elle-même et ses dirigeants et porte atteinte à son crédit et à sa réputation.

فى هذه الدعوى رفضت المحكمة الطلب المقدم من السيد Alain Carignon الوزير للبيئة فى عام 1988 والاتصالات فى عام 1993 وعمدة مدينة جرونوبل Grenoble السابق ضد حكم محكمة استئناف Lyon والذى أدانه بخمس سنوات حبس إحداها مع إيقاف التنفيذ وغرامة 400.000 فرنك عن جريمة إخفاء إساءة أموال الشركات Recel d’abus de biens sociaux على أساس أن الاتهام قد أثبت فى حقه أنه قد غير إسناد صفقة خدمات المياه فى مدينة جرونوبل من شركة تتبع مجموعة شركات Lyonnaise des eaux إلى شركة تتبع مجموعة شركات Merlin فى مقابل عدد من المزايا من بينها شقة بأشهر أحياء باريس (سان جرمان Saint-Germain) ثمنها سبعة ملايين فرنك إلى جانب عدد من الرحلات البحرية ورحلات طيران يزيد ثمنها عن مليونين من الفرنكات.

غير أن أهم ما يظهر عن صيغة الحكم هو أن العمل غير المشروع لم يعد بالضرورة وفى حد ذاته Ipso facto عملا تعسفيا مضادا لمصلحة الشركة. فذلك أصبح يخضع لعدد من الظروف والوقائع تختلف من دعوى إلى أخرى وهذا يغاير بالتالى موقف المحكمة فى عام 1992 فى قضية Carpaye عندما اعتبرت العمل مضاد لمصلحة الشركة لمجرد كونه غير مشروع. فحكم Carignon يدعو قضاة الموضوع إلى فحص عدد من المعايير قبل القول بكون العمل غير المشروع مضادا لمصلحة الشركة أم لا. ومن ذلك أن ينظر للجريمة الأصلية ( رشوة – استغلال نفوذ الخ......) ما إذا كانت تعرض الشخص المعنوى إلى مخاطر شاذة لا تتناسب مع المصلحة التى يجنيها أم لا. مما يعنى أننا لا يجب أن نأخذ فى الاعتبار إلا المخاطر الشاذة ويمكن قبول المخاطر التى تتصف بأنها عادية Normaux. بالإضافة إلى ذلك فإن العمل يجب أن يعرض الشركة لجزاءات جنائية أو ضريبية مما يعنى استبعاد ما يقضى به فى حق الشركة من تعويضات أو القضاء ببطلان بعض التصرفات التى أجريت بإسم الشخص المعنوى. كذلك تستبعد الغرامات المدنية والإدارية.

وجملة القول, ولكى نجيب عن التساؤل الذى طرحناه فى صدر هذه النقطة والذى يخص ما إذا كان العمل غير المشروع يجب أن يكون بالضرورة عملا مضادا لمصلحة الشركة مما يوجب الإدانة عن إساءة أموال أو ائتمان الشركات، فإننا نجيب بأن الصفة الجنائية للفعل بوصف معين - كالرشوة مثلا - لم تعد شرطا كافيا للإصباغ وصف أخر عليه متمثل فى إساءة أموال الشركات. فذلك يمثل أحد المعطيات التى يجب أن يزنها ويقدرها قاضى الموضوع. فإذا قدر القاضى أن الفعل غير المشروع يجب أن يكيف تكييفا إضافيا متمثل فى إساءة أموال الشركات فما ذلك لكونه يشكل جريمة جنائية ولكن لأن هذا الفعل (إجرامى أو غير إجرامى) يجلب على الشركة مخاطر شاذة لا تناسب مع ما سوف يحصل عليه من مزايا ناشئة عن هذا العمل، ولعل أشد هذه المخاطر هى إسناد المسئولية الجنائية للشركة باعتبارها شخصا معنويا.

ثالثا: دور القاضى الجنائى فى تقدير مصلحة الشركة

بعض الفقهاء - ممن تبنوا المفهوم النظامى أو الفنى للشركة Conception institutionnelle de la société ويرون فى إساءة أموال الشركة جريمة تكون فيها الشركة ذاتها باعتبارها شخصا معنويا المجنى عليه المباشر - وظاهرة الإنابة على بياض, يتجهون إلى إعطاء القاضى الجنائى وحده سلطة تقدير ما إذا كان العمل يمثل عملا متوافقا مع مصلحة الشركة أم لا، ويبررون ذلك بما يسود واقع الشركات وجمعياتها العمومية من سلبية ناشئة عن شيوع ظاهرة الغياب من قبل المساهمين والإنابة على بياض. يضاف إلى ذلك أن تقدير هذا العمل قبل أن يحقق مصلحة الشركة أو المشروع ذاته فإنه يحقق مصلحة أكبر وهى حفظ النظام الاقتصادى العام فى الدولة ومصلحة طوائف متنوعة من الأفراد المتعاملين مع المشروع التجارى (كعمال المشروع - المستهلكين - الدائنين – الموردين – الدولة ممثلة فى مؤسساتها) وحفظ المصلحة العامة من بين ما يكلف القضاة بصيانته والدفاع عنه .

ويبدو من الأحكام الصادرة فى هذا الشأن أن القضاة قد انتزعوا بالفعل سلطة تقدير العمل المضاد أو الموافق لمصلحة الشركة مستفيدين من غموض النصوص في هذا الشأن وعدم وجود تعريف واضح لفكرة العمل المضاد لمصلحة الشركة. ويكفينا كدليل علي سيادة سلطة القاضي في هذا الصدد أن نعطى بعض التوضيحات حول التكريس القضائي لفكرة عدم فاعلية الإذن أو التصديق الصادر من الشركاء أو من الجمعية العمومية لإعفاء مديرى الشركة عن إساءة أموال الشركات وعدم فاعلية الإعفاء العائلى الناشئ عن رابطة القرابة التى تربط الجانى بالمجنى عليه لنفى المسئولية رغم صلاحية هذا السبب كمانع عقاب فى بعض جرائم الأموال وفق ما اخذ به المشرع والقضاء في كثير من الدول.

1- عدم صلاحية الإذن أو التصديق L’inefficacité des autorisations et des approbations

القانون الجنائى للشركات، خاصة في مجال إساءة أموال وائتمان الشركات، والذي يتميز بتركيزه للمسئولية الجنائية علي عاتق مديرى الشركة فقط لا يقبل بشكل مطلق إعفاء القائمين علي الإدارة من المسئولية حتى ولم يظهروا في واقع الأمر بوصفهم المحرك الدافع للأفعال والأعمال المنسوبة إليهم. وعلي ذلك لا يمكن للمدير أن يتنصل من مسئوليته بحجة تدخل أجهزة استشارية أو رقابية فاحصة لأعمال الإدارة، ومنها الجهات التي تأذن بعمل معين وفق ما يتطلبه المشرع في بعض الحالات لصلاحية هذا العمل. ومن قبيل ذلك تطلب المشرع إذن مجلس الإدارة حتى يمكن للشركة أن تمنح قرضا أو ضمانا معينا (المادة 98 من قانون 1966) ومنه أيضا الإذن المتطلب صدوره من مجلس المراقبة Conseil de surveillance لصلاحية الاتفاق المعقود بين الشركة وأحد أعضاء حكومة المديرين Directoire أو أعضاء مجلس المراقبة ذاته المتضمن منحا باسم الشركة لضمانات أو لسلف للأحد هؤلاء (المادة 143 من القانون 1966). ومنها أيضا الجهات التى تصدق على عمل معين وهى الجمعية العمومية للشركاء في شركات الأشخاص أو للمساهمين فى شركات الأموال ومنها أيضا الأجهزة ذات الطبيعة الجماعية Collégial كمجلس الإدارة في شركات المساهمة العادية وحكومة المديرين ومجلس المراقبة في شركات المساهمة ذات النظام الحديث.

وقد يبدو أمرا مستغربا أن يتجه القضاء إلى العقاب عن فعل بوصفة جريمة فى فروض يكون فيها الشركاء أو المساهمين قد أذنوا أو صدقوا علي العمل الصادر من القائمين علي الإدارة، ذلك لأنه إذا كانت مصلحة الشركة تتميز كما سبق القول عن مصلحة أعضائها أو المساهمين فيها إلا أن لهؤلاء دورا في تحديد مضمونها.
غير أن أحكام محكمة النقض الفرنسية تتجه إلى أن "رضاء مجلس الإدارة أو الجمعية العمومية للمساهمين لا ينفي الصفة الجنائية عن السحوبات التعسفية المنصبة على أموال الشركة"
L’assentiment du conseil d’administration ou de l’assemblée générale des actionnaires ne peut faire disparaître le caractère délictueux de prélèvements abusifs de fonds sociaux.

وعلي هذا جري قضاء المحاكم الدنيا حيث أكدتا محكمتا استئناف مونبليه Montpellier وكولمار Colmar أن هدف المشرع من تجريم إساءة أموال وائتمان الشركات ليس فقط حماية الشركاء ومصالحهم بل أيضا حماية الذمة المالية للشركة كشخص معنوي وحماية مصالح الغير المتعاقدين مع الشركة مما مؤداه عدم انتفاء الصفة الجنائية عن الفعل بحجة الإجماع الصادر من الشركاء معبرا عن رضائهم بالفعل .

ويتأسس هذا القضاء على أن رضاء الشركاء قد يتأتى بشكل يحتمل الخداع نتيجة فنية المسائل المالية المتعلقة بالشركة مما يعيب هذا الرضاء. يضاف إلى ذلك أن الأذن السابق لا يتشابه مع رضاء المجنى عليه، فحماية المصلحة العامة تترك بصمتها فى مجال التجارة بحيث تقل شيئا فشيئا الحرية الاقتصادية وتزداد رقابة الدولة حتى فى أكثر الدول رأسمالية. بمقتضى هذا الأفول التدريجى لمبدأ سلطان الإرادة لم يعد التصرف فى الأموال شأنا خاصا يترك أمره لمشيئة الأفراد مما مؤداه التضييق من صلاحية الأذن الصادر من الجهة العليا فى الشركة كسبب مبيح لجرائم الشركات ومنها إساءة الأموال أو الائتمان.

ويأخذ ذات حكم هذا الرضاء السابق العفو أو الرضاء اللاحق Quitus ولو كان صادرا أيضا بالإجماع. ويبرر ذلك، كما يقول الفقيه Chavanne أن السماح بنفي الصفة الإجرامية عن الفعل بحجة صدور تصديق لاحق يعنى أن يترك للأغلبية داخل الشركة أن تفعل ما يحلوا وأن تحدد مسار الشركة . لذا كان موقف محكمة النقض هنا هو المساواة بين الإذن السابق والإبراء اللاحق أو التصديق فكلاهما لا يصلح سببا للإباحة في مجال إساءة أموال أو ائتمان الشركات. فمحكمة النقض تنظر بعين الشك إلى مثل هذه القرارات اللاحقة التى قد تكون فى حقيقتها تصديقات وهمية Pseudo décisions.

ولعل ما يؤكد سلامة هذا الاتجاه أن موقف القضاء الجنائى يتشابه مع ما تقضي به المواد 52/5 و246/2 من قانون الشركات الفرنسى وكذلك المادة 1843/5 فقرة 3 من القانون المدنى التى يجرى نصها على النحو التالى "ليس لأى قرار صادر عن الجمعية العمومية أن يغلق باب دعوى المسئولية في مواجهه القائمين علي الإدارة من خطا أرتكب حال إدارتهم للشركة". وإلى هذا ذهبت أحكام القضاء التجارى.
غير انه إذا كان من المنطقى عدم قبول الإبراء أو التصديق اللاحق كسبب إباحة فإن لنا نتشكك فى سلامة القضاء بعدم إباحة الفعل بناء علي الرضا السابق، ذلك أن رضا المجنى عليه ينفى عدم المشروعية إذا كان سابقا على الفعل وذلك في مجال جرائم الأموال Atteinte patrimoniale. فمن الصعب في رأينا القطع بانتفاء أحقية الجمعية العمومية بصفة خاصة باعتبارها الروح وباعتبارها السلطة العليا في الشركة أن تقدر أين مناط مصلحة الشركة في العمل المعتزم صدوره من القائمين علي الإدارة وتقدير خطورة هذا العمل من عدمه بالنسبة للشركة.

ولحل هذا الخلاف ولرفع الشك ولتحديد دور القاضي الجنائى فى تقدير العمل المضاد لمصلحة الشركة يتعين التفريق بين ثلاثة فروض:
- الأول هو الفرض الذى فيه تجتمع الجمعية العمومية حتى تتشاور وتأذن بعمل معين يقوم به مجلس الإدارة أو أحد الأعضاء القائمين علي الإدارة ؛

- الثانى هو الفرض الذى يكون فيه العمل المرخص به يشكل جريمة مع العلم بذلك ؛
- الثالث هو الفرض الذى يثبت فيه عدم مصداقية الترخيص الصادر بالنظر للظروف والشروط التي صدر فيها.

عندما نقارن بين هذه الحالات الثلاث فإننا نلحظ عدم التناسق والشذوذ. ذلك أنه إذا كان منطقيا عقاب أفعال معينة على أساس أنها تشكل جريمة رغم الترخيص أو الإبراء الصادر إلا أنه يبدو شاذا أن تقع الأفعال تحت طائلة العقاب رغم صدور الأذن أو التصديق عن الجمعية العمومية التى ثبت صحة انعقادها وجدية المشاورات والمناقشات التى سبقت صدور الأذن أو التصديق بهذه الأفعال.

هنا يبدو لنا الحد الذى عنده يقف القاضي الجنائي في تقدير مصلحة الشركة. ففي رأينا يجب أن تبقى الجمعية العمومية للمساهمين الجهاز الأسمى والأعلى لتحديد إذا ما كانت هذه الأفعال أو الأعمال تتطابق أم تتعارض مع مصلحة الشركة، أما دور القاضى الجنائى فيجب أن يقف عند حد تقدير المشروعية في صدور الأذن أو التصديق وإعمال رقابة ملائمة Contrôle de l’opportunité . فلا يراقب القاضى توافق العمل من عدمه مع مصلحة الشركة بل ما يهمه هو مشروعية الترخيص أو التصديق من حيث شروطه القانونية أو الظروف التي صدر فيها . فعليه مثلا فحص ما إذا كانت القرارات الصادرة عن الجمعية العمومية أو مجلس الإدارة لم تتخذ إلا لمجرد تفضيل مصالح شخصية معينة علي حساب مصلحة الأغلبية ومصلحة الشركة كشخص معنوي بالنظر لظروف الواقع التي صدر فيها القرار أو إذا كان قد شاب عملية التصويت بشان الأذن أو الترخيص ما يبطلها. وهذا ما اتجهت إليه بعض أحكام محكمة النقض إذ قضت بان الأجور الممنوحة للمدير والتي قررتها الجمعية العمومية لا يمكن الشك فيها من قبل القاضى الجنائى متى لم يثبت أن قرار الجمعية كان مخالفا للقواعد القانونية أو كان تعسفيا .

2- عدم صلاحية الإعفاء العائلى L’inefficacité de l’immunité familiale

إذا كان الأذن السابق أو الإبراء أو الإقرار اللاحق الصادر من الجمعية العمومية أو من الشركاء - ولو كان صادرا بالإجماع - لا ينفى المسئولية الجنائية، بمعنى انه لا يشكل سببا من أسباب الإباحة، إلا أن قانون العقوبات يتجه كما نعلم إلى قبول رضاء المجنى عليه كسبب من أسباب الإباحة فى بعض المسائل المالية التى تتصل بالعلاقات العائلية أو فى محيط الأسرة. ويمثل لهذا الإعفاء المبنى على صلة القرابة الحائل دون ممارسة الدعوى العمومية بحالة السرقة بين الأزواج والأصول والفروع (المادة 311-12 عقوبات فرنسى والمادة 312 عقوبات مصرى) والتى مد القضاء الفرنسى حكمها إلى جرائم أخرى كالنصب (مادة 313-3) وخيانة الأمانة (مادة 314-4) والابتزاز Chantage (مادة 312-12) إذ القياس فى مجال الإباحة جائز .

غير أن السؤال عندما طرح علي القضاء بشان مدى انطباق فكرة الإعفاء العائلى فى مجال إساءة أموال الشركات كانت إجابة القضاء بالنفى بحجة أن الجريمة تمس ليس فقط مصالح الطرف الأخر فى الحياة العائلية ولكن تمس أيضا الذمة المالية للشركة ذاتها كشخص معنوى مستقل. ويتفق هذا الموقف مع القضاء عموما الذي يتجه إلى عدم انطباق هذا الإعفاء في الأحوال التى تمس فيها الجريمة مصالح أخرى خلاف مصالح الأسرة . وعلى هذا رفضت محكمة النقض دفع إحدى الزوجات التى اتهمت باختلاسها أدوات مملوكة للشركة التي يديرها زوجها ويملك أغلبية رأسمالها بحجة أن الجريمة يتعدى أثرها إلي الذمة المالية الخاصة بالشخص المعنوي الذى هو محل اهتمام المشرع في مجال الشركات .

ولقد تأكد هذا الاتجاه في دعوى تتعلق بشركة طرفاها أب وابنه عبارة عن مطعم ملحقاً بفندق وكان الأب قد اتهم باختلاسه 250.000 فرنك. وفي حكمها الصادر في 26 مايو 1994 أوضحت محكمة النقض أن الشركة رغم صلابة مركزها المالى ورغم أن الأب لم يضر إلا ابنه الذى لم يدعي مدنيا في الدعوى إلا أن الشركة ذاتها أصابها ضررا في ذمتها المالية المستقلة .

هذا الموقف القضائي يؤكد علي أن محكمة النقض الفرنسية تجعل من جريمة إساءة أموال أو ائتمان الشركات جريمة تهدف إلي حماية الصالح العام Délit d’intérêt général تعلقا بالمفهوم النظامى للشركة الذي يأخذ في الاعتبار المصالح المتميزة للشركة كشخص معنوى بعيدا عن المصالح الخاصة بالشركاء أو المساهمين. وهنا يظهر دور القاضى الجنائى كراعى للمصلحة العامة فى المجتمع والتي تدعو إلى التدخل فى رقابة الأداء المالى للشركة وتوجيه الاتهام والإدانة عند الضرورة إذا ما ظهر خلل يمس بتلك المصلحة حتى ولو لم يكن هناك مضرورا من الشركاء أو المساهمين. فللشخص المعنوي مصالحة الذاتية - والتى تعبر فى حقيقتها عن المصلحة العامة للمجتمع ككل - التى يقدرها القاضى الجنائى ذاته دون تدخل من المضرور أو من المجنى عليه.


[/COLOR][/B][/SIZE]










 

الكلمات الدلالية (Tags)
للأعلام, الجنائي, القانون


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 03:25

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc