يرى الدكتور برهان غليون و هو من أبرز المفكرين العرب المتخصصين في الشؤون العربية ...من أهم مؤلفاته الدين والدولة 2- الدولة ضد الأمة 3- بيان من أجل الديمقراطية...
يقول عن الثورات العربية في مقال له بعنوان المواطن العربي الجديد:
" هي في الجوهر ثورة سياسية عميقة تعيد تشكيل الشعوب التي صارت خلال العقود الماضية في حكم الرعايا والأتباع والموالي والعبيد المنقسمين والمتنازعين والمهمشين والشاكّين بعضهم ببعض واليائسين من مصيرهم ومستقبلهم والمحتقرين لأنفسهم والمنخلعين عن ذواتهم بسبب عمق المهانة والعطالة والإحباط، وصهرها في أتون الحركة الاحتجاجية والثورة المستمرة على أشباه أسيادها أو أسيادها الزائفين، إلى أمم أو شعوب أمم يوحدها العمل المشترك والأمل الجامع في استلام زمام أمورها وانتزاع حقوقها ...
ففي هذه الثورة ومن خلالها اكتشفت الشعوب التي دفعت إلى الشك في نفسها، وحدتها وقدراتها -أي ذاتها- ووقعّت دون أن يستدعي ذلك أي مفاوضات مسبقة أو حوارات سابقة أو تنظير، على عقدها أو عهدها الوطني الجديد: عهد الخبر والكرامة والحرية، تماما كما كانت الثورة الفرنسية عام 1789 قد أسست لعهد الديمقراطية الغربية الجديد بشعارات تحولت في ما بعد إلى جدول أعمال جميع الشعوب الغربية والديمقراطية: الحرية والمساواة والإخاء.
وقصدي من ذلك أن أقول أيضا إن هذه الثورة هي بالتأكيد ثورة الديمقراطية العربية كما وصفها العديد من المحللين، بما تعنيه الديمقراطية من إلغاء نظام السلطة المطلقة أو أشكال الحكم الدكتاتورية، وإقامة نظم سياسية تقوم على مشاركة جميع الأفراد في القرارات العمومية عبر ممثلين ينتخبونهم بحرية
ويعتقد المفكر غليون أن الثورات في البلاد العربية ليست فقط ثورات سياسية ولكنها :
" كانت في الوقت نفسه ثورة نفسية وأخلاقية وفكرية وسياسية واجتماعية واقتصادية تستبطن بالضرورة انقلابا جيوستراتيجيا أيضا ..... فما حصل في البلاد العربية في العقود الأربعة الماضية على يد بعض النخب التي استلمت السلطة في ظروف تاريخية وبوسائل استثنائية، هو إعادة توطين الملكية المطلقة والتعسفية فيها كما لم يحصل في أي منطقة من مناطق العالم الأخرى، فوضعت العالم العربي بالفعل في حالة شاذة معاكسة لحركة التاريخ واتجاهها.
وأقصد بالملكية المطلقة هنا نفي أي حقوق مهما كانت للشعوب في المشاركة في تقرير الشؤون العامة، وتحويلها إلى شعوب قاصرة أو فرض حالة القصور عليها، وتحويل البلدان إلى ما يشبه الإقطاعات القرسطوية التي يتحكم فيها أولياء نعمة من الملوك والسلاطين والرؤساء المبجلين الذين يفرضون سيطرتهم عبر ترويع السكان بالمليشيات المسلحة التي لا تخضع لقانون غير إرادتهم، ويستحلون جميع الحقوق ويتعاملون مع البلاد كما لو كانت ملكية خاصة لهم، ولهم عليها حق التصرف الكامل، لهم ولأبنائهم وأقربائهم، كما يملكون حق الموت والحياة على السكان ويحولونهم بالجملة إلى عبيد وأتباع "
ويستمر الكاتب في تتبع عواقب الاستبداد السياسي المدمر من قبل النظم السياسية العربية على الأوطان التي يتسلطون عليها ويقول :
" ونجم عن انحطاط نموذج الحكم والسلطة في البلاد العربية تدمير منظم للنسيج الوطني، وتفجير نواة الوطنية الجديدة التي ولدت في إطار الصراع ضد الاستعمار والهيمنة الأجنبية وفي سياق الطموح إلى الانخراط في العصر ومسايرة القيم السياسية الحديثة.
وحلت السلطة الشخصية المستندة إلى الولاء للحزب الواحد أو الطائفة أو العشيرة محلّ سلطة القانون، وفرغت مؤسسات الدولة جميعا من مضمونها، واحتلت الجماعات الزبائنية ذات الأصول الحزبية أو الطائفية أو العشائرية، الدولة واستعمرت مؤسساتها وطردت أي أثر لروح السياسة الوطنية وللقانون فيها، وتحولت الجيوش إلى مليشيات تأتمر بأوامر النخب الحاكمة ولا تخدم سوى مصالحها، وأخضعت نظم التعليم لحاجات تعزيز سيطرة هذه النخب وهيمنتها، ووظفت المعارضات السياسية ذاتها -بعد عمليات إخضاع وإذلال وتدجين طويلة ومتواصلة- في خدمة السلطة شبه الإقطاعية الجديدة، وحيل بين الأفراد وإمكانية التواصل والتعارف والتفاهم والعمل المشترك والتعبير عن الرأي أو المصالح الخاصة، فما بالك بالتنظيم والتظاهر والاحتجاج "
ويفسر المفكر غياب روح التعاون والنجدة فيما بين الشعوب في كل المجالات بوجود الاستبداد السياسي الذي لايريد اي أعمال تبعده عن المشهد في الصورة الشعبية :
" وصل الأمر حدّ منع الناس من التضامن في ما بينهم أثناء الكوارث الطبيعية من زلازل وغيرها، حتى لا يقلل ذلك من هيبة الدولة أو القائمين عليها. وتفنن النظام في تفريغ الثقافة العربية من محتواها التحرري والإنساني أيضا، وفي تعميم ثقافة تجمع بين تعميم الخوف الشامل من كل شيء ولأي سبب أو من دون سبب، نتيجة العسف المعمم وغياب أي حماية سياسية أو قانونية للفرد، والانكفاء على النفس، والاستقالة من أي مسؤولية عمومية، والانطواء على قيم العصبية الأسرية أو العائلية أو الطائفية أو العشائرية، واليأس من المستقبل والانسحاب من العالم، وإدارة الظهر لكل ما يشير إلى قيم التحرر الحديثة
ويخلص الكاتب إلى أن من نتائج التسلط على الشعوب العربية أنه :
" لم يعد هناك شعب ولم تعد هناك أمة ولم يعد هناك مجتمع.. ما بقي هو هشيم من الأفراد الذين يتعامل معهم النظام كزبائن، يجازيهم أو يعاقبهم حسب ولائهم له أو ابتعادهم عنه. وبمقدار ما فقد المجتمع مرجعياته السياسية والقانونية، وقتل فيه معنى الإنسان والإنسانية، أصبح أفراده يتعاملون في ما بينهم أيضا كزبائن، يشترون ولاء بعضهم حتى داخل الأسرة الواحدة، ويبيعون بعضهم ويشترون بعضهم كما يبيعهم النظام ويشتريهم. "
ولكن البعد الذي شاهده المفكر غليون في هذه الثورات العربية وجعلها مختلفة جدا هو أن :
" أول أبعاد هذه الثورة التاريخية، والأكثر وضوحا في الأحداث اليومية المستمرة لها، هو من دون شك قلب التوازنات السياسية القائمة، بحيث يصبح عاليها سافلها والعكس. فقد انقلبت الآية وصار الشعب منذ الآن سيد الموقف بعدما كانت السيادة للنخب الحاكمة المسلحة بأجهزة الأمن والمخابرات، وهو الذي يقود الآن اللعبة السياسية ويحدد برنامج عمل الحكومة وجدول أعمالها.
ولأول مرة في تاريخ العرب يتعرف الشعب على نفسه، ويتصرف بالفعل كمصدر للسلطات، ولا يتضرع إلى الحاكمين أو يستجديهم احترام حقوقه، كما لا يتطلع إلى الدول الأجنبية لاستجداء بيان الإدانة أو الشجب أو المساعدة، وإنما يعتمد على نفسه ويحرص على عدم السماح لأي قوة داخلية أو خارجية أن تنتقص من سيادته.
ولأول مرة تجد النخب الحاكمة نفسها في وضعية التبعية لإرادة الشعب والخادمة له. ولعل أفضل ما يعبر عن ذلك هذا الشعار الذي انتشر أيضا كالثورة في جميع أصقاع العالم العربي كشعار رئيسي ودائم "الشعب يريد". في البداية كانت الإرادة متمثلة في إسقاط النظام، والآن جميع المطالب الاجتماعية تبدأ بفكرة الشعب وبالشعب "
وينهي المفكر برهان غليون مقاله بأن الثورة العربية تؤسس لعهد جديد وهو عهد الخبز والكرامة والحرية ويقول :
" ويعني عهد الخبز في هذا البرنامج المؤسس لوطنية عربية وأمة جديدة، أنه لا يجوز بعد اليوم أن يقبل العربي بأن يكون هناك في بلاد العرب من يجوع، وأن تأمين الحد الأدنى للحياة التزام جماعي أخلاقي، وليس سياسة حكومية فحسب، وهو ما يساوي في العهد الجمهوري القديم شعار الإخاء والتكافل والتضامن كحق طبيعي للأضعف وواجب على الأقدر، وما لا يستقيم من دونه بناء اجتماعي حي وقابل للحياة "
"وتعني الكرامة أن احترام كل فرد -بصرف النظر عن أصله وفصله ومهنته ووضعه الاجتماعي- واجب وطني، وأنه لا يجوز أن يبقى في بلاد العرب من يقبل الذل أو يتعرض للإذلال، سواء أجاء ذلك من قبل إهانة فرد لآخر أو جماعة لأخرى أو الانتقاص من كرامتهما أو حقوقهما ,او ممارسة أي أشكال حاطة بالكرامة الإنسانية تجاه أحد، سلطة كان أم فردا أو جماعة مدنية. وأن أساس هذا الاحترام المتبادل للإنسان في كل إنسان،هو مساواة الجميع، من وراء اختلافات البشر والأفراد في اللون أو الجنس أو الطبقة الاجتماعية أو الديانة أو الثقافة أو المذهب أو الفكر أو العقيدة السياسية"
" تعني الحرية الاعتراف بالحق المقدس لأي فرد في التصرف بشؤونه وتحكيم ضميره والتعبير عن نفسه وفكره والتواصل مع أقرانه والمشاركة المتساوية مع غيره في النشاطات العامة السياسية وغير السياسية، كما تعني كفالة تأمين ممارسة هذا الحق للجميع من دون تمييز، وأن أي انتهاك لهذا الحق والحريات المدنية والسياسية والاجتماعية المرتبطة به هو انتهاك لحق الجماعة والمجتمع وليس لحق الضحية فحسب، وتهديد للعهد الوطني وخيانة للمبادئ التي قامت على أساسها وحدة المجتمع والشعب
من هنا، في ما وراء مظاهر التحرر السياسية البارزة اليوم، تشكل هذه الثورة/الثورات مرجلا عظيما لإعادة صهر الشعوب العربية التي شوهها الطغيان والاستقالة المعنوية والفساد، وحولها إلى أشباه أمم وأشباه رجال وأشباه دول، وإعادة صوغها في قالب جديد، إنساني واجتماعي، أي إعادة صقلها بالقيم والمبادئ والمثل العليا التي انتزعت منها أو فرض عليها الانخلاع عنها، حتى تتحول إلى ما يحتاج إليه الطغاة من انحطاط ليتمكنوا من وضع أنفسهم في موضع المبدأ الأخلاقي الملهم والروح المحركة والجامعة لهشيم الأمم وركامها