خير الدين بربروسا وأخوه عروج
التعريف بهما ونشأتهما
يرجع أصل المجاهدَيْنِ إلى الأتراك المسلمين، وكان والدهما يعقوب بن يوسف من بقايا الفاتحين المسلمين الأتراك الذين استقروا في جزيرة مدللي إحدى جزر الأرخبيل، وأمهم سيدة مسلمة أندلسية، كان لها الأثر على أولادها في تحويل نشاطهم شطر بلاد الأندلس التي كانت تئنّ في ذلك الوقت من بطش الأسبان والبرتغاليين. وكان لعروج وخير الدين أخوان مجاهدان، هما إسحاق ومحمد إلياس.
الأخوان وجهاد الأسبان
كان من آثار التهجير الجماعي للمسلمين من الأندلس، ونزوح أعداد كبيرة منهم إلى الشمال الإفريقي حدوث العديد من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية في ولايات الشمال الإفريقي.
ولما كان من بين المسلمين النازحين إلى هذه المناطق أعداد وفيرة من البحارة، فكان من الضروري أن تبحث عن الوسائل الملائمة لاستقرارها، إلا أن بعض العوامل قد توافرت لتدفع بأعداد من هؤلاء البحارة إلى طريق الجهاد ضد القوى المسيحية في البحر المتوسط. ويأتي في مقدمة هذه الأسباب الدافع الديني بسبب الصراع بين الإسلام والنصرانية، وإخراج المسلمين من الأندلس، ومتابعة الأسبان والبرتغال للمسلمين في الشمال الإفريقي.
وقد ظلت حركات الجهاد الإسلامي ضد الأسبان والبرتغاليين غير منظمة حتى ظهور الأخوان خير الدين وعروج بربروسا، واستطاعا تجميع القوات الإسلامية في الجزائر، وتوجيها نحو الهدف المشترك لصدِّ أعداء الإسلام عن التوسع في موانئ ومدن الشمال الإفريقي.
الفكر العسكري لدى خير الدين وعروج
اعتمدت هذه القوة الإسلامية الجديدة في جهادها أسلوب الكر والفر في البحر بسبب عدم قدرتها في الدخول في حرب نظامية ضد القوى المسيحية من الأسبان والبرتغاليين وفرسان القديس يوحنا، وقد حقق هؤلاء المجاهدون نجاحًا أثار قلق القوى المعادية، ثم رأوا بنظرهم الثاقب أن يدخلوا تحت سيادة الدولة العثمانية؛ لتوحيد جهود المسلمين ضد النصارى الحاقدين.
جهادهما
حاول المؤرخون الأوربيون التشكيك في طبيعة الحركة الجهادية في البحر المتوسط ووصفوا دورها بالقرصنة وكذلك شككوا في أصل أهم قادتها وهما خير الدين وأخوه عروج الأمر الذي يفرض ضرورة إلقاء الضوء على دور الأخوين وأصلهما، وأثر هذه الحركة على الدور الصليبي في البحر المتوسط في زمن السلطان سليم والسلطان سليمان القانوني.
إن ما ذكر عن الدور الذي لعبه الأخوان يؤكد حرصهما على الجهاد في سبيل الله ومقاومة أطماع إسبانيا والبرتغال في الممالك الإسلامية في شمالي أفريقيا ولقد أبدع الأخوان في الجهاد البحري ضد النصارى وأصبح لحركة الجهاد البحري في القرن السادس عشر مراكز مهمة في شرشال ووهران والجزائر ودلي وبجاية وغيرها في أعقاب طرد المسلمين من الأندلس، وقد قويت بفعل انضمام المسلمين الفارين من الأندلس والعارفين بالملاحة وفنونها والمدربين على صناعة السفن.
اتجه الأخوان عروج وخير الدين إلى الجهاد البحري منذ الصغر، ووجها نشاطهما في البداية إلى بحر الأرخبيل المحيط بمسقط رأسهما حوالي سنة 1510م، لكن ضراوة الصراع بين القوى المسيحية في بلاد الأندلس وفي شمالي أفريقيا بين المسلمين هناك، والذي اشتد ضراوة في مطلع القرن السادس عشر، قد استقطب الأخوين لينقلا نشاطهما إلى هذه المناطق وبخاصة بعد أن تمكن الأسبان والبرتغاليون من الاستيلاء على العديد من المراكز والموانئ البحرية في شمالي أفريقيا.
وقد حقق الأخوان العديد من الانتصارات على القراصنة المسيحيين الأمر الذي أثار إعجاب القوى الإسلامية الضعيفة في هذه المناطق، ويبدو ذلك من خلال منح السلطان "الحفصي" لهم حق الاستقرار في جزيرة جربة التونسية وهو أمر عرضه لهجوم إسباني متواصل اضطره لقبول الحماية الإسبانية بالضغط والقوة، كما يبدو من خلال استنجاد أهالي هذه البلاد بهما، وتأثيرهم داخل بلدهم مما أسهم في وجود قاعدة شعبية لهما تمكنهما من حكم الجزائر وبعض المناطق المجاورة. ويرى بعض المؤرخين أن دخول "عروج" وأخيه الجزائر وحكمهما لها لم يكن بناءً على رغبة السكان، ويستند هؤلاء إلى وجود بعض القوى التي ظلت تترقب الفرص لطرد الأخوين والأتراك والمؤيدين لهما، لكن البعض الآخر يرون أن وصول "عروج" وأخيه كان بناءً على استدعاء من سكانها لنجدتهم من الهجوم الإسباني الشرس، وأن القوى البسيطة التي قاومت وجودهما كانت تتمثل في بعض الحكام الذين أبعدوا عن الحكم أمام محاولات الأخوين الجادة في توحيد البلاد حيث كانت قبل وصولهما أشبه بدولة ملوك الطوائف في الأندلس، وقد سائد أغلب أهل البلاد محاولات الأخوين، واشتركت أعداد كبيرة منهم في هذه الحملات، كما ساندهما العديد من الحكام المحليين الذين شعروا بخطورة الغزو الصليبي الإسباني.
ويظهر دور الأخوين المجاهدين بمحاولة تحرير بجاية من الحكم الإسباني سنة 1512م، وقد نقلا - لهذا الغرض - قاعدة عملياتها ضد القوات الإسبانية في ميناء جيجل شرقي الجزائر بعد أن تمكنا من دخولها وقتل حماتها الجنوبيين سنة 1514م لكي تكون محطة تقوية لتحرير بجاية من جهة ولمحاولة مساعدة مسلمي الأندلس من جهة أخرى، ويبدو أن الأخوين قد واجها تحالفًا قويًّا نتج عنه العديد من المعارك النظامية وهو أمر لم يتعودوه لكن أجبروا عليه بفعل الاستقرار في حكم الجزائر، وزاد من حرج الموقف قتل "عروج" في إحدى المعارك سنة 1518م؛ مما اضطر خير الدين للبحث عن تحالف يعينه على الاستقرار والمقاومة سواء لدورها البارز في ساحة البحر المتوسط أم لأن القوى المحلية في الشمال الإفريقي كانت متعاطفة معها.
وتتابع انتصاراتها على الساحة الأوربية منذ فتح القسطنطينية وأن الاتجاه لمخالفتها سيسكب دور خير الدين مزيدًا من التأييد من قبل هذه القوى، وإلى جانب ذلك فإن الدولة العثمانية قد أبدت استجابة للمساعدة حين طلب منها الأخوان ذلك، كما أبدت رغبتها في مزيد من المساعدات لدوره وكذلك لبقايا المسلمين في الأندلس، ومن منظور ديني أسهم في إكساب دورها تأييدًا جماهيريًَّا، وجعل محاولة التقرب منهما أو التحالف معهما عملاً مرغوبًا.
ومن جهة أخرى كانت الظروف في الدولة العثمانية على عهد السلطان سليم الأول مهيأة لقبول هذا التحالف وبخاصة بعد أن اتجهت القوات العثمانية إلى الشرق العربي، وكان من أبرز أهدافها في هذا الاتجاه هو التصدي لدور البرتغاليين والأسبان وفرسان القديس يوحنا في المنطقة، وكان من المنطقي التحالف مع أي من القوى المحلية التي تعينها على تحقيق هذه الأهداف.
لقد اختلف علماء التاريخ حول بداية التحالف بين العثمانيين والأخوين عروج وخير الدين، فتذكر بعض المراجع أن السلطان سليم الأول كان وراء إرسالهم إلى الساحل الإفريقي تلبية لطلب المساعدة من سكان الشمال الإفريقي وعملاً على تعطيل أهداف البرتغاليين والأسبان في منطقة البحر المتوسط. وعلى الرغم من عدم تداول هذه الرواية بين المؤرخين إلا أنها توضح أن العثمانيين لم يكونوا بمعزل عن الأحداث التي تدور على مساحة البحر المتوسط.
ويرجع بعض المؤرخين التحالف بين الجانبين إلى سنة 1514م في أعقاب فتح عروج وخير لميناء "جيجل" حيث أرسل الأخوان إلى السلطان سليم الأول مجموعة من النفائس التي استوليا عليها بعد فتح المدينة، فقبلها السلطان ورد لهما الهدية بإرسال أربع عشر سفينة حربية مجهزة بالعتاد والجنود، وكان هذا الرد من السلطان العثماني يعكس رغبته في استمرار نشاط دور الأخوين ودعمه. على أن بعض المؤرخين يذكرون أن الدعم العثماني لهذه الحركة كان في أعقاب وفاة "عروج" سنة 1518م وبعد عودة السلطان العثماني من مصر إلى إستانبول سنة 1519م.
على أن الرأي الأكثر ترجيحًا أن الاتصالات بين العثمانيين وهذه الحركة كان سابقًا لوفاة عروج وقبل فتح العثمانيين للشام ومصر، وذلك يرجع إلى أن الأخوين كانا في أمس الحاجة لدعم أو تحالف مع العثمانيين بعد فشلهما في فتح (بجاية)، كما أنهما حوصروا في "جيجيل" بين الحفصيين الذين أصبحوا من أتباع الأسبان وبين (سالم التومي) حاكم الجزائر الذي ارتكز حكمه على دعم الأسبان له هو الآخر، فضلاً عن قوة الأسبان وفرسان القديس يوحنا التي تحاصرهما في البحر، فكان لوصول الدعم العثماني أثره على دعم دورهما وشروعهما في دخول الجزائر برغم هذه العوامل حيث اتفق العثمانيون مع الأخوين على ضرورة الإسراع بدخولهما قبل القوات الإسبانية لموقعها الممتاز من ناحية ولكي يسبقوا الأسبان إليها، لاتخاذها قاعدة لتخريب الموانئ الإسلامية الواقعة تحت الاحتلال الإسباني كبجاية وغيرها من ناحية أخرى.
وقد تمكن عروج من دخول الجزائر بفضل هذا الدعم وقتل حاكمها بعد أن تأكد من مساعيه للاستعانة بالقوات الإسبانية، كما تمكن من دخول ميناء شرشال، واجتمع له الأمر في الجزائر وبويع في نفس السنة التي هزمت فيها القوات المملوكية أمام القوات العثمانية في الشام سنة 1516م في موقعة مرج دابق.
ولم يكن من الممكن للأخوين أن يقوما بهذه الفتوحات لولا تشجيع السلطان العثماني ودعمه إلى جانب دعم شعوب المنطقة وقد سبق أن فشلا في دخول بجاية أمام نفس القوات المعادية.
بعد أن بويع "خير الدين" في الجزائر في أعقاب ما حققه من انتصارات على الأسبان والزعماء المحليين المتحالفين معهم أصبح محط آمال كثير من الولايات والموانئ التي كانت ما زالت خاضعة، سواء للأسبان أو لعملائهم، وكان أول الذين طلبوا نصرته أهل تلمسان. ومع أن استنجاد الأهالي كان من الممكن أن يكون كافيًا لتدخل "خير الدين" إلا أن موقع تلمسان الاستراتيجي الذين كان يجعل وجود "خير الدين" في الجزائر غير مستتب قد جعله يفكر في التدخل قبل أن يطلب الأهالي نجدته، وأن مطالبهم قد دعته للتعجيل بذلك.
وأعد "خير الدين" جيشًا كبيرًا زحف به إلى تلمسان سنة 1517م، وأمن الطريق إليها، وبعد أن نجح في السيطرة عليها تمكن الأسبان، وعملاؤهم من بني حمود، من استعادتها ولقي أحد إخوة (خير الدين) حتفه وهو "إسحاق"، كما قتل "عروج" وكثيرون من رجاله أثناء حصارهم للمدينة ذلك الحصار الذي امتد لستة أشهر أو يزيد، امتد حتى سنة 1518م.
وقد تركت هذه الأحداث أثرًا بالغًا في نفس خير الدين مما دفعه إلى التفكير في ترك الجزائر لولا أن أهلها ألحوا عليه بالبقاء. وكانت موافقته على البقاء تفرض عليه ضرورة بذل المزيد من الجهد خشية أن يهاجمه الأسبان ومؤيدوهم، كما أن ذلك قد أدى إلى اتجاهه إلى مزيد من الارتباط بالدولة العثمانية، وبخاصة بعد أن والت لها مصر والشام، فكان ذلك يؤكد احتياج الجانين إلى مزيد من الارتباط بالآخر.
قالوا عنهما
لقد ملك حب خير الدين وأخيه عروج قلب أهل الجزائر، ويدل على ذلك الرسالة التي بُعثت إلى السلطان العثماني من أهل الجزائر التي أشادوا فيها بجهاد بابا عروج في مدافعة الكفار، وكيف كان ناصرًا للدين، وحاميًا للمسلمين، وتكلموا عن جهاده حتى وقع شهيدًا في حصار الإسبانيين لمدينة تلمسان، وكيف خلفه أخوه المجاهد في سبيل الله أبو التقى خير الدين، وكان له خير خلف فقد دافع عنا، ولم نعرف منه إلا العدل والإنصاف، واتباع الشرع النبوي الشريف، وهو ينظر إلى مقامكم العالي بالتعظيم والإجلال، ويكرس نفسه وماله للجهاد لرضاء رب العباد وإعلاء كلمة الله، ومناط آماله سلطنتكم العالية، مظهرًا إجلالها وتعظيمها، على أن محبتنا له خالصة، ونحن معه ثابتون، ونحن وأميرنا خدّام أعتابكم العالية، وأهالي إقليم بجاية والغرب والشرق في خدمة مقامكم العالي، وإن المذكور حامل الرسالة المكتوبة سوف يعرض على جلالتكم ما يجري في هذه البلاد من الحوادث والسلام.