إن بعض الناس يندبون حظوظهم، ويبكون على أحوالهم، ويسألون الناس من أموالهم، لا يتقدمون خطوة لبناء مستقبل واعد، ولا يتكلفون دراسة لنجاح صاعد، يتقنون صياغة سؤال المحسنين، ويكرهون مسح عرق الجبين، ينفق أحدهم كل ما لديه من مال فيما لا يحتاجه وما هو مستغن عنه، حتى إذا نفد ما لديه قعد أسير الهموم، وأنزل على أسرته سيلا من العتاب واللوم، واتهمها بسوء التدبير، والإسراف والتبذير، وتجاهل أن كل ذلك من صنع يديه، فهو لا يدخر لغده، ولا يسعى لسعادة من بعده، إن أيسر يوما بذر وأسرف، وإن دعي إلى كسب أو ادخار تراخى وسوف، قد تجاهل قول الله تعالى: «ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا»، وقوله: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين».
وقد جاء شاب يفور قوة وفتوة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- يشكو إليه الفاقة، ويمد يده للسؤال، فتجلت أروع صور التصرف الحكيم، من الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم- ، فوجهه إلى طيب الكسب وصالح العمل، ليضع للمجتمع منهجا يقيه من أضرار الخمول والكسل، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن رجلا من الأنصار أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأله، فقال -صلى الله عليه وسلم- : أما في بيتك شيء؟ قال: بلى حلس -أي ثوب- نلبس بعضه ونبسط بعضه، وقعب -أي إناء- نشرب فيه الماء، قال: ائتني بهما، فأخذهما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده وقال: من يشتري هذين؟ قال رجل: أنا آخذهما بدرهم، قال: من يزيد على درهم؟ مرتين أو ثلاثا، فقال رجل: أنا آخذهما بدرهمين، فأعطاهما إياه وأخذ الدرهمين وأعطاهما الأنصاري وقال: اشتر بأحدهما طعاما فانبذه إلى أهلك، واشتر بالآخر قدوما -هو آلة من آلات النجارة- فأتني به، فأتاه به فشد فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عودا بيده ثم قال له: اذهب فاحتطب وبع ولا أرينك خمسة عشر يوما، فذهب الرجل يحتطب ويبيع فجاء وقد أصاب عشرة دارهم فاشترى ببعضها ثوبا وببعضها طعاما، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: هذا خير لك من أن تجئ المسألة نكتة في وجهك يوم القيامة، إن المسألة لا تصلح إلا لثلاثة: لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع».
لقد وضع له -صلى الله عليه وسلم- خطة اقتصادية رائعة علمته معنى الكسب وحلاوته، إنه البناء السليم للمستقبل الكريم.