الفقيه المصري: اللَّيْث بن سعد
الحمد لله الذي له ملك السموات والأرض، يحيي ويميت، وهو على كل شيءٍ قديرٌ،هو الأول والآخر، والظاهر والباطن، وهو بكل شيءٍ عليمٌ،والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله الله هاديًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إليه بإذنه وسراجًا منيرًا، أما بعد:
فإن اللَّيْث بن سعد هو أحد فقهاء مِصرَ المشهورين؛ مِن أجل ذلك أحببتُ أن أذكر نفسي وإخواني القراء الكرام بشيء من سيرته المباركة، فأقول وبالله تعالى التوفيق:
الاسم والنسب:
هو: اللَّيْث بن سعد بن عبدالرحمن الفهمي،الإمام، الحافظ، شيخ الإسلام، وعالم الديار المصرية.
كنيته: أبو الحارث؛ (الطبقات الكبرى لابن سعد جـ 7 صـ 517)، (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 136).
ميلاده:
وُلد اللَّيْث بن سعدٍ يوم الخميس، لأربع عشرة من شعبان، سنة أربعٍ وتسعين، بقلقشندة، بمصر؛ (التاريخ الكبير للبخاري جـ 7 صـ 246)، (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 14 صـ 524).
شيوخ اللَّيْث بن سعد:
عطاء بن أبي رباحٍ، وابن أبي مليكة، ونافع مولى عبدالله بن عمر، وسعيد بن أبي سعيدٍ المقبري، وابن شهابٍ الزهري، وأبو الزبير المكي، وعبدالرحمن بن القاسم، وعُقَيل بن خالدٍ، ويونس بن يزيد، وحكيم بن عبدالله بن قيسٍ، وعامر بن يحيى المعافري، وكثير بن فرقد، وهشام بن عروة، وأيوب بن موسى، والحارث بن يزيد الحضرمي، وخالد بن يزيد، وصفوان بن سليمٍ، وأبو الزناد، وقتادة بن دعامة، ويحيى بن سعيدٍ الأنصاري، وغيرهم كثيرٌ؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 138).
تلاميذ اللَّيْث بن سعد:
روى عنه خلقٌ كثيرٌ، منهم: ابن لهيعة، وهشيمٌ، وابن وهبٍ، وابن المبارك، وأشهب، والقَعْنبي، وسعيد بن أبي مريم، وآدم بن أبي إياسٍ، وأحمد بن يونس، وشعيب بن اللَّيْث - ولده - ويحيى بن بكيرٍ، وعبدالله بن عبدالحكم، ومنصور بن سلمة، ويونس بن محمدٍ، ويحيى بن يحيى اللَّيْثي، وقتيبة بن سعيدٍ، ومحمد بن رمحٍ، وعبدالله بن يوسف؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 138).
عقيدة اللَّيْث في صفات الله:
قال الوليد بن مسلمٍ: سألت مالكًا، والثوري، واللَّيْث، والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات، فقالوا: أمِرُّوها كما جاءت؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 162).
دفاع اللَّيْث عن عثمان بن عفان:
كان أهل مصر ينتقصون عثمان بن عفان، حتى نشأ فيهم اللَّيْث بن سعد، فحدَّثهم بفضائله، فكفُّوا،وكان أهل حمص ينتقصون عليًّا، حتى نشأ فيهم إسماعيل بن عياشٍ، فحدثهم بفضائل علي بن أبي طالب، فكفُّوا عن ذلك؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 14 صـ 524).
مجالس اللَّيْث اليومية:
قال أشهب بن عبدالعزيز: كان اللَّيْث بن سعدٍ له كل يومٍ أربعة مجالس يجلس فيها: أما أولها، فيجلس لنائبة السلطان في نوائبه وحوائجه، وكان اللَّيْث يغشاه السلطان، فإذا أنكر من القاضي أمرًا، أو من السلطان، كتب إلى أمير المؤمنين، فيأتيه العزل، ويجلس لأصحاب الحديث، وكان يقول: نجحوا أصحاب الحوانيت؛ فإن قلوبهم معلقةٌ بأسواقهم،ويجلس للمسائل، يغشاه الناس، فيسألونه، ويجلس لحوائج الناس، لا يسأله أحدٌ فيرده، كبُرت حاجته أو صغُرت،وكان يُطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر، وفي الصيف سويق اللوز في السكر؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 14 صـ 524).
اللَّيْث يرفض إمارة مصر:
قال اللَّيْث بن سعدٍ: قال لي الخليفةُ أبو جعفر المنصور: تَلِي لي مصر؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين؛ إني أضعف عن ذلك، إني رجلٌ من الموالي (أي: أصله من غير العرب)، فقال: ما بك ضعفٌ معي، ولكن ضعف نيتك عن العمل في ذلك لي، أتريد قوةً أقوى مني ومن عملي! فأما إذ أبيت، فدُلني على رجلٍ أقلده أمر مصر؟ قلت: عثمان بن الحكم الجذامي، رجل صلاحٍ وله عشيرة،فبلغه ذلك، فعاهد عثمانُ اللهَ عز وجل ألا يكلمَ اللَّيْث بن سعدٍ؛ (المعرفة والتاريخ ـ ليعقوب بن سفيان الفسوي ـ جـ 1 صـ 123).
منزلة اللَّيْث عند الخلفاء:
(1) روى أبو نعيم عن عبدالله بن صالحٍ، قال: سمعت اللَّيْث بن سعدٍ، يقول: "لما قدمت على هارون الرشيد، قال لي: يا ليث، ما صلاح بلدكم؟ قلت: "يا أمير المؤمنين، صلاح بلدنا بإجراء النيل، وإصلاح أميرها، ومن رأس العين يأتي الكدر، فإذا صفا رأس العين صفت السواقي"، فقال: صدقت يا أبا الحارث"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 7 صـ 322).
(2) قال يعقوب بن داود وزير الخليفة المهدي: قال لي أمير المؤمنين المهدي لما قدم اللَّيْث العراق: الزم هذا الشيخ؛ فقد ثبت عندي أنه لم يبقَ أحدٌ أعلم بما حمل منه؛ (تاريخ بغداد للخطيب البغدادي جـ 14 صـ 524).
(3) قال اللَّيْث بن سعدٍ: لما ودعت الخليفة أبا جعفر المنصور ببيت المقدس، قال: أعجبني ما رأيت من شدة عقلك، والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلك؛ (المعرفة والتاريخ ـ ليعقوب بن سفيان الفسوي ـ جـ 1 صـ 167).
ثقة المصريين في اللَّيْث بن سعد:
قال بكر بن مضر: قدم علينا كتاب الخليفة مروان بن محمدٍ إلى حوثرة بن سهيل والي مصر: إني قد بعثت إليكم أعرابيًّا بدويًّا فصيحًا، من حاله ومن حاله، فاجمعوا له رجلًا يسدده في القضاء، ويصوبه في المنطق،فأجمع رأي الناس على اللَّيْث بن سعدٍ، وفي الناس معلِّماه: يزيد بن أبي حبيبٍ، وعمرو بن الحارث؛ (تاريخ الإسلام للذهبي جـ 4 صـ: 710).
قال الإمام الذهبي: كان اللَّيْث بن سعدٍ (رحمه الله) فقيه مصر، ومحدثها، ومحتشمها، ورئيسها، ومن يفتخر بوجوده الإقليم، بحيث إن متولي مصر، وقاضيها، وناظرها من تحت أوامره، ويرجعون إلى رأيه ومشورته، ولقد أراده المنصور على أن ينوب له على الإقليم، فاستعفى من ذلك؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 143).
حرص اللَّيْث على مساعدة طلبة العلم:
(1) قال حرملة بن يحيى: كان اللَّيْث بن سعدٍ يصل مالك بن أنس بمائة دينارٍ في السنة، فكتب مالكٌ إليه: عليَّ دينٌ،فبعث اللَّيْث بن سعدٍ إليه بخمسمائة دينارٍ؛ (سير أعلام النبلاء للذهبي جـ 8 صـ 148).
(2) روى أبو نعيم عن يحيى بن بكيرٍ، قال: "وصَل (أي أهدى) اللَّيْث بن سعدٍ ثلاثة أنفسٍ بثلاثة آلاف دينارٍ، احترقت دار ابن لهيعة؛ فبعث إليه بألف دينارٍ، وحج فأهدى إليه مالك بن أنسٍ رطبًا على طبقٍ، فرد إليه على الطبق ألف دينارٍ، ووصل منصور بن عمارٍ القاضي بألف دينارٍ، وقال: لا تسمع بهذا ابني فتهون عليه، فبلغ ذلك شعيب بن اللَّيْث، فوصله بألف دينارٍ إلا دينارًا، وقال: إنما نقصتك هذا الدينار؛ لئلا أساوي الشيخ في عطيته"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 7 صـ 322).
(3) قال ابن وهب: كان اللَّيْث بن سعد يصل مالك بن أنس بمائة دينار في كل سنة، فكتب إليه: إن عليَّ دَينًا، فبعث إليه بخمسمائة دينار؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 50 صـ 371).
(4) قال منصور بن عمار: لما مرض عبدالله بن لهيعة مرضه الذي مات فيه، دخل عليه اللَّيْث بن سعد، فقال له: ما تشتكي؟ قال: الدَّينَ،قال كم دَينُك؟ قال: ألف دينار، فأتى فأعطاه إياه؛ (تاريخ دمشق لابن عساكر جـ 50 صـ 374).
(5) روى أبو نعيم عن عبدالملك بن شعيب بن اللَّيْث بن سعدٍ، قال: سمعت أسد بن موسى، يقول: " كان عبدالله بن علي يطلب بني أمية فيقتلهم، فلما دخلتُ مِصرَ دخلتُها في هيئةٍ رثةٍ، فدخلت على اللَّيْث بن سعدٍ، فلما فرغت من مجلسه خرجت، فتبعني خادمٌ له في دهليزه، فقال: اجلس حتى أخرج إليك، فجلست، فلما خرج إليَّ وأنا وحدي دفع إليَّ صرةً فيها مائة دينارٍ، فقال: يقول لك مولاي: أصلح بهذه النفقة بعض أمرك، ولُمَّ مِن شعثك، وكان في حوزتي هميان فيه ألف دينارٍ، فأخرجت الهميان، فقلت: أنا عنها في غنًى، استأذن لي على الشيخ، فاستأذن لي، فدخلتُ فأخبرته بنسبي، واعتذرتُ إليه من ردها، وأخبرته بما مضى، فقال: هذه صلةٌ وليست بصدقةٍ، فقلت: أكره أن أعوِّدَ نفسي عادةً وأنا في غنًى، فقال: ادفعها إلى بعض أصحاب الحديث ممن تراه مستحقًّا لها، فلم يزل بي حتى أخذتها ففرقتها على جماعةٍ"؛ (حلية الأولياء لأبي نعيم جـ 7 صـ 321).