حضور الصورة في الكتاب المدرسي
كتاب اللغة العربية للسنة الرابعة متوسط نموذجا
الدكتور: عبـد الله بوقـصة
أضحى تأثير الصورة في التواصل اليوم أمرا مسلّما به، إذ تعدّ الثقافة البصرية المكوّن الحاسم لجلّ عمليات التواصل. ذلك لأنّ الصورة من شأنها أن تقوم بدور فعال في إنجاح الرسالة التعليمية نظرا لما يتوفّر فيها من خصائص مهمة.
ومن هذا المنطلق اعتادت لجان تأليف الكتب المدرسية المقررة لتلاميذ المدارس إرفاق بعض الصور والرسومات بالنصوص المعتمدة المختارة للقراءة والمطالعة.. وهذا حرصا منها على أن تخدم هذه الصور الخطاب الذي ينبغي نقله إلى المتعلمين. لذا ارتأينا قراءة واقع الصورة في الكتاب المدرسي الجزائري، لنقف على صيرورة حضورها وآليات اشتغالها ومدى تحقيقها للأهداف المرجوة.
وحتىّ يكون عملنا أقرب إلى التطبيق منه إلى التنظير، اعتزمنا أن نورد بعض النماذج من قراءات محتملة للصور المرافقة لنصوص كتاب اللغة العربية للسنة الرابعة متوسط.، مع تأكيدنا على أن لكلّ قارئ قراءته الخاصة للصورة الواحدة، حيث تتعدّد القراءات وتتجدّد على الدوام.
مقدمة
لم يعد الكتاب في الوقت الراهن تراكما معرفيا فحسب، بل تجاوز ذلك إلى مظاهر الإنتاج وصور الإخراج، بالنظر إلى الحجم ونوعية الورق، إلى جانب التقنيات الموظفة في تنسيق الصفحات كالخطوط والرسوم والألوان والصور، وما إلى ذلك من إشارات دالة. وهكذا راح محللو النصوص يهتمون بكل هذه المظاهر: كشكل الحروف، وعلامات الترقيم، وتوزيع الفقرت، وعلاقة البياص بالسواد، والفضاء النصي، والفضاء التصويري، إذ النص حيز ينطوي على بياضات وفراغات، وتخترقه شقوق وفجوات تستدعي القارئ للتفاعل معها وتأويلها بملء تلك الفجوات والشقوق.. وهي علامات تحكمها قصدية المؤلف أو المنتج، ولكنها تبقى شرطا من شروط التواصل الناجح والتسويق الرائج.
ولمّا كانت الصورة مجموعة إشارات موزعة ضمن فضاء مؤطّر، يمكن تحديدها بواسطة الأداء الانتقائي، والحكم الإدراكي البصري. إذ تتبادل هذه الإشارات مجموعة من العلائق الناتجة من خصائصها الذاتية من جهة، و من طبيعتها الشكلية من جهة ثانية، مثلها مثل سائر العلامات ذات الحمولة الدلالية. فما طبيعة الصورة من حيث هي علامة دالة؟ والفرق بينها وبين العلامة اللسانية؟ وكيف يمكن للصورة كعلامة أيقونية أن تؤثر في الكلمة كعلامة لسانية؟
طبيعة الصورة
من نافلة القول إنّ الصورة علامة من العلامات المطروحة في الطريق، بمعنى أنّها دال ومدلول، الأمر الذي أماط عنه اللثام "فرديناند دي سوسير" مؤسس السيميولوجيا، وضبط مفاهيمه "شارل سندرس بيرس" حينما وضّح الفرق بين ضروب العلامات:
- العلامة الأيقونية (Signes iconiques)
- العلامة الاقترانية (Signes indiciels)
- العلامة الرمزية (Signes symboliques)
فالصورة بوصفها علامة أيقونية لها خصائص مميزة عن الكلمة باعتبارها علامة لسانية، ويمكن لنا في هذا المقام أن نقتفي أثر خاصيتين اثنتين هما: الاعتباطية والإدراكية.
أولا: الاعتباطية وهي خاصية معروفة في العلامة اللسانية، منشؤها الاصطلاح والمواضعة، فلا ترابط ولا تشابه بين الدال والمدلول. بخلاف العلامة الأيقونية التي تخضع إلى ائتلاف الدال والمدلول ، وارتباطهما بالمشابهة والتماثل. بل هناك صور تكاد تطابق الواقع الذي تحيل عليه، كالصور الفوتوغرافية مثلا. غير أنّ ذلك الائتلاف سرعان ما يتضاءل عندما يتعلّق الأمر بالصورة الذهنية التي يتدخل الخيال في تشكيل معالمها.
ثانيا: الإدراكية وتكون جزئية في العلامة اللسانية، إذ يقوم الذهن خطيا بتركيب الأجزاء والمكوّنات، وبناء الروابط والعلاقات قبل أن يثبّت عليها دلالة معينة وفق خلفيات السياق. بينما العلامة الأيقونية تُدرك دوما إدراكا كليا. ذلك لأنّ وحدة العمل الفني التشكيلي تكمن في تآلف كلّ الخصائص الضرورية كالخط والمساحة واللون والضوء، في إحداث ملخص كلّي منسّق ذي مكوّنات متفاعلة. فالهدف الأساسي للمصوّر سواء الفني أو الفوتوغرافي "هو تحويل عناصر الشكل والمكان والإيقاع واللون، وغيرها من المكوّنات إلى تعبير متماسك يضمّنه رسالة توضّح مادته، وقد تمثّل شيئا أو توحي به أو ترمز إليه" .
وتأثير الصورة في التواصل اليوم أضحى أمرا مسلّما به، إذ تعتبر الثقافة البصرية المكوّن الحاسم لجلّ عمليات التواصل. ذلك لأن الصورة من شأنها أن تقوم بدور فعال في إنجاح الرسالة التعليمية، نظرا لما يتوفر فيها من خصائص أهمها:
ا-التشويق إثارة اهتمام التلميذ
ب-الدقّة في توضيح الأفكار
ج-تقريب الشيء البعيد من حيث الزمان والمكان
د-التشجيع على الملاحظة والتفكير والنقد
غير أنّ هذه الفوائد التي يمكن أن يجنيها المتعلّم من خلال توظيف الصورة لا تتحقق إلاّ بمراعاة جملة من المعايير في اختيارها منها: الوضوح، الملاءمة ، الثراء، الدقّة...ألخ
ومن هذا المنطلق اعتادت لجان تأليف الكتب المدرسية المقررة للتلاميذ إرفاق بعض الصور والرسومات بالنصوص المعتمدة المختارة للقراءة والمطالعة، حرصا منها على أن تخدم هذه الصور الخطاب الذي ينبغي نقله إلى المتعلمين. ولذا لابدّ أن توكل مهمة اختيار هذه الصور أو تصميمها إلى مبدعين يدرسون النصوص دراسة معمقة.
ولكي تكون الصورة خادمة للدلالة ، لابدّ من التقيّد بما يلي:
ا-عدد الصور المرافقة للنص
ب-موضع كل صورة في النص
ج-موضع كل صورة في الصفحة
د-مكونات كل صورة (الجزء المركزي/الألوان/الخطوط/ملامح الشخصيات)
ه-المشاعر والأحاسيس التي توحي بها الصورة
و-مدى انسجام الصورة مع النص
وحتى يكون جهدنا أقرب إلى التطبيق منه إلى التنظير، اعتزمنا أن نورد نماذج محتملة للصور المرافقة لبعض نصوص كتاب اللغة العربية للسنة الرابعة متوسط.. مع ضرورة التنبيه إلى أن لكل قارئ قراءته الخاصة للصورة الواحدة، حيث تتعدد القراءات وتتجدد.
قراء ة في صورة الغلاف
أول ما يصادفنا قبل تصفح الكتاب صورة الغلاف، وهي عتبة مهمة من عتباته التي يمكن أن تحيلنا على الدلالة التقريبية. فليس الهدف من الغلاف أن يستر الكتاب فحسب، بل هو يلعب - بما يحمل من صور- دورا مهما في التلقي والإثارة والإغراء.
وتمثل صورة غلاف كتاب اللغة العربية للسنة الرابعة متوسط لوحة تشكيلية هي بمثابة نص بصري يختزل النص الحقيقي في دلالات مكثفة.. إذ إنّها تحمل بين طياتها قلم حبر أنيق بريشته الحادة الجذابة متأهب للكتابة ، وأسفله يد بشرية تسعى إلى التقاط ريشته. يرمز هذا القلم المتعالي الذي يسمو على الأيدي إلى سلطان العلم الذي خضعت له البشرية برمّتها.
واقع الصورة في كتاب اللغة العربية للسنة الرابعة متوسط
ولقراءة واقع الصورة في كتاب اللغة العربية للسنة الرابعة متوسط، ينبغي أن نقف على صيرورة حضورها وآليات اشتغالها، ومدى تحقيقها للأهداف المرجوة . فإذا كان هذا الكتاب المدرسي قد اعتمد على لغة واضحة وبسيطة، فإنه أيضا وظف صورا وتخطيطات ملائمة لموضوعاته قصد إثارة دافعية القراءة. فلم يعد للصورة دور تزيين الكتاب وتسلية القارئ بل أصبحت جزءا لا يتجزأ من تضاريس النص.
ولا محالة في أنّ متصفح الكتاب يلاحظ بغير عناء حضور الصورة المصاحبة للنص القرائي بكثافة.. وتتراوح الصورة الموظفة في هذا الكتاب بين مجالين اثنين:
أ-الصورة الفوتوغرافية: وغالبا ما تكون صغيرة متفاوتة في الصغر، فتشغل حيزا يسيرا من فضاء النص، وتكون في أحيان كثيرة في أعلى الصفحة على يسار المتصفح.
ب-الرسوم اليدوية: وهي كذلك مختلفة الأحجام بين الكبر والصغر، متباينة المواضع بين اليمين والشِمال.
ومن مظاهر التطور في توظيف الصورة في الكتاب المدرسي وضع صور فوتوغرافية لشخصيات تتمحور حولها النصوص القرائية كما في نص "الفنان محمد تمّام" ص54
إذ نجد صورة الفنان مصاحبة للنص، وكذا في نص "موزار الموهبة النادرة" ص58 نعثر على صورة موزار ذاته على يسار النص.. والأمر نفسه في نص "زرياب مبتكر الموسيقى الأندلسية" ص137 الذي تحاذيه صورة تخطيطية تقريبية لزرياب ولو أنها من وحي الخيال.
أمّا سؤال الصورة التعليمية ، فإنّه غالبا ما يتأرجح بين مطلبين أساسين:
أ-ملاحظة الصورة والتعليق عليها
ب-إيجاد علائق بين الصورة وعنوان النص أو مضمونه
وعندما نتحدث عن الصورة التعليمية ، ينبغي البحث عن قصدية توظيفها، فمعظم الصور الموظفة ليست منتجة لتعتمد بين ثنايا كتاب مدرسي.
ففي نص "سيارة المستقبل" ص08 على سبيل المثال، وردت صورة فوتوغرافية مصاحبة جاءت في أعلى يسار النص، وهي صورة لسيارة عصرية يغلب عليها اللون الأزرق الفاتح، لكنها تبدو عادية، لا تتماشى كثيرا مع موضوع النص الذي يتناول نموذج لسيارة مستقبلية ذاتية القيادة..
وفي نص "المدنية الحديثة" ص 19 تظهر صورة لبناية عالية لكن ما يسترعي الانتباه هو أنّها مائلة نوعا ما، ومن المفروض أن تكون قائمة، وقد يوحي ذلك بأمور عدّة منها:
إنّ حضارة الغرب مهما تقدّمت و بهرت، فإن ازدهارها مادي يشوبه الكثير من النقصان، خاصة الاعوجاج الروحي الذي يعاني منه الغرب، والذي ينبئ بقرب انهيار مدنيتهم.
وهكذا يبدو المبنى الماثل في الصورة عريضا من الأسفل رفيعا من الأعلى، مما يؤكد وجهة نظرنا السابقة المتمثلة في أنّ الحضارة الغربية، كلما ارتقت وازدادت سموا كلما غاب بريقها وفقدت الكثير من خصوصياتها.
أمّا في نص "تمقاد" ص95 فقد اختارت لجنة تأليف كتاب اللغة لعربية للسنة الرابعة متوسط أن تضع صورة فوتوغرافية لآثار مدينة "تمقاد" الرومانية الواقعة ضواحي ولاية باتنة الجزائرية.. وهو أمر متوقع نظرا لكون موضوع النص يدور حول آثار "تمقاد". فثمّة علاقة وطيدة بين الصورة ومضمون القصيدة الشعرية، إذ يقف الشاعر محمد العيد آل خليفة على أطلال تمقاد واصفا إياها وصفا دقيقا ومفصلا. ومن حيث الألوان يطغى على صورة آثار "تمقاد" اللون الأبيض الحجري، كما هي على أرض الواقع تماما، وقد أحاط بها اللون الأخضر الذي يشير إلى خصوبة أرض الجزائر المعطاء.
وفي نص "زرياب مبتكر الموسيقى الأندلسية" ص137 تحضر صورة يدوية تخطيطية تقريبية لزرياب حاملا عوده بلباقة ومهارة، وهو منهمك في أداء وصلاته الغنائية، وهذا دليل على تمجيد التراث الفني العربي الأصيل.
والملاحظ أن صورة زرياب سالفة الذكر تغلب عليها الخطوط المنحنية والانسيابية التي ترمز إلى السهولة واليسر، على عكس الخطوط المنكسرة التي ترمز إلى الضيق والتأزم. واختيار نوعية الخطوط يبدو موفّقا إلى حدّ بعيد، باعتبار زرياب عاش الرخاء والرفاهية في الأندلس، بعد تعرضه إلى مضايقة المنافسين من أمثال إبراهيم الموصلي ونجله إسحاق اللذين استأثرا ببلاط الخليفة أنذاك في بغداد عاصمة الخلافة العباسية . وتتجلّى السهولة واليسر كذلك في العفوية والأريحية التي كان يؤدي بها زرياب فنّه.
هذه إذن قراءة وصفية تحاول إضاءة جوانب من حضور الصورة في التأليف المدرسي من جهة، ونقدية تسعى إلى تسجيل ملاحظات عن مدى جودة أو رداءة الصورة المعتمدة في الكتاب المدرسي من جهة أخرى. فقد آن الأوان لتتكاثف الجهود بكفاءة وأمانة قصد إصدار طبعات جديدة من كتب مدرسية تتماشى ومتطلبات العصر.
ومجمل القول فإن الصلات بين الصورة واللغة ما تزال معرفتنا بها غامضة وسطحية، وهو أمر راجع إلى أن البحث في مجال الصورة ما يزال في بدايته، إذ أن الباحثين ما زالوا في طور البحث عن الأدوات والمناهج الملائمة التي تسعفهم في الكشف عن طبيعة هذا الموضوع المنفلت وإبراز قواعد اشتغاله. ولن نتمكن من سبر أغوار هذه العلاقة إلا عندما يصل علم الإيقونولوجيا إلى ما وصل إليه علم اللسان من تقدم في الوقت الراهن. كما أنّ كلا العلامتين اللسانية والأيقونية تتشابه في أوجه، وتختلف في أخرى. فإذا كانت العلامة اللسانية ذات منحى رمزي خالص، فإنّ نظيرتها الأيقونية تجمع ما بين الرمزي والمطابق للواقع، الأمر الذي يجعل تحليلها وقراءتها مهمة تحتاج إلى تكاثف جهود الدارسين.