إن نصرة القرآن العظيم والعمل بأحكامه لا يمكن أن تمر إلا عبر الاعتقاد الصحيح في مرجعه وهو صفة الكلام القائمة بذات الله تبارك وتعالى، وأنها قدِيمةٌ بمعنى أزلية كذاته العلية سبحانه منزهة عن مشاركة المخلوقات في واحد من أخص صفاتها وهو الحدوثُ، ولا شك أن من اعتقد أن الكلام القائم بذات الله محدَث قد سوَّى بينه وبين المخلوقات في هذا الوصف الذي هو عنوان الافتقار، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وقد دافع أئمة اهل السنة والجماعة عند هذا المعتقد العظيم، ومن أوائلهم الإمام عبد العزيز الكناني (ت240هـ) في كتابه الحَيْدة والاعتذار الذي رد به على بشر المريسي، وقد أسس في ردّه قواعد الحق وعقائد الصدق التي تردّ على المعتزلة والوهابية في عصرنا.
ولذا سار الوهابية إلى تحريف مضامينه على عادتهم في تحريف كتب عقائد أهل السنة والسلف الصالح، وممن اشتغل بذلك الدكتور علي بن محمد بن ناصر الفقيهي الأستاذ بقسم الدراسات العليا بالجامعة الإسلامية بالمدينة ـ فكّ الله أسرها ـ
فقد تلاعب الدكتور المذكور بمقاصد الكناني، جريا على عادة أصحاب رسائل الجامعات الوهابية في تحريف العقائد السُّنية، فقال في مقدمة تحقيقه بأن الكناني يردّ على القائلين بخلق القرآن من الجهمية والمعتزلة والرافضة والأشعرية (ص 2)
لكن ما لا يفهمه الدكتور المذكور أوْ لا يريد إظهاره أن الكناني هو المؤسسين لعقيدة أهل السنة الأشاعرة في قِدم صفة الكلام القائم بذات الله واستحالة حدوثه، لا كما يقول الوهابية بأنه حروف وأصوات محدَثة تقوم بذات الله وأنه أفعال اختيارية تحل بذاته كما يزعمون.
فقد ذكر الإمام الكناني برهانا قطعيا على استحالة حدوث الكلام القائم بذات الله تعالى جرى عليه الإمام الطبري في التبصير والإمام الأشعري في اللمع وهلم جرا من أهل السنة الأشاعرة، وذلك بما ورد في الحيدة:
قال عبد العزيز فقلت لبشر: تقول إن كلام الله مخلوق.
فقال: إن القرآن مخلوق،
قال عبد العزيز فقلت له يلزمك واحدة من ثلاث لا بد أن تقول أن الله عز وجل خلق القرآن ـ وهو عندي أنا كلامُه ـ :
ـ في نفسه.
ـ أو خلقه في غيره.
ـ أو خلقه قائما بذاته ونفسه.
فقل ما عندك. (ص 84)
ثم أبطل الكناني جميع هذه الاحتمالات، وأخص بالذكر منها الأول لأنه محل الخلاف بين أهل السنة والوهابية القائلين بأن الله يحدث القرآن في نفسه، فقال الكناني: فإن قال: إن الله خلق كلامه في نفسه فهذا محال لا يجد السبيل إلى القول به من قياس ولا نظر معقول لأن الله عز وجل (((لا يكون مكانًا للحوادث)))، ولا يكون فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصاً فيزيد فيه شيء مخلوق، ولا يكون ناقصا فيزيد فيه شيء إذا خلقه تعالى الله عن ذلك وجل وتعاظم. (ص85)
فانظر كيف أبطل الكناني عقيدة الوهابية ببيان استحالة أن يكون الله تعالى محلا للحوادث، وانظر كيف لم يفرق بين الحادث والمخلوق، فالقول بأن القرآن محدَث هو عين القول بأن القرآن مخلوق.
ثم اعلم أن هذا البرهان كما أشرت لك هو عمدة عند أهل السنة عموماً والأشاعرة خصوصاً في بيان استحالة حدوث كلام الله تعالى، فكيف يقول الدكتور المذكور بأن الكناني يردّ على الأشاعرة؟؟ هذا عين التحريف.