قصة تنمو لتصبح رواية - منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب

العودة   منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب > منتديات الثّقافة والأدب > قسم الإبداع > قسم الخـــواطر

قسم الخـــواطر قسمٌ مُخصّصٌ لإبداعات الأعضاء النّثريّة.

في حال وجود أي مواضيع أو ردود مُخالفة من قبل الأعضاء، يُرجى الإبلاغ عنها فورًا باستخدام أيقونة تقرير عن مشاركة سيئة ( تقرير عن مشاركة سيئة )، و الموجودة أسفل كل مشاركة .

آخر المواضيع

قصة تنمو لتصبح رواية

إضافة رد
 
أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 2014-09-30, 19:39   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
شاعر_الشوارع
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية شاعر_الشوارع
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي قصة تنمو لتصبح رواية

هي رواية كتبت منها لحد اللحظة أربع فصول
و ما تزال في بدايتها

و سأحاول وضع كل فصل أنهيه بين ايديكم هنا

بقلمي
بسباس عبدالرزاق



قصة لابد منها





***************

حين عودة روحي

***************

اتخذت زاوية قريبة من زجاج المقهى، طاولة دائرية تدور حوافها مثلي بلا انتهاء، أحتسي قهوتي الداكنة مثل رؤيتي، أشعلت سيجارة و رحت أنفث ترسبات الخيبة في أرجاء المكان، كنت أتتبع قطرات المطر خارجا التي كانت تراقصها الريح رقصة شاوية و الرعد مثل البارود و كأنني في حفلة فلكلورية فنتازية، و صوت سقوط المطر يشبه زغاريد النساء فرحة بمشوار قامت به السحب التي تشبه فارسا يمتطي الفضاء، أملأ رئتي بوجوه المارة الغامضة، نظرات حزينة و بعضها كئيبة قليلا ما يمر أحدهم باسما أو مهتما بهذا المهرجان المائي.

في المحطة الصغيرة الزجاجية المقابلة للمقهى طفل صغير يلاعب يدا والده، يستجدي الدفء من عروقه الناتئة من ذراعيه الهزيلتين، يراقبه أبوه بلطف و حنو، النظرات الأبوية منحة إلهية، التلامس الجسدي بين الوالد و أبنائه تلامس روحي قبل كل شيء. الريح كان يداعب شعره الأصفر، لم يكن بيد المحطة التي تشبه كشكا أن تحول بينهما، بل كانت سافرة تفضخ الهاربين من المطر و من البرد.

كنت ألاحق مشاغبات الولد باهتمام و هو غير عابيء بالجو، بل يبدو لي مسرورا بتقبل تقلبات الطقس، أحيانا يمد يديه من تحت سقف المحطة التي غطيت و أحيطت بالزجاج. ليستطلع قوة المياه المتساقطة عندما تولد و هي في بكارتها الأولى، يثير فضوله المطر عوض أن يفر منه مثل كل الناس، يشبهني هذا الطفل كثيرا، طوال حياتي لم أكتسب مظلة، بل كنت أستقبل السماء حافيا من التكنولوجيا، تماما مثلما هي عارية بدون ثياب.

أخذت نفسي و اقتربت منه، وقفت بجانبه، قلدته و مددت يدي نحو المطر، انتبه لاستفزازي له، فتقدم خطوة جريئة و وقف خارجا، و كأنه يغريني أن أراقص حبيبة قادمة من السماء، سايرته و تقدمت بجانبه لأستكشف أي حب ستهديني السماء هذا اليوم، هذا الفتى كان ذكيا جدا و شاعرا رغم الملابس الرثة التي كان يرتديها، و شكله الصغير، و راح يستدرجني حين رفع وجهه نحو المطر و راحت زخاته تتساقط بين خديه و تنساب بين تقاسيم رقبته، و تبلل شعره الأصفر ليصبح براقا أكثر، لم أكن لأغفل عن ابتسامته البريئة التي كان يكيلني بها كي أوافقه و أقلد تصرفاته و أقاسمه تلك اللحظة، رفعت وجهي نحو السماء موافقا لأكتب شعرا مائيا على خدي، و كأنني أتحضر لأول قبلة جارفة.

كان شيء ما غائبا عني يعود رويدا رويدا نحو جسدي، يتغلغل و يدخلني بل يحتلني كالفاتحين، لحظتها و لأول مرة أحس بروحي تداعبني، تتسلل بين عروقي لتسكن من جديد جسمي المنهار، أحسستني أقف على أفق الجنة، مددت يدي لأمسك يد الطفل لأعيش أكثر تلك اللحظة، وقعت يدي بيد دافئة غير أنها كبيرة شيئا ما، فتحت عيني لأرى حبا سقط لحظة عودة روح.











*******************

الفصل الأول


إحساس ماطر

*******************







-أنا امرأة؛ صافحتُك ذات نص، و أهدتيك روحك في غفلة منك.

-و هل كنت تائها حينها؟

-ربما، فقد كنت تبحث عني.

-لا أذكر أنني كنت أفتش عنك أو قابلتك أصلا؟

-سنسأل الولد الذي بداخل قصتك، ربما ما يزال مشاغبا.

عندما كتبت قصتي -حين عودة روحي-، كان أول ما فعلته هو ترصد ذاك الطفل، قد يكون بداخلي فضول و شوق أن أكرر المشهد، و قد يكون اعتقاد بوجودها.

بحثت عن زاوية تطل على موقف الحافلات، اخترت المشهد بعناية فهو أمر بغاية الأهمية. لم يغب عن ذهني أمر الطاولة لأستطيع هندسة حب طاريء مشابه لنزول المطر.

و لكن كيف أعرفها من دون باقي النساء؟، علقت بذهني امرأة تواجه المطر بعذوبتها بلا مظلة، فلتكن كذلك امرأة بدون مظلة.

دائما ما يداهمني الحب شاردا، و أنا غير مستعد للنار، لذلك أحترق و أغدو وقوده فينتهي بي المطاف إما كارها لتلك المرأة أو منبوذا، لا لشيء فقط لأنني لا أحب الإنزلاق، و غالبية من عرفتهن كن مسطحات.

في غمرة تلك الأفكار كان هناك طفل يشبهه تماما و ربما هو أنا في جسد آخر، يشاغب المطر، يراقص الرصيف و يوزع طيشه على العابرين. لم أتمالك نفسي و قذفت بهذا الهيكل المتداعي باتجاهه؛ لأنال نصيبي من التبلل، قد يكون النص أغراني بسراب امرأة مطرية، تلهب حلقي. ياه كم يشبهه.. حتى ثيابه و فطنته، و بطولاته في مقاتلة المطر، لا.. لم يكن يحارب بقدر ما كان يهندس حفلة مبللة بأطفال البحر.

جذب انتباهي قرع نعالها، تمشي في قلب المطر، لم تكن تتخير في طريقها المسالك التي تخلو من بقع الماء، أبدا.. بل عفوية مطلقة في سيرها مثل الريح عندما تداعب السنابل، وصلت أمامنا و علَّقَتْني على معابد الأحلام؛ بابتسامة ألهبت جبيني المبلل.

خلفي تماما اتخذت عمود الموقف الرمادي مكانا لها، ثم مازحت الطفل:

-يبدو أنك مشاغب لا يحمل مظلة. غدا تعال إلى هنا و سأهديك قصة جميلة.

قلت لنفسي: لألفت انتباهها بمزاح على قياس كلامها.

-و أنا؛ أيمكن أن تهديني قصة مشابهة؟.

-أنت؟

-آسف إن كنت متطفلا.

-لا يمكن أن أهديك ما تريد.

-لِمَ ذلك؟

-أيمكنني أن أهديك قصتك؟.

-قصتي!

-نعم، أنت كاتبها؛ قرأت نصوصك في النت.

-نعم..نعم.

توقفت الحافلة أمامنا و سارعت نحوها و اختفت بداخلها، و هي تقول:

قد أكون جائزة نزلت مع طيش سحابة تائهة. غدا سنعرف ذلك.

كررت المشهد مرة أخرى، و لكن هذه المرة أردته عفويا، جلست عند أول طاولة قابلتني بالمقهى، طلبت قهوتي المعتادة، داكنة و ثقيلة، و أقصى اللذة التي يمكنك أن تنالها من القهوة هو طعمها الذي يقف على حافة المرارة، تحس بالكافيين و هو يتسرب في خلايا عقلك، تلسعك مثل نسيم هذا الصباح الربيعي، الذي يمرر كفه على بشرتك الدافئة، فتتملكك قشعريرة هي نشوة حب أكبر منها رد بيولوجي للبرودة، كذلك ذوقها يشبه امرأة غامضة، فتجعلك تضبط ساعتك البيولوجية على حواسها و عينيها.

-إلى أي حد يمكنك أن تصبح طائشا.

قالت كلمتها و هي تجلس قبالتي وسط فضول من الجالسين في المقهى.

-تدركين جيدا أن المقاهي عندنا محرمة على النساء.

-نعم، و لكن أريد أن أعرف إلى أي حد أنت مستعد للذهاب في قصتك.

-و ما شأن الأدب؟.

-هل أنت مستعد أن تستعيد روحك و نفسك؛ لتغادر هذه العلبة التي تسمونها جسد. ثم أليس الأدب طيش و جنون.

-الأدب طيش؟.

-ألست من جعلني أمسك يدك، أليس هذا طيش؟. أليس خيال –البوابة- جنون؟.

-أنا جعلتك تمسكين يدي؟

-عندما كنت تنتظر هديتك. ألن تطلب لي قهوة لنواصل الحديث بجنون أكبر.

امرأة مثلها تقبل الفنجان و كأنها تنهش شفاه رجل؛ جعلني مستعدا للسفر في داخلها، خلاف غيرها لم تكن تبحث عن تفاصيل أنوثتها، داخل مغامراتي الأدبية، و كنت رجلا يبحث عن ظل يلبسه، يصطحبه داخل مغارة الشعر ليشعل به مركز العتمة.

-و لكن لا أذكر أنك لمست يدي.

مدت يدها و مررتها على يدي، نفس اللذة عندما أنهيت ذاك النص، هي نفسها لا محالة.

-ألست من جعلتك تستعيد روحك أثناء مغامرتك تلك.

كم يلزمني من الأدب و الشعر لأستطيع إلباسها أنوثتها، هي التي تدرك حاجتي للنار قدر اكتفائي من الألم. هي التي تقف عند حافة نصي تمسك بمضغة نابضة.

كيف استطاعت أن تتسلل عبر الكلمات نحو قدري، من أنا لأوقف تمشيطها ليدي و هي تمسكني من حلقي. زجاجة عطرها مملوءة بالنار، و أنا روح قابلة للإحتراق.

-متى سأراك ثانية؟

-عندما تكتب قصة أخرى.







********************

الفصل الثاني


في لحظة الكتابة

********************







امرأة مثلها تعبرني و تصطدم بقدري، تلهب فنجاني .. تعبث بدخان سجائري، تستحق أن أكتب معها قصة تستحق القراءة، أليس الأدب أنثى تفجر طاقة الكتابة داخلنا؟

تترسب في أحشائي و لا تقيم وزنا للمسافات التي تفصلني عنها، فمثلها تحسن إلهاب المساحات الباردة، امرأة ترفض الصقيع بطبيعتها.

لم تكن أنثى ترفض معاندة المطر بمظلة فقط، بل تستفز الكلمات لمطاردتها و ترتسم على وجوه الأطفال. قالت ذات نقاش:

-الحب ليس بحاجة لمقاومة المطر، لا يبالي بالنيران، و لا يلبس ثياب مضادة للحرائق؛ فالعشق هو الكبريت الذي يرفض البقاء في علبة ضيقة.

لأراها ثانية كنت ملزما بنشر أي قصة، حرضت الكلمات لتضرب موعدا معها، سقوط الجمل لم يكن ليدفع بالوقت نحوها.

أتساءل هل كانت قصتي هي قدري نحوها، أم كانت قدر سطور سقطت لحظة عري من الواقع.

هي كل الأدب الذي عصف بيننا، فما أجمل أن تأتي محملة بالعاصفة، خالية من الهدوء و الصمت.

أذكر عندما قالت:

-الصمت مسافة تفصل الجمل و أنا جملة كاملة تكتب دفعة واحدة أو تفصل بمساحة بيضاء كاملة لآخر الكتابة.

أجبتها يومها بشيء من الثقة:

-الفواصل مسافة للتنفس، لنواصل الكتابة بجرأة أكبر، كذلك الصمت هو زمن اضطراري لأواصل لعبة الأدب معك.

لأنها ترفض الصمت، واصلت أسئلتها التي تخلو من علامات التوقف، حتى علامات التعجب كانت تخلو منها ملامح مواعيدها الملتهبة:

-الأدب يؤكل دفعة واحدة و لا مجال للتروي...

سويت عندها ربطة عنقي و كأنني أشتهي مشنقة أنيقة:

-مثل الكرسي، يجلس عليه مرة واحدة، و لا مجال للتنازل عليه، أو اقتسامه مع الشعوب.

أدركت أنني أجرها نحو أروقة مظلمة، تنبعث منها رائحة الطفيليات، فاستدركت الحديث من خيطه الرفيع جدا:

-القصائد كذلك، تستحق أن نحترق لأجلها، لتضيء حواف العاشقين، أليس العشق مادة خامة لبناء قصيدة خالية من الفطريات...

ما زال عالقا بذهني تمردها على أعراف المدينة عندما سحبت نفسها، مخلفة خلفها مساحة كاملة بحجم رواية؛ قمت يومها أمشط الشوارع، و أتساءل في نفسي: كيف لمدينة صغيرة ينمو بداخلها الإسمنت أن تنبت بداخلها الورود؛ فالعلمة مدينة ترفض الأنثى و ترفضها، و لكنها مرغمة على ترتيب مصادفة بيننا.

العلمة مدينة لا تقيم وزنا للحب، لذلك هي تحارب البقع الخضراء، يزرع بداخلها الإسمنت في كل الأماكن، حتى الهوامش كانت هي الأخرى مستعدة لاحتضان أبنية مصممة لتبقى فارغة.

هل كنت ملزما بصناعة امرأة تناسب نصا قد يكتب في أحشائه الإحتراق، أم تراني مجبر على اكتشاف نص يكون بقدر مصادفاتها الطارئة.

ارتديتها ليلتها، هي التي تخلع عني صمتي، و تلبسني صوتها الهارب في عروقي. حاولت مواعدتها على صفحة بيضاء، لم أوفق برغم الإستعارات التي أدخرها، عبثا حاولت ذلك. تساءلت عنها،من يتحكم بالآخر، هل هي من يكتبني؟ أم كنت من وضعها بطريقي؟..

عندما قابلتها في موعدنا الأول، و بدقة أكثر شاعرية عندما اصطدمت بي لم يكن يعنيني الحب، بقدر ما كانت هي من أثار بداخلي شهوة الأسئلة. و رغبة تجريب الأدب على جسد ورقي.

هناك دائما امرأة تبحث عمن يكتشفها في قصصه، كذلك فعلت، وجدتها و لكنني لم أدرك حجم الورطة التي سقطت في يدي..

مثلها يصعب إجبارها على تأدية بطولة مصممة مسبقا، هي التي تنزل علي مثلما يباغت المطر فصل الصيف فتنتحر الشمس على شفاه سحابة تكتنز بالعواصف و الرعد. سيكون انتحارا أدبيا لو أرغمتها على الظهور أمامي في موعد مرتب.

هذه المرأة تبدو ممتعة مثل القراءة، جامحة مثل الكتابة.

في كل رواية قرأتها يستطرد كتابها بوصف أبطالهم، إلا هي.. كانت تفرض ملامحها بدون ماكياج أدبي..خال من التشبيه، لأنها لا تشبه الصور الجاهزة.

لابد أن أبحث عنها في هذه المدينة الصغيرة، و لكن أين؟

فهذه المدينة تحجب الرؤية، و تطارد الألوان، هناك لون واحد فقط تكتسيه أرصفتها، إنه الحزن.. و هذه المرأة ترتدي المفاجئات و بعض الفوضى المنظمة..

سأبحث عنها في نفس المحطة، و لكن مثلها لا يتكرر، مثل رصاصة متمردة يصعب ترويضها..

حاولت إرغام الزمن على ترتيب موعد جديد، كنت تائها في الأزقة، أفتش في المكاتب و ملامح المارة المزدحمة بغبار الوقت، وجوههم أوراق خريفية سقطت في حقل ألغام حين داست الريح على جراح الوطن الموءودة، اصطحبت تساؤلاتي أبحث عن إجابات و لو في جريدة كانت تشخر و بتكاسل تشير نحوي لأبتاعها..

تناولت الجريدة و تركتها تقيس خشونة أصابعي، تستشعر تعبي..تتململ في ترديد بضع عوانين دبرت بليل، الجرائد كتب صغيرة، و المقالات وجبات سياسية سريعة التوجيه، و لأننا في زمن السرعة نمتهن أكل الأخبار على جنبات المقاهي..

- رصاصة منقوطة... كيف استطعت أن تقتلني بشدتين..

-أنتِ؟

-التي اغتلتها في مساحة فارهة بالشعر..

-و هل قرأتها؟

رددت على مسمعي المقطع الأخير من قصيدتي:

متهورة كنت في تحريضي على الكتابة

و متمردة على الفصول المملة

أذكر آخر قصة رفضت بطولتها

فاغتلتك برصاصة منقوطة بشدتين

واحدة على شفتيك

و الأخرى ترسبت لتنجب قصيدة بحجمك...

-رصاصة شبقية تلك التي تفترس الأدب، فليكن الموت الذي انتظرته على شكل ضمة ترفعني إلى ناصية الحرف...

سلكت بها شوارع المدينة، أمشط الزمن بامرأة تسافر في ظلي، حطت بنا الكتابة عند بتزيريا أحسبها مصممة للنار...













****************

الفصل الثالث


في ضيافة الثلوج

******************





لست بحاجة للأدب بعد الآن؛ لتصميم موعد يليق بمفاجآتها، تلزمني علبة سجائر محلية الصنع، و خطوات عشوائية أوزعها بطرقات المدينة، تماما كما أربكني حضورها الأخير.

بعد حديثنا الأخير و القصير جدا، و كما تتأبط السماء الشمس؛ إرتديتها كمعطف دافئ، و أنا أتابع أين يمكن أن تأخذني مباغتاتها الطارئة، هي امرأة لا تعترف بالترتيبات المسبقة، تشبه كثيرا غيوم الصيف؛ عندما تغالط حدسي، فتأتي محملة بالزوابع؛ تفجرني كفقاعة صابون تدرك هشاشة جدرانها.

كنت أتوقع أن اللحظة القادمة ستكون بداخل مطعم هادئ، ينعم بموسيقى فرنسية رومانسية، أو ألحان شعبية و ربما يكون العندليب من يوزع أشجانه على زوايا القلوب العاشقة.تابعت المسير بجانبها، غير مدرك أينا يقود الآخر.

لم تنتظر السماء مطولا، لتأكد فوضى الأحداث التي تصاحب وجودها، فأرسلت ندف الثلج؛ تتهادى على رؤوسنا بمهل، تعيد تصفيف رؤوس الشجر؛ لتجعله ذا وقار و هيبة، تتشبث بثيابنا، تتغلغل بين المعاطف؛ لتذوب بداخلها مبللة أكتافنا. عيون الناس تسابق بعضها، تحيي منظر الثلوج المتساقطة. النساء تتابع المشهد بعيون متلهفة، و قلوب معلقة على مشجب الأماني الضائعة، الأطفال وحدهم كانوا ستمتعون، يحضرون أحذيتهم لغد يبدو أبيض الملامح، و الرجال يمارسون طقوس الصلاة في قلوبهم: الحمد لله ...عام خير.

قالت و هي تصافح الثلوج:

-الثلج؛ مطر يرتدي برنسه الأبيض، مثل فارس أحلام يلبي دعوة فتاة تنتظر عند نافذتها؛ يقبل شفاه الأرض بلطف، يفارق موطنه العالي ليصبح في متناول حبيبته. هل تحب أن نذهب خارج المدينة؟.

-بل نحتمي من البرد في مكان دافئ و هادئ.

نظرت نحو السماء؛ و كأنها تسلمت بطاقة للمعايدة:

-هناك فقط يمكن أن ننعم بالدفء، بعيدا عن ضوضاء الحضارة.

-و كأنك تبحثين عن الهروب من المدينة

-ربما..أيوجد مكان يساعدنا على الاستيقاظ بهدوء؟.

-عفوا؟

-الناس نيام إن هم ماتوا أفاقوا، كذلك نحن؛ نستيقظ من الإسمنت فقط؛ عندما نكون في ضيافة الطبيعة، أريده مكانا ذا طبيعة عذراء.

-الوادي البارد أو وادي الصفصاف.

-أسماء جميلة و كلاهما يغري بالسفر.

- غدا سأصحبك لأي مكان منهما.

-لا يمكن أن نفوت دعوة الثلوج العاجلة. اليوم...أنا مصرة.

-إذن؛ فليكن وادي الصفصاف؛ فهو أقرب إلى مدينتنا.

-و غدا عندما نستيقظ هناك نحمل أحلامنا نحو الوادي البارد.

نزلنا عند صديقي محمد؛ غير بعيد عن الوادي، و كم كانت فرحته كبيرة باللقاء بعد مدة طويلة؛ أيام طواها الزمن بين إبطيه. الذكريات علبة سوداء، تشبه تلك الموجودة بالطائرة، و عندما نعثر عليها بين ركام الذاكرة، نحاول تجميعها لنكون صورة تلاشت في تلابيب الوقت، كذلك صديقي؛ كان كمن حصل على كنز مخبأ.

بعد تناولنا لإناء لبن مع كسرة مخمرة- تلك المنقرضة في المطابخ- استأذنا محمد للذهاب نحو الوادي.



*******



استندت على صخرة؛ تراقب مياه الوادي بشغف و نشوة غريبة، و كأنها توصلت لطريقة للتواصل معه، تبتسم، ثم تعود لوجهها ملامح الحزن التي لم تستطع تغييب جمالها الآسر، بدت و كأنها تصغي لحديثه المخبأ بين طيات الزمن. بدت للحظة أنها استطاعت أن تجبره على البوح بأسراره الكثيرة، عن قصص العشاق و التائهين على أطرافه، هو يحفظ نغمات الناي و "القصبة” و يعرف جميع الرعاة في المنطقة، فأصبحت تطارده بصمتها الصارخ بالأسئلة.

كنت أتساءل بداخلي عن سبب تواجدي هنا، هل كانت هي أم الطبيعة؟، أم هو هروب نحو نقطة لا أعرفها؟.

المكان تغطيه طبقة خفيفة من الثلج، لم تمنع الماء من الجريان، أحيانا يسقط بعض الثلج المتراكم على الأشجار، و كأنه ركام أحلام يتهاوى على أجسادنا المتعبة.

خطوت خطوات عنها، لتفاجئني بكومة ثلج على ظهري، ثم ارتدت طفولتها و طيشها، و واصلت رشقي بحبيب البراري...واحد.. اثنين .. ثلاث.. لم تكن تنتظر مني أن أبادلها اللعب؛ بل كانت تنقب عن سبيل للتحرر من القفص الذي يأسرها، فأحيانا نرتكب الحماقات لندرك حريتنا، لنهدم واقعنا، و ربما لنصمم عالما يليق بنا و بأحجامنا.

لم يكن يعنيني اللعب بقدر مواصلة المغامرة، كنت ملزما بمجاراة حماقاتها و عبثها البريء ببعض جنوني، تناولتها بين ذراعي، و ألقيتها على بساط الثلج؛ لتتدحرج عليه مثل ظبي بري يجيد التمرغ، بعفوية استسلمت للسقوط؛ و كأنه أجمل سقوط يحدث لها، و ربما هو سقوط نحو الأعلى، تتدحرج على حبيبات الثلج و تغريني أن أجرب ظاهرة الانهيارات الثلجية، لوهلة صدقت أن الثلوج تعبر عن سعادتها بانهيار فوضوي.

الشمس هي ساعة مستبدة، تلزمنا بالعودة للمنازل، حين تصبح الحياة أجمل، اصطحبتها للعودة و للتحضير للذهاب نحو الواد البارد غدا، عودتنا كانت بدافع الخوف من ذئاب الغابة البشرية- تلك المخلوقات التي نسمعها تعوي بعض الكلام الذي نكرره بدورنا يوميا-كلاما يشبه الله أكبر – و كأنها تتلو مراسيم النحر. فكثيرا ما وقع بعض الشباب فريسة لهم، بعضهم يتداول في نكاح حبيبته و كأنهن سجائر تداس في الطريق، و بعضهم يتخذ قربانا للجنة، و كأن الطريق نحو الجنة رصيف من الجثث..

تحدثت بنبرة حزينة تغلف وجهها مثل المعطف الأسود الذي ترتديه:

-أحس بصراخ البنات يملأ الوادي، و كأن أشباحا تسكنه و ترفض الرحيل، هل تبحث عن سبب يقنعها بالنوم؟. أم هو ترحيب بنا.

و كأنني وافقتها شعورها؛ قلت:

-قد نكون أول زوار يستمدون قوتهم منهن؟.

يبدو أن حديثي أنجب بداخلها فقاعة ألم؛ انفجرت بداخلها كعبوة نسفت كل الأسئلة دفعة واحدة:

-هل كن ضريبة وطنية يدفعها الحب؟. أم كن جرائم ضرورية لندرك قيمة الأنثى؟

طأطأت رأسي، و أنا أصمم ردا يليق بوجاهة تساؤلاتها:

-الأمكنة تمتلك ذاكرة قوية، وحدها تستطيع الحفاظ على توازنها، وحدها ترفض النسيان؛ هذا المرض الذي يصيب البشر، داء يلازمنا به منذ ولادتنا، فنحن ننسى لنستطيع المواصلة، و هي تحافظ على تاريخنا بعيدا عن زحمة عبثياتنا، و هن كن إكليل أزهار يوضع على نعش الحب.

قبل العودة ؛أوقفتني عند التل المطل على الواد قائلة:

-أيمكننا أن نصلي لهن؟ فنقرأ الفاتحة على أرواحهن.



**************************

وادي الصفصاف و الوادي البارد هما مكانان ساحران في منطقة سطيف.








 


رد مع اقتباس
قديم 2014-09-30, 21:36   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
رحيق الكلمات
عضو متألق
 
الصورة الرمزية رحيق الكلمات
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام 
إحصائية العضو










افتراضي

السلام عليكم
-الصمت مسافة تفصل الجمل و أنا جملة كاملة تكتب دفعة واحدة أو تفصل بمساحة بيضاء كاملة لآخر الكتابة.

***
لقد استوقفتني الكثير من العبارات في رائعتك اخي عبد الرزاق
أجدت الصياغة ورسم لوحة خالدة
تعنى بالروح، بالانسان، و بالأحلام
ظلال الحرف هي ايضا تضيق بها الأمكنة احيانا
فتحلق بعيدا باحثة عن ملامح لا تفارق المخيلة
أخي حرفك الرائع حرك الأشجان فكتبت كلماتي بهلوسة غريبة قد تغدو خارج النص ولكنها ربما قد تتسلق يوماً جدار العزلة لتتمكن الدخول
تقديري

نور










رد مع اقتباس
قديم 2014-09-30, 22:12   رقم المشاركة : 3
معلومات العضو
فاروق الصحراء
عضو فعّال
 
الصورة الرمزية فاروق الصحراء
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

سأنحني وبكل احترام أمام روعتك

اللتي تديب قيود وسلااسل الصمت من على الجدار

حقا هي قصة وقصص.. تأخد بقارئها لأبعد مكان

وكل حرف من حروفها ينمو على واقع مستوحى من نبض هدا الزمان ..

أو بالأحرى واقع من وقائعنا اليومية

بوركت على هدا المجهود الكبير .. وبوركت أناملك أخي شاعر الشوارع

تحياتي لك









رد مع اقتباس
قديم 2014-09-30, 22:48   رقم المشاركة : 4
معلومات العضو
زياني *****
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

يستحيل ان أرد بمثل هاته الردود : سلمت يداك ، وشكرا لأن مثل هاته الردود تغثني
واتقيأ منها
فالكاتب قلمه ثري و وجبته ألأدبية دسمة يصعب عليْ تناولها مرة واحدة في ظرف ساعة
فا للقراءة طقوس كذلك للكتابة وما طرحه الكاتب الآن ليس آني بل على الأقل شهر
وفي تَأْنَّى و تَمَهَّلَ و تَرَفَّقَ كي تصل القار ىء في أجمل حلة

بإختصار هذا مكان زياااني

حبذا لو مثل هذا الطرح يثبت

خذ يا عبد الرزاق










رد مع اقتباس
قديم 2014-10-01, 21:01   رقم المشاركة : 5
معلومات العضو
زياني *****
عضو محترف
 
إحصائية العضو










افتراضي

بعض النصوص احيانا تعرج بذاكرتنا على أدب العظماء كما هو نصك ..
لاتذكر اقتباس لأحلام مستغانمي ..

أتركك معه دون أن أنسى أنني سأعود حين أجد عقدة الرواية
و أعود بصمت وارف

هذا اقتباس احلام مستغانمي
" ما زلت أذكر قولكِ ذات يوم :
"الحب هو ما حدث بيننا. والأدب هو كل ما لم يحدث".
يمكنني اليوم, بعد ما انتهى كل شيء أن أقول :
هنيئا للأدب على فجيعتنا إذن فما اكبر مساحة ما لم يحدث . إنها تصلح اليوم لأكثر من كتاب .
وهنيئا للحب أيضا ...
فما أجمل الذي حدث بيننا ... ما أجمل الذي لم يحدث...
ما أجمل الذي لن يحدث .

قبل اليوم, كنت اعتقد أننا لا يمكن أن نكتب عن حياتنا إلا عندما نشفى منها .
عندما يمكن أن نلمس جراحنا القديمة بقلم , دون أن نتألم مرة أخرى!
عندما نقدر على النظر خلفنا دون حنين, دون جنون, ودون حقد أيضا .

أيمكن هذا حقاً ؟
نحن لا نشفى من ذاكرتنا .
ولهذا نحن نكتب, ولهذا نحن نرسم, ولهذا يموت بعضنا أيضا .









رد مع اقتباس
قديم 2014-10-16, 23:28   رقم المشاركة : 6
معلومات العضو
شاعر_الشوارع
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية شاعر_الشوارع
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رحيق الكلمات مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
-الصمت مسافة تفصل الجمل و أنا جملة كاملة تكتب دفعة واحدة أو تفصل بمساحة بيضاء كاملة لآخر الكتابة.

***
لقد استوقفتني الكثير من العبارات في رائعتك اخي عبد الرزاق
أجدت الصياغة ورسم لوحة خالدة
تعنى بالروح، بالانسان، و بالأحلام
ظلال الحرف هي ايضا تضيق بها الأمكنة احيانا
فتحلق بعيدا باحثة عن ملامح لا تفارق المخيلة
أخي حرفك الرائع حرك الأشجان فكتبت كلماتي بهلوسة غريبة قد تغدو خارج النص ولكنها ربما قد تتسلق يوماً جدار العزلة لتتمكن الدخول
تقديري

نور



شكرا اختي نور لجميل ردك

حقيقة هذه النصوص هي وليدة جهد ثمانية اشهر
و كم مزقت من أوراق و كم رميت من افكار لاصل بها لهذا الشكل


و ما تزال الرحلة ممتعة اكثر و متعبة أيضا


تقديري









رد مع اقتباس
قديم 2014-10-23, 20:04   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
شاعر_الشوارع
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية شاعر_الشوارع
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاروق الصحراء مشاهدة المشاركة
سأنحني وبكل احترام أمام روعتك

اللتي تديب قيود وسلااسل الصمت من على الجدار

حقا هي قصة وقصص.. تأخد بقارئها لأبعد مكان

وكل حرف من حروفها ينمو على واقع مستوحى من نبض هدا الزمان ..

أو بالأحرى واقع من وقائعنا اليومية

بوركت على هدا المجهود الكبير .. وبوركت أناملك أخي شاعر الشوارع

تحياتي لك
انا من ينحني تواضعا و فرحة بك

فالكاتب لا يساوي شيئا دون عيون قرائه


أحببت كثيرا حرورك الجميل

كامل محبتي و تقديري









رد مع اقتباس
قديم 2014-10-23, 20:13   رقم المشاركة : 8
معلومات العضو
walddz
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية walddz
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

سلام الله إليك
أخي عبد الرزاق

لا تتم السنة إلا برابع فصولها
أفما آن الأوان لرابعها

تحيتي و تقديري لك









رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
لتصبح, تؤمن, رواية


تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة

الانتقال السريع

الساعة الآن 05:07

المشاركات المنشورة تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط، ولا تُعبّر بأي شكل من الأشكال عن وجهة نظر إدارة المنتدى
المنتدى غير مسؤول عن أي إتفاق تجاري بين الأعضاء... فعلى الجميع تحمّل المسؤولية


2006-2024 © www.djelfa.info جميع الحقوق محفوظة - الجلفة إنفو (خ. ب. س)

Powered by vBulletin .Copyright آ© 2018 vBulletin Solutions, Inc