ماذا يعني أن تعلن باريس أن “الجزائر وافقت دون شروط على مرور الطائرات الحربية الفرنسية فوق أجوائها”؟، وهل كانت زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر لطلب الترخيص للحرب على مالي تنفيذا للمرسوم الجزائري المؤرخ في 30 أوت 2010م؟، وهل تمسّك السلطة الجزائرية بـ”عدم التدخل الأجنبي في مالي” كان تضليلا إعلاميا؟.
بين الدستور والقانون؟
تنص المادة 26 من الدستور الجزائري لعام 1996م والمعدّل في 15 نوفمبر 2008م على أن “الجزائر تمتنع عن اللجوء إلى الحرب من أجل المساس بالسيادة المشروعة للشعوب الأخرى وحرمتها، وتبذل جهدها لتسوية الخلافات الدولية بالوسائل السلمية “فهل ماقامت به السلطات الجزائرية منذ اندلاع الأزمة المالية يتماشى مع الدستور؟.
لا أحد ينكر أو يتنكر للموقف الجزائري الرافض للتدخل الأجنبي، فبالرغم من الضغوط الدولية إلاّ أنها لم تسمح لطيران حلف الناتو بالمرور فوق الأجواء الجزائرية أثناء التدخل في ليبيا، وهو موقف ثابت ففي عهد الشاذلي بن جديد رفضت الجزائر أن تمر الطائرات الأمريكية عام 1984م فوق أجوائها للاعتداء على الجماهيرية الليبية التي تحوّلت اليوم إلى اسم دولة ليبيا.
صحيح أن حكومة مالي هي التي دعت إلى التدخل الدولي فوق أراضيها لمحاربة ما تسميه بالإرهاب وتم الإتفاق الأممي على ذلك، لكن فرنسا كانت سباقة إلى الانفراد بالقرار، فهل كانت الجزائر على علم بذلك؟
القراءة البسيطة في المرسوم التنفيذي رقم 10/ 199 المؤرخ في 30 أوت 2010م يجد أنه يحدد مدة الترخيص للتحليق فوق الأجواء الجزائرية بـ21 يوما قبل تنفيذ العملية وهي المدة التي تفصل بين زيارة الرئيس الفرنسي للجزائر وتنفيذ العمليات الفرنسية في مالي، وباعتبار أن هذا المرسوم يخوّل لوزير الدفاع فقط إعطاء الترخيص، ووفقا للمادة 77 من الدستور فإن الرئيس الجزائري هو” القائد الأعلى للقوات المسلحة” فهل أعطى الرئيس بوتفليقة للرئيس الفرنسي الموافقة على المرور فوق الأجواء الجزائرية أم أن باريس أقحمت الجزائر في حرب مالي؟
أعتقد أن المعني الأول بالحرب على الإرهاب في مالي هو الحكومة المالية والمعني الثاني هو الجزائر وموريتانيا باعتبارهما المتضررتين منه بحكم الجوار، فلماذا تقحم فرنسا نفسها دون تكليف من الأمم المتحدة؟ فهل فشلها في ليبيا وسوريا هو الذي دفعها إلى الانفراد بالحرب على شمال مالي؟
الحنين إلى استرجاع “المستعمرات” الفرنسية
يتساءل الكثير لماذا إختارت فرنسا دولة مالي للعودة إلى مستعمرتها القديمة التي كانت تمثل الإمبراطورية الفرنسية في الفترة مابين 1600 إلى 1962م، والإجابة هي أن فرنسا ما تزال تربطها علاقات قوية بـ18 دولة إفريقية كانت ضمن مستعمراتها، وآخر خروج لها منها هي انسحابها من قاعدة بانجي العسكرية في جمهورية إفريقيا الوسطى عام 1990م، أمّا آخر مجازرها في إفريقيا فهي ما حدث لـ 8 آلاف إفريقي من التوتسي والهوتو عام 1994م برواندا.
يشكل المسلمون أقليات معتبرة في المستعمرات الفرنسية السابقة باستثناء دولة مالي التي يمثلون فيها الأغلبية بنسبة تتجاوز %80 وأهمية مالي بالنسبة لفرنسا أن بها كنوزًا من اليورانيوم وثروات أخرى، وتحدّها سبع دول إفريقية تملك فائضا من النفط والذهب وهي الجزائر والسنغال والنيجر وكوت ديفوار وموريتانا وغينيا بيساو وبوركينا فاسو التي كانت جزءا من المملكة الإسلامية المالية قبل احتلال فرنسا لها وفيها %22 أقلية مسلمة من بين 8 ملايين نسمة.
وأدت دول الإيكواس دورًا مهما في سيناريو التدخل الفرنسي في مالي بتشكيلها جيشًا يتالف من 3300 جندي حيث أنها دعّمدت فكرة تدخل فرنسا باعتبارها من مستعمراتها القديمة وسوّقت لفكرة الحكم الذاتي للأزواد حتى تتبناه الأمم المتحدة باعتباره فكرة مغربية للاستيلاء على الصحراء الغربية في الوقت الذي قامت فيه أطراف أخرى بالترويج لقيام “دولة إسلامية” في شمال مالي. والمفارقة أن أول من أفشل حوار الأزواد وأنصار الدين مع الحكومة المالية هي مجموعة الإيكواس بعد أن نجحت مساعي الجزائر في الجمع بينهما وذلك تنفيذًا للمشروع الفرنسي، لكن هناك من يزعم ان زعيم انصار الدين يكون قد خان الأزواد.
المثير للإستغراب أن فرانسوا هولاند اختار مدينة تلمسان لزيارتها، علما بأن علماء هذه المدينة هم الذين انطلقوا بقوافل منها إلى دولة مالي لنشر الإسلام وكانت لهم محطات في تمبكتو وجاو وكانو، فهل إختيار الرئيس الفرنسي لتلمسان كان عفويًا؟ وهل تسمية العمليات الفرنسية بـ”القط الوحشي” هو للتذكير بوحوش الصحراء التي كانت عقبة في تنقل العلماء المسلمين؟.
الأسطورة المالية
يقال أنه في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي تعرضت أراضي مالي التي كانت تسمى “ماندين” إلى سنوات جفاف، ممّا جعل أميرها المدعو “بارا ماندانا” يلجأ إلى كهنتها وسحرتها لطلب الغيث، غير أن الآلهة لم تستجب لهم، وكان هناك رجل مسلم يعيش بمنطقة “كانغابا” يحظى باحترام سكانها وأراد أن يقدم خدمة لشعبها فطلب من الأمير أن يرافقه إلى ربوة تطل على المدينة وأن يصلي الإثنان معا “صلاة الاستسقاء” فلبى الدعوة وكانت النتيجة أن انهطلت الأمطار فأسلم الأمير وشعبه، وقد تعرض ابن بطوطة إلى الحديث عن الإسلام في مالي وهناك إجماع لدى المؤرخين بأن مالي قامت بدور هام في نشر الإسلام، وتشهد على ذلك قبور الأولياء الصالحين والعلماء المصنفة ضمن الآثار التاريخية الموجودة في مالي والتي تعرضت إلى التدمير بسبب تسلل الوهابية إلى مجموعات داخل مالي وأول دخول لهذا المذهب كان عام 2003م بعد أن انتشر في أفغانستان وأدى إلى تدمير آثار بوذا.
يبدو أن تداعيات الأزمة الاقتصادية والمالية في أوروبا وأمريكا تدفع الغرب إلى التسابق نحو إسترجاع مواقعها في مستعمراتها القديمة، وإذا نجحت في مشروعها فإن البقية ستحذو حذوها، ولهذا على الشعوب العربية والشعوب الأخرى التحرك لسد الطريق أمام الغزاة الجددالقدامى.