الأشعرية في عصرنا يمثلون الأغلبية في العالم الإسلامي، وذلك ليس عن رغبة معتنقيه من أهل العلم في هذا المذهب، ولكن لكونه واقعا مفروضا في أغلب المؤسسات التعليمية في مرحلة التلقي والتعليم منذ الصغر، فهذا المذهب الذي يطلق عليه معتنقوه على زعمهم مذهب أهل السنة، ما زال مقررا في أغلب المدارس والجامعات في البلاد الإسلامية إلا من رحم ربك.
وطالب العلم يدخل منذ نعومة أظفاره إلى المدارس والمعاهد وهو خالي الذهن، فيجد مقررا منفرا غريبا في مادة التوحيد، ويجد المدرسين يلقنونه ويحفظونه أنواعا من التوحيد مبنية على أدلة عقلية بعيدة عن طريقة السلف المعتمدة على ما ورد في الكتاب والسنة.
ويستمر الطالب في دراسته حتى يصبح أستاذا جامعيا، وهو يجهل حقيقة ما عليه السلف، ولو نُوقش في ذلك إما أن يستنكف عن الخضوع للحق؛ لأنه أستاذ صاحب هيبة ومكانة، وقبول الحق عنده يعني إقراره بلوازم يصعب تصورها، أو الالتزام بها، وإما يزداد إصرارا على صدق الطريقة الأشعرية، ويتمادى في الدفاع عنها بحجج عقلية حتى يستحيل معه النقاش.
والحق يقال: إن بعض من يقوم على التدريس للطلاب، أو يلخص لهم بعض ما جاء في المقررات أو الكتاب، ربما يشعر بشيء من المسئولية عند فهمه للطريقة السلفية، فينبه طلابه على أن ما يدرسونه يجب أن يكون للنجاح في الامتحان، وليس للاعتقاد والإيمان، الذي يقابل به رب العزة والجلال يوم القيامة.
وقد رأيت ذلك بعيني في بعض الملخصات الخارجية التي تباع للطلاب، مما أثلج صدري، وأثار في نفسي العجب والاستغراب، ومن هنا كانت أهمية التعرف على التوحيد وتصنيفاته عند الأشعرية، والرد عليهم من باب النصيحة لإخواننا من جهة، وتحصين طلاب العلم من جهة أخرى.
لقد اعتمد السلف الصالح في اعتقادهم على الاستسلام لأمر الله وتنفيذه على وجه الكمال، والتصديق بخبره وإثبات ما أثبته الله لنفسه وما أثبته رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، فالله تعالى أعلم بنفسه ووصفه منا، ونحن ما رأيناه، وما رأينا له مثيلا فكيف نحكم على كيفيته بعقولنا القاصرة؟
وليس هناك من خيار أمام من يدافع بإصرار عن استخدام عقله في وصف ربه إلا أن يقع في المحذور، ويستخدم ، فيقول: لو كان الله كذا، لكان كذا، ويجب عليه كذا، لأجل كذا، ولو قلنا في وصفه بكذا، لكان كذا وكذا، وهو في حقيقة مبدئه يعتبر ربه فردا من أفراد ذلك القياس، ينطبق عليه ما ينطبق على سائر الناس. ولذلك كان مذهب السلف في التوحيد مذهبا حاسما، قطع الطريق على هؤلاء بمنع الأقيسة العقلية المبنية على اجتهادات فكرية في التعرف على الغيبيات، أو كيفية الذات والصفات.
لكن إصرار الأشعرية على استخدام حصيلتهم العقلية، والتي جمعوها من أفكار فلسفية كلامية يونانية وثنية في وصف الله تعالى، وزعمهم أن هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، أداهم إلى أن يصنفوا التوحيد إلى ثلاثة أنواع أساسية، فقالوا: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. وقدم الشهرستاني (ت:548هـ) في وصف الأشعرية بأنهم أهل السنة والجماعة، وأن التوحيد عندهم منقسم إلى تلك الأنواع السابقة.
والسؤال الذي يطرح نفسه على العقلاء: على أي أساس عقلي صنف هؤلاء المتكلمون التوحيد إلى ثلاثة أنواع؟ هل استندوا إلى حكم العقل بأن الله أعلم بنفسه ووصفه منا، فجاء هذا التصنيف مستندا على كتاب ربهم وسنة نبيهم؟ أو أنهم استندوا إلى فهم الصحابة والتابعين وأئمة السنة المقبولين عند جميع المسلمين، كمالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وغيرهم؟
في الحقيقة لم يستندوا في تصنيفهم للتوحيد لا إلى هذا ولا إلى ذاك، وإنما جعلوا الأمر مشاعا عقليا لكل من يدلي بدلوه في الموضوع، فأشبه الأمر استفتاءا شعبيا، واستبيانا فكريا لسائر العقلاء، كان مضمونه: أيها العقلاء الذين لم تروا ربكم، ولم تروا له مثيلا، خمنوا وبينوا لنا ما يجب في حق الله، وما يجوز له، وما يستحيل عليه، وسنأخذ في النتيجة النهائية برأي الأغلبية، لأننا نعلم أنه من المستحيل اتفاق الكل على استفتاء عادي، فضلا عن استفتاء فكري، ولكن سنعتبر رأي الأغلبية أصولا عقلية، ثم نعتبرها بعد ذلك أصولا لديننا وعقيدتنا. فقبلت مجموعة كبيرة من كبار المتكلمين العقلاء المشاركة في هذا الاستفتاء، ثم خرج بعضهم بنتيجة غريبة، لا يعرف فيها مقياس لفرز الآراء، ولا عدد الذين اتفقوا عليها من ذوي الأصوات العقلية الصحيحة.
المهم أن رأيا عاما ظهر في تلك النتيجة، نسبوه إلى زعيم من الزعماء، هو أبو الحسن الأشعري، وقد ظنوا أنه شارك معهم في هذا الاستفتاء، والواقع أنه لم يكن معهم أصلا عند ظهور تلك الآراء، لكنهم على كل حال توصلوا إلى هذه النتيجة، واعتبروا أنها تمثل الدستور الحق ومعيار الصدق في باب الاعتقاد، وأن من دان بها فهو من أهل السنة والجماعة، أو من أهل الحق والتحقق في الدين الخالص وبلوغ الحقيقة، فكان من بنود هذا الاتفاق تصنيف التوحيد إلى ثلاثة أنواع، بناء على الحيثيات التالية:
النوع الأول: أن الله واحد في ذاته، لا ينقسم، وليس له أجزاء وأبعاض، لأنه إن كان له أجزاء، لم يخل إما أن يكون كل جزء منه حيا عالما قادرا، أو كان بعض الأجزاء مختصا بالحياة والعلم والقدرة، فإن كان كل جزء منه حيا عالما قادرا، كان في ذلك إثبات آلهة متعددة، ويُستدل على بطلانه، وإن كانت الحياة والقدرة والعلم في جزء مخصوص، لم يكن الجزء الثاني حيا عالما قادرا، لاستحالة وجود العلة في محل، وثبوت حكمها في محل آخر .
النوع الثاني: أن الله واحد في صفاته لا شبيه له، لأنه يخالف الحوادث، والحوادث لا تقوم به، والدليل على استحالة قيام الحوادث بذات الباري تعالى، أنها لو قامت به لم يخل عنها، ومن لم يخل عن الحوادث فهو حادث، فالرب متقدس عن الاختصاص بالجهات والاتصاف بالمحاذاة، لا تحيط به الأقطار، ويجل عن قبول الحد والمقدار، والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة شاغل لها متحيز، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها، ويرتب على ذلك تعاليه عن الاختصاص بمكان، وملاقاة أجرام وأجسام .
النوع الثالث: أن الله واحد في أفعاله لا شريك له، والدليل على وحدانية الإله، دليل التمانع، وفحواه كما تقدم أننا لو قدرنا إلهين اثنين، وفرضنا عرضين ضدين، وقدرنا إرادة أحدهما لأحد الضدين، وإرادة الثاني للثاني، فلا يخلو من أمور ثلاثة، إما أن تنفذ إرادتهما، أو لا تنفذ إرادتهما، أو تنفذ إرادة أحدهما دون الآخر، والنتيجة النهائية تنفيذ إرادة واحد فقط، هو الإله القادر على تحصيل ما يشاء.
كما ظهرت ضمن هذا الاستفتاء الكلامي العقلي بنود أخرى كثيرة، تضاف إلى تقسيم التوحيد عند الأشعرية منها:
1- أن أول ما يجب على المكلف القصد إلى النظر الصحيح المؤدي إلى العلم بحدوث العالم، وإثبات العلم بالصانع، والدليل عليه إجماع العقلاء على وجوب معرفة الله تعالى، وعلمنا عقلا أنه لا يُعلم حدوث العالم ولا الصانع إلا بالنظر والتأمل، وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به فهو واجب .
2- يجب في حق الله القدم، والبقاء، والقيام بالنفس، والوحدانية، ونفي التركيب وحلول الحوادث، وهي خمس صفات سلبية. وله سبع صفات نفسية فهو بذاته مريد بإرادة، عالم بعلم، قادر بقدرة، حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، متكلم بكلام، وهذه كلها معان وجودية أزلية. وقد ثبتت له هذه المعاني عندهم بناء على ما جاء في النتائج العقلية التي اختارها أغلب المتكلمين. ودليلهم العقلي فيها أن الفعل الحادث يدل على القدرة، والتخصيص يدل على الإرادة، والإتقان يدل على العلم، وهذه الثلاثة لا تكون إلا في حي، والحي لابد أن يكون سميعا بصيرا متكلما .
3- النصوص الخبرية الواردة في الآيات القرآنية وصحيح الأحاديث النبوية التي وردت في صفات الله، هي عندهم موهمة للتشبيه والجسمية، وظاهرها أمور كفرية باطلة ومستحيلة وغير مراد لله في كلامه، والواجب عندهم إما أن تؤول، وإما أنها من أخبار الآحاد التي لا تفيد اليقين في أمور الاعتقاد .
تلك أغلب الآراء التي نتجت عن ذلك الاستفتاء من قبل عقلاء المتكلمين من الأشعرية وغيرهم. وقد اعتبروها أصول الدين، والقواطع العقلية، والفيصل المبين في النظر إلى كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، فما وافق تلك الأصول من النصوص والآيات فهو دليل ثانوي لهم، يقدمونه فقط عند الكتابة في المؤلفات، أو عند المحاجة في المخاصمات والمناظرات، حتى يشعر المخاطب أنهم يعتمدون على نصوص الوحي في إثبات الصفات والاعتقاد في الغيبيات، وما خالف أصولهم وتقسيمهم للتوحيد، فينبغي التعامل معها بأي وسيلة، وأن يبذل لها المرء كل حيلة، بادعاء مجاز أو تأويل، أو تهوين وتعطيل، أو تقبيحها في نفس السامع حتى تبدو ضربا المستحيل، المهم عندهم أن يقر بأن ظاهرها الذي ورد في التنزيل ظاهر باطل ومستحيل، ويجب صرفه إلى شيء آخر.
قول الأشعرية في التوحيد: إن الله واحد في ذاته لا قسيم له، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له. فيه ما يوافق ما جاء به الرسول ﷺ، وفيه ما يخالفه، وليس الحق الذي فيه هو الغاية التي جاء بها الرسول ﷺ. بل التوحيد الذي أُمِرَ به يتضمن الحق الذي في هذا الكلام وزيادة أخرى، فهذا الكلام ضرب من التلبيس الذي اختلط فيه الحق بالباطل؛ لأن الإنسان لو أقر بما يستحقه الرب تعالى من الصفات، ونزهه عن كل ما ينزه عنه، وأقر بأنه وحده خالق كل شيء، لم يكن موحدا، بل ولا مؤمنا حتى يشهد أن لا إله إلا الله، ويقر بأن الله وحده هو الإله المستحق للعبادة، ويلتزم بعبادة الله وحده لا شريك له، فإنهم إذا قالوا الله واحد في ذاته لا قسيم له ولا جزء له ولا شبيه له، فهذا اللفظ وإن كانت نيتهم تحمل معنى صحيحا، فإن الله ليس كمثله شيء في ذاته أو صفاته أو أفعاله، وهو سبحانه منزه عن تفرق ذاته أو فسادها، أو تحولها إلى ذات أخرى، بل هو واحد أحد وتر صمد. والصمد هو الذي لا جوف له، وهو السيد الذي كمل سؤدده، لكنهم يدرجون تحت هذا التوحيد المزعوم، وتحت شعار أنه لا ينقسم نفي علو الله على خلقه، واستوائه على عرشه، الذي أخبر به عن نفسه، ومباينته لمصنوعاته، ونفي ما ينفونه من صفاته، ويقولون إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما مشابها للحوادث .
قال فخر الدين الرازي وهو من أعمدة المذهب الأشعري في نفي علو الله على خلقه، وتعطيل استوائه على عرشه: (لو كان الله مختصا بالمكان، لكان الجانب الذي في يمينه، يلي ما على يساره، فيكون مركبا منقسما، فلا يكون أحدا في الحقيقة، فيبطل قوله: قل هو الله أحد) .
وهم لما نفوا الاستواء وعطلوا علو الفوقية بهذه الحجج العقلية، ساءت حجتهم عند عامة المسلمين، فالله تعالى يقول صراحة هو على العرش، وهم يقولون صراحة ليس على العرش، فما المخرج من هذه الورطة التي وضعوا أنفسهم فيها؟
والجواب في قول أحدهم: المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو، ومنه قول العرب استوى فلان على المملكة، أي استعلى عليها واطردت له، ومنه قول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق : من غير سيف ودم مهراق
الأشعرية تنسب إلى أبي الحسن الأشعري وهو علي بن إسماعيل الأشعري ينتسب إلى أبي موسى الأشعري أحد علماء القرن الثالث تنتسب إليه الأشعرية ولد في البصرة، تعمق أولا في مذهب المعتزلة وتتلمذ على أبي علي الجبائي محمد بن عبد الوهاب أحد مشاهير المعتزلة إلا أن الله أراد له الخروج عن مذهبهم والدخول في مذهب أهل السنة والجماعة. ومن سيرته الذي ذكرها في كتابه أنه كان دائما ما يمل من اختلاف الفرق في وقته فهداه الله إلى الحق واقتنع بما عليه السلف من اعتقاد مطابق لما جاء في القرآن والسنة النبوية فكان له موقف حاسم، وقد مكث في بيته خمسه عشر يوما لا يخرج إلى الناس وفي نهايتها خرج يوم جمعه وبعد أن انتهى من الصلاة صعد المنبر وقال مخاطبا جموع الناس.
مر الأشعري بثلاث مراحل في عقيدته أولها مرحلة الاعتزال التي تربى فيها على يد أبي على الجبائي، ثم المرحلة الثانية التي تأثر فيها بالمنهج العقلي في تقرير إثبات الصفات فأثبت سبع صفات نفسية وهي الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر، أما المرحلة الثالثة فهي إثبات ما أثبته الله لنفسه على مراد الله ورسوله من غير تحريف ولا تعطيل ومن غير تكييف ولا تمثيل على طريقة السلف.
ومن أشهر زعماء الأشعرية الذين انتسبوا إلى أبي الحسن الأشعري قبل توبته وعودته إلى مذهب السلف والذين يمثلون مذهب المتكلمين المعطلة الذي يدرس في البلاد الإسلامية حتى الآن أبو بكر الباقلاني، والبيضاوي والشريف الجرجاني الإمام أبو المعالي الجويني وأبو حامد الغزالي وأبو الفتح محمد الشهرستانى.
وقد قف الأشاعرة بالنسبة للإيمان بصفات الله وقوفا مضطربا مملوءا بالتناقض المعهود عند المعتزلة فذهب الأشاعرة إلى تقسيم الصفات الإلهية إلى صفات نفسيه راجعه إلى الذات أي إلى وجود الله ذاته وإلى صفات سلبيه واختاروا لها خمسه أقسام الوحدانية والبقاء والقدم والمخالفة للحوادث والقيام بالنفس.
وها هنا حقيقة هامة ربما تخفى على كثير من الدارسين للمذهب الأشعري، تلك الحقيقة التي نستطيع الجزم بها، أن أبا الحسن الأشعري الذي ينتسب إليه جميع الأشعرية في البلاد الإسلامية اليوم، يدين لله في أغلب أمور العقيدة بغير ما يدين به هؤلاء، فطريقته في التوحيد طريقة سلفية تنطق بما نطقت به الأصول القرآنية والنبوية.
وهذا كتابه الإبانة عن أصول الديانة، وهو من أواخر ما كتب في بيان عقيدته، ولا يجرؤ أحد من الأشعرية التشكيك في نسبته، لتواتر تلك النسبة إليه عند كل من ترجم لشخصيته، وقد جاء فيه بلا لبس أو غموض، أو تعصب أو جمود، جاء فيه التصريح بأن عقيدته التي يدين لله بها هي بذاتها وعينها ونفسها عقيدة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد أثبت فيها علو الله على خلقه، واستوائه بذاته على عرشه، وأنه تعالى في السماء، وأثبت جميع ما ورد في صفات الذات والأفعال على عكس طريقة الأشعرية في عصرنا، المنتهجين لطريقة الجهمية والمعطلة.
قال رحمه الله: (فصل في إبانة قول أهل الحق والسنة، فإن قال لنا قائل: قد أنكرتم قول المعتزلة والقدرية والجهمية والحرورية والرافضة والمرجئة، فعرفونا قولكم الذي به تقولون، وديانتكم التي بها تدينون. قيل له: قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله ربنا تعالى، وبسنة نبينا محمد ﷺ، وما روى عن السادة الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، نضر الله وجهه، ورفع درجته، وأجزل مثوبته قائلون، ولما خالف قوله مخالفون، لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق، ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائغين، وشك الشاكين فرحمة الله عليه من إمام مقدم، وجليل معظم، وكبير مفهم) .
ثم سرد عقيدته التي يدين بها، وقد جاء فيها أن الله تعالى استوى على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، لا يحمله العرش، بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته، ومقهورون في قبضته، وهو فوق العرش، وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى، فوقية لا تزيده قربا إلى العرش والسماء، بل هو رفيع الدرجات عن العرش، كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى، وهو مع ذلك، قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيء شهيد .
ثم أبطل رحمه الله قول القائلين من الجهمية وأتباعهم بأن معنى استوى استولى، وأبطل تأويلهم معنى الاستواء بالقدرة، وأنه ملك وقهر، وأن الله تعالى في كل مكان، وشنع على جحدوهم أن يكون الله تعالى مستويا على عرشه بالكيفية الحقيقية التي يعلمها هو، كما قال أهل الحق، ثم فند أقوالهم، وكشف عورتهم، وأبان للجميع سوأتهم.
كما أنه أثبت من الصفات الخبرية ما يعتبره الأشعرية من بعده حتى اليوم تشبيها وتجسيما، وظاهرا باطلا مستحيلا، يجب صرفه عندهم بالتأويل إلزاما، فأثبت لله وجها بلا كيف، ويدين بلا كيف، وعينين بلا كيف، وغير ذلك من الصفات الخبرية على اصطلاح الأشعرية .
وهو يعني بوضوح شديد أن إثبات الوجه بلا كيف، واليدين بلا كيف، والعينين بلا كيف، هو إثبات حقيقة الصفة الذاتية لله، وأن المراد بقوله: "بلا كيف" هو ما يعنيه الإمام أحمد بن حنبل من نفي العلم بكيفية الصفة الذاتية الحقيقية الملازمة للموصوف، لا أنه يعني بقوله: "بلا كيبف" نفي وجود الصفة، كما حاول بعضهم أن يشيع ذلك عن علماء السلف، وحاول أن يجعل نفي الكيفية نفيا لإثبات وجود الصفة، وهذا كذب على علماء السلف؛ لأنه لا خلاف بينهم أن الكيفية الغيبية كيفية حقيقية موجودة، وهي كيفية معلومة لربنا، مجهولة لنا، وأن الله سبحانه هو وحده الذي يعلم كيفية وجهه ويديه وعينيه، فهذا مراد أبي الحسن الأشعري من قوله: وجه ويد وعين "بلا كيبف" .
فأين هذا ممن يوجب تأويل الصفات بحجة أنها موهمة للتشبيه والجسمية، ويوجب تأويلها بأي صورة مجازية، أو يُسأل عن الاستواء ويصر على أن معناه استيلاء وقهر، وأنه سبحانه في كل مكان، وليس على عرشه كما ورد في الكتاب والسنة؟!