السؤال:
ما حكمُ الصلاةِ في مسجدٍ به قبرٌ بساحَتِه مِن جهةِ القِبْلة، ولا يفصل بينهما سوى حائطِ المسجد؟ وجزاكم الله خيرًا.
الجواب:
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فعلى نحوِ ما تَقَرَّر مِن أنه لا يجتمع في دارِ الإسلام قبرٌ ومسجدٌ، والطارئُ منهما على الآخَرِ يُزال: فإن كان المسجدُ طَرَأَ على القبرِ فإنه يُزال، وإن كان القبرُ طَرَأَ على المسجد فيُزال القبرُ؛ فقَدْ وَرَدَ الحديثُ في ذلك صريحًا في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا وَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ كَانُوا يَتَّخِذُونَ قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ وَصَالِحِيهِمْ مَسَاجِدَ، أَلَا فَلَا تَتَّخِذُوا القُبُورَ مَسَاجِدَ، إِنِّي أَنْهَاكُمْ عَنْ ذَلِكَ»(١).
ولا يختلف أهلُ العلم فيمَن جاء المسجدَ الذي يُوجَد فيه قبرٌ أنه ـ إذا صلَّى لأجلِ التبرُّك بالقبر، أو اعتقادِ أنَّ للمسجد زيادةَ فضلٍ بزيادةِ بَرَكةِ المقبور ـ أنَّ الصلاة تَبْطُلُ قولًا واحدًا مِن أهل العلم جميعًا.
غيرَ أنهم يختلفون فيمن صَلَّى ولم تتعلَّقْ نَفْسُه بالقبر مَحَبَّةً وتيمُّنًا وتبرُّكًا، أي: مَن خلا قلبُه مِن ذلك:
ـ فعلى مذهبِ أبي حنيفةَ ومالكٍ والشافعيِّ فإنَّ الصلاةَ تصحُّ مع الكراهة، وتزداد الكراهةُ كُلَّما كان القبرُ باتِّجاهِ قِبْلةِ المسجد؛ ذلك لأنَّ مالكًا ـ رحمه الله ـ على مذهبه أنه تجوز الصلاةُ مع الكراهة في المقبرة؛ فقَدْ صَرَفَ النهيَ الواردَ عن التحريمِ واقتضائِه فسادَ المَنْهِيِّ عنه إلى الكراهةِ وعدَمِ البطلان لوجودِ القرينة وهي قولُه صلَّى الله عليه وسلَّم: «وَجُعِلَتْ لِي الأَرْضُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا»(٢)، وإذا كانَتِ الصلاةُ تصحُّ في المقبرةِ مع الكراهةِ فتصحُّ ـ أيضًا ـ بنَفْسِ الحكمِ في المسجد الذي بُنِي على قبورٍ أو فيه قبورٌ.
ـ ومذهبُ الإمامِ أحمدَ أنه لا تصحُّ الصلاةُ في مسجدٍ بُنِي على قبورٍ حسمًا لمادَّةِ الشرك، ولقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَجْلِسُوا عَلَى القُبُورِ وَلَا تُصَلُّوا إِلَيْهَا»(٣)؛ فالنهيُ يقتضي الفسادَ والبطلانَ، ولأنه لا تصحُّ الصلاةُ في المقبرة على مذهبِ الإمامِ أحمد؛ لأنَّ الحديث: «وَجُعِلَتْ لَنَا الأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا لَنَا طَهُورًا إِذَا لَمْ نَجِدِ المَاءَ»(٤) عامٌّ في كُلِّ مكانٍ، وخُصِّص منه المقبرةُ والحمَّامُ وغيرُها مِن المخصَّصات؛ فدلَّ ذلك على عدَمِ جوازِ الصلاةِ في المقبرة عملًا بالجمع بين الدليلين، وهذا الجمعُ أَوْلى مِن الجمعِ بصَرْفِ النهي إلى الكراهة.
وعليه، فإنَّ أَوْلَى الأقوالِ وأَصَحَّها دليلًا ونظرًا ما ذَهَبَ إليه القائلون بعدَمِ صِحَّةِ الصلاة في المسجد الذي بُنِيَ على القبر، سواءٌ نوى بها التبرُّكَ بذاتِ المقبور أو بمُجاوَرته لذلك المسجدِ أم لا، حسمًا لمادَّةِ الشرك وقطعًا لسبيلِ الشيطان، وعملًا بالنصوص الواردة في ذلك وبنصيحةِ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم الذي زَجَرَ عن بناءِ المساجد على المَقابِرِ والصلاةِ فيها، والزجرُ أَشَدُّ مِن النهي.
هذا، ويجدر التنبيهُ إلى أنَّ الذي صَلَّى في مسجدٍ به قبرٌ وهو لا يعلم بوجوده فيه ثُمَّ عَلِمه فإنَّ صلاته تمضي ولا يعيدها ولا يقضيها، وشأنُ الجاهل بالحكم يُلْحَق به، بخلافِ العالِمِ بوجودِ القبر في المسجد.
والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: ٩ ربيع الأوَّل ١٤٢٧ﻫ
الموافق ﻟ: ٦ أفريل ٢٠٠٦م
(١) أخرجه مسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٥٣٢) مِن حديث جندب بنِ عبد الله البَجَليِّ رضي الله عنه.
(٢) أخرجه البخاريُّ في «التيمُّم» (٣٣٥) مِن حديث جابر بنِ عبد الله رضي الله عنهما.
(٣) أخرجه مسلمٌ في «الجنائز» (٩٧٢) مِن حديث أبي مَرْثَدٍ الغَنَويِّ رضي الله عنه.
(٤) أخرجه مسلمٌ في «المساجد ومواضع الصلاة» (٥٢٢) مِن حديث حُذَيْفةَ بنِ اليَمان رضي الله عنهما.
المصدر : موقع الشيخ فركوس .