منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الحضارة الفارسية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2015-04-26, 13:49   رقم المشاركة : 7
معلومات العضو
فتاة مميزة
عضو مشارك
 
الصورة الرمزية فتاة مميزة
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

ويبدو أنّ "الراية العظمى" كانت شعارًا من شعائر الملك، وعلامة خير يستبشر الفرس بوجودها منشورة بين كراديس الجيش بشائر النصر القادم وثبات المُلْك "لأن فارس، كما قال المسعودي تتيمّن بها، وتُظْهِرها في الأمر الشديد"(144). وبالمقابل يؤدِّي انخفاض هذه الراية إلى هزيمة الجيش وإهتزاز المُلْك، فلم تمسح هزيمة "بشتاسب" ملك الفرس أمام ملك الترك "الذي أخذ فيما أخذ العلم الأكبر الذي كانوا يسمُّونه درفش كابيان سوى إنتصار إسفنديار القائد الفارسي الذي إرتجع العلم الأعظم وحمله معه منشورًا"(145). ولعلّه كان الإندثار الأخير لملك فارس حين أُخِذَ هذا "العلم الأعظم" أسيرًا لدى العرب إلى غير رجعة من قبل "ضرار بن الخطاب، فَعُوِّضَ عنها بثلاثين ألفًا، وكانت قيمتها ألف ألف ومائتي ألف، وقتل في ذلك اليوم حول الراية عشرة آلاف"(146).
ويبدو أن الأكاسرة خصَّصوا لكل فرقة في الجيش الفارسي راية، فكان لكل فرقة من فرق الثغور التي يقودها أحد الأصبهبذين علم خاص بها، ويشير الطبري في معرض وصفه لإستعراض "كيخسرو" لجيشه المنتصر على "فرسياب" التركي ومروره أمام رايات فِرَقِه وفي طليعتها "العلم الأكبر" الذي دفعه الى قائده "جوذرز" بقوله: "فلمّا وافى كيخسرو العسكر وموضع الملحمة، إصطفّت له الرجال وتلقّاه جوذرز وسائر الإصبهبذين... فلمّا دخل العسكر جعل يمر بعلم علم"(147). ولعل هذا القول يجد تفسيرًا لما أشار إليه كريستنسن عن بعض أوصاف الأعلام والرايات الساسانية "فهناك علم ملكي على صورة الشمس... كما نجد علمًا بصورة أسد... وأسود على صورة الذئب..."(148). وبالتالي ليس غريبًا أن تكون الأشكال والصور التي رسمت على الأعلام رمزًا للفرق العسكرية، لما توحي به من خصال القوّة والعطاء والشجاعة والسرعة والإحتيال والمكر، وهي بالمطلق صفات عسكرية.

تاسعاً: الإدارة العسكرية
إعتمدت دولة الفرس نظامًا حربيًا قويًا إستند إلى سياسة ملوكهم الذين أحبوا الحرب وورثوا الفكر العسكري من أسلافهم. ويشير المسعودي في عرضه "للسياسات الملوكية" التي نصح بها حكيم فارس "بزرجمهر" الملك "أنوشروان" إلى كلام يرسم بشمولية السياسة العسكرية منها: "إكرام العلماء والأشراف وأهل الثغور والقواد... بقدر منازلهم، وإعداد السلاح وجميع آلات الحروب، وإذكاء العيون في الثغور ليعلم ما يتخوف، فيؤخذ له أهبته قبل هجومه"(149). ويؤكد هذه السياسة ما وضعه الملك سابور من صفات عند إختياره عمّاله بقوله: "لا يصلح لسد الثغور، وقود الجيوش، وإبرام الأمور وتدبير الأقاليم، إلاّ رجل تكاملت فيه خمس خصال: حزم وعلم وشجاعة لا تنقصها الملمات، وصدق في الوعد والوعيد، وجود يهوّن عليه تدبير الأموال في حقها"(150).
وإتبع أكاسرة الفرس، في تنفيذ سياستهم الحربية، تأسيس إدارات تعني بمصالح الجند والإشراف على الجيوش التي كانت العامل الدائم في ضمان الإستقرار والدفاع عن الدولة والأرض. وكان "ديوان الجند" الجهاز الذي يعنى بحقوق الجند ومصالحهم، فكان مجموعة سجلات وقوائم بأسماء المقاتلة وذراريهم ومقادير أعطياتهم وتنظيمهم في وحدات وصنوف عسكرية.

ويبدو أنّ المكانة الكبيرة التي يحتلها "ديوان الجند" في دولة الفرس، فرضت على من يتم إختياره أمر "كاتب الديوان" شروطًا ومواصفات عالية ذكر الطبري بعضها في خبر تعيين كسرى "كاتبًا لديوان المقاتلة" بقوله: "وكان كسرى ولّى رجلاً من الكتّاب – نابهًا بالنبل والمروءة والغَنَاء والكفاية... لصلاح أمر الملك في جنده"(151). ومن البدهي أن تكون معاني صفات كاتب الديوان عند الفرس دقيقة، شاملة وواسعة، فالمروءة تعني حفظ القوانين، وتحرّي الدقة في التنظيم، والحرص على السرية والأمانة والعدالة، وإستيفاء الحقوق، والصبر وكتم الأسرار. أما الكفاية فإنها تتضمّن العِلْمَ بأحكام القوانين ضمانًا لمصلحة الجيش، والدراية والخبرة بالجيوش والأسلحة وحلى الجند وشيات الدواب، والمعرفة الدقيقة بالعروض.
وكان صاحب "ديوان الجند"، أيضًا، من أرفع الناس قدرًا وأحسنهم خلقًا، نافذًا في الناس أمره، وعليًا بينهم قدره، شريفًا، صارمًا في تطبيق سياسة الجند، وفي الطبري رواية تمثل بابك بن البيروان الذي "ولاّه كسرى ديوان المقاتلة، ووكّل اليه صلاح أمر الملك في جنده... ونادى مناديه أن يحضر الفرسان على كراعهم وأسلحتهم والرجالة على ما يلزم من السلاح... فاجتمع إليه الجند ولم يعاين كسرى فيهم... ونادى مناديه في اليوم الثاني... فلما لم ير كسرى فيهم فأمرهم بالإنصراف... وأمر مناديه في اليوم الثالث فاعترض كسرى على بابك بسلاح تام ما خلا الوترين، فلم يجز عن اسمه وقال له هلمّ أيها الملك كل ما يلزمك من صنوف الأسلحة"(152).

وترتبط قوة دولة الفرس بشكل وثيق بقوة الجيش والمال، ويعبر عن هذا الواقع تنسر بقوله: "إذا إفتقرت الرعية، خلت خزانة الملك، ولم يجد نفقة المقاتلة، ويضيع المُلْك"(153). ومن هذا المنظور يصبح المال ركيزة أساسية لبناء الجيوش وقيام الملك، "فلا عزّ للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال"(154).
وليس غريبًا أن نجد في ظل هذا النظام الحربي والإداري في فارس قيام علاقة بين "ديوان المقاتلة" وإدارة مالية الدولة، فالمال يشكل العمود الفقري لقيام الجيش وتألُّف الجند وسد احتياجاتهم، وصرف رواتبهم، وتأمين وسائل القتال وتحصين الثغور. ولعلّ المعادلة التي أشار إليها المسعودي بين عمارة الأرض أو خرابها، وكثرة أموال الجباية أو قلَّتها، وقوة الجند أو ضعفهم، وصيانة الدولة أو هلاكها، ترسم خطًا بيانيًا لسياسة الفرس الحربية المستندة إلى سياستهم الضرائبية وهي سياسة "تقوِّي الملك بإنتخاب الجنود واجتباء الخراج لأرزاقهم"(155). ويبدو أن أحد ملوك الفرس حاد عن هذه السياسة ما جعله موضع إنتقاد الموبذ حين خاطبه: "عمدت إلى الضياع فإنتزعتها من أربابها وهم أرباب الخراج... فقلّت العمارة، وخربت الضياع، وقلّت الأموال، وهلكت الجنود والرعية، وطمع في ملك فارس من أطاف بها من الملوك..."(156). من هنا تأتي مسؤولية طبقة "الدّهاقين"، في بناء دولة الفرس القوية وجيشهم القادر، وأهمية دورهم كرؤساء وملاك الأراضي والقرى الذين "كانت وظيفتهم الأصلية أن يتسلَّموا الضرائب... وإليهم يعود الفضل بخاصة في أن الدولة القليلة الخصب قد استطاعت أن تتحمل النفقات... وأن تقدر على الحروب التي تتطلب تكاليف باهظة"(157).

وفي ضوء هذه السياسة الحربية، لم يغفل ملوك الفرس إعداد البلاد لمواجهة الطوارئ، والتعامل مع الحوادث المفاجئة. لقد خصصوا احتياطًا ماليًا في خزائنهم لتغطية النفقات الحادثة من جراء عدوان مفاجيء على الحدود أو كوارث تصيب الثغور، على نحو ما نقل الطبري عن سياسة كسرى أنوشروان: "قد رأينا أن تُجْمَع في بيوت أموالنا من الأموال ما لو أتانا عن ثغر من ثغورنا، أو طرف من أطرافنا فتق أو شيء نكرهه واحتجنا إلى تداركه أو حسمه ببذلنا فيه مالاً، كانت الأموال عندنا معدّة، موجودة"(158).

عاشراً: مجلس العظماء والأشراف (سلطة القرار)
تذكر المصادر التاريخية في معرض سردها لتاريخ الفرس مصطلح "العظماء والأشراف"، في أماكن كثيرة، ويبدو أن العظماء والأشراف شكلوا مجلسًا لا يجتمع إلاّ لبحث القضايا الكبيرة والمفاصل التاريخية التي تواجه دولة الفرس لإسداء المشورة للملك في تدبير المُلْك، وقضايا الحرب والسلم. وكان مجلس العظماء والأشراف مؤلفًا، وفق ما ألمح الطبري في ذكره للوفد الذي التي إلتقى المنذر ملك العرب، من "العظماء وأهل البيوت وأصحاب الولايات والوزراء لقوا المنذر"(159)، كما يؤكد كريستنسن أن الأشراف والأصحاب ليسوا سوى "الضباط الكبار في الدولة والعظماء يشملون الوزراء ورؤساء الإدارة"(160).
ويبدو أنّ هذ الطبقة كانت تشكِّل مجلسًا أعلى تطال قراراته أحيانًا مقام الملك نفسه، ويذكر الطبري أنه "تعاقد ناس من العظماء وأهل البيوت ألاّ يملّكوا أحدًا من ذرِّية يزدجرد لسوء سيرته"(161). ويضيف في موضع آخر مضمون مفاوضاتهم مع ملك العرب المنذر حول هذا الأمر بقوله :"وتكلم عظماء الفرس وأهل البيوت وفَرَشُوا للمنذر بكلامهم فظاظة يزدجرد". ويبلغ قرار هذه الطبقة درجة خطيرة حين يطال أمر وجود الملك على العرش لجهة تنحيته عن عرشه وحبسه، ويذكر الطبري: "إنّ العظماء من الفرس هم حبسوا قبّاذ حين اتبع مزدك"(162).

وكان قرار الحرب يؤخذ في إجتماع مجلس حرب يسدي المشورة للملك. ويذكر الطبري عقد مثل هذا الإجتماع لدرس تقديم مساعدة عسكرية طلبها سيف بن يزن بقوله: "وجمع كسرى مرازبته وأهل الرأي ممن يستشير في أمره"، وفي مكان آخر يقول: "إنّ كسرى إستشار وزراءه في توجيه الجند(163)". ويجتمع مجلس الحرب مرة أخرى في عهد هرمز أنوشروان حين إكتنف الأعداء بلاد فارس من كل وجه فإستفظع هرمز ما ورد عليه وشاور فيه"(164). ويقول المسعودي في الموقف عينه: "وأحضر الموبذان وذو الرأي"(165).

حادي عشر: السلوك المعتمد أثناء القتال
يروي تنسر في كتابه بعض الآداب والسلوكيات التي اتبعها ملوك فارس في حروبهم بقوله: "لم ينسب قط لملوكنا القتل والإغارة والغدر، فإذا خالف هذا ملكان، فإنهما لم يجيزا إستعباد السبايا ولم يتخذاهم أرقاء بل عمّرا بهم المدن"(166). والواقع، إنّ في كلام تنسر شيئًا من الصحة لإستخدامهم الأسرى في أعمال العمران، وإقامة مدن وقرى لهم وإستخدام قسم منهم كوحدات مرتزقة كما ذكرنا، ولكن قلما نجد سيرة لملك فارسي خالية من القتل والسبي، وينسب إلى سابور بن أزدشير "أنّه أطلق ملك الروم بعد أنْ جدع أنفه وقيل إنّه قتله". وقيل إنّ سابور نهى جنده عن الإبقاء على من لقوا من العرب. فأفشى فيهم القتل وسفك منهم من الدماء... وإستقرّ في بلاد البحرين يقتل أهلها ولا يقبل الفداء"(167).

وأوصى ملوك الفرس جنودهم بالحيطة واليقظة وعدم الإنصراف عن المهمة إلى جمع الغنائم، ويذكر الطبري أن سابور "نهى جنده عن العرجة عن إصابة مال"(168). وبالمقابل "كان الإيرانيون يحرقون حقول القمح إذا توغّل العدو في أراضيهم لكي يحولوا دون تموينه"(169).
ومن آداب القتال عند الفرس إستدعاء وفد من أعدائهم لمفاوضتهم قبل شروعهم بالقتال، وفي هذ السياق يذكر الطبري "أنّ وفودًا من العرب قدمت على يزدجرد"(170)، تكلم باسمها النعمان بن مقرن قبل بدء القتال في معركة القادسية. وفي نهاوند "أرسل بندار العلج إلى العرب ليطلب منهم: "أنْ أرسِلوا الينا رجلاً نُكَلِّمَهُ"(171). ويعتبر تنسر هذا السلوك مفخرة لجيش فارس عبّر عنها بكبرياء وبروح معنوية عالية بقوله: "إنّ ألف رجل منا يغلبون عشرين ألفًا من الأعداء أيًا كانوا، لأنّ رجالنا لا يبدأون بالعدوان والحرب والقتل"(172).

الخلاصة
عرف الفرس، بنتيجة حروبهم مع الروم والأمم الأخرى المعاصرة لهم نظم القتال ومبادئ الحرب، وأفاد قادتهم من دروس المعارك التي خاضوا غمارها لتحسينها وتطويرها بحيث أصبحت فنون القتال عندهم لا تختلف كثيرًا عمّا هو متعارف عليه في عصرنا. لقد تركت دولة الأكاسرة تراثًا عريقًا في الإدارة وتنظيم الجيوش وفن الحرب، أغنت بفضل إحتكاكها بالأمم والشعوب التي كانت على حرب دائمة معها مثل البيزنطيين والترك والهياطلة وغيرهم، وكانت لها بصمات دامغة في تكوين الفن العسكري الإسلامي.










رد مع اقتباس