منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - درس / الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
عرض مشاركة واحدة
قديم 2016-01-09, 21:49   رقم المشاركة : 9
معلومات العضو
أم سمية الأثرية
عضو مميّز
 
الصورة الرمزية أم سمية الأثرية
 

 

 
الأوسمة
وسام التقدير 
إحصائية العضو










افتراضي

الدرس الرابع من/الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم /11من شهر صفر 1437.

بسم الله الرحمن الرحيم
قال الحافظ إسماعيل بن عمر بن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ
فصل ـ مبعثُه صلى الله عليه وسلم
و لمَّا أراد الله تعالى رحمةَ العباد ، وكرامتَه بإرساله إلى العالمين ، حَبَّب إليه الخلاء ، فكان يتحنَّث في غار حراء ، كما كان يصنع ذلك متعبدو ذلك الزمان ، كما قال أبو طالب في قصيدته المشهورة اللامية :
و ثورِ و مَن أرسَى ثبيراً مكانه
وراقٍ لبرٍ في حراءٍ و نازل
*******************************
(حَبب إليه الخلاء ) أي: الله سبحانه وتعالى حَبَّب إليه.
و (الخلاء) أي: الانفراد.
(فكان يتحنث في غار حراء ) التحنث: التعبد .
وهذا قِطعة من حديث عائشة رضي الله عنها المتفق عليه.
قال النووي رحمه الله في شرح هذا الحديث من صحيح مسلم : أَمَّا الْخَلَاءُ فَمَمْدُودٌ وَهُوَ الْخَلْوَةُ وَهِيَ شَأْنُ الصَّالِحِينَ وَعِبَادِ اللَّهِ الْعَارِفِينَ .
قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ : حُبِّبَتِ الْعُزْلَةُ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ مَعَهَا فَرَاغَ الْقَلْبِ وَهِيَ مُعِينةٌ عَلَى التَّفَكُّرِ وَبِهَا يَنْقَطِعُ عَنْ مَأْلُوفَاتِ الْبَشَرِ وَيَتَخَشَّعُ قَلْبُهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ اهـ
هذا الفصل في شهر المبعث ، وأوِّل البِعثة ، وبيان أن الله عز وجل أرسل هذا النبي الكريم رحمة للعباد وكرامة له صلى الله عليه وسلم، فإن الناس قد كانوا في جاهلية جهلاء وفي شر وبلاء، كما ثبت في صحيح مسلم (2865) من حديث عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ ـ رضي الله عنه ـ وفيه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: وَإِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) .
مقتهم أي: أبغضهم الله لشدة فجورهم ، وانتشار الشركيات فيهم ، والفواحش ، والقتل ، و القتال ، والظلم والجهل المُطبِق فأرسلَ الله عز وجل هذا النبي الكريم رحمة للعباد ،كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107].
وقبل أن يوحى إليه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ حُبِّب إليه الخلاء فكان يتعبد لله عز وجل فيه، و في ذلك أثنى عمُّه أبو طالب بقوله:
و ثورٍ و مَن أرسى ثبيراً مكانه
وراقٍ لبِرٍّ في حِراء و نازل
(ثور، و ثبير، و حراء) جبال من جبال مكة.
(ومَن أرسى) أي: أثبت كقوله تعالى (وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا)[النازعات:32]. أي: أثبتها.
(ومَن أرسى) من : اسم موصول بمعنى الذي أي: الله عز وجل.
(وراقٍ) أي: صاعِد.
( لِبِرِّ ) البر: ضدُّ الإثم.
ويذكرون لأبي طالب لاميَّة في الثناء على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـومناصرته له ، وقد ذكرها ابنُ إسحاق ـ رحمه الله تعالى ـ فيما ذكره ابنُ هِشامٍ في السيرة بطولها بدون إسناد (1/245) .فالله أعلم .

*******************************
(ففجأه الحقُّ و هو بغار حراء في رمضان ، و له من العمر أربعون سنة)
*******************************
(ففجأه الحق)
قال ابن كثير رحمه الله في البداية والنهاية (3/10)أي جَاءَ بَغْتَةً عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: " وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَة من رَبك (1) " الْآيَة.
(و هو بغار حراء في رمضان)
هذا شهر المبعث الشهر الذي بعث فيه النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هو شهر رمضان.
(و له من العمر أربعون سنة)
كان سن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما نزل عليه الوحي أربعين سنة .
قال الشوكاني في فتح القدير-تفسير سورة الأحقاف -: قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا قَطُّ إِلَّا بَعْدَ أَرْبَعِينَ سَنَةً .
وهذا هو سنُّ الأشد عند بعض العلماء ، وقد حكى الأقوالَ الشوكاني في فتح القدير-تفسير سورة الأنعام - وانتقدهذا وقال : اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْأَشُدِّ فَقَالَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: بُلُوغُهُ وَإِينَاسُ رُشْدِهِ.
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: خَمْسٌ وَعِشْرُونَ سَنَةً. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: هُوَ الْبُلُوغُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ انتهاء الكهولة، ومنه قول سحيم الرّياحي:
أخو خمسين مجتمع أشدّي ... ونجّدني مداورة الشّؤون
وَالْأَوْلَى فِي تَحْقِيقِ بُلُوغِ الْأَشُدِّ: أَنَّهُ الْبُلُوغُ إِلَى سِنِّ التَّكْلِيفِ مَعَ إِينَاسِ الرُّشْدِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِي تَصَرُّفَاتِهِ بِمَالِهِ سَالِكًا مَسْلَكَ الْعُقَلَاءِ، لَا مَسْلَكَ أَهْلِ السَّفَهِ وَالتَّبْذِيرِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النِّسَاءِ:
{وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ } فَجَعَلَ بُلُوغَ النِّكَاحِ، وَهُوَ بُلُوغُ سِنِّ التَّكْلِيفِ مُقَيَّدًا بِإِينَاسِ الرُّشْدِ اهـ
قلت:وهذا ما استفدناه من والدي رحمه الله أن بلوغ الأشُد قد يكون قبل الأربعين .
وكان في يوم الاثنين ، كما في صحيح مسلم (1162) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :سُئِلَ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الِإثْنَيْنِ ، قَالَ : ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ وَيَوْمٌ بُعِثْتُ أَوْ أُنْزِلَ عَلَيَّ) .
قال ابن القيم في زاد المعاد (1/76) :وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَبْعَثَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ .
فيوم الاثنين نزل على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فيه الوحي ، نبئ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ يوم الاثنين في شهر رمضان ، وعمره أربعون سنة.
****************************
فجاءه الملك فقال له اقرأ ، قال لستُ بقارىء ، فغتَّه حتى بلغ منه الجَهد ، ثم أرسله فقال له : اقرأ ، قال : لست بقارئ ثلاثاً ثم قال : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}. فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ترجف بوادرُه ، فأخبر بذلك خديجةَ رضي الله تعالى عنها ، و قال : قد خشيت بها على عقلي ، فثبَّتته و قالت : أبشر كلا و الله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، و تصدْق الحديث و تحمل الكلَّ ، و تُعين على نوائب الدهر "...
في أوصاف أخر جميلة عددتها من أخلاقِه صلى الله عليه وسلم و تصديقاً منها له و تثبيتاً وإعانةً على الحق .
فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها .
**************************
(فجاءه الملك فقال له اقرأ ، قال لست بقارئ، فغتَّه)
قال الخليل بن أحمد ـ رحمه الله تعالى ـ في كتاب (العين): الغَتُ: كالغَطُ في الماء .
وروايةُ الصحيحين (فغطَّني)
قال النووي في شرح صحيح مسلم : أَمَّا غَطَّنِي فَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ عَصَرَنِي وَضَمَّنِي يُقَالُ غَطَّهُ وَغَتَّهُ وَضَغَطَهُ وَعَصَرَهُ وَخَنَقَهُ وَغَمَزَهُ كُلُّهُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ .
(حتى بلغ منه الجَهد)
الجَهد: المشقة.
وفي قوله سُبحانه {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق:3] دليلٌ على أن الذي يعطِي العلم ، ويعين على حفظه هو الله عز وجل ، فالإنسان يقرأ ويتعلم ويسأل ربه (الْعِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ) والله سبحانه يعطيه من واسعِ فضله العظيم {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ}[العلق:3]
وفي {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ}[العلق:4] فضلُ الكتابة .
(فرجع بها رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ترجف بوادرُه)
(ترجُف) أي: تضطرب.
(بوادرُه) قال النووي في شرح هذا الحديث :قال أبوعُبيدة وسائرُ أهل اللغة والغريب : البادرة هي اللحمة بين العنق والمنكب ، تضطرب عن فزع الإنسان.
(الكَلَّ): الثِّقل .
(نوائبُ الدهر) شدائده.
(و قالت : أبشر كلا و الله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحمَ ، و تصدْق الحديث و تحمل الكلَّ ، و تُعين على نوائبِ الدهرِ) يستفاد منه التزكية لمن يستحقه .
وهذا عند الحاجة، وبشرط الأمن على المزكَّى من الإعجاب والغرور،فقد أخرج البخاري(2663 )ومسلم(3001) عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا يُثْنِي عَلَى رَجُلٍ وَيُطْرِيهِ فِي مَدْحِهِ، فَقَالَ: «أَهْلَكْتُمْ - أَوْ قَطَعْتُمْ - ظَهَرَ الرَّجُلِ» .
وثبت في صحيح مسلم ( 3002) من طريق هَمَّامِ بْنِ الْحَارِثِ أَنَّ رَجُلًا جَعَلَ يَمْدَحُ عُثْمَانَ فَعَمِدَ الْمِقْدَادُ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَكَانَ رَجُلًا ضَخْمًا فَجَعَلَ يَحْثُو فِي وَجْهِهِ الْحَصْبَاءَ، فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: مَا شَأْنُكَ، فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ الْمَدَّاحِينَ فَاحْثُوا فِي وُجُوهِهِمْ التُّرَابَ).
أما للحاجة ومع الأمن فلا بأس حتى لا نعين الشيطانَ عليه فقد يحمله المدح على الغرور والعجب وهما مَهْلكة.
ومرةً كان واحد من طلاب الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ في ( دار الحديث في دماج ) يلقي نصائح ـ وقد توفي رحمه الله ـ فكان مما قال : تُترَك التزكية ، فلما انتهى من كلامه ، قام الوالد ـ رحمه الله تعالى ـ وعقَّب على كلامه و قال: كيف نترك التزكية لأهل الأهواء ، و لا نزكي إخوانَنا ، وهم يقولون : جاء الشيخ ، خرج الشيخ.
وفي ترجمة الوالد الشيخ مقبل ـ رحمه الله تعالى ـ التي بقلمه ذكر عدداً من طلابه ، و زكَّاهم للمصلحة ، لمعرفة الطالب والانتفاع منه إذا كان عنده علم ، والمعصوم من عصمه الله ـ نسأل الله أن يثبتنا ولا يفتِنَّا ـ ذكرنا هذا للفائدة والمذاكرة.
موقف أمِّ المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - يدل على قوة إيمانها وذكائها ورُجحان عقلها حيث قالت: كلا و الله لا يخزيك الله أبداً..) وهذا من مواقف المرأة الصالحة الوقوف مع الزوج بتثبيته وإعانته .
ومن هذا الباب ما جاء في صحيح البخاي (3578) ومسلم (2040)عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ ـ رضي الله عنه ـ يَقُولُ: قَالَ أَبُو طَلْحَةَ لِأُمِّ سُلَيْمٍ لَقَدْ سَمِعْتُ صَوْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَعِيفًا أَعْرِفُ فِيهِ الْجُوعَ، فَهَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَأَخْرَجَتْ أَقْرَاصًا مِنْ شَعِيرٍ، ثُمَّ أَخْرَجَتْ خِمَارًا لَهَا فَلَفَّتْ الْخُبْزَ بِبَعْضِهِ، ثُمَّ دَسَّتْهُ تَحْتَ يَدِي وَلَاثَتْنِي بِبَعْضِهِ ثُمَّ أَرْسَلَتْنِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ: فَذَهَبْتُ بِهِ فَوَجَدْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ ، وَمَعَهُ النَّاسُ فَقُمْتُ عَلَيْهِمْ ، فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: آرْسَلَكَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: بِطَعَامٍ، فَقُلْتُ: نَعَمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَنْ مَعَهُ قُومُوا، فَانْطَلَقَ وَانْطَلَقْتُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ حَتَّى جِئْتُ أَبَا طَلْحَةَ، فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ، فَقَالَتْ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، فَانْطَلَقَ أَبُو طَلْحَةَ حَتَّى لَقِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو طَلْحَةَ مَعَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :هَلُمِّي يَا أُمَّ سُلَيْمٍ مَا عِنْدَكِ ، فَأَتَتْ بِذَلِكَ الْخُبْزِ فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَفُتَّ وَعَصَرَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ عُكَّةً فَأَدَمَتْهُ ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقُولَ، ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ: ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَذِنَ لَهُمْ فَأَكَلُوا حَتَّى شَبِعُوا، ثُمَّ خَرَجُوا ثُمَّ قَالَ : ائْذَنْ لِعَشَرَةٍ فَأَكَلَ الْقَوْمُ كُلُّهُمْ وَشَبِعُوا وَالْقَوْمُ سَبْعُونَ أَوْ ثَمَانُونَ رَجُلًا) .
(فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ): أي إنما فعل النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ هذا لحكمة.
وهذا فيه معجزة للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ و ضيق حال النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وصحابته ، ولو كانت الدنيا مكرمةً لأكرم الله نبيه ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وصحابته، لكن الكرامة و الميزان هوالتقوى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13] .
والشاهد موقف أم سليم الطيب وقوة عقلها وحُسْن تصرفها وذكائها وثباتِها حيث قالت( الله ورسوله أعلم) لمّا قال لها أبوطلحة( يَا أُمَّ سُلَيْمٍ قَدْ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنَّاسِ وَلَيْسَ عِنْدَنَا مَا نُطْعِمُهُمْ ) وقد كانت أقوى من أبي طلحة في هذا.
ولها موقف آخر أبلغ وأوقع في النفس ،من الثبات وقوة الصبر والتجلُّد، وهو ما أخرجه البخاري(5470) ومسلم (2144) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ ابْنٌ لِأَبِي طَلْحَةَ يَشْتَكِي، فَخَرَجَ أَبُو طَلْحَةَ، فَقُبِضَ الصَّبِيُّ، فَلَمَّا رَجَعَ أَبُو طَلْحَةَ، قَالَ: مَا فَعَلَ ابْنِي، قَالَتْ أُمُّ سُلَيْمٍ: هُوَ أَسْكَنُ مَا كَانَ، فَقَرَّبَتْ إِلَيْهِ العَشَاءَ فَتَعَشَّى، ثُمَّ أَصَابَ مِنْهَا، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَتْ: وَارُوا الصَّبِيَّ، فَلَمَّا أَصْبَحَ أَبُو طَلْحَةَ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «أَعْرَسْتُمُ اللَّيْلَةَ؟» قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: «اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمَا» فَوَلَدَتْ غُلاَمًا، قَالَ لِي أَبُو طَلْحَةَ: احْفَظْهُ حَتَّى تَأْتِيَ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَرْسَلَتْ مَعَهُ بِتَمَرَاتٍ، فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «أَمَعَهُ شَيْءٌ؟» قَالُوا: نَعَمْ، تَمَرَاتٌ، فَأَخَذَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَضَغَهَا، ثُمَّ أَخَذَ مِنْ فِيهِ، فَجَعَلَهَا فِي فِي الصَّبِيِّ وَحَنَّكَهُ بِهِ، وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللَّهِ .
فقصة خديجة - رضي الله عنها - مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما بشَّرته وآنستْه ، وقصة أم سليم لأبي طلحة عندما (فَقَالَتْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) وقصتها الأخرى في وفاة ولدها.
من مجموع ذلك نستفيد فضل المرأة الصالحة ومنزلتها ، وفضل أم سليم وخديجة - رضي الله عنهما - وموقفهُما الحسن.
وفي قصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ أيضاً تسليةُ مَن نزل به أمرٍ والتخفيف عنه .
ومن هذا ما في صحيح مسلم (203) عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: فِي النَّارِ. فَلَمَّا قَفَّى دَعَاهُ، فَقَالَ: إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ).
يستفاد من مجموع الحديثين تسلية من حصل عليه شيء ومؤانسته ورفع معنويته.
وقد استدلَّت خديجةُ ـ رضي الله عنها ـ بهذه الصفات الكريمة التي هي من أشرف الأوصاف على تطمين النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وأنه لا خوفَ عليه ؛ لأن هذه صفات تعودُ على صاحبها بالخير والسلامة.
حديث أنس المذكور (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) وجه تسلية المصاب فيه أن الاشتراك في المصيبة يخُفِّف حرارتها ويُسلي كما قالت الخنساء :
وَلَوْلا كَثْرَةُ الْبَاكِينَ حَوْلِي ... عَلَى إِخْوَانِهِمْ لَقَتَلْتُ نَفْسِي
إلى أن قالت
وَمَا يَبْكُونَ مِثْلَ أَخِي وَلَكِنْ ... أَعَزِي النَّفْسَ عَنْهُ بِالتَّأسِي
قال النووي في شرح صحيح مسلم شرح حديث (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) :هو مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ .
ومن هذا الباب ما في البخاري(290) ومسلم (1211) واللفظ للبخاري عن عَائِشَةَ ـ رضي الله عنها ـ تَقُولُ خَرَجْنَا لَا نَرَى إِلَّا الْحَجَّ فَلَمَّا كُنَّا بِسَرِفَ حِضْتُ ، فَدَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا أَبْكِي، قَالَ: مَا لَكِ أَنُفِسْتِ ، قُلْتُ: نَعَمْ ، قَالَ : إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ فَاقْضِي مَا يَقْضِي الْحَاجُّ غَيْرَ أَنْ لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ قَالَتْ: وَضَحَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ نِسَائِهِ بِالْبَقَرِ) .
هذه ثلاثة أدلة في مؤانسة المصاب والتسلية عليه.
قصة خديجة ـ رضي الله عنها ـ في مؤانسته وتذكيره أنه لن يُصيبَهُ سوءٌ لِما له من المحاسن والصفات الحميدة .
وحديث أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ (إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ) فيه ذكرالاشتراك في المصيبة.
و حديث عائشة ـ رضي الله عنها ـ في التذكير بالإيمان بالقدر (إِنَّ هَذَا أَمْرٌ كَتَبَهُ اللَّهُ..) .
والتسلية من جُملة الأدب ومن حق المسلم على أخيه المسلم بالتحدث معه بما يسلي عليه ويؤانِسُه ويُثبِّتُه.
وليس بما يُهيِّج الأمر ويزيدُهُ .
(فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها)
(فهي أول) أول من أسلم مطلقاً أم المؤمنين خديجة - رضي الله عنها - وهذا من مناقِبها.
*******************************
ثم مكث رسولُ الله صلى الله عليه و سلم ما شاء اللهُ أن يمكثَ لا يرى شيئاً ، و فتر عنه الوحيُ ، فاغتمَّ لذلك و ذهب مراراً ليتردى من رُؤوس الجبال ، و ذلك من شوقه إلى ما رأى أول مرَّة ، من حلاوة ما شاهده من وحي الله إليه .
فقيل : إن فترة الوحي كانت قريباً من سنتين أو أكثر .
ثم تبدَّى له الملَك بين السماء و الأرض على كرسي ، و ثبَّته ، و بشَّره بأنه رسول الله حقاً ، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه و سلم فرِق منه و ذهب إلى خديجة و قال : زمِّلوني . دثِّروني . فأنزل الله عليه {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4)}.
و كانت الحالُ الأولى حالَ نبوةٍ و إيحاء ، ثم أمره الله في هذه الآية أن ينذرَ قومَه و يدعوهم إلى الله ) .
*******************************
(و فتر عنه الوحيُ ، فاغتمَّ لذلك)
فتور الوحي ذكر الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ وغيره أن الحكمة من ذلك ليذهب ما كان ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وجده من الروع ، وللشَّوق إلى العود .
(و ذهب مراراً ليتردى من رؤوس الجبال)
هذه اللفظة هي من بلاغات الزهري ـ رحمه الله تعالى ـ وهي عند البخاري برقم (6982)( وَفَتَرَ الوَحْيُ فَتْرَةً حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِيمَا بَلَغَنَا، حُزْنًا غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُءُوسِ شَوَاهِقِ الجِبَالِ، فَكُلَّمَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ، وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ، فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الوَحْيِ غَدَا لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ ).
قال الحافظ ـ رحمه الله تعالى ـ في فتح الباري : إن القائل ( فيما بلغنا) هو الزهري .
قال الشيخ الألباني ـ رحمه الله تعالى ـ في السلسلة الضعيفة (10/ 453) يعني أنه ليس بموصول .
وحكم الشيخ الألباني رحمه الله على المتن بالنكارة ، وأنه قد جاء عن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في الحديث المتفق عليه (مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا) .
مدة فترة الوحي، يقول الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ هنا:
(كانت قريباً من سنتين أو أكثر).
(و كانت الحالُ الأولى حالَ نبوة و إيحاء)
الحالة الأولي أي السابقة في نزول صدرِ{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .
(ثم أمره الله في هذه الآية أن ينذر قومَه و يدعوهم إلى الله )
وبهذا يجمع بين الدليلين، عائشة - رضي الله عنها - تقول : أول ما نزل {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)}[العلق] الخمس الآيات الأولى من سورة العلق. وفي حديث جابر بن عبدالله ـ رضي الله عنهما ـ أنه الخمس الآيات من سورة المدثر، فيجمع بينهما أن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ نبئ بسورة العلق و أرسل بالمدثر.
*******************************
فشمَّر صلى الله عليه و سلم عن ساقِ التكليف ، وقام في طاعة الله أتمَّ قيام ، يدعو إلى الله سبحانه ، الكبير،والصغير ، و الحر والعبد ، و الرجال و النساء ، و الأسود و الأحمر ، فاستجاب له عبادُ الله من كلِّ قبيلة .
و كان حائزَ سبْقهم أبو بكر رضي الله عنه ، عبد الله بن عثمان التيمي و آزره في دين الله ، ودعا معه إلى الله على بصيرة ، فاستجاب لأبي بكر عثمانُ بنُ عفان ، و طلحةُ ، و سعدُ بن أبي وقاص.
و أما عليٌّ فأسلم صغيراً ابن ثماني سنين ، و قيل : أكثر من ذلك و قيل : كان إسلامه قبل إسلام أبي بكر ، و قيل : لا ، و على كلِ حال ، فإسلامُه ليس كإسلام الصدِّيق ، لأنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذَه من عمِّه إعانةً له على سنة محل .
*******************************
( وكان حائزَ سبْقهم)
أي الذي حازَ السبْقَ.
(فاستجاب لأبي بكر عثمان بن عفان)
في أول البعثة اهتدى على يد أبي بكر رضي الله عنه ـ الذي آزر النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونصره ـ استجاب له ـ عثمان وطلحة وهو ابن عبيدالله، وسعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنهم ـ كلهم من العشرة المبشرين بالجنة رضي الله عنهم .
وآخرُ العشرة المبشرين بالجنة موتاً سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ ، كما أن آخرَ أزواجِ النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ موتاً أم سلمة - رضي الله عنها - ، و آخر الصحابة موتاً على الإطلاق أبوالطفيل عامر بن واثلة ـ رضي الله عنه ـ
هذه المسألة في أوَّل مَن أسلم من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ النص جاء أن أول من أسلم خديجة - رضي الله عنها - فإن النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لما جاءه الملك وأنزل عليه القرآن رجع يرجف فؤاده ، ثم آمنت بذلك ، وثبتت النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ فهي أول مَن آمَن مطلقاً وقد نصَّ على ذلك ابن كثير كما تقدَّم عنه حيث قال (فهي أول صدِّيق له رضي الله تعالى عنها و أكرمها) .
وقال رحمه الله في مختَصر علوم الحديث: وادعى الثعلبي المفسر على ذلك الإجماع قال: وإنما الخلاف فيمن أسلم بعدها اهـ.
ويذكر أهلُ المصطلح تفصيلاً : أول من أسلم من الرجال الأحرار أبو بكر ـ ، ومن النساء خديجة ، ومن الصبيان علي بن أبي طالب ، ومن الموالي زيد بن حارثة ، ومن الأرقاء بلال بن رباح رضي الله عنهم جميعاً .
قوله(و أما علي فأسلم صغيراً ابن ثماني سنين ، و قيل : أكثر من ذلك و قيل : كان إسلامه قبل إسلام أبي بكر ، و قيل : لا ، و على كل حال ، فإسلامه ليس كإسلام الصديق ، لأنه كان في كفالة رسول الله صلى الله عليه و سلم أخذه من عمه إعانة له على سنة مَحْل .)
يعني كان تابعاً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقد جاء في صحيح البخاري وصحيح مسلم واللفظ للبخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ ) بخلاف أبي بكر الصديق ـ رضي الله عنه ـ فإنه كان كبيراً وكان عن اقتناع أما الصغير فإنه يكون تابعاً .
(سنة مَحل) أي عام جَدْبٍ قال الجوهري في الصحاح : المَحْلُ: الجَدبُ، وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلاء.
*******************************
وكذلك أسلمت خديجةُ ، وزيد بن حارثة .
وأسلم القس ورقةُ بن نوفل فصدَّق بما وجد من وحي الله ، وتمنَّى أن لو كان جَذعاً ، و ذلك أول ما نزلَ الوحي ، و قد روى الترمذي : "أن رسول الله صلى الله عليه و سلم رآه في المنام في هيئةٍ حسنة ، و جاء في حديث أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال : ( رأيت القس عليه ثياب بيض ) " و في الصحيحين أنه قال : هذا الناموس الذي جاء موسى بن عمران . لما ذهبت خديجةُ به إليه ، فقصَّ عليه رسول الله صلى الله عليه و سلَّم ما رأى من أمر جبريل عليه السلام .
*******************************
( رأيت القس عليه ثياب بيض) في الصحاح (الْقَسُّ): رَئِيسٌ مِنْ رُؤَسَاءِ النَّصَارَى فِي الدِّينِ وَالْعِلْمِ وَكَذَا الْقِسِّيسُ) اهـ.
ورقة بنُ نوفل صحابي ابن عم خديجة ـ رضي الله عنها ـ
ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب بن مرة ، وخديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قُصي بن كلاب بن مرة ، ويلتقيان مع النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ في قُصي ، وهما أقرب إلى قُصي بواحد .
لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم هو :محمد بنُ عبدالله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبدمناف بن قُصي بن كلاب ..
ورقة بن نوفل لما جاءت خديجة ـ رضي الله عنها ـ بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ إليه وقالت: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنْ ابْنِ أَخِيكَ) فأخبره فآمن بالنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وقال: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي نَزَّلَ اللَّهُ عَلَى مُوسَى يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوَمُخْرِجِيَّ هُمْ قَالَ نَعَمْ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا) .
وهذادليل أن ورقة بن نوفل كان مقرًّا برسالة النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ ، وهذا يدل على صحبته.
(جَذَعًا) أي : شاباً قوياً ، من أجل أن يكون عوناً للنبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وناصراً له .
(عُودِيَ) أي أوذي.
(النَّامُوسُ) يقول الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله تعالى في فتح الباري شرح هذا الحديث ـ : وَالْمُرَادُ بِالنَّامُوسِ هُنَا جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قال :وَقَوْلُهُ " عَلَى مُوسَى " وَلَمْ يَقُلْ عَلَى عِيسَى مَعَ كَوْنِهِ نَصْرَانِيًّا ; لِأَنَّ كِتَابَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مُشْتَمِلٌ عَلَى أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ ، بِخِلَافِ عِيسَى . وَكَذَلِكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - .
أَوْ لِأَنَّ مُوسَى بُعِثَ بِالنِّقْمَةِ عَلَى فِرْعَوْنَ وَمَنْ مَعَهُ ، بِخِلَافِ عِيسَى . كَذَلِكَ وَقَعَتِ النِّقْمَةُ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفِرْعَوْنِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ أَبُو جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ وَمَنْ مَعَهُ بِبَدْرٍ .
أَوْ قَالَهُ تَحْقِيقًا لِلرِّسَالَةِ ; لِأَنَّ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى مُوسَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ ، بِخِلَافِ عِيسَى فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْيَهُودِ يُنْكِرُونَ نُبُوَّتَهُ اهـ.
وقال الحافظ ابنُ كثير في البداية (3/13): ، وَلَمْ يَذْكُرْ-أي ورقة - عِيسَى وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا بَعْدَ مُوسَى، لِأَنَّهُ كَانَتْ شَرِيعَتُهُ مُتَمِّمَةً وَمُكَمِّلَةً لِشَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَسَخَتْ بَعْضَهَا عَلَى الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ.
كَمَا قَالَ: (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) [آل عمران: 50] .
وَقَوْلُ وَرَقَةَ هَذَا كَمَا قَالَتِ الْجِنُّ: (يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الحقِ إلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) [الأحقاف: 30] .اهـ
وهذه فائدةُ في بيان ذكرِ ورقة ومسلمي الجن لرسالة موسى دون عيسى عليهما السلام .
*******************************
و دخل من شرح اللهُ صدرَه للإسلام على نور وبصيرة و معاينة فأخذهم سفهاءُ مكة بالأذى والعقوبة ، و صان الله رسوله و حماه بعمِّه أبي طالب ، لأنه كان شريفاً مطاعاً فيهم ، نبيلاً بينهم ، لا يتجاسرُون على مفاجأته بشيء في أمر محمد صلى الله عليه و سلم لِما يعلمون من محبته له .
و كان من حكمةِ الله بقاؤه على دينهم لِما في ذلك من المصلحة .
وهذا رسول الله يدعو إلى الله ليلاً و نهاراً سرَّاً و جهاراً لا يصده عن ذلك صاد و لا يردُّه عنه راد ، و لا يأخذه في الله لومةُ لائم.
*******************************
(و دخل من شرح الله صدره للإسلام على نور وبصيرة و معاينة فأخذهم سفهاء مكة بالأذى و العقوبة )
وهذا فيه بيان من دخل في الإسلام بعد أولئك الذين تقدم ذكرهم، وهم من شرح الله صدرهم للإسلام ، وأنهم ابتُلوا بسفهاء مكة بالأذى، والعذاب و أنه لم يصل شيء إلى النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ من الأذى بسبب عمه أبي طالب فقد كان ينصره، ويحوطه كما تقدم، ويدفع عنه الأذى، ولمكانة أبي طالب بين قريش ما كانوا يتجرؤون على الأذى.
(لا يتجاسرون على مفاجأته بشيء في أمر محمد صلى الله عليه و سلم لما يعلمون من محبته له)
أي لا يتجرؤون على الاعتداء على النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ لمكانة أبي طالب في نفوسهم ، ثم أشار إلى الحكمة في بقاء أبي طالب بقوله:
(و كان من حكمة الله بقاؤه على دينهم لما في ذلك من المصلحة)
نعم لمصلحة الإسلام وقد تقدم شيء من هذا.
(وهذا رسول الله يدعو إلى الله ليلاً و نهاراً سراً و جهاراً لا يصده عن ذلك صاد و لا يرده عنه راد ، و لا يأخذه في الله لومةُ لائم)
بسبب حماية عمه أبي طالب له و نصرته له ،وهذا من دفاع الله عن نبيه وحِفظه له فهو الذي قيَّض عمَّه لمحبته ونصرته .
هذا الباب في مبعث النبي ـ صلى الله عليه وعلى آله وسلم ـ وبيان حال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم لمَّا فَجِأَهُ الوحي .
وأن شهر المبعث هو شهر رمضان، وكان في غار حراء، وهو ابن أربعين سنة.
وأول ما نزل من القر آن .
وفي بيان أول من أسلم من الصحابة ، فهؤلاء جملةٌ لهم السبْق في الإسلام خديجة ، أبوبكر ، علي ، طلحة ،سعدابنُ أبي وقاص ، ورقة بن نوفل ـ رضي الله عنهم جميعاً ـ هؤلاء لهم السبق في الإسلام .

نكون انتهينا من هذا الفصل ولله الحمد والشكر .










آخر تعديل أم سمية الأثرية 2016-01-10 في 08:39.
رد مع اقتباس