منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - مقالات فلسفية
الموضوع: مقالات فلسفية
عرض مشاركة واحدة
قديم 2009-04-05, 12:23   رقم المشاركة : 2
معلومات العضو
belabas_2007
عضو مجتهـد
 
الصورة الرمزية belabas_2007
 

 

 
إحصائية العضو










افتراضي

الموضوع الثاني :
نص السؤال : أيهما أجدر بتحقيق العدالة : القانون أم الأخلاق ؟
المقدمة :
إذا كان القانون جملة القواعد العملية المفروضة على الإنسان من الخارج لتنظيم شؤون حياته .و الأخلاق إلزام داخلي يأمر وينهي في مجال الخير والشر فكلاهما يهتم بالإنسان ولكن من زاويتين مختلفتين لهذا يطرح السؤال أيهما أجدر بتحقيق العدالة الاجتماعية ؟
التحليل :
القضية : يرى أنصار الاتجاه السياسي أن القوانين هي التي تحقق العدالة الاجتماعية لأن القانون هو الحارس الأمين للنظام الاجتماعي والموجه لسلوك الأفراد والمنظم لعلاقاتهم لدرجة أن الحياة الاجتماعية لا تستقيم بدونه يقول " مونتيسكو" : " ليس هناك من ظلم أو عدل إلا ما تأمر به أو تنهى عنه القوانين الوضعية "
ويقول أبو العلاء المعري :
قد فاضت الدنيا بناسها * على براياها و أجناسها
كل من فوقها ظالم * وما بها أظلم من ناسها
ويقول " شو بنهاور" :" الأخلاق من صنع الضعفاء حتى يقوا أنفسهم من شر الأقوياء " .
وحجتهم في ذلك أن الطبيعة البشرية شريرة , وبالتالي لا يمكن قيام عدالة اجتماعية على الأخلاق .
نقد : أصحاب هذا الاتجاه أهملوا الجانب الخير في الإنسان ونظرتهم تشاؤمية إذ أن القوانين كثيرا ما تكون جائزة كما في مقدرة الإنسان الإفلات منها وتجاوزها.
النقيض : يرى أنصار الاتجاه الأخلاقي أن الضمير الخلقي كإلزام داخلي جدير بتحقيق العدالة الاجتماعية لأنه يتابع صاحبه أينما حل .
يقول " برغسون " : " الأخلاق من ابتكار الأبطال لفائدة الإنسانية جمعاء " .
يقول كانط : " شيئان يملآن إعجابي سماء مرصعة بالنجوم وضمير يملأ قلبي "يقول انجلز : " الأخلاق من صنع الأقوياء " .
وحجتهم في ذلك أن القانون لا يستطيع مراقبة الفرد وبالتالي يمكنه الإفلات منه ولكنه لا يستطيع الإفلات من ضميره هذا بالإضافة إلى أن طبيعة الإنسان خيرة.
نقد : لكن هناك من يتميز بضعف الضمير وبنية مريضة وبالتالي لا ينبغي تركهم وشأنهم . كما أن بناء العدالة على الأخلاق معناه إخضاعها للعاطفة والعاطفة متقلبة ومتغيرة .
التركيب : وعليه العدالة الاجتماعية تتحقق بالجمع بين القانون والأخلاق و لا يمكن قيامها بأحدهما دون الأخرى إن قيام العدل يقتضي التقيد بالصالح العام وهذا يفرض علينا احترام القانون أخلاقيا كان أو اجتماعيا .
الخاتمة : إن التعامل في العلاقات الإنسانية وقيام العدالة الاجتماعية يتم بالقانون الذي يعتمد على العقل وبالأخلاق التي تعتمد على العاطفة فإذا كان القانون يمثل روح هذه العلاقات فإن الأخلاق يمثل حرارتها .




المحور العاشر : الشغل والتنظيم الاقتصادي .
نص السؤال : هل الغاية من الشغل حفظ البقاء وحسب ؟
المقدمة : إذا كان بإمكان الإنسان اليوم أن يلاحظ مدى القلق الذي يحدثه الشغل في الأسر الحديثة , فإن الأمر ذاته كان يحدث لدى الأسر القديمة و حتى عند الإنسان الأول قبل انضمامه إلى المجتمع المدني . وإذا كان الإنسان يتحمل هذا القلق وهذا التعب في سبيل الحصول على عمل من أجل تلبية رغباته وإشباع حاجاته الضرورية التي تحفظ له البقاء فهل تلبية ضروريات الحياة والمحافظة عل البقاء هي الغاية الوحيدة للشغل ؟
التحليل :الشغل ضرورة بيولوجية تحفظ بقاء الإنسان :
إن أكبر مشكلة صارعها الإنسان منذ وجوده هي تلبية الضروريات والحفاظ على الوجود بتوفير المأكل , الشرب ,الملبس , المأوى ...الخ . ولا يتسنى له ذلك إلا بالشغل , وهكذا يرى أنصار الاتجاه البيولوجي أن الحاجة البيولوجية هي الدافع الأساسي للشغل .
ودليلهم على ذلك أن الإنسان منذ العهود الغابرة لو وجد كل شيء جاهز في الطبيعة لما أقدم على العمل وعلى بذل الجهد لتغيير الطبيعة أو التأثير فيها , والواقع يثبت تاريخيا أن طبقات ترفعت عنه وأكرهت الآخرين عليه ( المجتمع اليوناني , نظرة أفلاطون من خلال كتابة الجمهورية ) نظرا لما في الشغل من إلزام وعناء و قساوة .
لكن الإنسان وبوصفه أرقى الكائنات تجاوز الصراع القائم بيته وبين الطبيعة ولم يعد نشاطه موجها إلى سد حاجياته البيولوجية وحسب و إنما أنتج قيما روحية ومعنوية للشغل مكنته من إنتاج حضارة متقدمة .
الشغل ليس ضرورة بيولوجية بل عنوان التقدم والرقي :
لقد تغير موقف الإنسان من الشغل عبر التاريخ فنظر إليه اليونان نظرة احتقار واعتبره اليهودية لعنة وربطته المسيحية بخطيئة آدم . أما الإسلام نظر إلى العمل نظرة مختلفة تماما عما سبق حيث اعتبره في منزلة العبادة و أوجبه على الجميع حيث قال تعالى : " وقال اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " . كما اعتبره نعمة تستدعي الشكر وشرفا يحاط به المرء حيث يقول ( صلى الله عليه وسلم ) : " إن أشرف الكسب كسب الرجل من يده " وسيادة لصاحبه حيث يقول أيضا : " خادم القوم سيدهم " .
وهكذا أخذ العرب هذه الصفات النبيلة للعمل , وأصبح الشغل ذلك الجسر الذي يمر به الإنسان من مرحلته البدائية إلى المرحلة الحضارية . أين أصبح يتحكم في الطبيعة كما يقول هيغل : " أصبح الإنسان يتملك الطبيعة " و يهدف إلى تحقيق القيم الاجتماعية حيث يرى أنصار الاتجاه الاجتماعي أن الشغل ظاهرة اجتماعية باعتبار أن الفرد بمفرده عاجز عن إشباع حاجاته مما فرض عليه التعاون مع الغير , فنشأت التجمعات السكانية كالمدن و القرى فأصبح الشغل نشاط جماعي ويهدف إلى تحقيق قيم اجتماعية حيث ذهب " ابن خلدون " إلى أن الإنسان مدني بالطبع . وأن الشغل نشاط ملازم للاجتماع البشري . لكن الشغل كان في بدايته دافعا بيولوجيا و لا يعتبر شرفا عند جميع الناس فالدافع البيولوجي لا يزال فاعلا خاصة في ظل بعض الأنظمة التي تشغل حتى الأطفال وفي سن مبكرة .
الشغل دافع بيولوجي ودافع أخلاقي اجتماعي معا :
لقد كان العمل في البداية واقعا بيولوجيا فحاجات الإنسان كثيرة و إمكاناته الأولية محدودة فكان همه في الحياة تلبية ضرورياته و المحافظة على وجوده , لكنه بعد التحكم في الطبيعة , و ظهور العلوم والصنائع أصبح الشغل دافعا أخلاقيا واجتماعيا ولم يعد الدافع البيولوجي سوى وسيلة وليس غاية حيث يقول (صلى الله عليه وسلم ) : " نحن قوم نأكل لنعيش لا نعيش لنأكل " .
الخاتمة : إن الدور الكبير الذي لعبه الشغل في حياة الإنسان قديما و حديثا , يكشف أن القيمة التي يحتلها اليوم عند الأفراد والشعوب فهو بالإضافة إلى أنه مصدر النمو والتطور والرقي في سلم الحضارة فإنه المقياس الذي نقيس به مدى تقدم الأمم والحضارات .

الموضوع الثاني :
نص السؤال : هل تكفي المنافسة الحرة لتحقيق الرخاء الاقتصادي ؟
المقدمة : إن ظهور الثورة الصناعية في أوروبا كان لها انعكاس كبير على الشؤون الاقتصادية هناك , حيث تدخلت الدولة في أمور الاقتصاد عن طريق تنظيم قطاعات وتأميم قطاعات أخرى ... الأمر الذي أدى إلى تذمر البعض من أنصار النزعة الفردية مما أحدث رد فعل يطالب بالحرية الاقتصادية القائمة على المنافسة الحرة في مختلف الميادين فهل المنافسة الحرة جديرة بتحقيق الرخاء الاقتصادي ؟
التحليل:
القضية : المنافسة الحرة جديرة بتحقيق الازدهار الاقتصادي :
لقد ظهر النظام الرأسمالي متأثرا بالأنظمة الفردية السابقة فآمن بدور الفرد في المجتمع والملكية المطلقة فركزعلى مصلحة الفرد وجعل الدولة جهاز يعمل على حماية الفرد ومصالحه , منها حفظ حرياته في التعامل الاقتصادي وفتح المجال العام بما يسمح له بالتملك والإنتاج والبيع وهذا يبعث على التنافس الشديد بين الناس وعليه تقوم العدالة.
أنصار النظام الليبيرالي " الحزب الفيزيوقراطي " شعارهم ( دع الطبيعة تعمل ما تشاء دعه يمر بما شاء ) وهي عبارة مشهورة عند أدم أسميث " دعه يعمل دعه يمر " فحفظ المصلحة الخاصة أحسن ضمان لحفظ المصلحة العامة .
ودليلهم على ذلك أن الشؤون الاقتصادية مثل الظواهر الطبيعية تخضع لنظام طبيعي إلهي لا لقوانين الدولة , فالقانون الطبيعي وحده المنظم لعلاقات السوق والعمل وهو ما يعرف بقانون العرض والطلب وفي هذا الاتجاه التنافس كفيل بتحقيق العدالة الاجتماعية .
مناقشة : هذه الطريقة في العمل أدت إلى زيادة رؤوس الأموال وتركيزها في يد أقلية من المالكين ( الطبقة الرأسمالية ) تستغل وتسيطر على بقية الطبقات الاجتماعية , مما ترتب عنه ظهور شركات كبرى أدت إلى ظهور الأسلحة والاستعمار والواقع أثبت أن هذا النظام أدى إلى حدوث أزمات اقتصادية كثيرة.
النقيض : الاقتصاد الموجه جدير بتحقيق الازدهار الاقتصادي .
في وقت بلغت فيه الرأسمالية قوتها وتحولت إلى توسع استعماري يلتهم خيرات الشعوب الضعيفة والبنوك هي المحرك الوحيد لعقول الناس , ظهرت الماركسية كنظام اقتصادي يكشف عن التناقضات الموجودة في الرأسمالية , وتطالب بتدخل الدولة في تنظيم الاقتصاد , وهنا ما عمل على توضيحه " كارل ماركس "من خلال كتابه " رأس المال " الذي عمل فيه على فضح الرأسمالية فقال " الرأسمالية تحمل في طياتها آيات بطلانها " وكشف عن نظريته في الاشتراكية التي تقوم على قواعد مخالفة تماما لتلك التي قامت عليها الرأسمالية , ومن قواعدها : ملكية وسائل الإنتاج جماعية , والأرباح توزعها الدولة في صورة مشاريع وفقا لتنظيم اقتصادي موجه ( التخطيط الاقتصادي).
نقد : هذا النظام نجح في القضاء على الطبقة وخفف من معاناة العمال إلا أنه لم يحقق التطور الاقتصادي المحدد مسبقا بدليل عدم ظهور الشيوعية و ذلك لأسباب موضوعية لم تلاحظها الماركسية ومنها بعد النظرية عن طبيعة الإنسان بمنعها لحق التملك .
التركيب : إذا كان النظام الاقتصادي الرأسمالي اهتم بالفرد بإطلاق حرية المنافسة والنظام الاقتصادي الاشتراكي اهتم بالجماعة بتقييده لحرية الفرد , فإن كلتا النظريتين فيهما إجحاف وتبقى النظرة الموجهة إلى الاقتصاد الإسلامي الذي يتجاوزهما إلى الاهتمام بالفرد والجماعة معا . و هو ينظر للحياة نظرة شاملة مادية ومعنوية تقوم على مراعاة الجانب الأخلاقي في التعامل الاقتصادي منها مثلا : الفرد والجماعة لهما الحق في الملكية بشرط أن يكون الكسب مشروعا وحلالا ومن أجل تضييق الهوة بين الفقراء و الأغنياء فرض الزكاة وشرع قواعد للملكية ... الخ .
الخاتمة : إن المنافسة الحرة وإن كانت تساهم في التطور الاقتصادي فإنها سبب في الصراع الاجتماعي وضحيته الإنسان الضعيف وسبب في ظهور الاستغلال واللاأمن . والتفكير في التنظيم الاقتصادي نتيجته الوقوف على أنظمة اقتصادية مختلفة والمنافسة المطلقة ليست وحدها كفيلة بتحقيق الرخاء الاقتصادي .


المحور الحادي عشر : الدولة والأمة .
نص السؤال : هل الدولة بحاجة إلى الأخلاق ؟
المقدمة : إن الدولة في تنظيم أمورها وتدبير شؤونها , تحتاج إلى هيئة تشرف على تسيير وتنظيم حياة الأفراد داخل إطار اجتماعي . وهو ما يعرف بالسلطة الحاكمة وهي تعمل على وضع القوانين وتطلب من الأفراد الالتزام بها قصد تحقيق المصلحة العامة . إلا أن هذه القوانين قد لا تقوى على ضبط العلاقات الاجتماعية ضبطا كاملا , فتنظيم علاقة الفرد بالفرد من جهة وعلاقة الفرد بالجماعة من جهة أخرى يجعل للأخلاق مكانة ودورا في التنظيم السياسي فهل الدولة تحتاج الأخلاق في نظام حكمها أم يكفيها ممارسة العمل السياسي ؟ بمعنى آخر هل يكفي ممارسة السياسة في الحكم دون ما حاجة إلى الأخلاق ؟
التحليل :
الدولة في غنى عن الأخلاق :
إن الأنظمة الفردية التي سادت قديما لم تعر أدنى اهتمام بالجانب الأخلاقي في الحكم . بل اهتمت كثيرا بالقوة , ولعل ذلك يظهر بوضوح في نظرية العقد الاجتماعي عند " هوبز " , ونظرية القوة والغلبة عند " ابن خلدون" في وصفه لكيفية قيام الدول وسقوطها , إلا أن ما ذهب إليه المفكر الإيطالي " ماكيافللي " (1469-1527) يبعد الأخلاق عن الدولة كونه يعتبر أن القوة المحركة للتاريخ هي المصلحة المادية والسلطة ويرى في مؤلفه الرئيس " الأمير " إن الدولة التي تقوم على الأخلاق والدين تنهار بسرعة , فالمهم بالنسبة للحاكم هو تحقيق الغاية المنشودة وهي قوة الدولة وسيطرتها بآية وسيلة كانت " الغاية تبرر الوسيلة " حيث كان يعتبر من المسموح به استخدام كل الوسائل في الصراع السياسي مبررا بذلك القسوة و الوحشية في صراع الحكام على السلطة . كما يرى أن فساد الدولة وتدهور العمل السياسي يعود إلى تدخل الأخلاق والدين لذلك يفصل بين السياسة والأخلاق .
لكن التاريخ يشهد أن مجمل الأنظمة التي قامت على القوة واللاأخلاق و تخلت عن الأخلاق وتحقيق القيم في الحكم كانت نهايتها الفشل .
الدولة بحاجة إلى الأخلاق :
لقد أمن بعض الفلاسفة منذ القديم بضرورة إدخال الأخلاق في العمل السياسي , فقد نظر " أرسطو " إلى علم الأخلاق على أنه علم عملي هدفه تنظيم الحياة الإنسانية بتحديد ما يجب فعله وما يجب تركه وهذا لا يتحقق إلا بمساندة القائمين على زمام الحكم باعتبار أن كثيرا من الناس لا يتجنبون الشر إلا خوفا من العقاب .
ولذلك فقد حدد أرسطو غاية الإنسان من الحياة في مستهل كتابه :" الأخلاق إلى نيقوماخوس " على أنها تحقيق " الخير الأعظم " وبدون معرفته و الوقوف عليه لا نستطيع أن نوجه الحياة .
بينما في العصر الحديث ربط " ايمانويل كانط " (1724-1804) فيلسوف ألماني السياسة بالأخلاق ربطا محكما . وبين على عكس ماكيافيللي أن الغاية من وجود الدولة هو مساعدة الإنسان وتحسين ظروف حياته وجعل من السياسة وسيلة لتحقيق غايتها وهي خدمة الفرد حيث يقول : " يجب أن يحاط كل إنسان بالاحترام التام كونه غاية مطلقة في ذاته " .
وقد عمل كانط من خلال كتابه " مشروع السلام الدائم " على أن الحياة السياسية داخل المجتمع الواحد وخارجه يجب أن تقوم على العدل و المساواة . وقد كان لكتابه تأثيرا على الأنظمة الحاكمة في أوروبا – وقد جاء في المادة الأولى من لائحة حقوق الإنسان : " يولد الناس جميعا أحرارا متساوين في الكرامة والحقوق ..." .
وهي قيم أخلاقية يعمل المجتمع الدولي على تحقيقها .
لكن الحياة الواقعية التي يعيشها الإنسان وتعيشها الدول لا تقوم على مبادئ ثابتة بل ممتلئة بالحالات الخاصة التي لا تجعل الإنسان يرقى إلى هذه المرتبة من الكمال التي يعامل فيها أخيه الإنسان على انه غاية في ذاته .
الدولة تعتمد على السياسة وتحتاج إلى الأخلاق :
الإنسان مدني بالطبع , لهذا كان لابد أن يعيش الإنسان في جماعة , و أن تكون له مع هذه الجماعة مقتضيات الحياة السعيدة ومن هنا كان قيام المجتمع بحاجة إلى السياسة لتضع نوع الحكم الملائم له وبحاجة إلى الأخلاق لتنظيم علاقة الفرد بجماعته وبغيره من الأفراد .
الخاتمة : إن الدولة في حاجة ماسة إلى الأخلاق , وحتى الدول العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة تتبنى الكثير من القواعد الأخلاقية في أنظمة حكمها , فالأخلاق ما هي إلا قانونا في جانبه العملي .
الأمة :
نص السؤال : هل من شروط استمرار الأمة الأصالة أم المعاصرة ؟
المقدمة : الأمة جماعة بشرية تربطهم عناصر مشتركة كالدين أو اللغة , فهي تنظيم ثقافي له أغراض روحية وقد ارتأى البعض من المفكرين إلى الاهتمام بهذه الروابط الثقافية المشتركة والتشبث بها . باعتبارها الأصل الذي بوجوده تبقى الأمة مستمرة في الوجود , بينما دعى آخرون إلى عصرنة هذه الروابط من أجل مواكبة العصر إذ لا استمرار لأمة فقدت قدرتها على مواكبة متطلبات العصر وعليه فهل وجود الأمة واستمرارها يكمن في مدى تشبثها ومحافظتها على أصالتها أم في قدرتها على الإبداع ومواكبة التطور الحضاري ؟
التحليل :
استمرار الأمة يكون بالمحافظة على الأصالة :
يؤكد بعض المفكرين وخاصة ذووا الاتجاه المحافظ أن ماضي الأمة هو مصدر استمرارها , وهو الذي يؤكد وجودها وقوتها وفعاليتها . و لهذا تعمل الأمم على إحياء الثقافات التقليدية وبعث قيمها والرفع من شأنها , إذ لا يمكن بقاء الأمة دون المحافظة على تراثها . وفي رأي البعض كما أن الإنسان يعود إلى الوراء لكي يخطو خطوة عملاقة إلى الأمام فكذلك الأمة لا سبيل إلى تقدمها إلا بالعودة إلى تراثها , وقد ركز الفيلسوف الألماني " هردر " في كتابه " فكرة في فلسفة تاريخ الإنسانية " على دور الثقافات الروحية الأصلية لمختلف الشعوب في تحقيق التقدم في التاريخ . وذات الموقف نجده عند " هيقل " الذي يرى أن عزل الأمة عن جذورها سبب في التخلف , كما يرى " مالك بن نبي " أن من غايات الاستعمار محاصرة الثقافة و عزل الأهالي عن ثقافتهم ...
لكن الاهتمام بالأصالة وحدها , والاكتفاء بما أنجزه الأسلاف دون الالتفات إلى ما تنجزه الأمم في العصر الراهن يؤثر سلبا على حاضر الأمة . ولا تكون الأصالة بهذا المعنى إلا مفهوما مرادفا للانغلاق والركود و الجمود . فالتراث وحده لا يكفي لمواجهة متطلبات العصر .
استمرار الأمة يكون بالتفتح على الحضارات الأخرى :
يرى البعض الآخر من المفكرين من أنصار التفتح والتجديد أن بقاء الأمة واستمرارها يكمن في مدى قدرتها على مواكبة متطلبات العصر , فالأمة العصرية هي التي تملك شروط المنافسة مع باقي الأمم . فالمعاصرة تقتضي من الأمة التفاعل مع المعطيات الحضارية الراهنة حيث تتأثر بما يبدعه الغير وتؤثر بدورها في الغير بقدرتها على الإبداع والعطاء , إن مقدرة الأمة على التنافس هو الذي يؤكد وجودها ويجسد فعاليتها بين الأمم .
ويقول في هذا الشأن الأستاذ الفرنسي : " فرانسيوا بيرو François Perroux " في كتابه " الاغتراب والمجتمع الصناعي " : " العلوم والصناعة و التكنولوجية تمكن الشعوب والمجتمعات من التقدم ومن المنافسة ... " وهكذا فالمعاصرة لا تعني التمسك بما هو قديم وإنما البحث عن سبل النمو و التطور بما يمكن الأمة من احتلال مكانه في هرم الحضارات المسيطرة في العصر .
لكن الاهتمام بالمعاصرة وحدها , والاكتفاء بالبحث عن سبل التطور و الرقي دون الالتفات إلى أصول الأمة و خصائصها . يؤثر سلبا على حاضر الأمة لأن التمسك بكل ما هو جديد حتى ولو كان دخيلا وغير مطابق للأصل يعتبر تقليدا وتبعية لا إبداعا حضاريا , فالمعاصرة وحدها قد تؤدي إلى الانسلاخ الحضاري.
استمرار الأمة يكون بالجمع بين الأصالة والمعاصرة :
لقد شبه البعض العلاقة بين الأصالة والمعاصرة بالعلاقة بين الجسد و الروح . فكما أن وجود الإنسان لا يتوقف على جانب دون آخر فكذلك وجود الأمة لا يتوقف على جانب دون آخر , فإذا كانت الأصالة هي روح الأمة فإن المعاصرة هي البدن الذي تستقر فيه الروح .
وقد بين " زكي نجيب محمود " كيفية الجمع بين الأصالة والمعاصرة من خلال كتابه " المعقول واللامعقول " بقوله : " الأخذ عن الأقدمين وجهات النظر بعد تجريدها من مشكلاتهم الخاصة التي جعلوها موضع البحث وذلك لأنه يبعد جدا أن تكون مشكلات حياتنا اليوم هي مشكلاتهم " .
الخاتمة : إن الربط المحكم بين الأصالة و المعاصرة هو الذي يمكن الأمة من البقاء والاستمرار في الوجود . إذ لا إفراط و لا تفريط وهذا الموقف المعتدل نجده في الإسلام حيث يدعو إلى حضارة إنسانية قائمة على تحقيق القيم الروحية و أيضا القوة المادية .

المحور الثاني عشر : إشكالية الإدراك .
نص السؤال : هل يمكن الفصل بين الإحساس و الإدراك ؟
الإحساس : ظاهرة نفسية متولدة عن تأثر إحدى الحواس بمؤثر ما , وبذلك فهو أداة اتصال بالعالم الخارجي ووسيلة من وسائل المعرفة عند الإنسان بينما الإدراك هو عملية عقلية معقدة نتعرف بها على العالم الخارجي بواسطة الحواس ومن خلال تعريفها تظهر العلاقة القائمة بينهما والتقارب الكبير الذي يجمعهما مما أثار إشكالا لدى الفلاسفة وخاصة علماء النفس حول الذي يجمعهما مما أثار إشكالا لدى الفلاسفة وخاصة علماء النفس حول إمكانية الفصل بينهما أو عدمه, بمعنى إن شعور الشخص بالمؤثر الخارجي و الرد على هذا المؤثر بصورة موافقة هل نعتبره إحساس أم إدراك أم أنهما مع يشكلان ظاهرة واحدة ؟
إمكان الفصل بين الإحساس والإدراك :
يؤكد علم النفس التقليدي على ضرورة الفصل بين الإحساس و الإدراك و يعتبر الإدراك ظاهرة مستقلة عن الإحساس انطلاقا من أن الإحساس ظاهرة مرتبطة بالجسم فهو حادثة فيزيولوجية ومعرفة بسيطة , أما الإدراك فهو مرتبط بالعقل . أي عملية عقلية معقدة تستند إلى عوامل كالتذكر والتخيل و الذكاء وموجه إلى موضوع معين . فيكون الإحساس معرفة أولية لم يبلغ بعد درجة المعرفة بينما الإدراك معرفة تتم في إطار الزمان والمكان . حيث يقول " ديكارت " : " أنا أدرك بمحض ما في ذهني من قوة الحكم ما كنت أحسب أني أراه بعيني " . ويقول " مين دوبيران Maine de Biran : " الإدراك يزيد على الإحساس بأن آلة الحس فيه تكون أشد فعلا والنفس أكثر انتباه ... " .
وكما يختلف الإدراك عن الإحساس فكذلك يختلف عن العاطفة لأن الإدراك في نظرهم حالة عقلية والعاطفة حالة وجدانية انفعالية .
لكن إمكانية الفصل بين الإحساس و الإدراك بشكل مطلق أمر غير ممكن باعتبار أن الإدراك يعتمد على الحواس . حيث قال التهانوي : " الإحساس قسم من الإدراك " وقال الجرجاني : " الإحساس إدراك الشيء بإحدى الحواس " .
استحالة الفصل بين الإحساس والإدراك :
يؤكد علم النفس الحديث على عدم إمكانية الفصل بين الإحساس والإدراك كما أن الفلسفة الحديثة تنظر إلى الإدراك على أنه شعور بالإحساس أو جملة من الاحساسات التي تنقلها إليه حواسه , فلا يصبح عندها الإحساس و الإدراك ظاهرتين مختلفتين وإنما هما وجهان لظاهرة واحدة , ومن الفلاسفة الذين يطلقون لفظ الإحساس على هذه الظاهرة بوجهيها الانفعالي والعقلي معا " ريد Reid " حيث يقول : " الإدراك هو الإحساس المصحوب بالانتباه " .
بينما يبني الجشطالط موقفهم في الإدراك على أساس الشكل أو الصورة الكلية التي ينتظم فيها الموضوع الخارجي , فالجزء لا يكتسب معناه إلا داخل الكل . فتكون الصيغة الكلية عند الجشطالط هي أساس الإدراك . فالإدراك يعود إلى العوامل الموضوعية . فالصيغ الخارجية هي التي تفرض قوانينها علينا و تؤثر على إدراكنا , وبذلك فهي تحد من قدراتنا العقلية . وعليه فالإدراك ليس مجموعة من الاحساسات و إنما الشكل العام للصورة هو الذي يحدد معنى الإدراك . فالثوب المخطط عموديا قد يزيد من أناقة الفتاة , وذات الثوب بخطوط أفقية قد يحولها إلى شبه برميل .
لكن رد الإدراك بشكل كلي إلى الشكل الخارجي أمر لا تؤكده الحالة النفسية للإنسان فهو يشعر بأسبقية الإحساس الذي تعيشه الذات كما أن رد الإدراك إلى عوامل موضوعية وحدها , فيه إقصاء للعقل ولكل العوامل الذاتية التي تستجيب للمؤثر . وإلا كيف تحدث عملية الإدراك ؟ ومن يدرك ؟
الإدراك ينطلق من الإحساس ويتجه نحو الموضوع :
إن الإدراك عملية نشيطة يعيشها الإنسان فتمكنه من الاتصال بالموضوع الخارجي أو الداخلي , وهو عملية مصحوبة بالوعي فتمكنه من التعرف على الأشياء . والإدراك يشترط لوجوده عمليات شعورية بسيطة ينطلق منها . و هو الإحساس , بكل حالاته الانفعالية التي تعيشها الذات المدركة , ووجود الموضوع الخارجي الذي تتوجه إليه الذات المدركة بكل قواها وهو ما يعرف بالموضوع المدرك .
إن الاختلاف بين علم النفس التقليدي الذي يميز بين الإحساس و الإدراك , وعلم النفس الحديث الذي لا يميز بينهما باعتبار أن العوامل الموضوعية هي الأساس في الإدراك يبقى قائما . غير أن التجربة الفردية تثبت أن الإنسان في اتصاله بالعالم الخارجي وفي معرفته له ينطلق من الإحساس بالأشياء ثم مرحلة التفسير والتأويل فالإحساس مميز عن الإدراك ليسبقه منطقيا إن لم يكن زمنيا .

الموضوع الثاني :
نص السؤال : أيهما أهم في الإدراك : العوامل الذاتية أم العوامل الموضوعية ؟
إذا كان علم النفس التقليدي قد نظر إلى الشروط الذاتية النفسية والعقلية و البيولوجية على أنها مجموعة العناصر الأولية والضرورية في حدوث عملية الإدراك . وإذا كان علم النفس الحديث يعتبر ذلك خطأ وراح يصحح هذه النظرة منطلقا من أن العوامل الموضوعية هي الضرورية في عملية الإدراك , فإلى أي منهما تعود الأفضلية في حصول عملية الإدراك إلى الذات أم إلى الموضوع ؟
الأفضلية في الإدراك تعود إلى عوامل ذاتية :
يذهب بعض العلماء وخاصة علماء النفس التقليدي إلى أن العوامل الذاتية مثل الاستعدادات العقلية هي التي تمكن من الإدراك , فالإنسان عندما يكون مرتاحا تكون لديه قدرة على الانتباه والتركيز أفضل مما يكون في حالة قلق , كما يدرك الفرد بسهولة الأشياء التي تتفق مع ميوله ورغباته ...
وهذا الموقف نجده عند الذهنيين أمثال " ديكارت " : " الإدراك حكم عقلي " وعند التجريبيين أمثال " جورج بركلي " : " إدراك المسافات حكم يستند إلى التجربة " . كما يقف " بيرلو " من خلال تجاربه على أطفال عرب ( إدراك الأشياء من اليمين إلى اليسار) وغير العرب ( إدراك الأشياء من اليسار إلى اليمين ) أن الإدراك راجع إلى دور العادة .
لكن العوامل الذاتية وحدها غير كافية , وإلا تمكن الجميع من الإدراك لأن قدرة العقل مشتركة كما أن القدرات العقلية أحيانا لا يمكنها تجاوز العوائق الخارجية .
الأهمية في الإدراك تعود إلى العوامل الموضوعية :
يذهب البعض الآخر من العلماء وخاصة علماء النفس الحديث إلى أن الإدراك يعود إلى الموضوع الخارجي , لا إلى الاستعدادات العقلية فالشكل الخارجي للموضوع وبناؤه العام هو الذي يحدد درجة الإدراك وهذا الرأي نجده عند علماء الجشطالط كوهلر , بوهلر و فرتيمر الذين ركزوا على الصفة الكلية للموضوع واعتبروها أساس الإدراك فالجزء لا يكتسب معناه إلا داخل الكل الذي ينتظم وفق قوانين يسميها الجشطالط قوانين الانتظام و هي تتحكم في العلاقة بين الصورة والخلفية , فعندما تكون هذه العلاقة منتظمة تبرز الصورة الفضلى أي الصيغة البارزة . أما إرادة الإنسان فلا تتدخل إلا في حالة وجود صورتين فضليين مثلا في الشكل : وجهان متقابلان أو مزهرية .
لكن العوامل الموضوعية وحدها غير كافية هي الأخرى و إلا تساوى الإدراك عن جميع المدركين لأن الموضوع واحد , كما أن لكل إنسان اهتمامه فلا يعود للصورة الفضلى الأفضلية في الإدراك عند الجميع .
الإدراك يكون بتظافر العوامل الذاتية مع العوامل الموضوعية :
إن العلاقة بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية يبدو على أنها علاقة تنافر باعتبار أن الأولى داخلية وتتعلق بخصائص شخصية الفرد و أحواله الذاتية . والثانية خارجية وتتعلق بالمحيط الذي يوجد فيه الشخص , والواقع أن هذه العلاقة هي علاقة تجاور لأننا من الناحية العملية لا نستطيع أن نفصل بين ما هو داخلي وما هو خارجي فالفرد يدرك بالاعتماد عليهما معا .
إن حصول عملية الإدراك عند الإنسان لا يمكن ردها إلى العوامل الذاتية وحدها فقط وإنما الإدراك عملية تتم عن طريق التكامل والتعاون بين العوامل الذاتية والعوامل الموضوعية .

المحور الثالث عشر : الذاكرة .
نص السؤال : هل الذاكرة مرتبطة بالدماغ وحسب ؟
إن حياة الإنسان لا تقتصر على معرفة الحاضر فقط , فهو يعيش الزمن بأبعاده الثلاثة , الماضي والحاضر والمستقبل , فإذا ما انقطع عن إدراك الحاضر عاد إلى تفحص الصور الذهنية المدركة التي أصبحت من الماضي لتعاقب الزمن عليها . وهذه الصور الذهنية التي هي في الواقع من مدركات الماضي تتطلب من الإنسان قدرة عقلية فعالة لاسترجاعها في الزمن الحاضر مما يثبت أنها كانت مخزنة في جانب ما تم تذكرها أي استدعاؤها إلى الزمن الحاضر , وعليه فهل التخزين والتذكر يعودان إلى نشاط الدماغ وحده ؟ بمعنى آخر هل الذاكرة ذات طبيعة فيزيولوجية " عضوية " ؟
الذاكرة وظيفة عضوية مرتبطة بالدماغ :
يفسر بعض الفلاسفة والعلماء الذاكرة تفسيرا ماديا بردها إلى دور الأعضاء وخاصة الدماغ في حفظ الذكريات وفي استرجاعها حيث قال عنها ابن سينا : " إنها قوة محلها التجويف الأخير من الدماغ من شأنها حفظ ما يدركه الوهم
من المعاني الجزئية " . فوظيفة الذاكرة بهذا المعنى هي الحفظ والتذكر , وهذا الرأي نجده عند ديكارت الذي كان يقول : " إن الذاكرة تكمن في ثنايا الجسم " و المقصود بذلك هو الدماغ وهذا ما عبر عنه " تين Taine " بقوله : " المخ وعاء لحفظ الذكريات " .
غير أن التفسير المادي للذاكرة تبلور بشكل أكثر وضوحا مع ريبو Ribot .ومن خلال كتابه " أمراض الذاكرة " حيث قال : " إن الذاكرة بطبيعتها عمل بيولوجي " . كما قال أيضا : " الذاكرة وظيفة عامة للجهاز العصبي ... " فالذكريات عنده تثبت في الجهاز العصبي أي في الدماغ الذي يعتبره بمثابة وعاء للذكريات , فالذاكرة بمثابة الأسطوانة تخزن الذكريات كما تخزن الأخرى الأغاني وتبعث بمؤثرات الحاضر , والذكريات تثبت بطريقة آلية حيث تنطبق حركاتها مع الجهاز العصبي وهي بذلك شبيهة بالعادة , وأي مرض أو إتلاف يصيب الخلايا العصبية يؤدي إلى إتلاف الذكريات الموجودة هناك , و يكون هذا التحلل أو الفقدان حسب قوانين ثابتة تظهر في قوله : " إن فقدان الذكريات عند التحلل الجزئي تتبع طريقة لا تتغير أسماء الأعلام فأسماء الأجناس ... فالإيماءات أما عند التحلل العام فالحوادث القريبة العهد فالأفكار ... فالأفعال . كما أن عودتها تكون وفقا للترتيب المعاكس لفقدانها " .
لا شك في أن للدماغ دورا في حفظ وبعث الذكريات , ولكن ربط الذاكرة بالدماغ وحده فيه مبالغة خاصة فيما يتعلق بأمراض الذاكرة وفقدانها بشكل مرتب وحسب قوانين .
الذاكرة وظيفة نفسية لا ترتبط بالدماغ :
يذهب بعض الفلاسفة والعلماء إلى تفسير الذاكرة تفسيرا روحيا لا ماديا وعلى رأس هؤلاء " برغسون " الذي انتقد النظرية المادية وخاصة نظرية ريبو في تعلق الذاكرة بالدماغ حيث يرى أنه يحدث وأن تعود فجأة الذكرى التي كنا نظن أنها أتلفت وهذا بفعل تأثير قوي على النفس فهل من المعقول أن يحدث ذلك لو أنها كانت نتيجة إتلاف خلايا الدماغ ؟ كما انتقد ريبو بشدة في الذاكرة المرضية حيث يقول : " أفلا يكون من الغريب حقا أن يمس هذا المرض هذه الخلايا بالترتيب ؟ " .
وهكذا يخلص برغسون إلى أن ريبو قد اخلط بين نوعين من الذاكرة :
أ- الذاكرة العادة : وهي ذاكرة جسمية أو حركية وهي حركات مخزونة في الجسد تكونت نتيجة تكرارها .
ب- الذاكرة الروحية : وهي ذاكرة بسيكولوجية شعورية أو لاشعورية ) وهي نفسية خالصة تولد تامة , تحفظ ذكريات الماضي دفعة واحدة بصورة مستقلة عن الدماغ , فهي من طبيعتها ألا تتكرر . فالذكرى تتردد بين الشعور و اللاشعور وما الدماغ إلا أداة استحضار وما دامت الذكرى روحية فلا معنى للسؤال أين توجد ؟ وقولنا أنها موجودة في الفكر يكون على سبيل المجاز فقط .
لا نشك في أن الذاكرة ترتبط بالنفس , وفي أن التمييز بين الذاكرة الحركية والنفسية يزيد الموضوع وضوحا , لكن الفصل التام بين ما هو عضوي وما هو نفسي فيه مبالغة , والتجربة تثبت استرجاع الذكرى يحتاج إلى سند مادي ملائم . فالذكريات قد تبعثها حركات جسمية .
الذاكرة ليست وظيفة فردية ( فيزيولوجية أو بسيكولوجية ) بل نشاط جماعي :
يذهب بعض الفلاسفة إلى تجاوز التفسير المادي والتفسير الروحي باعتبار الذاكرة وظيفة اجتماعية بحيث تتدخل المفاهيم الاجتماعية من تفكير ولغة و عادات ...الخ . في عملية التذكر مما يجسد التعاون بين الذاكرات . حيث يقول " هالفكس " في كتابه " الأطر الاجتماعية للذاكرة " : " إن الماضي لا يحتفظ به , انه يعاد بناؤه انطلاقا من الحاضر , والذكرى تكون قوية لما تنبعث من نقطة التقاء الأطر والنسيان هو نتيجة اختفاء هذه الأطر " . هكذا تصبح الذاكرة نشاطا اجتماعيا وليس عملا فرديا , فالذاكرة الحقة عنده هي الذاكرة الاجتماعية الناتجة عن التفاعل بين الأفراد .
إن الذاكرة باعتبارها صفة إنسانية هي مرتبطة هي مرتبطة بنشاط الفرد في حياته اليومية وبذلك تتدخل فيها معطيات متشبعة منها الجانب الجسمي ممثلا في دور الدماغ والجانب الروحي ممثلا في الحياة النفسية بجانبيها الشعوري و اللاشعوري بالإضافة إلى العلاقات الاجتماعية للفرد بأطرها ومفاهيمها الاجتماعية .


الموضوع الثاني :
نص السؤال : هل النسيان مرض ؟
إن الحديث عن الذاكرة باعتبارها قدرة تمكن صاحبها من حفظ الماضي واسترجاعه عند الضرورة من أجل التكيف , لا يعني أنها قدرة مطلقة تتحكم في التخزين والاسترجاع في جميع الأحوال والظروف بل يحدث وأن تختل الذاكرة فيصعب عليها حفظ الذكريات أحيانا , كما يصعب على صاحبها أحيانا أخرى استرجاع ما تم حفظه فتصبح الذاكرة عاجزة عن أداء دورها على الرغم من الجهد الذي يبذله الإنسان في سبيل ذلك و هو ما يعرف بالنسيان . فهل ظاهرة النسيان عند الإنسان حالة مرضية أم حالة عادية تعيشها الذاكرة ؟ بمعنى آخر هل فقدان الذكريات بشكل أو بآخر في نظر العلماء يعتبر مرضا ؟
النسيان مرض : إن الذاكرة باعتبارها نفسية تعمل على حفظ الذكريات و استرجاعها عند الضرورة فإن كل فقدان أو عجز في الاستحضار يعتبر حالة سلبية . ومن بين العلماء الذين يرون أن النسيان مرض ريبو الذي فسر النسيان تفسيرا ماديا يرده إلى إصابة في الدماغ , فأية إصابة في خلايا القشرة الدماغية يؤدي حتما إلى زوال الذكريات المسجلة عليها , مما ينتج عنه فقدان الذكريات وهذا الفقدان قد يكون كليا فيبدأ من الحوادث القريبة العهد ويمتد إلى الأفعال والإشارات , كما يمكن و أن يتماثل المريض إلى الشفاء فيسترجع ذاكرته فتعود الذكريات وفقا للترتيب المعاكس لفقدانها , ومن بين الأمراض التي تصيب الذاكرة : الأمنيزيا, الأفازيا .. ( راجع أمراض الذاكرة ) .
أما فرويد فقد اعتبر النسيان كبت في جانب اللاشعور , فالمريض لا ينسى كل الحوادث التي عاشها في الماضي وإنما ينسى بعض الحوادث المؤلمة التي لا يرغب في تذكرها فهي التي تستقر في اللاشعور لأن الأنا يعمل على إبعادها من ساحة الشعور . ونتيجة هذا التفسير فإن النسيان مرض مهما كانت أسبابه , وهو يعيق نشاط الفرد .
لكن ليس كل نسيان مرض , فقد يكون النسيان شرطا لحياة الذاكرة نفسها , إذ منه يكون نفسيا وتلقائيا لعدم الحاجة إليه دون كبت ولا تلف لخلايا الدماغ .
النسيان حالة عادية : إن الذاكرة لا تعني حفظ كل آثار الماضي ثم استعادتها جميعا , بل ينتقي الإنسان ما هو ضروري وموافق لاهتماماته , ومن هنا يكون أمرا عاديا وطبيعيا أن ينسى إنسان بعض آثار الماضي , ومن بين الفلاسفة الذين يرون أن النسيان حالة عادية " برغسون " الذي اعتبر النسيان حالة طبيعية يعيشها الفرد إذ لا يتذكر من الماضي إلا ما كانت له علاقة بالواقع الذي يعيش فيه , إذ لا يلتفت الإنسان إلى الماضي إلا لحاجة في التكيف , إذ حاول برغسون إثبات أن الحوادث السابقة لا تمحى , وأن الذكريات المنسية لا تتلف أبدا . ولهذا انتقد برغسون ريبو بشدة في الذاكرة المرضية .
كما أن بعض علماء النفس الحديث يرجعون ظاهرة النسيان إلى بعض العوامل كعامل الترك والضمور فاختفاء بعض الذكريات يكون نتيجة تركنا لها نظرا لعدم احتياجاتنا إليها , فالإنسان يتذكر ما يلائمه وينفعه ويفيده , فالتذكر اختيار , وبناء على ما سبق يكون النسيان ظاهرة عادية تعيشها الذاكرة لا حالة سلبية .
لكن لا يمكن اعتبار كل نسيان حالة عادية , فقد ينسى الإنسان بعض الحوادث التي هو في أمس الحاجة إليها ولا يمكن اعتبار ذلك إلا حالة سلبية تعيق الإنسان في نشاطه .
النسيان من طبيعة الذاكرة :
إن الإنسان الذي يشتكي من زوال المعلومات والآثار الماضية والذي يأسف عن عدم قدرته في استرجاع بعض الذكريات الجميلة , فيصف ذاكرته بالخائنة هو الإنسان الذي يشعر بحاجة في نسيان ما تم اكتسابه من معارف و خبرات ماضية حتى يفسح المجال لذاكرته في تحصيل علوم جديدة , وهو الذي يشعر برحمة النسيان في تجاوزه لآثار الذكريات المؤلمة والحقد و الكراهية التي تعتري الحياة الاجتماعية للناس , وهكذا لا يعتبر النسيان حالة مرضية وسلبية دائما , كما لا يعتبر حالة عادية وطبيعية دائما .
فالذاكرة السليمة ليست تلك الذاكرة التي يصيبها النسيان و إنما الذاكرة التي تنتقي موضوعاتها فتحتفظ بما هو ضروري لها وتطرح الباقي جانبا فتكسب قدرة جديدة على الحفظ والاسترجاع .
إن النسيان ظاهرة تفترضها طبيعة الذاكرة فهو شرط من شروط توازنها وسلامتها , والحكم على النسيان بأنه نقيض الذاكرة حكم ساذج فالنسيان ليس نفيا للذاكرة و لا نقيضا لها في جميع الأحوال , فلولا النسيان لما استطاع الإنسان أن يتكيف مع المواقف الجديدة وهذا لا يعني أن النسيان حالة إيجابية دائما بل قد يكون سلبيا ومعيقا لصاحبه متى كان مرضيا .
المحور الرابع عشر : الذكاء والتخيل .
نص السؤال : هل الذكاء هدية الآباء للأبناء ؟
يولد الإنسان مجهزا بوسائل وأدوات تمكنه من تجاوز الصعوبات و العوائق التي تعترضه في حياته , فالبغريزة وهي قدرة فطرية لديه يتمكن من القيام بسلوكات مختلفة تنتهي إلى إشباع حاجاته ومطالبه , كما يأخذ الإنسان من المجتمع أدوات أخرى تمكنه من تجاوز صعوبات وعوائق من طراز آخر , فالبعادة وهي قدرة مكتسبة لديه يتمكن من مواجهة صعوبات الحياة اليومية التي تنتهي بتحقيق أغراضه العلمية والعملية , غير أن هناك من مطالب وعوائق تتجاوز عفوية الغريزة وتتحدى آلية العادة وتحتاج إلى قدرة عقلية بارعة تمكن صاحبها من القيام بعمليات التفكير العليا ومن ابتكار حلول جديدة لمشاكل طارئة وهذه القدرة هي الذكاء , فهل الذكاء يعود إلى تأثير العوامل الوراثية البيئية ؟ أو بمعنى آخر هل الذكاء نرثه عن الآباء أم ننتظر سخاء المجتمع ؟
الذكاء يعود إلى تأثير العوامل الوراثية ( الذكاء فطري ) :
يذهب بعض العلماء وخاصة علماء الوراثة إلى أن الصفات الوراثية هي التي تحدد مصير الإنسان من الناحية العقلية والجسمية فالوراثة هي التي تشكل الهيكل النفسي من غرائز وميول وطباع فيكون هذا عاطفي وذاك غضبي , كما تشكل الهيكل الذهني وسائر القدرات العقلية فيكون هذا ذكي و ذاك غبي , كما تشمل القدرات الجسمية أيضا فتحدد القوي والضعيف . وهذا ما أكد عليه علماء الوراثة أمثال " مندل و مورغان " وبعض علماء النفس أمثال ريبو , حيث أثبتوا توارث صفات ومميزات وقوى تحدد القدرات العقلية والجسمية ومعنى هذا أن الخصائص الوراثية لشجرة الأسرة هي التي تحدد قوى الذكاء أو ضعفه , مثلا أسرة باخ الألمانية يوجد بها 57 عبقريا . كما تحدد الوراثة طبيعة الجسم وخصائصه من قصر وطول ولون ... الخ .
مثلا في عائلة جيزو المكسيكية خاصية شاملة لكل أفرادها حيث يكسو الشعر الكثيف كل الجسم بما في ذلك الوجه. والنتيجة أن الذكاء يعود إلى عامل الوراثة .
حقيقة الذكاء يستند إلى الوراثة , ولكن لا يمكن إقامة الدليل العلمي على دور الوراثة وحدها وإلا كيف نفسر وجود أطفال يمتنعون بذكاء عال مع أنهم أبناء أسر متواضعة , أو اختلاف ذكاء التوائم .
الذكاء يعود إلى تأثير العوامل البيئية ( الذكاء مكتسب ) :
يذهب بعض العلماء وخاصة علماء الاجتماع إلى أن الإنسان مدين لبيئته ( الطبيعة والاجتماعية ) بجميع مقوماته العقلية والجسمية , فالبيئة تتميز بالتنوع والتغير وهي بخصائصها تحدد طبيعة الذكاء .
حيث يؤكد علماء الاجتماع على أن الفرد هو انعكاس لمجتمعه , وتجاربهم تثبت أن الذكاء يختلف باختلاف الأوضاع الاجتماعية والثقافية و الاقتصادية كما يرى علماء التربية أن الطفل يولد عجينة ونحن نشكله كما نشاء واستنتجوا أن تفاوت المستوى الثقافي بين الأسر هو الذي يحدد نسبة الذكاء . حيث أكد جيمس فريزر على دور الأسرة من حيث مستواها الاقتصادي والثقافي , ومن حيث عدد أفرادها في تشكيل ذكاء الأبناء .
لا شك في أن للبيئة الطبيعية والاجتماعية دور في تحديد الذكاء و لكن هل بمقدور البيئة أن تصنع من الأغبياء رجالا أذكياء أو العكس فالبيئة الواحدة والأسرة الواحدة تنتج تفاوتا في الذكاء .
الذكاء يعود إلى تأثير العوامل الوراثية والبيئة معا :
أن الذكاء الذي يوجد مع الفرد بالولادة هو مجرد استعداد فطري يحتاج إلى الرعاية والاهتمام لينتقل من حالة الوجود بالقوة إلى حالة الوجود بالفعل كما أن الذكاء الذي تنتجه البيئة ليس خلقا من العدم و إنما هو قائم على تاريخ سابق وما دور المجتمع إلا توفير الشروط التي تضمن له النمو السليم . وهذا ما يقول به " سبيرمن " أو ما يعرف بنظرية العاملين فالذكاء يكون بالقدرة العامة أي الاستعدادات الفطرية , وبالقدرة الخاصة أي جملة التقنيات والوسائل المكتسبة لابتكار الحلول .
لا يمكن رد الذكاء إلى العوامل الوراثية وحدها ولا إلى العوامل البيئية وحدها بل الذكاء قدرة كامنة في الفرد , والمجتمع بخصائصه و أساليبه المتنوعة يعمل على تنميتها وتطويرها بوسائله التعليمية وغيرها . وعليه فالذكاء هو نتاج التفاعل الحاصل بين الفطرة والاكتساب . فكلما كان الانسجام بين الوراثة والبيئة أكمل , كلما كان الذكاء أعلى وأرقى .




الموضوع الثالث :
نص السؤال : هل الإبداع ظاهرة فردية خاصة ؟
إن الإبداع في اصطلاح الفلاسفة له عدة معان أهمها تأسيس الشيء عن الشيء أي تأليف شيء جديد من عناصر موجودة سابقا مثلما هو الحال في الفنون والعلوم , ومما لا شك فيه أن ظاهرة الإبداع ترتبط بدور الفرد من خلال فعالية تخيله في تصور النقائص التي بإدراكها تحصل فكرة الإبداع ومن ثمة فإن الإبداع ينشأ في ذهن إنسان له فرديته الخاصة وشخصيته المميزة باستعداداته وقدراته الفطرية والمكتسبة . فإذا كان الإبداع إجراء يرتبط بشخصية الفرد فهل الشروط الذاتية وحدها كافية لحصول عملية الإبداع ؟ بمعنى آخر إذا كان من المؤكد أن الشروط النفسية تؤثر في عملية الاختراع فهل يمكن رد هذه العملية إلى هذه الشروط وحدها ؟
الإبداع يعود إلى تأثير العوامل النفسية :
ينظر بعض الفلاسفة العلماء إلى الإبداع على أنه ظاهرة خاصة توجد لدى بعض الأفراد دون غيرهم . لأن الأحوال النفسية والعقلية من ميول و رغبات ومواهب هي التي تدفع بالفرد إلى الإبداع بدليل أن العباقرة يمتازون بخصائص نفسية وعقلية تمكنهم من تجاوز ما يعجز عنة الآخرون . فقد حلل " فرويد " ظاهرة الإبداع بردها إلى الأعمال اللاشعورية فالعمل المبدع في نظره تعبير عن الرغبات المكبوتة التي تتحقق عن طريق الخيال بمعنى أن معظم عناصر تخيلاتنا تتجمع في اللاشعور , وتختزن الصورة المبدعة في الذهن ثم تنبثق دفعة واحدة في شكل الهام , حيث يقول " نيوتن " في هذا الصدد : " وإنني لأضع بحثي نصب عيني دائما و انتظر حتى يلمح الإشراق الأول علي شيئا فشيئا لينقلب إلى نور جلي " كما يقول " بوانكاري " : " أن الحظ يحالف النفس المهيأة " ويقول " برغسون " : " أن العظماء الذين يتخيلون الفروض والأبطال و القديسين الذين يبدعون المفاهيم الأخلاقية , لا يبدعونها في حالة جمود الدم , و إنما يبدعون في جو حماسي وتيار ديناميكي تتلاحم فيه الأفكار " . وهي أدلة تدل على أن لعملية الإبداع أصول نفسية .
حقيقة أن الإبداع تجسيد لما يختلج في النفس من معان وصور , إذ لا يمكن إنكار دور الذات في عملية الإبداع . ولكن الذات تتأثر بالمحيط الاجتماعي فلا إبداع من العدم مما يعني حاجة الذات تتأثر بالمحيط الاجتماعي فلا إبداع من العدم مما يعني حاجة الذات إلى الشروط الاجتماعية الملائمة .
الإبداع يعود إلى تأثير العوامل الاجتماعية :
ينظر بعض الفلاسفة والعلماء إلى الإبداع على انه ظاهرة اجتماعية كون المبدع يستمد مادة إبداعه من المجتمع , مما يجعل الإبداع له ارتباط وثيق بالحياة العامة وخاصة الاجتماعية , فالحاجة الاجتماعية ومتطلباتها هي التي تدفع الإنسان إلى الإبداع ولذا يقال : " الحاجة أم الاختراع " بمعنى أن الحاجة تعتبر مشكلة اجتماعية تتطلب حلا وهو ما يدفع بالمبدع إلى التفكير .
وهكذا يكون نشاط المبدع عبارة عن ظاهرة اجتماعية , في نظر " دوركايم " الذي يرى أن الإبداع مهما تعددت مجالاته تتحكم فيه شروط اجتماعية فالمبدع سواء كان فنانا أو عالما لا يبدع لنفسه وإنما يبدع وفق ما يحتاج إليه المجتمع وحسب ما يسمح به المجتمع ... فالمجتمعات تبارك الإبداعات العلمية الموجهة لأغراض سلمية وتعاقب أو تذم الإبداع العلمي الموجه إلى أغراض حربية . وهذا يبين أن المبدع يوجه إبداعه إلى معالجة المشاكل التي تعترض مجتمعه , ولعل هذا ما عناه " ريبو " بقوله : " مهما كان الإبداع فرديا فإنه يحتوي على نصيب اجتماعي " . وهي آراء تدل على أن المبدع يستقي مادته الإبداعية من الواقع الاجتماعي الذي يعيشه .
حقيقة ظاهرة الإبداع تعود إلى الحوافز الاجتماعية وطبيعة الواقع الاجتماعي ولكن رغم توفر الشروط الاجتماعية الملائمة ووجود الحاجة الدافعة للإبداع إلا أنه لا يمكن لكل أفراد المجتمع أن يبدعوا وهذا يدل على تدخل عوامل وشروط أخرى مرتبطة بالذات المبدعة .
الإبداع يعود إلى تأثير العوامل الذاتية والاجتماعية معا :أن الإبداع يعود بالدرجة الأولى إلى حيوية المبدع وما يتمتع به من خصائص نفسية وعقلية كتظافر الوظائف النفسية من ذكاء , وتخيل , وذاكرة . وتوفر الميول الكافية من رغبات وآمال , بالإضافة إلى تمتع صاحب الإبداع بنوع من الحس المبدع الخاص كما أن المبدع يستمد عناصر إبداعه من المجتمع فالوسط الاجتماعي الملائم من حاجات وظروف و أفكار ة تطور علمي وثقافي حافز على الإبداع . فظهور جل القوانين العلمية في أوروبا لا غير دليل على دور البيئة الاجتماعية .
إن الإبداع ليس مجرد إلهام مفاجئ يحظى به بعض الأفراد في المجتمع بل هو ظاهرة فردية تضرب بأعماق جذورها في الحياة الاجتماعية التي منها يأخذ المبدع مادته , فالإبداع يستمد حيوته من ميول الفرد ويستمد مادته من حاجة المجتمع , وعليه فالإبداع يكون بالتكامل بين الشروط الاجتماعية و الشروط الذاتية .
المحور الخامس عشر : اللغة والتواصل .
نص السؤال : هل يمكن التفكير بدون لغة ؟
إن علماء النفس يطلقون معنى اللغة على مجموع الإشارات التي يعبر بها عن الفكر , فنحن عندما نتحدث مع الغير فإنه من الواضح أننا نطلق بألفاظ نرتبها حسب المعنى , وعندما نتحدث لأنفسنا لا ننطق بألفاظ ولكننا نرتب المعاني حسب الصورة المنطوقة مما يبدو معه أن كل تفكير يحتاج إلى تعبير و أن كل تعبير يحتاج إلى تفكير , إلا أن مسألة اللغة والفكر ظلت موضوع سوء تفاهم بين الفلاسفة والعلماء فهل يمكن قيام فكر بدون لغة ؟ بمعنى آخر هل اللغة والفكر منفصلان عن بعضهما أم أنهما مظهرين لعملية نفسية واحدة ؟
اللغة والفكر منفصلان عن بعضهما :
يذهب أصحاب الاتجاه إلى التمييز بين اللغة والفكر , ويفصلون بينهما فصلا واضحا , ويعتبرون أن الفكر سابق اللغة وأوسع منها , لأن الإنسان يفكر بعقله أولا ثم يعبر بلسانه ثانيا , لذلك قد تتزاحم الأفكار في ذهن الإنسان ولكنه يعجز عن التعبير عنها مما يجعل اللغة عائقا للفكر ولعل هذا ما يدفع بالإنسان إلى الاستعانة بالإشارات لتوضيح أفكاره أو اللجوء إلى وسائل بديلة للتعبير اللغوي كالرسم والموسيقى وغيرهما . وهذا ما أكده " برغسون " حين قال : " اللغة عاجزة عن مسايرة ديمومة الفكر " . بمعنى أن تطور المعاني أسرع من تطور الألفاظ , فالمعاني بسيطة متصلة بينما الألفاظ مركبة منفصلة , ويقول " فاليري " ( أحد الشعراء الفرنسيين ) : " أجمل الأفكار هي تلك التي لا نستطيع التعبير عنها " . بمعنى أن اللغة عاجزة عن إبراز المعاني المتولدة عن الفكر إبرازا كاملا . فلا يمكنها أن تجسد كل ما يختلج في نفس الإنسان .
وهكذا فالنتيجة التي ينتهي إليها أصحاب الاتجاه الثنائي أن الفكر واللغة منفصلات عن بعضها فالقدرة على التفكير لا تعني بالضرورة القدرة على التعبير مما يؤدي إلى عدم التناسب بين القدرة على الفهم والقدرة على التبليغ .
لكن الإنسان يشعر بأنه يفكر ويتكلم في آن واحد , والواقع يبين أن التفكير لا يتم بدون لغة . فالفكر بدون لغة مجرد شعور .
لا يمكن الفصل بين اللغة والفكر :
يذهب أصحاب الاتجاه الواحدي إلى عدم التمييز بين اللغة والفكر فهم لا يفصلون بينهما ولا يرون وجود فرق بينهما بل يرون أنه لا يمكن أن يوجد فكر بدون لغة , كما لا توجد لغة من دون فكر . فاللغة ليست مجرد أداة للتبليغ والتعبير بل هي الأساس الذي يقوم عليه التفكير ومن بين الفلاسفة الذين يؤكدون على وجود وحدة عضوية بين اللغة والفكر الفيلسوف الألماني " هيغل " الذي يرى أن الكلمة تعطي للفكر وجوده الأسمى و أن الرغبة في التفكير بدون كلمات لمحاولة عديمة المعنى , كما أن اللغة عند " جون لوك " هي علامات حسية تدل على الأفكار الموجودة في الذهن , وهذا يعني أن هناك تطابقا بين الفكرة ودلالة الألفاظ . كما يقول ستالين : " مهما كانت الأفكار التي تجيء إلى فكر الإنسان فإنها لا تستطيع أن تنشأ وتوجد إلا على مادة اللغة " . وقد أشار " أرسطو " إلى هذا بقوله : " ليس ثمة تفكير بدون رموز لغوية " .
وهكذا فإن أصحاب الاتجاه الواحدي يخلصون إلى نتيجة مفادها أن اللغة والفكر كل موحد و أن العجز الذي توصف به اللغة فهو عجز في التفكير و أن عدم التناسب بين القدرة على الفهم والقدرة على التبليغ يعود إلى عجز المتكلم عن إيجاد الألفاظ المناسبة للفكرة .
لكن الإنسان يشعر بعجز اللغة عن مسايرة الفكر , فالأدباء على الرغم من امتلاكهم لثروة لغوية كبيرة يعانون من مشكلة التعبير والتبليغ كما يشعر الإنسان أيضا بخطورة اللغة على الفكر أحيانا مثلما في حالة سوء التفاهم .
لا فكر بدون لغة ولا لغة بدون فكر :
لقد حاول الكثير من الفلاسفة من خلال آرائهم التوفيق بين الفكر واللغة , فلا فكر بدون لغة ولا لغة بدون فكر , وقد عبر عن هذا التلاحم بين اللغة و الفكر " مير لوبونتي " بقوله : " إن الفكر لا يوجد خارج الكلمات " . بينما يقول دولاكروا : " اللغة تصنع الفكر والفكر يصنع اللغة " . وهكذا يبقى على الإنسان الاعتناء بلغته وتطويرها حتى تتمكن من مواكبة الفكر واللحاق به فاللغة السليمة تعبر بصدق عن الفكر .
نستنتج مما سبق أن اللغة والفكر شيئان متداخلان ومتكاملان , وإن كانت بينهما أسبقية فهي منطقية لا زمنية , وإن كان بينهما تمييز فهو نظري لا مادي وقد عبر عن هذه العلاقة " هاملتون " بقوله : " إن المعاني شبيهة بشرار النار لا تومض إلا لتغيب فلا يمكن إظهارها وتثبيتها إلا بالألفاظ " . كما يقول زكي نجيب محمود :
" الفكر هو التركيب اللفظي أو الرمزي لا أكثر و لا أقل " . وعليه فكل تفكير يتطلب لغة .
الموضوع الثاني :
نص الموضوع : " الفلسفة نمط متميز من التفكير" ما الذي يبرر ذلك ؟
إن ما يعرف عادة بالمعجزة اليونانية , يعود أساسا إلى بروز ظاهرة جديدة في تفكير اليونانيين الذي تخلص شيئا فشيئا من العناصر الأسطورية و الخرافية والغيبة التي كانت تسيطر عليه وعلى معظم الظواهر الفكرية السابقة لتلك الفترة . وهو تفكير ينطلق من إدراك الذات البشرية لذاتها ووعيها بقدرتها على البحث في الموضوعات الخارجية وبلوغ حقائقها , وهو ما يعرف بالتفكير الفلسفي أو القدرة على التفلسف فما هي خصوصيات التفكير الفلسفي ؟ وما الذي يجعله تفكيرا متميزا ؟
إن من أبرز خصوصيات التفكير الفلسفي أنه بمثابة محاولة تجاوز لما هي عليه الحياة اليومية إلى شيء آخر أكثر قيمة بالنسبة للمرء , إلا أن هذا الشيء القيم لا يتجلى للمرء من أول وهلة , كما أن محاولة التجاوز تتطلب من المرء بحثا وتفكيرا عميقا , وهكذا يرتبط التفكير الفلسفي بذلك الجهد الفكري الذي يبذله المرء والذي يجب على كل متفلسف أن يقوم به . هكذا كان حال الذي فلاسفة اليونان الأوائل خاصة سقراط الذي صارع الرأي العام من جهة و السوفسطائيين من جهة أخرى , فالممارسة الفلسفية تفرض على الفيلسوف التخلص من قيود العادات والتقاليد البالية التي تقيد تفكيره , ومن سيطرة الأفكار والظواهر التي تحد من رؤيته ( فهو يعالج موضوعا محددا انطلاقا من التساؤل عن العلل الأولى للوجود , مرورا بالمعرفة والقيم إلى البحث في العلم , وهو ما يتبع في ذلك منهجا تأمليا عقليا يقوم على خصائص تميزه عن منهج العلم التجريبي ) ولعل هذا ما يدفع بالفلاسفة إلى الشك من اجل تحرير الفكر , والوقوف على اليقين مثلما هو الحال عند الغزالي وديكارت وهذا يقودنا إلى ميزة أخرى من أهم مميزات التفكير الفلسفي وهي النظرة الفاحصة , واليقظة الدائمة والانتباه المستمر أمام كل المشاكل التي تعترض الفيلسوف , فلا يقبل شيئا و لا يرفض شيئا إلا بعد إخضاعه لمقياس العقل , فالخطاب الفلسفي خطاب عقلاني يستند إلى البرهان .
إن الفلسفة في نظر برتراند رسل تبدأ عند وعي الإنسان بنقائص معارفه وهذا الوعي لا نجده عند غالبية الناس بل البعض فقط هو الذي يدرك هذه النقائص فيقول : " وإنك لتخطو الخطوة الأولى في سبيل الفلسفة إذا أدركت هذه النقائص في تفكير العامة " . وهكذا فقد وجد فلاسفة في المجتمعات القديمة في بلاد فارس والهند وغيرهما , إلا أن أرسطو يقول : إن البحث عن المعرفة الفلسفية لم يبدأ إلا في البلاد التي تحقق فيها كل ما هو ضروري لتسديد حاجيات الحياة " . وهذا يعني أن وجود التفكير الفلسفي مرتبط بالظروف الملائمة . ولعل هذا ما جعل الفلسفة بالمعنى الدقيق لم تبدأ إلا مع اليونان . فالظروف الاقتصادية للمجتمع اليوناني والتقسيم الطبقي فيه أفرز فئة متحررة من ضغط الحاجة كرست كل أوقاتها للعمل الذهني , كما أن الظروف السياسية وما تمتع به المجتمع اليوناني من ديمقراطية في إطار الدستور الأثيني الذي يضمن حرية التفكير والتعبير . وفر للفكر الظروف الملائمة للتفتح والتطور . وهذا يفرض علينا أن نؤكد على ارتباط الفلسفة بالظروف التي تنشأ فيها . فالظروف الملائمة شرط وجود الفلسفة.
إن الفلسفة هي سبب تطور الفكر البشري , وقيمتها تتمثل في قدرتها على توعية الإنسان بواقعه , وبضرورة البحث عن حلول ناجحة للمشاكل الحقيقية التي يواجهها على كل مستويات حياته الاجتماعية . فهي وإن كانت لا تقدم حلولا جاهزة فإنها تفتح المجال للبحث والتفكير . وتطرح الأسئلة التي يجب على الإنسان أن يطرحها . إلا أن الفلسفة جانبا من الخطورة على الإنسان ويتمثل في إمكانية إبعاد الإنسان عن الواقع الذي يعيش فيه بمعالجتها لمسائل ثانوية ومجردة لا تخدم الإنسان و لا تيسر عليه حياته .
إن التفكير الفلسفي تفكير متميز , يتميز عن الخرافة ويتميز عن العلم , له موضوعه الخاص , وله منهجه الخاص أيضا , كان تمهيدا لظهور فكر بشري مختص وسيظل حافزا ودافعا على العمل , فالمجتمع لا تستقيم حياته و لا يتقدم دون أن يكون فيه فلاسفة , فيقول ديكارت : " إن حضارة كل أمة إنما تقاس بقدرة ناسها على تفلسف أحسن , وهكذا فإن الخير كل الخير بالنسبة لأمة ما أن يكون فيها فلاسفة حقيقيون " .



يتع