اخوة الاسلام
السلام عليكم ورحمة الله و بركاته
هل كان كلام النار ، وشكوتها
بلسان المقال أم بلسان الحال ؟
قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله :
"وأما قوله في هذا الحديث :
(اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب
أكل بعضي بعضاً .... الحديث) :
فإن قوماً حملوه على الحقيقة
وأنها أنطقها الذي أنطق كل شيء
واحتجوا بقول الله عز وجل :
(يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) النور/24
وبقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء/44
وبقوله : (يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ) سبأ/10
أي : سبِّحي معه ، وقال : (يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْأِشْرَاقِ) ص/18
وبقوله : (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق/ 30
وما كان من مثل هذا ، وهو في القرآن كثير
حملوا ذلك كله على الحقيقة ، لا على المجاز
وكذلك قالوا في قوله عز وجل :
(إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) الفرقان/ 12
و (تكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) الملك/8 ، وما كان مثل هذا كله .
وقال آخرون في قوله عز وجل :
(سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) و (تكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) :
هذا تعظيم لشأنها ، ومثل ذلك قوله عز وجل
: (جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) الكهف/77
فأضاف إليه الإرادة مجازاً ، وجعلوا ذلك من باب المجاز
والتمثيل في كل ما تقدم ذكره
على معنى أن هذه الأشياء لو كانت مما تنطق
أو تعقل : لكان هذا نطقها وفعلها .
فمَن حمل قول النار وشكواها على هذا :
احتج بما وصفنا ، ومن حمل ذلك على الحقيقة :
قال : جائز أن يُنطقها الله ، كما تنطق الأيدي
والجلود ، والأرجل يوم القيامة
وهو الظاهر من قول الله عز وجل :
(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق/ 30
ومن قوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) الإسراء/44
و (قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) النمل/18
وقال : قوله عز وجل : (تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ) الملك/8
أي : تتقطع عليهم غيظاً ، كما تقول : فلان يتقد عليك غيظاً
وقال عز وجل :
(إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً) الفرقان/ 12
فأضاف إليها الرؤية ، والتغيظ ، إضافة حقيقية
وكذلك كل ما في القرآن من مثل ذلك .
ومن هذا الباب عندهم قوله :
(فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ) الدخان/29
و (تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ
وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً) مريم/ 90
و (قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) فصلت/11
(وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ) البقرة/74
قالوا : وجائز أن تكون للجلود إرادة لا تشبه إرادتنا
كما للجمادات تسبيح وليس كتسبيحنا
وللجبال ، والشجر سجود وليس كسجودنا .
والاحتجاج لكلا القولين يطول
وليس هذا موضع ذِكره ، وحمْل كلام الله تعالى
وكلام نبيه صلى الله عليه وسلم على الحقيقة :
أولى بذوي الدِّين ، والحق ؛ لأنه يقص الحق
وقوله الحق ، تبارك وتعالى علوّاً كبيراً" انتهى .
" التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد " ( 5 / 11 – 16 ) .
وقد رَدَّ آخرون الحديث لأن سبب شدة الحر أو شدة البرد معروف
وهو بعد الشمس أو قربها من الأرض .
وقد أجاب العلماء عن ذلك أيضاً
وبينوا أنه لا تعارض بين الحديث ، وبين الواقع
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله :
"وفي هذا الحديث : دليل على أن الجمادات لها إحساس لقوله :
(اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضاً)
من شدة الحر ، وشدة البرد ,
فأذن الله لها أن تتنفس في الشتاء ، وتتنفس في الصيف
, تتنفس في الصيف ليخف عليها الحرَّ ,
وفي الشتاء ليخفَّ عليها البرد ,
وعلى هذا فأشد ما نجد من الحرِّ :
يكون من فيح جهنم
, وأشد ما يكون من الزمهرير : من زمهرير جهنم .
فإن قال قائل : هذا مشكل حسَب الواقع
لأن من المعروف أن سبب البرودة في الشتاء
هو : بُعد الشمس عن مُسامتة الرؤوس ,
وأنها تتجه إلى الأرض على جانب ، بخلاف الحر
فيقال : هذا سبب حسِّي ، لكن هناك سبب وراء ذلك ,
وهو السبب الشرعي الذي لا يُدرك إلا بالوحي ,
ولا مناقضة أن يكون الحرُّ الشديد الذي سببه
أن الشمس تكون على الرؤوس أيضا يُؤذن للنار أن تتنفس
فيزدادُ حرُّ الشمس , وكذلك بالنسبة للبرد :
الشمس تميل إلى الجنوب , ويكون الجوُّ بارداً بسبب بُعدها
عن مُسامتة الرؤوس , ولا مانع من أنّ الله تعالى يأذن للنار
بأن يَخرج منها شيءٌ من الزمهرير ليبرِّد الجو
فيجتمع في هذا : السبب الشرعي المُدرَك بالوحي ,
والسبب الحسِّي ، المُدرَك بالحسِّ .
ونظير هذا : الكسوف ، والخسوف ,
الكسوف معروف سببه , والخسوف معروف سببه .
سبب خسوف القمر: حيلولة الأرض بينه ، وبين الشمس ,
ولهذا لا يكون إلا في المقابلة ,
يعني : لا يمكن يقع خسوف القمر إلا إذا قابل جُرمُه جرمَ الشمس ,
وذلك في ليالي الإبدار ، حيث يكون هو في المشرق
وهي في المغرب أو هو في المغرب ، وهي في المشرق .
أما الكسوف فسببه : حيلولة القمر بين الشمس ، والأرض ,
ولهذا لا يكون إلا في الوقت الذي يمكن أن يتقارب جُرما النيّرين ,
وذلك في التاسع والعشرين أو الثلاثين ، أو الثامن والعشرين ,
هذا أمر معروف , مُدرك بالحساب
, لكن السبب الشرعي الذي أدركناه بالوحي
هو : أن الله ( يخوّف بهما العباد ) ,
ولا مانع من أن يجتمع السببان الحسي والشرعي
, لكن من ضاق ذرعاً بالشرع :
قال : هذا مخالف للواقع ولا نصدق به ,
ومن غالى في الشرع :
قال : لا عبرة بهذه الأسباب الطبيعية
ولهذا قالوا : يمكن أن يكسف القمر في ليلة العاشر من الشهر ! ...
. لكن حسَب سنَّة الله عز وجل في هذا الكون :
أنه لا يمكن أن يَنخسف القمر في الليلة العاشر أبداً" انتهى .
" شرح صحيح مسلم "
( شرح كتاب الصلاة ومواقيتها ، شريط رقم 10 ، وجه أ ) .
اخوة الاسلام
و لنا عودة ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء
من اجل استكمال الموضوع