أبقى دائما مؤمنا بأن عملية البناء أولى من عملية الهدم. على جهدنا الفكري والعَمَلي أن يَنصبَّ اليوم على كيفية البناء لا على كيفية الهدم. صحيح أنّ هناك أغصانا ينبغي أن تُقطَع وأخرى ينبغي أن تقلّم، وأعشابا ضارة حول الشجرة الوطنية ينبغي أن تُجتَثَّ من الجذور، ولكن الأهم أولا هو أن نعزّز الدعائم حول هذه الشجرة حتى لا تسقط، ونُمكِّنها من البقاء صامدة في وجه أعاصير أعداء الداخل والخارج حتى تبقى حيَّة وتتقبل كل التحسينات القادمة التي تُعيد لها الحياة من جديد.
الهدم أسهلُ من البناء بكثير، والعقاب أسهل من إقامة العدل بكثير، وكشف الثغرات أسهل من سَدِّها، ومعرفة مَن أخذ حقوق الناس أسهل بكثير من استعادة هذه الحقوق.. وبالرغم من أن التفكير بمستوى الغريزة والعاطفة والتلقائية تبدو له الأفعال الأولى أهمّ من الثانية، إلا أن التفكير بمستوى العقل يعكس ذلك تماما.
لذا، أعتقد جازما اليوم أنّ علينا إرجاء التفكير بمستوى الغريزة أو عواطف الغضب، واللجوء مباشرة إلى التفكير بمستوى فضيلة العقل ألا وهي البصيرة. والبصيرة تقول لنا اليوم إنّ علينا أن نجد مخارج للانسدادات الكثيرة التي تعرفها البلاد وبخاصة السياسية منها. وأن نعمل على إقامة صرح الدولة الوطنية الجديدة برجال ونساء مخلصين، ونضعهم على الطريق الصحيح للبناء العصري والحضاري في آن واحد، وبعدها نلتفت إلى محاسبة المُذنبين.
إن إيجاد المجموعة الجيِّدة ووضعها في المقدِّمة أولى من القضاء على المجموعة الفاسدة. لماذا نفشل باستمرار في الأولى ونُغطِّي على ذلك بزعمنا الانتصار في الثانية؟
إن محاربة الفساد الحقيقية تبدأ ببروز النخبة الصالحة لا بزوال زمرة الفساد فحسب. وما دامت هذه النخبة لم تبرز ولم تستلم مقاليد السلطة العليا، فلن يتأخر الفساد ليعود بوجوهٍ أخرى، إنْ لم يكن بنفس الوجوه.
فلنحذر الاستثمار في روح الانتقام الكامنة في النفس البشرية ولِنُحْيِي روح التطلع إلى المستقبل والإيمان بإعادة البناء في النفوس، باعتبار ذلك وحده القادر على اكتشاف عبقرية الرجال والنساء المخلصين لا كشف سفاهة وسقطات الفاسدين.