منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - تصوف الامير عبدالقادر الجزائري
عرض مشاركة واحدة
قديم 2014-09-20, 15:03   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
احمد الطيباوي
عضو مميّز
 
إحصائية العضو










افتراضي تصوف الامير عبدالقادر الجزائري

البعد الأكبري في تصوف الأمير عبد القادر

الأستاذة/ مباركة حاجي
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
قسم الفلسفة جامعة الجزائر

يعد تصوف الأمير عبد القادر نموذجا حيا لتجربة روحية وفكرية ثرية فريدة من نوعها في العصر الحديث، ذلك أن هذا الرجل قد جمع بين السبق والفضل في تأسيس الدولة الجزائرية والتصدي للعدوان الاستدماري الغاشم بالجهاد الطويل والمرير، وبين البحث المضني عن اليقين والكمال، الذي يقربه من أهل العرفان، حيث يعد الأمير تلميذا للشيخ الأكبر محي الدين بن عربي، بل ووارثا لمعارفه الكشفية وإشاراته العرفانية.
ولعل حضور بعض المصطلحات العرفانية في كتابه " المواقف كالإنسان الكامل مثلا وإجلاله الكبير لشيخه محي الدين كما يكنيه لدليل على ذلك

مقدمة:
إن الكتابة عن الأمير عبد القادر هي مغامرة تحتاج إلى الكثير من البحث والتأني في التحليل، ذلك لأنه شخصية متعددة الأبعاد فهو " رجل يختصر في كيانه أمة بكاملها،ويوجز في حياته عصرا بأكمله "1، فهو مثل الكثير من عظماء التاريخ لا يمكن أن تختزل حياته في رافد من روافد النشاط الإنساني، يمكن الإحاطة به، فهو الفارس والقائد والمجاهد ورجل الدولة السياسي الحصيف والشاعر الملتزم، والفقيه الملم بل والعارف المتصوف الذي خبر السهل والوعر في جميع ميادين التصوف السلوكي والعرفاني، مع شغف كبير بالمطالعة فتحت له المجال للإطلاع على كتب " العلم والفلسفة وأعمال أفلاطون وفيثاغورس وأرسطو،كما أشرب التصوف من خلال كتب الشيخ محي الدين بن عربي، ابن سينا وغيرهم" 2 بل واستوقفته تجربة أستاذه الشيخ الأكبر حتىعقد وارثا لتنجربته العرفانية.

1- الأمير عبد القادر تلميذ الشيخ الأكبر ووارثه:
لا شك أن الباحث في أدبيات الأمير الشعرية والصوفية العرفانية تستوقفه أقواله وثناؤه على شخص الشيخ الأكبر محي الدين بن عربي حيث يصفه بالوارث المحمدي مرة بقوله:" إن الشيخ الأكبر على قدم محمد صلى الله عليه وسلم وهو خاتمهم وليس بعده وارث محمدي" 3.
كما يكنيه أخرى بإمام الكاشفين حيث يقول:" قال لي إمام الكاشفين من الأولياء محي الدين الجسم الصقيل أحد الرموز التي تظهر صورة البرزخ المثال يجري العادة الإلهية ولهذا لا تتعلق الرؤية فيها بالأجسام، هذا إذا كانت المرأة على شكل مخصوص ومقدار جرم مخصوص، فإن لم تكن كذلك لم تصدق المرأة في كل ما تعطيه بل تصدق في البعض دون بعض" 4.
ويشير في مواقفه " أنه أحسن الناس فهما لـ " فصوص الحكم" إمدادا وفي الرؤى، كما تلقاها هو من النبي صلى الله عليه وسلم 5، يقول في هذا المعنى:" ولما كتبت هذا الموقف رأيت أنني أوتيت بكتاب، وقيل لي: هذا كتاب محي الدين بن العربي رضي الله عنه الذي ألفه في الروح فصفحته والحمد لله رب العالمين" 6.
كما نجده يتصدر لشرح أقوال الشيخ الأكبر كما فعل في "الموقف" رقم- 250- بل ويدافع عن صحة أقواله وبأنه لم يقل شيئا من عنده وإنما هو كما قال في "الفتوحات المكية" وما وضعت الكلمة إلا بإلقاء روحاني في قلب كياني" أو كما قال " فيجب الانقياد لكلامه والخضوع لمعارفه فإنه الوارث الكامل رضي الله عنه 7.
بل ويذهب إلى أبعد من هنا في الدفاع عنه ورد أقوال بعض المعترضين عليه من تلاميذه الروحيين كعبد الكريم الجيلي في فهم كل واحد منهم لعلم الله تعالى بالمخلوقات يقول:" وقد قال إمام العارفين قدوتنا محي الدين أن معلومات الحق تعالى أعطته العلم من نفسها"- وقد اعترض على هذا القول العارف الكبير عبد الكريم الجيلي بما نصه:" لما رأى الإمام محي الدين الحق حكم( أي الحق) للمعلومات بما اقتضته من نفسها ظن أن علم الحق مستفاد من اقتضاء المعلومات، وفاته أنها اقتضت ما علمها عليه بالعلم الأصلي الكلي النفسي، قبل خلقها وإيجادها فإنها ما تعينت في العلم الإلهي إلا بما علمها لا بما اقتضته ثم اقتضت ذواتها بعد نفسها أمورا هي عين ما علمها عليه أولا، فحكم بها ثانيا، بما اقتضته وما حكم لها إلا بما علمها عليه" ويعلن أنه لا خلاف بين الشيخين عند من يعلم، ويذكر أنه ألقى إليه في أثناء كتابته هذا "الموقف"قوله تعالى:"فما لهم لا يؤمنون، وإذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون" ( ) فألهم أن الوارد يشير إلى توبيخ من لا يصدق بكلام الإمام محي الدين" 8.
ولم يقتصر الأمير في إعجابه ودفاعه عن شيخه عند حدود الحديث عن مكانته بل ذهب بالاشارة إلى نفسه بـ" الحقير" والإشادة بشيخه بعبارة " سيدنا " يقول:" وهذا الذي ذكرناه في حل هذه الآيات هو من أنفاس سيدنا رضي الله عنه وإمداد لهذا الحقير بالإلقاء في الواقعة، وإن كان مرمى سيدنا رضي الله عنه جل أ، يصل إليه رام، وقد كنت رأيته، رضي الله عنه في مبشرة من المبشرات فذاكرته في مسائل من " فصوص الحكم" فقال لي: الشراح كلهم ما فهموا مراده ... فجعلت أتفكر في نفسي، ثم قال مراده بضمير الغائب؟ ثم ظهر لي في الحال أنه يريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلى الله عليه وسلم هو الذي جاءه بكتاب " نصوص الحكم" 9.
بهذا اليقين في تفسيره رؤاه الدالة على تشبعه بآراء الشيخ وتعلقه وقناعته بأنه الأقرب فهما وقدرة على شرح فصوص الحكم يقول معبرا لإحدى الرؤى:" عبرتها على أني قاربت المراد فيما كتبت" 10.
هذا ويمكن أن نجد في تحقق أمنية " الأمير" أن يدفن بجوار شيخه " محي الدين بن عربي" أكبر تقاطع بين الرجلين حيث تحقق له الجوار الأبدي لشيخه في سفح جبل قاسيون بسوريا، رغم إظهار رفاة " الأمير" سنة 1966 ليعود إلى الجزائر، ويبدو أن علاقته بشيخه هي علاقة برزخية، صوفية عرفانية.
ويمكن أن نجمل أبعاد هذا التقاطع والتقارب في ثلاث:
1- البعد التربوي: حيث نشأ الأمير في ظل زاوية تنتهج الطريقة القادرية، ثم رحلاته مع والده إلى المشرق والحجاز وهو صغير السن، وزيارته لضريح " الشيخ عبد القادر الجيلالي" ولا شك أنه قد اكتشف نصوص ابن عربي وعلى رأسها " الفصوص" في زاوية أبيه" التي تربى فيها إلى جانب مخطوطات وكتب كثيرة في التصوف الزهدي كموسوعة الإمام أبي حامد الغزالي، وهذا ما تلاحظه في كتابيه، المقراض الحاد" وتنبيه الغافل" وهي توجيهات في التصوف الزهدي.

2- الهجرة ومكابدة طريق الكشف والخلوة والمجاهدة: ورغبة الأمير في استظهار كتاب شيخه البرزخي ابن عربي " الفتوحات المكية" فكان أول من قام بنشر هذا الكتاب، حتى أن الدكتور " عثمان يحي" محقق هذا الكتاب أهدى عمله كما هو مدون في أول صفحة من كتاب " الفتوحات المكية " لـ " الأمير عبد القادر" بهذه العبارات القوية:" إلى رب السيف والقلم الأب الروحي الأول للثورة الجزائرية الخالدة الأمير عبد القادر الجزائري، تلميذ الشيخ الأكبر في القرن التاسع عشر وناشر الفتوحات المكية لأول مرة " 11.

3- اعتماد الرمز والإشارة: لقد وجد الرمز والإشارة كطريقة في التعبير عند المسلمين واعتمد في النثر والشعر تعبيرا عن مسائل وجدانية مختلفة مما يتيح للقارئ والسامع إمكانية التأويل وكذا وجد الرمز والإشارة في قصص القرآن الكريم وآياته المفتوحة على التأويل، وهذا ما أتاح للصوفية حيزا لتبرير اعتمادهم الإشارة والرمز، يقول أبو حامد الغزالي:" إن الصوفية في ترقيهم الروحي واقعون تحت حرج اللفظ الذي لا يفي بوصف ذرة من أحوالهم فهم ساترون من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها نطق الناطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا إشتمل لفظه على خطأ صريخ لا يمكنه الاحتراز عنه " 12
هذا ويمكن إجمال أهم الأسباب التي دفعت الصوفية إلى انتهاج أسلوب الرمز والتعقيد في :
1- صون أسرارهم ودرر حقائقهم من أن تتفشي في غير أهلها.

2- عجز اللغة عن احتواء عظمة الحقائق التي يصل إليها العارف عن طريق الذوق من لذن ربه.
3- تقريب الفهم والمعنى فيما بينهم.
ويعد الأمير واحد من الذين اعتمدوا الإشارة والرمز في التعبير عن أفكارهم، ولعل مسألة الرمز والإشارة قد فتحت على الصوفية وحتى الفلاسفة لأهل الظاهر المجال للقدح والنيل من عقيدة هذا أو ذاك.
وحتى لا ندخل في دوائر اللغط الذي يؤدي إلى النيل من عقيدة الأمير أو شيخه ابن عربي، يمكن الإشارة سريعا إلى هذا الجدل الدائر حول رفض تصوف الأمير، والحيرة في نسبة كتابه " المواقف" وفي هذا يشير الدكتور عبد الله الركيبي رحمه الله بقوله: قلد الأمير عبد القادر شعراء التصوف الأقدمين، قلدهم في الموضوعات والأفكار والصيغ، وكان صدى لما ساد البيئة الصوفية من آراء تجنح إلى الإسراف والمبالغة والشطط في معالجة قضايا الفكر الصوفي حتى أنه يمكن القول بأن الأمير امتداد لابن عربي، في بعض آرائه وقصائده، وبالرغم من أن الأمير كان صوفيا سنيا، وكان يلح على ذلك في مناسبات كثيرة، ومن أن حياته النضالية تقوم على أنه كان يقرن القول بالعمل وأنه كان يؤمن بالجهاد في سبيل الله كما آمن بمجاهدة النفس ورياضتها على عبادة الله... وهذا ما يدفع إلى القول بأن ما نجده في شعره من آراء صوفية فيها شطط هي من تأثره بأفكار غيره وتقليده لهم في الشكل والمضمون معا " (13)وهذا النص يمكن اعتباره شهادة للأمير من وجهين : الأول هو الاعتراف دون موارية بصوفية الأمير، والثاني تصنيفه ضمن تلاميذ ابن عربي مع رفض ضمني للمسائل الإشارية الرمزية التي أشار إليها الدكتور الركبي بعبارة الشطط". ولعل الأمير كان حصيفا في دفاعه عن أهل الطريقة بقوله:" وأهل طريقتنا رضي الله عنهم ما ادعوا الإتيان في الدين بجديد، وإنما ادعوا الفهم الجديد في الدين التليد، وساعدهم الخبر المروي أنه لا يكمل فقه الرجل حتى يرى للقرآن وجوها كثيرة "14.

وقد استهل كتابه المواقف بحديث طويل عن عقيدته الإسلامية الملتزمة بالكتاب والسنة حتى لا يرمى بالتكفير، ومع ذلك فإن كتابه المواقف وأشعاره التي جمعت في ديوان يعج بالرمز والإشارة تضاهي رمزية الشيخ الأكبر، والحلاج والنفري وابن سينا وغيرهم.
هذا وقد فصل محقق كتاب " المواقف" عبد الباقي مفتاح في مقدمة وافية حول حياة الأمير وتصوفه الذي لم يكن عارضا بل مر بمراحله المتدرجة: التعلق والتخلق ثم التحقق مؤكدا أنه كان من ورثة الطريقة الحاتمية... أو الأكبرية ... طريقة للشيخ الأكبر محي الدين محمد بن علي بن العربي الحاتمي الطائي، أجازه فيها المحدث الصوفي الشهير السيد محمد مرتضى الزبيدي 15.
بل ويذكر من شدة تعلق " الأمير" بكتب ابن عربي وتشربه لنهجه قوله في الموقف 358 عن كتاب " التجليات" لابن عربي:" لو كتب بماء العيون كان قليلا في حقه وهو أحق بقول القائل: هذا كتاب لو يباع بوزنه ذهبا لكان البائع مغبونا، ذكر فيه 97 تجليا أودع فيه من الحقائق والعلوم الإلهية مالا يصدر إلا منه، ولا أقول لا يصدر إلا من مثله، فأفهم" 16
ثم إن الأمير في إتباعه طريق الإشارة والرمز على خطى شيخه وفي محاولة لتجاوز رمزية أستاذه وهو يسرد قصة سفره نحو المطلق للتحقق بالإتصال بالله بطريقة رمزية على لسان جليسه في ناد من أندية العرفاء قال: " أحدثكم بحديث هو أغرب من حديث عنقاء مغرب فاشرأبوا لسماعه، ومدوا أعناقهم وفرغوا قلوبهم ..." 17 ثم يسرد " الأمير" بطريقة رمزية على لسان صاحبه حديثا عن الحقيقة المطلقة والطريق الموصل إليها، وعن عجز اللسان عن التعبير عنها، ثم عن تكذيب القوم لما يخبرهم به واتهامه بالجنون والسفه والعته" 18.

وما كانت هذه المعشوقة إلا رمزا للحقيقة المطلقة التي ينشدها العارفون عبر سلوك نهج التصفية والمكابدة بل هو سفر للبحث عن اليقين الذي يصل الطالب والمطلوب، وقد عبر عنها بقوله:" وبعد التعب والعناء، ومعاناة الضنا وجدت هذه المعشوقة: أنا وتبين لي أنني الطالب والمطلوب" ، وهذا ما يعبر عنه شعرا بقوله:
عن الحب مالي كلما رمت سلوانا أرى حشو أحشائي من الشوق نيرانا
لواعج لو أن البحار جميعـهــا صبين لكان الحر أضعاف ما كــانا
ومن عجب ما همت إلا بمهجتـي ولا عشقت نفسي سواها وما كانـا
أنا الحب والمحبوب والحب جملـة أنا العاشق والمعشوق سرا وإعلانا (19)

فما أقرب هذه الأبيات من قول ابن عربي في الحب الإلهي:

إن التي كان الوجود يكسوها ذات يقدس لفظها معناها
وإني لأهواها وأهوى قربهــا مني وأهوى كل من يهواها
ليلى ولبنى والرباب وزينب أتراب من حبي لها محباهـا
لو مت مات وجودها بمماتنا فوجودنا عين لها وسراهــا
عجبا لنا ولها فإن وجودنــا فرد فلا ثان فمن ثناهـا (20)

ويذهب في رمزية القصة مذهبا بعيدا ليرى نفسه النموذج القادر على تحمل مشاق السفر نحو المطلق والتنعم بمجاورته، بل والفناء فيه، حيث يقول: فلما تمت القصة ... وما كاد أن ينقضي إعجابنا منها، واستغرابنا لها، قلت لهم: يا قوم ألستم تعلمون أني طلاع الثنايا؟ وسياق الكتيبة إلى معترك المنايا؟ فإن آتيكم بحقيقتها ومجازها، وأفك لكم المعمي من ألغازها، أو أموت فأعذر، ولا على إن لم أقبر... فقال لي بعض المستبصرين، وكان ممن جرب هذا الأمر وفر عن تجربة الدهر: إن صدقت لهجتك وهانت عليك مهجتك وأردت الوصل إلى ذلك الجناب، وقطع تلك الجبال والبحار والهضاب، فاركب نسرا أو غرابا، وإنه لا ينال ما قصصت إلا من كان على الهمة قوي العزمة.

إذا هم ألقى بين عينيه عزمه ونكب عن طرق العواقب جانبا (21)

ومن شواهد الرمزية عند الأمير كذلك، انتهاجه للتفسير الإشاري للقرآن الكريم الذي يعرفه الشيرازي بأنه " علم الحق الذي لا نهاية له" (22) أو هو انشراح القلب عند تعهد القرآن بالتلاوة وتدبر معانيه بقوة الإيمان مع شرط المواظبة" (23)،وبتعبير عبد الحليم محمود " هو العلم الوهبي الذي يمنحه الله لبعض عباده" (24).
ولا شك أن الأمير قد وقف كما مر معنا مع قصة " المعشوقة" على التحقق بعلوم وهبية بعد تجربة ذوقية روحية شفافة، تلتقي مع تجربة شيخه ابن عربي العرفانية، فقد انتهج المنهج الباطني في كتابه" المواقف الروحية والفيوضات السبوحية" وهو أشهر كتبه وقد " فسر به بعض الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة تفسيرا مزجه بالفقه والتاريخ بأسلوب صوفي، وكان يلقي مواقفه في مجالسه الخاصة (25). كما جاء في" الموقف الأول" في تفسير قوله تعالى:" لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة "(26) يقول:" هذه الآية الكريمة تلقيتها تلقيا غيبيا روحانيا، فإن الله تعالى قد عودني، أنه مهما أراد أن يأمرني أو ينهاني، أو يبشرني أو يحذرني، أو يعلمني علما، أو يفتيني في أمر استفتيه فيه، إلا ويأخذني مني مع بقاء الرسم، ثم يلقي إلي ما أراد بإشارة آية كريمة من القرآن، ثم يردني إلي، فارجع بالآية قرير العين ملآن اليدين، ثم يلهمني ما أراد بالآية، وأتلقى الآية من غير حرف ولا صوت ولا جهة، وقد تلقيت والمنة لله تعالى، نحو النصف من القرآن بهذا الطريق، وأرجوا من كرم الله تعالى أن لا أموت حتى أستظهر القرآن كله (27).

وابن عربي يؤكد قبله مسألة النفث الروحاني حيث يقول:" فالعلم الإلهي هو الذي كان الله سبحانه وتعالى يقدمه بالإلهام والإلقاء، وبإنزال الروح الأمين على قلبه، وهذا الكتاب- الفتوحات – من ذلك النمط عندنا... ما كتبت منه حرفا إلا عن إملاء إلهي وإلقاء رباني أو نفث روحاني في روع كياني" (28).
وقد جاء في الموقف رقم (314) الذي جاء فيه تفسير سورة الفاتحة، قال تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم:" الحمد لله رب العالمين الرحمن الرحيم...) قال سيدنا في باب الوصايا وهو الباب الأخير من الفتوحات المكية، وصية يقول فيها إذا قرأت فاتحة الكتاب فصل بسملتها معها في نفس واحدة من غير قطع فإن الله تعالى قال:" يا إسرافيل بعزتي وجلالي وجودي وكرمي من قرا بسم اله الرحمن الرحيم متصلة بفاتحة الكتاب مرة واحدة، اشهدوا على أني غفرت له وقبلت منه الحسنات وتجاوزت عن السيئات، ولا أحرق لسانه بالنار... وأجيره من عذاب القبر وعذاب النار، وعذاب القيامة" (29).
وللإشارة فإن المتصوفة لم يكونوا" بادئ الأمر يميلون إلى التأليف في التصوف مكتفين بإلقاء دروس في ذلك يحضرها الخاصة والعامة" (30) فقد كانت المرحلة الأولى في عصر التابعين، ومن جاء من بعهم كما ينقل الدكتور قاسم عني على لسان العارف أبو سعيد أبو الخير وهي تمزيق الدفاتر وتناسي العلوم" (33) فخاصية الإشارة والرموز لم تكن وقفا على التفسير بل كان شاملا لكل المؤلفات الصوفية، فمن أهم خصائص التفسير الإشاري هي مسألة الإيحاء أو الإيماء بحيث تصير الآيات توميء لبعضها البعض، فهم بحكم كونهم ينطقون من منطقة الإيمان العميق، وبحكم أن الآية الماثلة أمامهم أو التي تراءت لهم أثناء وجدهم ذكرتهم بل أشارت لهم في بصيرتهم إلى آية أخرى كانت وتدا لتلك الأنوار، فاستحضروها انطلاقا من الإشارة (32) من دلائل إشارتهم الدالة على فهم الأبعاد الباطنية لترتيب الآيات القرآنية والكلمات وضع مغاير لما هو موجود في المصحف الشريف، ففي تفسير قوله تعالى مثلا:" ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصر ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ذلك هو الفضل الكبير" (33).

يقول الشيخ محي الدين بن عربي في شأن المقتصد( ومنهم مقتصد) هو: الذي يسلك طريق اليمين، ويختار الصالحات من الأعمال، والحسنات، ويكتب الفضائل، والكمالات في مقام القلب( ومنهم سابق بالخيرات)، أي هي تجليات الصفات إلى الفناء في الذات" فهم لا يكتفون بذكر وجه واحد للآية أو للحديث وإنما يأتونك بشتات من الأوجه التفسيرية يرجحون لك وجها على آخر، وإنما يسلكون مسلك الجمع بينها، باعتبارها تتبع من الباطن الذي لا مجال للباطن فيه، وباعتبارها جميعا تنهل من منهل واحد وتهدف إلى هدف واحد، ألا وهو تعميق التوحيد بالله، فكل وجه له جانب من الحقيقة، وطريق إليها فأهل الإشارة بإتباعهم ذلك يريدون تمكينك من المعرفة الباطنية، والتوق بك إليها، والسعي إليها بذاتك" (34).

بهذه الطريقة الإشارية كما سبق جاء كتاب " المواقف" للأمير الذي لا تخرج عن تفسير لآيات الذكر الحكيم أين طغى على أغلب مواقف الجزء الأول إلى جانب شرح لبعض الأحاديث النبوية، كما نجد فيها شرحا وتعليقا وانتصارا لشيخه إمام العارفين كما يكنيه، يقول في الموقف الثالث والأربعون:" قال تعالى:" كلا إنهم عن ربهم يومئد لمحجوبون" (35). يقول:" كل من يسمع ذكر الحجاب من غير العارفين، يتوهم أن هناك حجابا ومحجوبا عنه، كما هو المتبادر من جوهر اللفظ، وهذا وهم باطل، لأنه ليس ثمة إلا الحق،- تعالى- والخلق، أعني مرتبة الوجوب والإمكان، ولا واسطة بينهما" (36).
وجاء كذلك في الموقف الأربعون قال تعالى:" وشهد شاهد" (37) يقول: سأل بعض الأصحاب عن الأفضلية بين الملك وخواص البشر، وذكر اختلاف أهل الظاهر والباطن، وما رد على كل دليل، بحيث ما سلم دليل من معارضة ونقض واحتمال... إلى أن يقول: وفي صبيحة تلك الليلة توجهت إلى الحق- تعالى- في كشف هذه المسألة فأخذني الحق عن العالم وعن نفسي، وألقى إلي قوله: " وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم"(38).
فلما رجعت إلى الحس فهمت من إشارة الآية الكريمة أن الشاهد الذي شهد في هذه المسألة هو الشيخ الأكبر، على مثله في البشرية والجنسية، يعني الكل من البشر، وشهادته عليهم للملائكة، بثبوت الأفضلية من جهة، واعتبار "فآمن " يعني الشيخ الأكبر، بما أشهده الحق من ثبوت الأفضلية للملك باعتباره" (39).


خاتمة :
لقد عمل الأمير على إحياء التصوف من خلال تجربته الروحية الذوقية والمعرفية، فمهما كثر الحديث عن ماهية هذه التجربة هل هي ذوقية عرفانية أم سلوكية أخلاقية فإن الأمير عبد القادر القائد العسكري المجاهد المقدام مؤسس الدولة الجزائرية الحديثة هو تلميذ الشيخ الأكبر، الذي ساهم في بعث تراث الشيخ، بل وكان جسرا للكثير من الباحثين الغربيين لفهم ما استغلق من آرائه. كما ساهم بآرائه المتفتحة في استشراف دور المسلم في زمن العولمة، كما يرى الباحث أحمد بويردان في كتابه " الأمير عبد القادر تناغم الأضداد"
لئن كان هذا الرسم يعطيك ظاهري فليس بربك الرسم صورتنا العظمى
فثم وراء الرسم شخص محجب له همة تعلو بأخمصها النجـــما
وما المرء بالوجه الصبيح إفتخاره ولكن بالعقل والخلق الأسمـــى
وإن جمعت للمرء هاذي وهــذه، فذاك الذي لا يبتغي بعده نعمـى


الأستاذة/ مباركة حاجي
كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية
قسم الفلسفة جامعة الجزائر 2
. . ..


الهوامــــش:

1- عبد العزيز البابطين، مقدمة كتابك أ/ عبد الرزاق بن سبع، الأمير عبد القادر الجزائري وأدبه، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البايطين للإيداع للإيداع الشعري، 2000،ص 03.
2- فؤاد صالح السيد، الأمير عبد القادر متصوفا وشاعرا، وزارة الثقافة، 2007،ص 43.
3- الأمير عبد القادر الجزائري: الموقف، دمشق، دار اليقظة العربية، 1967، ج2، ص 872.
4- المصدر السابق.
5- ابن عربي، فصوص الحكم، تحقيق أبو العلا عظيمي، ج1، ص 47.
6- الأمير عبد القادر، المواقف، ج2،ص 514
7- المصدر السابق، ج2، ص 270.
8- سورة الانشقاق آية 21.
9- الأمير، المواقف، دمشق ، دار اليقظة العربية 1967، ج1، ص 270.
10- الأمير، المواقف، ج2، ص 917.
11- الأمير، المواقف، ج2، ص 917.
12- الفتوحات المكية، ابن عربي، تحقيق عثمان يحي الإهداء.
13- أبو حامد الغزالي، المنقذ الضلال، تحقيق الدكتور عبد الحكيم محمود، ط3 دار المعارف، بمصر 1988، ص 378.
14- عبد الله الركيبيبي ، الشعر الديني الحديث الجزائري، دار السويدي للنشر والتوزيع 1972، ص 242.
15- الأمير، المواقف، ج1 (دمشق: دار اليقظة العربية).
16- الأمير عبد القادر، المواقف، ج1، ص 13(تحقيق عبد الباقي مفتاح).
17- المواقف، ج1، ص 18.
18- المواقف، ج1، ص 86.
19- " إن في الوجود معشوقة غير مرموقة، الأهوية إليها جانحة، والقلوب بحبها طافحة، والأبصار إلى رؤيتها طامحة، بصير الناس إليها كل مصار، ويرتكبون الأخطار، ويستخدمون دونها الأحمر، ويركبون لطلبها المكعب الأسمر، ولا يصل إليها إلا الواحد بعد الواحد في الزمان المتباعد، فإذا قدر لأحد مشارفة حماها ومقاربة مرماها، ألقت عليه إكسيرا له مادة ولا مدة، ولا هو عين معتدة، فيحصل إنقلاب عينه، الأعيان في عينه، إلى عين هذه المعشوقة، التي هي غير مرموقة المعلومة المجهولة، المستورة المسلولة، الباطنة، الظاهرة، المستورة.الساترة، الجامعة للتضاد بل ولجميع أنواع المنافاة والعناد، ولا يقدر أن يعبر عنها بعبرة ولا يشير إليها بإشارة أكثر من قوله: إني وصلتها وحصلتها، وبعد التعب والعناء ومعاناة وجدت هذه المعشوقة: أنا ويتبين لي أنني الطالب والمطلوب والعاشق والمعشوق، فما كان هجري للذاتي، إلا في طلب ذاتي، ولا كانت رحلتي إلا لنحلتي، ولا وصولي إلا إلي ولا تفتيشي إلا علي، ولا كان سفري إلا مني إلي:فيقال له: هل رأيت محياها، وشممت رياها، حتى قلت أنا إياها؟ فيقول: رأيت، وما رأيت وما رميت إذ رميت ويأتي بأوصافها بما تنبو عنه العقول، ولا تحتمله ظواهر النقول، ما طرق الأسماع، ولا طمعت في فهمه الأطماع، يرفع الضدين تارة وتارة بجمعهما ويجمع النقيضين ويضمهما فيقال له: هذا الذي تقول ثبت عندك بدليل أو برهان؟ فيقول لا دليل بعد عيان، وكيف يصح في الأدهان شيء إذا إحتاج النهار إلى دليل؟ فيراجع فلا يرجع ويغلط فلا يسمع، وحينئذ يحكم الناس عليه بالجنون والعته والسفه والبله، ويجهلونه ولو كان أعلمهم،ويسفهونه ولو كان أحلمهم ويستبيحون منه العرض في الطول والعرض ويجعلونه مرمى غمزهم ولمزهم ونبزهم ووكزهم، يهجره الحميم العاطف، ويقليه الصدق الملاط، وهو ما هو مع هذا ناعم البال بما لديه، قرير العين بما حصل بين يديه، لا يلتفت إلى قطعهم وهجرهم ولا يبالي بلوغهم فيه وهجرهم.
- الأمير : المواقف، ج1 ص 86.
20- الأمير عبد القادر ديوان الشاعر الأمير جمع وتحقيق الدكتور العربي دحو رجعه الدكتور رضوان الداية، مؤسسة عبد العزيز بن سعود البايطين للإيداع، 256-257.
21- ابن العربي: الفتوحات المكية، الجزء 3 ص 314.
22- المواقف، ج 1 ص 87.
23- الشيرازي: عرائس البيان، ج1 ، ط الهند 1301، ص 591.
24- محي بن عربي : تفسير القرين الكريم، ج1 (تحقيق د. مصطفى غالب)، بيروت، 1978، ص 14.
25- عبد الحليم محمود، ابراهيم أدهم شيخ الصوفية (د.ت) ص 21.
26- الأمير عبد القادر: بغية الطالب على ترتيب التجلي بكلية المراتب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط 1 2004 م 1425هـ ص 21.
27- سورة الأحزاب، الآية 21-22.
28- الأمير، المواقف، الموقف الأول، ص 101.
29- ابن عربي: الفتوحات، ج3 مصر 1393هـ ، ص 504.
30- الأمير: المواقف ج2.
31- د/صالح الداسي : التفسير الإشاري عند أهل السنة ، منشورات دار علاء الدين ط 1 2010.ص 336.
32- د/ قائم غني: تاريخ التصوف في الإسلام، ترجمة صادق نشأت، مصر 1970، ص 80.
33- المصدر السابق، ص 340.
34- سورة فاطر، آية 32.
35- صالح الداسي: التفسير الإشاري عند أهل السنة، ص 350.
36- سورة المطففين، آية 83.
37- المواقف، ج1، ص 152.
38- سورة يوسف، آية 12.
39- سورة الأحقاف، الآية 45.
40- المواقف، الموقف الأربعون، ص 149-150.
_Ahmed Bouyrdene;Abdel-El-Kader (Larmonie des contreres-. preface par Eric Geoffrey ;Editions du Seuil p10






















قائمة المصادر والمراجع

القرآن الكريم:
- الأمير عبد القادر الجزائري وأدبه، عبد الرزاق بن سبع (مقدمة الكتاب)، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البايطين للإيداع السعري 2005.
- الأمير عبد القادر متصوفا وشاعراـ فؤاد صالح السيد، وزارة الثقافة 2007.
- الأمير عبد القادر، المواقف، دمشق، دار اليقظة، العربية 1967.
- فصوص الحكم، ابن عربي، تحقيق أبو العلا عفيقي.
- الفتوحات المكية، ابن عربي، تحقيق عثمان يحي.
- المنقذ من الضلال، أبو حامد الغزالي، تحقيق الدكتور عبد الحليم محمود، ط3، دار المعارف، بمصر 1988.
- الشعر الديني الجزائري الحديث، عبد الله ركيبي، دار السويدي للنشر والتوزيع.
- ديوان الشاعر الأمير، الأمير عبد القادر، جمع وتحقيق الدكتور العربي دحو، راجعه الدكتور رضوان الداية، مؤسسة عبد العزيز بن سعود البابطين للإيداع.
- عرائس البيان، الشيرازي، ط الهند 1301.
- تفسير القرآن الكريم، محي الدين بن عربي، تحقيق مصطفى غالب، بيروت 1978.
- ابراهيم ابن أدهم شيخ الصوفية ، عبد الحليم محمود.د ت
- بغية الطالب على ترتيب التجلي بكليات المراتب، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 2004م 425هـ
- التفسير الإشاري عند أهل السنة، د/ صالح الداسي، منشورات دار علاء الدين ط1، 2010.
- تفسير القرآن الكريم، محي بن عربي،( تحقيق د. مصطفى غالب) بيروت، 1978.
ahmedBouyerdene;-Abdel_Kader(Larmonie des contraires; preface par Eric Geoffray ; editions du seuil.












 


رد مع اقتباس