منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - ~♣أَحْتَاْجٌكٌمْـ فَهَلُمُوْا لِمُسَاْعَدَتِيْ ♣~
عرض مشاركة واحدة
قديم 2012-12-24, 12:19   رقم المشاركة : 10
معلومات العضو
lakhdarali66
عضو متألق
 
الصورة الرمزية lakhdarali66
 

 

 
الأوسمة
مميزي الأقسام أحسن عضو لسنة 2013 
إحصائية العضو










افتراضي

سادسًا: العدول في العدد:
ومن ذلك المغايرة بين الإفراد والجمع، أو بين الإفراد والتثنية، أو بين التثنية والجمع.

ومِن شواهد العدول عن الجمع إلى الإفراد، قوله - تعالى -: ﴿ وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم: 81 - 82]، ففي الآية الثانية جاء اسمُ يكون - العائد على الآلهة - ضميرَ جمع، ثم جاء الخبر عنه مفردًا "ضدًّا"، عدولاً عن "أضدادًا" التي يقتضيها ظاهرُ السياق، وهو عدول يحقِّق في الآية الكريمة فائدتين: الأولى هي الدلالة على (توحُّد) موقف الآلهة يومَ القيامة في معاداة هؤلاء الكفَّار الذين عبدوهم من دون الخالق، أو أشركوهم في عبادته - عزَّ وجلَّ - فتوحيد الضد هو - كما ذَكَر المفسِّرون - لتوحيد المعنى الذي تدور عليه مضادةُ هؤلاء الآلهة للكفَّار، إذ إنهم يتفقون على هذه المضادة، فيكونون كالشيء الواحد[1].

يقول الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ وحَّد؟ قلت: وحَّد توحيد قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((وهم يدٌ على مَن سواهم))؛ لاتفاق كلمتهم، وأنهم كشيء واحد لفَرْط تضامِّهم وتوافقهم".[2]

والثانية: اطِّراد الإيقاع الموسيقي بين فواصل الآيات؛ إذ بصيغة الإفراد "ضدًّا" تتوازى فاصلةُ الآية الكريمة مع فواصل الآيات السابقة عليها، واللاحقة لها في السورة (مدًّا، فردًا، عزًّا، ضدًّا، أزًّا، عدًّا... إلخ).

ونلحظ أنَّ في العدول عن الجمْع إلى الإفراد، إبرازًا للمفارقة بين موقف الكفَّار من آلهتهم في الدنيا، وموقفها منهم يوم القيامة، فتلك التي توزَّعت أهواؤهم، وأذلُّوا أعناقهم لها من دون الله؛ أملاً في التعزُّز بها، سوف تتناصر يومَ القيامة على تكذيبهم، وتتحد على مضادتهم والتنكُّر لهم[3]، ولا أجد تعقيبًا على ذلك أفضلُ مِن قول الله - تعالى -: ﴿ وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاؤوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [فصلت: 19 - 23].

ومنه - عكس ما سبق - العدول عن المفرد إلى الجمع، نحو قوله - تعالى -: ﴿ قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [إبراهيم: 31]، عَدَل عن المفرد "خلة" إلى الجمع "خِلال"، ولعلَّ وجه إيثار الجمْع - في إبراهيم - على المفرد - في البقرة[4] -: أنَّه لَمَّا لم يذكر "شفاعة في إبراهيم - كما ذكرت في البقرة - ذكر الجمع ليتناولَ نفيَ الخلة، وكلِّ ما يشابهها، أو يرتبط بها كالشفاعة وغيرها، ولا يغيب عنَّا ما بين الخلة والشفاعة مِن ارتباط.

ويؤيد هذا قول الألوسي في المقصود بالإفراد أو الجمع بأنَّ: "المراد واحدٌ وهو نفي أن يكون هناك خليلٌ ينتفع به بأن يشفع له أو يسامحه بما يفتدي به".[5]

ولو تأمَّلْنا عبارة الألوسي هذه، نجد أنها تنفي الخلة، وكلَّ ما يشابهها، أو يتعلَّق بها، كالشفاعة أو المسامحة، أو الافتداء بشيء.

ومِن شواهد العدول عن التثنية إلى الإفراد قوله - تعالى -: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى ﴾ [طه: 117].

ففي العدول إسنادُ فعْل الشقاء إلى الضمير المفرد في "فتشقى" العائد على آدم - عليه السلام - عن إسناده إلى ضميرِ التثنية الذي يقتضيه ظاهرُ السياق في "يخرجنكما"، وقد ذكر المفسِّرون في بيانهم لدلالة هذا العدول رأيَيْن:

الأول: أنَّ في ضمن شقاء الرجل - وهو قيِّم أهله وأميرهم - شقاءَهم، كما أنَّ في ضمن سعادته سعادتهم، فاختصَّ الكلام بإسناده إليه دونها، مع المحافظة على رعاية الفاصلة، قال الفرَّاء: "ولم يقل: "فتشقيَا"؛ لأنَّ آدم هو المخاطَب، وفي فعله اكتفاءٌ مِن فعل المرأة".[6]

الثاني: أنَّ المراد بالشقاء التعب في طَلَب القُوت، وذلك على الرجل دون المرأة.

يقول القرطبي: "ولم يقل: "فتشقيَا"؛ لأنَّ المعنى معروف، وآدم هو المخاطَب، وهو المقصود، وأيضًا لَمَّا كان هو الكادَّ عليها، والكاسب لها، كان بالشقاء أخصّ... ومِن ذلك يعلم أنَّ نفقة الزوجة على الزوج، وأنَّ النفقة التي تجب للمرأة على زوْجها هذه الأربعة: الطعام والشراب، والكسوة والمسكن".[7]

ومِن شواهد العدول عن التثنية إلى الإفراد كذلك قوله - تعالى -: ﴿ فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء: 16]، حيث وردتْ لفظةُ "رسول" مفردةً، مع أنَّ ظاهر السياق يقتضي تثنيتَها "فقولاَ إنَّا".

وقد نتساءل عن سرِّ إفرادها هنا، وتثنيتها في سِياق آخر: ﴿ فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [طه: 47].

وقد أجاب بعضُ المفسِّرين عن هذا التساؤل بأنَّ لفظة "رسول" من الألفاظ أو الأوصاف المشتركة؛ فهي تعني المرسَلَ أو متحمِّلَ القول حينًا، والرسالةَ أو القولَ المتحمَّل حينًا آخر، فهي بالمعنى الأول في سورة طه، وبالمعنى الثاني في سورة الشعراء، ومِن ثَمَّ ثُنيِّت في الأولى؛ لأنَّهما رسولان، وأفردتْ في الثانية؛ لأنَّها رسالة واحدة.[8]

لكننا نطمئن إلى القول بأن لفظة "رسول" في كلٍّ من الآيتين الكريمتين لا تعني سوى الشخص المرسل، أما تثنيتها في آية طه وإفرادها في آية الشعراء، فإنَّه يرجع فيما نحسب - والله أعلم بمراده - إلى اختلاف السِّياق في كلٍّ من السورتين عنه في الأخرى، فكلٌّ من الآيتين الكريمتين قد سُبقت في سياقها بإعلان الخوْف من بطش فرعون وطغيانه، غير أنَّ هذا الإعلان قد ورد في سورة طه على لسان الرسولين - موسى وهارون - عليهما السلام - ومِن ثَمَّ جاءت لفظة "رسول" مُثنَّاه لبعث الطمأنينة والثِّقة في قلبيهما، واقتلاع جذور الخَوْف من نفسيهما معًا: ﴿ قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى * قَالَ لاَ تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى * فَأْتِيَاهُ فَقُولاَ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ [طه: 45-47].

ومن شواهده أيضًا قوله - تعالى -: ﴿ فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه: 117] وقد سبق بيانه.

سابعًا: العدول في الأدوات والحروف:
أ- المغايرة بين الأدوات؛ أي: إيثار أداةٍ على غيرها في سياق معيَّن، كالمخالفة في السياق الواحد بين أداتي الشرط (إنْ - إذا)، وهذه المخالفة أو العدول لا بدَّ أن يترتَّب عليه هدفٌ مقصود، هو الذي توحِي به الدلالة الجديدة المترتِّبة على هذا العدول، وهذا يتبيَّن لنا في قول الحق - تبارك وتعالى -: ﴿ فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ ﴾ [الأعراف: 131]، فالأداتان تتَّفقانِ في تأدية معنًى وظيفيٍّ عام هو (الشرط في الزمن المستقبل)، غير أنَّ لكلٍّ منهما خصوصيتَها في تأدية هذا المعنى؛ لأنَّ الشرط مع "إن" أمر محتمل مشكوك فيه، أما مع "إذا"، فهو أمرٌ مؤكَّد مقطوع بوقوعه[9]، ولهذا الفارق - كما ذكر النحاة والبلاغيُّون - غلب اقتران الأولى "إنْ" بصيغة المضارع، والثانية "إذا" بصيغة الماضي؛ وذلك لأنَّ الماضي هو أقربُ للقَطْع من المستقبل.[10]

على أساس هذا الفارِق جاء العدول في الآية الكريمة عن "إذا" إلى "إن" مؤديًا دَورَه في إبراز المفارقة التي سِيقتْ لتصويرها؛ أعني: المفارقة بين حال آل فرعون حين يشملُهم الرخاء، ويعمُّ ربوعَهم الخيرُ والخصب، وحالهم حين ينزل عليهم الجَدْب، ويكون القحْط والضيق، فهم في الحال الأولى راضون مطمئنُّون، واثقون من أنَّ الخير حقُّهم، ونتيجة طبيعية لسعيهم وجِدِّهم في الحياة، أما في الحال الثانية فيشتدُّ بهم الجزع، ويبادرون إلى نسبة ما نَزَل بهم من الجدْب والقحط إلى وجود موسى - عليه السلام - وأتباعه بينهم، على أساسِ أنَّ هؤلاء - في زعمهم - هم الشُّؤم الذي غيَّر حالهم من رخاء ونعيم إلى بؤس وشقاء!

ولإبراز هذه المفارقة كانتِ المخالفة بين أداتي الشرط، فأوثرتْ في جانب الحسنة "إذا"؛ لتفيد كثرةَ تتابع الخيرات، وتواردها على هؤلاء القوم، وفي ذلك تجسيدٌ لِمَا هم عليه من غفلة وجحود، أما في جانب السيئة فقد أوثرت "إنْ"؛ لتفيد أنَّهم ما يجزعون هذا الجزع المبالغ فيه ليس إلاَّ أمرًا نادرَ الوقوع.

ولعلَّنا نلاحظ أنَّ مما يصور شدَّةَ هذا الجزع لديهم العدولَ المعجمي في صيغة الشرط عن لفظ "المجيء" إلى لفظ "الإصابة".

وقد لحظ كثيرٌ من المفسِّرين أنَّ هذه المخالفة بين الأداتين تتآزر بدلالتها مع المخالفة بين صيغتي الشَّرْط؛ إذ بينما جاء فعْل الشرط في جانب الحسنة بصيغة الماضي الدالة على تحقُّق وقوع الحَدَث "جاءتهم"، جاء في جانب السيئة بصيغة المضارع الدالة على نُدرة الوقوع، كما أنها تتآزر كذلك مع المخالفة بين التعريف والتنكير (الحسنة - سيئة)؛ إذ إنَّ تعريف "الحسنة" يفيد كثرة النعم والخيرات على آل فرعون، فهي بالنسبة لهم أمرٌ معهود مألوف، كثيرًا ما نعِمُوا به جاحدين فضْلَ المنعِم عليهم - عزَّ وجلَّ - به، أما تنكير "سيئة" فيُفيد أنها أمر طارئ عليهم لا عهدَ لهم به، وعلى الرغم من ذلك فإنهم يُبادرون عند وقوعها إلى التنصُّل منها، والادعاء - سفاهةً وجهلاً - أنها من شؤم موسى - عليه السلام - وتابعيه، ناسين أو متناسين أنَّ مقام هؤلاء بينهم ليس مقصورًا على وقت السيِّئة فحسبُ![11]

ومن شواهد العدول إلى أداة الشرط "إنْ"، وإيثارها على الأداة "إذا" ما لحظه الزمخشري في قوله - تعالى -: ﴿ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ [البقرة: 24] حيث يقول: "فإن قلت: انتفاء إتيانهم بالسورة واجب، فهلاَّ جِيء بـ"إذا" الذي للوجوب، دون "إنْ" الذي للشكّ؟ قلت: فيه وجهان:

أحدهما: أن يُساق القولُ معهم على حسب حسبانهم وطمعهم، وأنَّ العجز عن المعارضة كان قبل التأمُّل كالمشكوك فيه لديهم؛ لاتِّكالهم على فصاحتهم، واقتدارهم على الكلام.

والثاني: أن يتهكَّم بهم، كما يقول الموصوف بالقوَّة، الواثق من نفسه بالغلبة على مَنْ يُقاويه: إنْ غلبتُك لم أبْقِ عليك، وهو يعلم أنَّه غالبه ويتيقنه؛ تهكمًا به".[12]

ب - التبادل الدلالي بين حروف الجر:
وهذا الإجراء العدولي يخرج الصياغة عن بنائها المألوف، فتكتسب تأثيرًا جماليًّا بالنظر إلى نَظْم العبارة، وإلى تأويلها من جانب المتلقي، وقد تتبَّع النحاة - باستقصاء - معاني حروف الجر، وذكروا شواهدَ كثيرة لمواضعِ التبادل الدلالي بينها[13]، وأشار البلاغيُّون والمفسِّرون إلى بعض الملامح البلاغية والجمالية التي يفرزها التقارضُ بين حروف الجر.

ومن شواهد ذلك قول الله - تعالى -: ﴿ إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا * عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا [الإنسان: 5 - 6]، يقول ابن قتيبة: "تقول العرب: شربتُ بماء كذا وكذا؛ أي: من ماء كذا، قال - تعالى -: ﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ ﴾ [المطففين: 28]، و﴿ عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ ﴾، ويكون بمعنى: يشرب بها عباد الله، ويشرب منها".[14]

أفاد ابن قتيبة[15] أنَّ "الباء" في الآية بمعنى "مِن"، وبمثل ذلك قال الهروي في كتاب "الأزهية".[16]

والتبادل الدلالي هنا بين "الباء" و"من" يسمح باتِّساع الصياغة لعِدَّة دلالات وتأويلات، منها:
1- حين يكون المفعول "العين" متوحِّدًا بكلية الفعْل ذاته ووسيلته، تصبح المسافةُ بين الرغبة وموضوعها مسافةً محذوفة.

2- الإيحاء بعدم الانتقاص من مصدر النهل، ويؤكِّد ذلك الإيحاء مفارقةٌ ذكية، نستطيع أن نستشفَّها في المقابلة بين المألوف وضده (يشربون من كأس/ يشربون بالعين)، وربما عضَّد فعل ﴿ يُفَجِّرُونَهَا ﴾ مقرونًا بالمفعول المطلق ﴿ تَفْجِيرًا ﴾ دلالة اللامألوف ذاته (الديمومة أو اللاتناهي).

3- كأنَّ "العين" و"الكأس" صنوان، يشرب الشاربون "منهما"، أو ربما "بهما"، وفي هذه المبالغة في وصْف النعيم تأكيدٌ لاتساع مستويات العطاء، أو المتعة بلا حدود، فأنت تشرب بالكأس من العَيْن، وتشرب بالعين مما هو أكبر وأكثر منها تدفقًا (العين كأس لشراب آخر)، هنا تقوم "قوة تحرير الخيال" بتعديد سطوح الحُلم إلى غير مدًى، وتجعل من ذلك الحلم أيضًا حقيقةً تقبل الوجود[17].

4- دخول الباء هنا لا يقصر الدلالةَ على معنى الشُّرْب فقط؛ بل يضيف إليه فضاءاتٍ دلاليةً أخرى، تُضْفي على الشرب جوًّا من النشوة الرُّوحية والحسية، كدلالة الالْتذاذ والمتعة، حيث تصير البنية العميقة للصياغة: "فيشربون منها، فيلتذون بها"[18]، ودلالة الارتواء والشِّبع، تكون البنية العميقة: يرتوي بها عباد الله.

5- ونجد في الباء هنا دلالةً تهمس بأنَّ العين هي مستراحهم، والمكان الذي يجدون فيه متعة العَيْن، وسعادة النفس، فالكأس بأيديهم، وهم على حافَّة العين يشربون، كلَّما فرغتِ الكأس ملؤوها منها، ولذَّة الشرب ممزوجة بلذَّة العين، ويؤيده وصْفُ القرآن للجنَّات ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾، وليس جريان الأنهار تحت المؤمنين إلاَّ متاعًا لأنظارهم، وإسعادًا لأنفسهم، وليس لمجرَّد الشرب دنتْ منهم الأنهار.[19]

تتمثَّل بلاغة العدول - إذًا - في كسْر أفق التوقُّعات بالمخالفة بين حرفَي الجر "من" و"الباء"، في مستوى البنية السطحية؛ ليُنتج نظم الآية الكريمة مستويين دلاليين متغايرين، مع أنَّهما يجمعهما - ظاهريًّا - سياقٌ واحد، فلله درُّ التنزيل!

ومن شواهد تبادل الحروف، والعدول إلى حرْف، وإيثاره على غيره، قوله - تعالى -: ﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة: 5].

والأصل "إليها"، قال أبو حيان (ت745هـ)- وتابَعه ابن الصائغ (ت776هـ) -: "وعُدِّي أوْحَى باللام، وإن كان المشهور تعديتها بـ"إلى" لمراعاة الفواصل ".[20]

وتلتفت الدكتورة عائشة عبدالرحمن في تفسير هذه الآية إلى ملحظٍ بياني طريف، تتمثَّل فيه بلاغة العدول، فتقول: "ونستقرئ مواضع فعْل الإيحاء في القرآن كله، فلا نراه يتعدَّى إلى "إلى" إلا حين يكون الموحَى إليه من الأحياء، يطَّرد ذلك في كل آيات الإيحاء بـ "إلى"، وعددُها سبع وستون آية.[21]

وأما حين يكون الموحَى له جمادًا، فالفعل يتعدَّى باللام كآية الزلزلة، أو بحرف "في" كما في آية فصلت ﴿ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا [فصلت: 12]، ودلالة "اللام" الإيحاء المباشِر على وجه التسخير، ودلالة "في" البثُّ والملابسة.

وأما الإيحاء بـ "إلى" فيأخذ دلالتَه الخاصة في المصطلح الدِّيني للوحي، إذا كان الموحَى إليه من الأنبياء، وإلى غير الأنبياء - بشرًا أو حيوانًا - يكون الإيحاء بمعنى الإلهام، وللجماد بمعنى التسخير، ومن هنا كان إيثارُ التعدية بـ "اللام"؛ لما في معنى "اللام" من اختصاص وإلْصاق، وصيرورة وتقوية الإيصال، وهى معانٍ عرَفها اللغويُّون أنفسهم فيها، وعدُّوها فيما عدُّوا من معانيها التي أحصاها ابنُ هشام في "مغنى اللبيبوإن لم يلتفتوا إليها هنا في البيان القرآني؛ بل قالوا إنَّ "اللام" تقوم مقام "إلى" بشاهد من آية الزلزلة: ﴿ أوحى لها ﴾.[22]

إذًا فالتعدية بـ "اللام" هنا متعيّنة مقصودة؛ لأنَّ الموحَى إليه جماد، كما هَدَى الاستقراء القرآني، وهكذا يرقى الحسُّ البياني بإيضاح بلاغة العدول في الآية الكريمة.

[1] انظر: "البحر المحيط" (6/215)، و"تفسير أبي السعود" (5/280)، ومن الجدير بالذِّكْر أن بعض هؤلاء المفسرين قد أشار إلى أنَّ ضمير الجماعة في (سيكفرون ويكونون) يحتمل أن يكون عائدًا على الكفَّار لا على الآلهة، وهو - فيما ترى - احتمال بعيد؛ إذ إنَّ مضادة الكفار للآلهة لا تبلغ ما تبلغه مضادة تلك الآلهة لهم في تجسيد الإحساس بخيبة الأمل وضلال المسعَى لديهم في هذا الموقف.

[2] "الكشاف" (2/523).

[3] "أسلوب الالتفات في البلاغة القرآنية" (ص: 114، 115).

[4] ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ﴾ [البقرة: 254].

[5] "روح المعاني" (13/22).

[6] "معاني القرآن" (2/19).

[7] "تفسير القرطبي" (11/168)، ويُنظر: "الكشاف" (2/555، 556)، و"تفسير أبي السعود" (6/45)، و"البحر المحيط" (6/184).

[8] "أسرار التكرار في القرآن" (ص: 140)، "بصائر ذوي التمييز" (3/69، 70).

[9] قال سيبويه: "ويبيّن هذا أنَّ "إذا" تجيء وقتًا معلومًا، ألاَ ترى أنك لو قلت: آتيك إذا احمرَّ البسر، كان حسنًا، وإن قلت: آتيك إنِ احمر البسر، كان قبيحًا؟ فـ "إنْ" أبدًا مبهمة"؛ "الكتاب" (3/6)، ويُنظر: "المُقتضب" (2/54، 55).

[10] انظر: "مفتاح العلوم" (ص: 104)، "الإيضاح" (ص: 91)، و"البرهان" في علوم القرآن" (4/200 201).

[11] يُنظر: "الكشاف" (2/106)، "تفسير البيضاوي" (3/24)، "تفسير أبي السعود" (3/246)، و"البرهان في علوم القرآن" (4/201).

[12] "الكشاف" (1/247)، ويُنظر موضع آخر (2/278، 279).

[13] يراجع: "أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك" (3/21 - 52)؛ ابن هشام، و"مغني اللبيب" (1/118،88،163،168،191... مواضع كثيرة).

[14] "تأويل مشكل القرآن" (ص: 575).

[15] "تأويل مشكل القرآن" (ص: 575).

[16] كتاب "الأزهية في علم الحروف" (ص: 283).

[17] "النص القرآني من الجملة إلى العالم" (ص: 48، 49)، د/ وليد منير، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، القاهرة، ط1. 1997م.

[18] يراجع: "الانتصاف" - على هامش الكشاف - (4/196)، و"الفتوحات الإلهية" (4/454).

[19] "من أسرار حروف الجر في الذكر الحكيم" (ص: 197).

[20] "البحر المحيط" (8/501)، و"الإتقان" (3/345)، و"معترك الأقران" (1/49).

[21] يُنظر: "المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم" (ص: 746، 747) مادة (وحي).

[22] انظر "الإعجاز البياني" (ص: 377)، و"التفسير البياني" (ص: 92)، وراجع "مغني اللبيب"؛ لابن هشام (1/193).












رد مع اقتباس