منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الحلقة السادسة من: ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري
عرض مشاركة واحدة
قديم 2008-07-11, 01:55   رقم المشاركة : 1
معلومات العضو
أبو إدريس
كبار الشخصيات
 
الأوسمة
وسام الشرف 
إحصائية العضو










B11 الحلقة السادسة من: ردّ الشبهات المثارة حول الأمير عبد القادر الجزائري

بسم الله الرحمن الرحيم


الحلقة السادسة

ثمّ ينتقل الأخ محمد بن حسن المبارك ؛ كاتب (فك الشفرة) إلى حَدَثٍ جديد وهو بيان مدى تصوّف الأمير عبد القادر ، فيقول : "الأمير تربَّى في بيئة صوفية ، بل قد نشأ على تقديس يصل إلى حد الجنون لشخصية ابن عربي الحلولي الاتحادي ، و أمثاله من الاتحادية الحلولية كالحلاج والتلمساني وابن الفارض وغيرهم".انتهى

وأقول : لو اكتفى الكاتب بقوله إن الأمير تربّى في بيئة صوفية لسلّمنا له ذلك ، ولكنه أبى إلاّ أن يُضرِب عن كلامه الأول فقال : بل ... الخ
وسؤالي للكاتب : من أين له أن الأمير نشأ على تقديس ابن عربي والحلاّج والتلمساني وابن الفارض تقديسًا يصل إلى حد الجنون؟!! إنه لم يكتف بذكر التقديس وحدَه ، بل وصل به إلى حدّ الجنون! وهذا والله من العجائب.
والأمير بدأ اهتمامه بابن عربي وكتبه بعد قدومه إلى دمشق ، فمن أين للكاتب أنّ الأمير نشأ على تقديسه؟!
لقد ألّف السيوطي ردًا على كتاب (تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي) يردّ فيه على الإمام البقاعي ، وكذلك ألّف ردًا مماثلاً على كتاب (المقراض القارض في تكفير ابن الفارض) يردّ فيه على البقاعي رحمه الله ، ومع ذلك لم نجد من يصف السيوطي بأنه يقدس ابن عربي إلى درجة الجنون! ونحن ليس لنا أن نقول سوى أنه دافع عن ابن عربي وردّ على من كفّره . وأما دعوى التقديس إلى حد الجنون فهذه تحتاج إلى برهان واضح . ولذلك كان على الكاتب أن يبرهن على دعواه!!

ولكنه بدلاً من البرهنة على هذه الدعوى راح يأتي بأفكار ظنيّة تساعده على تقوية الموضوع وجعله من المسلمات . فقال :"بل قد أتمَّ الأمير تدريس كتاب الفتوحات لابن عربي على طلبته مرارا ، وألف كتابه "المواقف" على مذهب ابن عربي ، بل و قد اختار السكنى في دمشق لكونها بلد ابن عربي الذي أقام فيه ، ويقال أنه سكن في نفس البيت الذي عاش فيه ابن عربي بعد أن قام بإصلاحه و دُفِن ـ أيضاً ـ بجوار ابن عربي".انتهى

وأقول : الذي ذكره المؤرّخون أن الأمير قرأ الفتوحات المكيّة مرّتين فقط!
ثم هل كل من قرأ أو قرّأ الفتوحات يكون بالضرورة مقدِّسًا لابن عربي أو موافقًا له في كل مذهبه؟!!
إنّ كتاب الفتوحات المكيّة ليس من الكتب التي يدرّسها الصوفية لطلابهم ، وإنما هو كتاب للخاصّة منهم ، وتجتمع تلك الخاصّة لقراءته محاولين فكّ معمّياته ورموزه كما يقولون!.
وأنا لا أحب هذا النوع من الكتب ولا أرضى به أبدًا ، ولكن أريد أن أنبّه الإخوة على أنّ الإمام الذهبي قال في ترجمة ابن عربي: ((ولا ريب أن كثيرًا من عباراته له تأويل إلا كتاب "الفصوص"!)).انتهى[سير أعلام النبلاء]
ومرّ معنا في الحلقة الأولى أنّ شيخ الإسلام ابن تيميّة قرأ الفتوحات وقال : ((وإنما كنتُ قديماً ممن يُحسن الظن بابن عربي ويُعظّمه : لِمَا رأيت في كتبه من الفوائد مثل كلامه في كثيرٍ من "الفتوحات"..)).انتهى [الفتاوى2/464]
وللعلم فإنّ الأمير أَرْسَلَ إلى قونية في تركيا الشيخ محمد الطنطاوي (جد الشيخ علي رحمه الله) والشيخ محمد بن محمد المبارك الدلسي سنة 1289هـ ، لتصحيح نسخته من الفتوحات التي اقتناها في دمشق على نسخةٍ بخط ابن عربي نفسه موجودة هناك . وبعد عودتهما بدأ الأمير بقراءة الفتوحات ومات بعد ذلك سنة 1300هـ يعني بعد عشر سنوات من حصوله على النسخة المصححة!
وسبب إرسال الشيخين لتصحيح النسخة ، أنّ الأمير لمّا اقتنى نسخة الفتوحات استشكل بعض العبارات فيها ، وغلب على ظنّه أنها محرّفة أو مزيدة (هكذا ظن) ، وذلك لأنّ المشهور والثابت أنّ ابن عربي عالمٌ كبير , وفقيه أصوليّ، وهو ظاهري المذهب ، وهو الذي اختصر كتاب (المحلّى لابن حزم) ، وله رسائل في أصول المذهب الظاهري ، وكتبه ومؤلّفاته كثيرة جدًّا ، إذن هو ليس من الجهلاء والمشعوذين أو أدعياء العلم المخرّفين ، لذلك فإنّ الأمير شكّ في بعض العبارات فأراد أن يتيقّن من ثبوتها فأرسل من يطابق له المخطوط . فلمّا أتته النسخة محققةً ، سلك في شرح العبارات الخطيرة الواردة فيها مسلكَ كثير من أهل العلم ، الذين ذهبوا إلى قبول كلام ابن عربي الموافق للشرع، وأخذوا في تأويل كلامه الذي يخالف الشرع ، وحمْلِه على محامل حسنة ، وذلك من باب إحسان الظنّ به واستبعاد كون عالم مثله يتكلّم بما يُخالف الشريعة . هذا ما ذهب إليه القوم!
وفي أيّامنا هذه اجتمعتُ بشيخ من شيوخ التصوف المعروفين في الشام ، وكان يمدح ويثني على ابن عربي كثيرًا ، فسألتُه : ما تقول في وحدة الوجود؟ فأجابني قائلاً : "وحدة الوجود بمعنى أنّ كل ما في الكون هو عينُ الله ، الشجر والبشر والحجر ، هي كفرٌ وقائلها كافر!! وكلام ابن عربي ليس على هذا المعنى".انتهى
إذن هكذا يعتقد هذا الرجل المعظّم لابن عربي ، فهل يجوز لي بعد أن سمعتُ منه أن عقيدة وحدة الوجود كفرٌ وقائلها ومعتقدها كافر ، أن أصفه بأنه على عقيدة وحدة الوجود لأنّه يعظّم ويوقّر ابن عربي؟! لا يجوز هذا أبدًا .
إنّ العلاّمة جمال الدين القاسمي ، رحمه الله ، أحد أكبر علماء السلف في بلاد الشام ، بل هو رائد التوجه السلفي فيها ، كان يستشهد في كتبه ومؤلّفاته بكلام ابن عربي في "الفتوحات المكّية"، ويصفه بالشيخ الأكبر قُدِّس سرّه! [انظر (قواعد التحديث) ص359] ، فهل سيجرؤ أحد على وصف العلاّمة القاسمي بأنّه على مذهب ابن عربي لأنه يحترمه ويستشهد بكلامه؟!!
هذا سيكون من البلاء العظيم ، والشر الجسيم!

وهذا المسلك الذي سلكه الأمير وغيره ، سلكَه مِنْ قبلهم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فإنّه كان إذا وقف على كلام مُريب وفاسدٍ في ظاهره لأشخاص يرى أنهم من أهل الصلاح أو العلم ، يؤوله أو يلتمس لهم الأعذار ، ولا يطعن فيهم!
مثال : قال شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى : ((فهذا التوحيد:هو الذي جاءت به الرسل ، ونزلت به الكتب ، وإليه تشير مشايخ الطريقة وعلماء الدين ؛ لكن بعض ذوي الأحوال قد يحصل له في حال الفناء القاصر سكرٌ وغيبة عن السِّوى ؛ والسكر وجدٌ بلا تمييز .
فقد يقول في تلك الحال سبحاني أو ما في الجبة إلا الله أو نحو ذلك من الكلمات التي تؤثر عن أبى يزيد البسطامي أو غيره من الأصحّاء ، وكلمات السكران تُطوى ولا تُروى ولا تؤدّى ؛ إذا لم يكن سكره بسببٍ محظور من عبادة أو وجه منهي عنه . فأما إذا كان السبب محظورًا لم يكن السكران معذورًا لا فرق في ذاك بين السكر الجسماني والروحاني فسكر الأجسام بالطعام والشراب ، وسكر النفوس بالصور ، وسكر الأرواح بالأصوات)).انتهى[الفتاوى 2/461]

وفي معرض حديثه عن مذهب الحلول والاتحاد ووحدة الوجود ، ووروده في كلام ابن عربي وغيره قال : ((وكثير من أهل السلوك ، الذين لا يعتقدون هذا المذهب : يسمعون شعر ابن الفارض وغيره، فلا يعرفون أن مقصوده هذا المذهب ، فإن هذا الباب وقع فيه من الاشتباه والضلال ، ما حيّر كثيرًا من الرجال)).انتهى[الفتاوى 2/297]

ويقول ابن تيمية : ((ولهذا قال أهل العلم والدين ،كأبي يزيد البسطامي وغيره ، لو رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي ، وقال الشافعي لو رأيتم صاحب بدعة يطير فى الهواء فلا تغتروا به)).انتهى[الفتاوى 11/666]
وقال شيخ الإسلام : ((قد جمع أبو الفضل الفلكي كتابًا من كلام أبي يزيد البسطامي سمّاه "النور من كلام طيفور" فيه شيء كثير لا ريب أنه كذب على أبي يزيد البسطامي ، وفيه أشياء من غلط أبي يزيد ، رحمة الله عليه ، وفيه أشياء حسنة من كلام أبي يزيد وكل أحد من الناس يؤخذ قوله ويترك إلا رسول الله)).انتهى[الفتاوى13/257]

والأشد وضوحًا في هذا المسلك هو الإمام ابن القيّم ، وكتابه (مدارج السالكين) الذي شرح فيه كتاب "أبي إسماعيل الهروي" (منازل السائرين) أكبر برهان على ذلك . فإن القارئ يقف على كلامٍ للهروي ، مخالفٍ للشريعة ، وفيه عقيدة وحدة الوجود ، ومع ذلك فإنّ الإمام ابن القيّم كان يعتذر له ويؤوّله بحيث ينفي عن الهروي تهمة القول بوحدة الوجود أو غيرها . وحجّة ابن القيّم في ذلك هي أنّ الهروي من أهل الدين والصلاح ، ولا يُتصوّر منه أن يتكلّم بخلاف الشرع!(وهي حجّة الأمير نفسها مع ابن عربي)
قال الهروي : ((الدرجة الثالثة : صفاء اتصال . يُدْرِج حَظَّ العبودية في حق الربوبيّة! ويُغرق نهايات الخبر في بدايات العيان ، ويطوى خِسَّة التكاليف في عين الأزل))!!!
فعلّق عليه الإمام ابن القيّم قائلاً : ((في هذا اللفظ قلق وسوء تعبير ، يَجْبُرُه حُسْنُ حالِ صاحبه وصدقُه ، وتعظيمُه لله ورسوله . ولكن أبى الله أن يكون الكمال إلاّ له . ولا ريب أن بين أرباب الأحوال وبين أصحاب التمكن تفاوتًا عظيمًا..)) إلى أن قال ((ولولا مقَامُه في الإيمان والمعرفة ، والقيام بالأوامر ، لكُنَّا نُسيء به الظنّ)).انتهى[مدارج السالكين3/150ـ155]

وقال الهروي : ((وأمّا التوحيد الثالث : فهو توحيدٌ اختصّه الحقُّ لنفسه ، واستحقّه لقدره ، وألاح منه لائحًا إلى أسرار طائفةٍ مِنْ أهل صفوته ، وأخْرَسَهم عن نَعْته ، وأعجزهم عن بثِّه))!!!3/511
ثم أنشد هذه القوافي الثلاثة 3/513 وهي :

ما وحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحد * إذْ كلُّ مَنْ وحَّدَه جاحدْ


توحيدُ مَنْ يَنْطِقُ عن نَعْتِه * عـاريّة أبطَلَها الواحد


تـوحيده إيَّاه توحيده * ونَعْتُ مَنْ يَنْعَتُه لاحد

فراح الإمام ابن القيّم رحم الله يؤول هذا الكلام والشعر ويحمله على محامل حسنة ، قال 3/515 (فيُقال ـ وبالله التوفيق ـ : في هذا الكلام من الإجمال والحق والإلحاد مالا يخفى))
إلى أن قال : ((والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما: أعظم الباطل ، ويريد بها الآخر محض الحق ، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه. وقد كان شيخ الإسلام(يقصد الهروي) ـ قدس الله روحه ـ راسخًا في إثبات الصفات ، ونفي والتعطيل ، ومعاداة أهله وله في ذلك كتب مثل كتاب (ذم الكلام) وغير ذلك مما يخالف طريقة المعطلة والحلولية والاتحادية)).انتهى[مدارج السالكين3/521]
وكان ابن القيّم قال قبل ذلك : ((وقد خبط صاحب المنازل في هذا الموضع ، وجاء بما يرغب عنه الكُمَّل من سادات السالكين والواصلين إلى الله. فقال : "الفكرةُ في عين التوحيد: اقتحامُ بحرٍ الجحود" ، وهذا بناءً على أصله الذي أصَّله ، وانتهى إليه كتابه في أمر الفناء ، فإنه لمّا رأى أن الفكرة في عين التوحيد تُبعِدُ العَبْدَ من التوحيد الصحيح عنده، لأن التوحيد الصحيح عنده :لا يكون إلا بعد فناء الفكرة والتفكّر ، والفكرة تدل على بقاء رسمٍ ، لاستلزامها مفكِّرًا ، وفعلاً قائمًا به ، والتوحيد التامّ عنده: لا يكون مع بقاء رسم أصلاً ، كانت الفكرة عنده علامة الجحود واقتحامًا لبحره ، وقد صرَّحَ بهذا في أبياته في آخر الكتاب)).انتهى[مدارج 1/147]
إلى أن قال : ((فرحمة الله على أبي إسماعيل فتحَ للزنادقة باب الكفر والإلحاد ، فدخلوا منه وأقسموا بالله جهد أيمانهم: إنه لمنهم وما هو منهم وغَرَّه سراب الفناء ، فظن أنه لُجّة بحر المعرفة ، وغاية العارفين ، وبالغ في تحقيقه وإثباته ، فقاده قَسْرًا إلى ما ترى)).انتهى[مدارج1/148]

وفي عبارة أوضح يقوا ابن القيّم : ((وأما صاحب "المنازل" ـ ومن سلك سبيله ـ فالتوحيد عندهم نوعان: أحدهما غير موجود ولا ممكن ، وهو توحيد العبد ربه فعندهم :

ما وحد الواحد من واحد ... إذ كل من وحده جاحد

والثاني توحيدٌ صحيح ، وهو توحيد الربّ لنفسه ، وكل من ينعته سواه فهو ملحد ، فهذا توحيد الطوائف ، ومَن الناسُ إلاّ أولئك؟ والله سبحانه أعلم)).انتهى[مدارج السالكين 3/449]

إذن عندما يغلب على ظنّ الإنسان صلاح وعلم وتديّن شخص ما ، فإنّه إذا وجد في كلامه عبارات تخالف الشريعة في ظاهرها ، يسارع إلى تحسين الظنّ به ، وحمل كلامه على محمل حسن والاعتذار له .
وهذا هو عينُ ما فعله الأمير عبد القادر مع الشيخ ابن عربي، والأمير لم يكن مبتدعًا في ذلك وإنّما سبقه إلى ذلك الكثير من علماء الإسلام ، من زمن ابن عربي إلى زمن الأمير!!
والذي يتّهم الأمير بأنه على معتقد وحدة الوجود لأجل احترامه لابن عربي ، فهو في الواقع يتّهم جماهير كبيرة من العلماء الذين أثنوا على ابن عربي أو على الهروي ، ودافعوا عنهما.








 


رد مع اقتباس