منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - التّعريف بفنّ القصّة
عرض مشاركة واحدة
قديم 2010-01-24, 20:57   رقم المشاركة : 44
معلومات العضو
صَمْـتْــــ~
فريق إدارة المنتدى ✩ مسؤولة الإعلام والتنظيم
 
الصورة الرمزية صَمْـتْــــ~
 

 

 
الأوسمة
المشرف المميز المشرف المميز 2014 وسام التقدير لسنة 2013 وسام المشرف المميّز لسنة 2011 وسام أفضل مشرف وسام القلم الذهبي لقسم القصة 
إحصائية العضو










Unhappy

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زيتوني محرز مشاهدة المشاركة
زوبعة في قلب برئ
علموه منذ الصغر أن الغول يسكن أعماق البشر ،كانوا يخوفونه بالأشباح التي ستقتحم عليه غرفة نومه بين لحظة وأخرى ، أرضعته أمه الخوف والشك في كل ما يحيط به ، انزوى في المنزل ، ذبلت طفولته كنبتة أهملت دون سقي فأنحنى قوامها واستسلمت للرياح في خضوع وخنوع ،تكوم في غرفته يقتات من جسده وينهش من ملامح شخصيته الضبابية ، يبدو له الأمل في الخروج من هذا المستنقع الآسن سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ، يستسلم للبكاء لعله يخفف قليلا من آلامه وقهره ، شحب وجهه وغارت عيناه وشاخت شياطين المرض والأسقام في جسمه تسقيه سم الألم سقيا فيثور ولكن على من ؟ على نفسه المقهورة ،فتكون ثورته كزوبعة في فنجان حديدي لا يتكسر بل مع كل ثورة من ثورات غضبه يزداد الحبل شدا على عنقه الصغير وتزداد الأشواك إنغرازا في جسده المنهك ..
حملوه إلى – الطالب- ليقوم بتجاربه على هذا – الحيوان ألمخبري – عسى أن يكتشف سر نظرية علمية جديدة في ضربات الجن وصولاتهم ، فيغرق في جو البخور و ما يعرف ب - الجاوي -، كلمات المشعوذ تبقى تتردد على مسامعه فتنفذ إلى أعماقه عنوة وبكل إصرار : ( يا شهبار ، يا ولد بنت لخيار ،اخرج وإلا كويتك بالنار ..) .
حملوه إلى المدرسة مثل أبناء الأمراء في سيارة فخمة ، ألبسوه أحلى الثياب والحلل المطرزة فبدأ كطاووس بين الداخلين الجدد إلى معترك الحياة المدرسية ، تمنى لو كانت هذه الحلة تعكس بصدق ما في قلبه الدامي وهو يرى أترابه الطلقاء ، في عيونهم عرف معنى الحرية و الإنعتاق و في ابتسامتهم عرف معنى الحياة التي حرم منها في – قبو – منزلهم تمنى لو ألبسوا قلبه الكسير حلة الطمأنينة و الأمن لفرح في هذا اليوم فغنى و رقص و ركض و سرّ من أعماقه ،،، و لكن أنى له ذلك و هو يسير مطرق الرأس بين والده و شقيقه الأكبر كبضاعة ثمينة يخاف عليها من التزييف و ذهبا و تركاه وحيدا في الوحدة الصفية بحثا عن رفيقه الدائم – الحرز – فلم يجده ، أحس بالانقباض ، يد حديدية تضغط على عنقه ، تتردد أنفاسه مسرعة ، العرق ينسكب من جبينه ، فلتكن المواجهة ... و لكن أين السلاح ؟ و لم يزودوه إلا بسلاح الدموع و الخجل و إطراق الرأس و كانت المواجهة : - ما اسمك ؟ جاءه السؤال كصاعقة خرت لها قواه الهشة ، نظر إلى مصدر الصوت ، لم يتعود على مثل هذه اللهجة ، كانت أمه تخاف عليه من النسيم العليل ، بل كانت تواجه كل من ينطق معه و لو ببنت شفة مواجهة عنيفة بحجة أنه مريض . حاول أن يجيب ، أن يعلم هذا الشخص باسمه : أحمد الشاب الذي مات قبل أن يعرف طعم الحياة و نكهتها .
- هيا تكلم ... ألا تعرف اسمك ؟ ماذا يقول له ؟ أنّ أهله علموه ألا ينطق إلا في حضورهم ، و أنه إذا تكلم غضب الجن الذي يسكنه ، فيجعل نفسه منطقة للإعصار المدمر .
- اجلس أيها الحمار ...
وجلس في خنوع ، وسيل الدمع ينهمر من عينيه ، و لأول مرة يرضى عن هذا الاسم ، بل يقتنع به – الحمار – و من غير الحيوان يحيا حياته ؟.
و استمر أحمد على هذا المنوال في دراسته ، فكانت الإنذارات و التوبيخ ثم طرد أخيرا و لم يكمل دراسته الابتدائية بعد ،، طرد إلى أين ؟ إلى المنزل و لم يبق من عائلته سوى شقيقه الذي رحل إلى بلاد الغربة بحثا عن المجهول ،، أجل ،، رحل والداه و لم يتركا له سوى الخجل و الكبت و الخوف ، بل ازدادت حياته برحيلهما كآبة و حزنا و ضياعا ، حتى الغرفة الوحيدة التي كان يخلو فيها مخففا أهوال المواجهات المدرسية فقدها بعد أن باعها شقيقه لتسديد بعض الديون المتراكمة على كاهله .
طرد من المدرسة ليتلقفه الشارع بحنو ، لم يجد غرفة تؤويه ولا طعاما يسد جوعته ، ولا شربة ماء تروي عطشه ، بل لم يجد الحصن المنيع الذي يقيه العواصف والأعاصير ، لم يجد قلب أمه المنفطر حبا وعطاء وحرصا على حياته .. شيء واحد فرح به هو هذه الحرية التي ينعم بها ، فليركض ويرقص ويغني فلا أحد يلومه ، فهو في مدرسة الشارع الرحبة المتحررة المحررة ..
ونقل خطواته في كل مكان وكأنه يبحث عن شيء ضاع منه ، عن الحلقة المفقودة في مسلسل حياته الشقية .. ولما أظلم الليل وأسدل ستائره الحالكة السواد على الكون تراءت له الأشباح ترقص على نغم أنفاسه المترددة من شدة الخوف ... أين المفر ؟ ، تلاحقه الخيالات وتتبادر إلى مسامعه أصوات آدمية قادمة من اللاوجود ، لم يستطع تمييزها يزداد الصراخ ، ضربات الدفوف ودقات الطبول ، وينمو الصخب فيتكهرب الجو ، الكل يرقص ويغني ، تظهر له صورة أمه تبتسم : ( اليوم عرسك يا أحمد ..) ، لم يعد يتحمل ، فيصرخ بكل قوة : ( أمي .. أمي ..) ، يتطحلب على الأرض ، يتلوى من وقع العرس الجهنمي في كيانه ، يقاوم انهياره بعزيمة فولاذية ، ينهض ، يستوي جالسا ، تمتد يده إلى جيبه ، يخرج ورقة وقلم ...
هامش : في صباح يوم خريفي وجد عمال البلدية جثة شاب لم يتجاوز عمره أربعة عشر سنة ملقاة على أرضية أحد الشوارع ، لم يتمكن أي شخص من تحديد هويته ، لم يعرف عنه إلا انه شاب مات مبتسما وبجانبه ورقة مصفرة رثة كتبت فيها هذه العبارات : ( أمي .. أمي ..إني قادم إلى العروسة التي اخترتها لي ، لا ..لا تخافي يا أمي ، لن أرفض لك طلبا فأنا دائما ابنك البار ، لكن قبل أن أجئ أطلب منك طلبا بسيطا وهو أن تعذريني فقد مزقت الحرز المعلق على صدري وأنا أتلوى من شدة الألم اعدي لي حرزا جديدا فأنا آتي إليك حالا .. أعرف يا أمي إنك تحبينني ولكني أحبك كما أحب الحرية والتحرر ..أنا يا أمي طائر جميل من شدة حبكم له أغلقتم عليه القفص الذهبي ومنعتم عنه النشيد حتى لا يبح صوته فمات .. أنا يا أمي زهرة غرستموها في حديقة القلب وسقيتموها بكل ماء الحياة على أمل أن تنبت وتزهر فتعطي أطيب الثمر ، ولم تعلموا أنكم مع قطرات الماء الزائدة تعلنون تعفني ووفاتي ... أقسم بالله إني أحبك فوق كل شيء ما عدا الله لأنك علمتني أن لا شيء فوق الله ، ولأني أهواك واهوى حروزك فأعدي لي حرزا تحيكه يد الرحمان وتنسجه يد الملائكة ..إني آت يا أمي ..انتظريني عند بوابة الحياة الأخرى ولنسر معا على بركة الله .........) .

بهذا المدخل سأتكلّمُ بصفةٍ عامّة..
فحين يغلّف الجهل بأُسُسِ التّربيّة السّليمة، قلوب الأمّهات لا محالةَ يُخفِقنَ في أداءِ واجِبِهنّ تُجاه الأبناء..
فلا يقتصِرُ هذا الأخير على إطعامِهِم و غسل ملابِسِهِم..بلِ الجوهرُ في تنشئةِ الطِّفل هو تقويمِ شخصيّته عبرَ ضوابِطَ شرعيّة..فلا تنشغِل عليهِم بِمهامِها سواء كانت منزليّة أو عمليّة لأنّهم الأولى برِعايتِها و عطفِها الذي يُعطيهِم دفئاً يحولُ دونَ أن تُوجّهَ أنظارُهم لجهةٍ أخرى بُغيةَ تحصيلِ الحنان.

و إن قلنا الدّفء والحنان فلا نعني أن نستسلِم لخوفِنا على أبناءِنا من نسيمِ الهواء..لِنُغلِقَ عليهِم نوافِذَ الحياة و نحتجِزهم في بؤرةِ حبّنا و خوفِنا عليهِم..مثل الحالةالتي سنتطرّق إليها في النصّ الذي بين أيدينا..والذي يُعالِجُ واقعاً مرّا لطِفلٍ يفتقِدُ لمعنى الطّفولة..فتهاوت بداخله صُورٌ لم يُلامسها قلبه فحرّكت هواجِسه وسط كبتٍ لازم عقله الصّغير الذي أثقله التّفكير فيما حوله..هكذا يُقفِلُ الطّفلُ على نفسه كلّ الأبواب فيمتنع عن تأمّله فيما قد يقلِبُ حياته لشيء يُزيحُ عنه ألمَ الوِحدة و اليأس..

وعودةً لما قلناه سابِقا عن جهلِ وُلاّة الأمر عامّةً (الوالدين) في أسُس التّربيّة، يتفطّنون لحالةِ ابنِهم بعد أن يغرق في وحلِ عذابه و يلتحِف نُقص شخصيّته..ليهرعوا لأساليبَ لا تجدي نفعاً..ظنّا منهم بِتعرّضه لمسٍّ شيطاني، مُتجاهلين أنّهُم عجنوه و شكّلوه في قالبٍ مُفرغٍ من الدّاخل..

فلا يجبُ أن يقتصِرَ اهتِمامنا بِنموّ أجسادِهم أمام أعيُننا.. ونُهمِلَ النموّ الجوهري الذي يُشكّلُ روحَ الطّفلِ وعقله..
...
وهكذا يصطدِمُ الطِّفلُ يوم تحرّره من قيودِ المنزل وذهابه إلى المدرسة..بِواقعٍ تُزخرِفه مشاهِدُ أخرى تُخالِفُ مشاهِدَ حياته..حين تُلامِسُ عيناهُ ألوانَ حياةٍ جديدة..و يرى غيره في بساطةٍ يتوقُ لأن يلتحِفها كثوبٍ فيقتلِعَ عنه ثوبه الفاخِر الذي لم يمنحه أبسطَ حقوق الطّفولة في أسمى صُورِها..
لكِن صقلت شخصيّته مخاوفَ باتت تُلازمه تماما كما لازمه الفشل في الدّراسة ولم يجِد في مستقبله سوى عُصارةِ تربيةِ والديه من الخوف والكبت و الضّعفِ المُستخلِصِ من الإحاطة الزّائدةِ لِوالدته به خوفاً عليه من الشّارِع..الذي كان الحُضنَ البديلَ بعد رحيلِهما..

وكم هي مؤلمةٌ نهاية هذا الشابّ الصّغير الذي وافته المنيّة عليلا مُرهقَ النّفسِ من سجنِ الحياةِ الذي عايشها ولم يتذوّق حلاوتها..
نِهايةٌ تقشعِرُّ لها الأبدان وتنذرِفُ لها الدّموع تحسُّرا على أمثالِ هذه النّفوس البريئة التي تندفن يوم وِلادتِها..

فهل آن أوانُ عودتِنا إلى التّربية الصّحيحة لأبنائنا حتّى نتمكّن من تنشئتِهم وِفق مقوّمات إيجابيّة تُثمِرُ قلوباً قويّة و مفعمة بالحياة و متوهِّجة بالإيمانِ كسِلاحٍ دينيٍّ يهديهِم أسمة المشاعِر الإنسانيّة..

أن نخافَ على أبنائِنا شيءٌ معقولٌ و لكِن لِنحذر من الحبِّ المُفسِدِ لبناءِ شخصيّاتهم..
،،،،
ماذا عساني أقول أيّها الكاتب الجميل جمال ما تخطّ أناملك و تنسجُ أفكارك القيِّمة..
سوى أن أعترِف بإمكانيّاتِك في رسمِ صورٍ واقعيّة نقِف أمام روعتِها بخشوعٍ و إعجاب..
دُمت لقسمِ الإبداع أيّها القلمُ المِعطاء..









آخر تعديل صَمْـتْــــ~ 2010-01-24 في 21:09.
رد مع اقتباس