منتديات الجلفة لكل الجزائريين و العرب - عرض مشاركة واحدة - الدَّالَّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِهِ
عرض مشاركة واحدة
قديم 2021-02-10, 05:37   رقم المشاركة : 178
معلومات العضو
*عبدالرحمن*
مشرف عـامّ
 
الصورة الرمزية *عبدالرحمن*
 

 

 
إحصائية العضو










Flower2

اخوة الاسلام

السلام عليكم ورحمة الله و بركاته

تحدثنا في اللقاء السابق عن حقيقة أن هذا الدين

منهج شامل لحياة الإنسان الممتدة من الدنيا

والتي لا تنتهي إلاَّ ببداية جديدة في عالم الآخرة

- تُصوِّرُها الهندسة المعرفيَّة للآيات تصويرًا دقيقًا

وعميقًا له دلالاته المُوحِية، وإشاراته المعبرة

فهذه الآيات قد اشتملت على جملة من المعارف الكبيرة

والأسس العميقة التي تُعَدُّ الأساس الأول

في بناء إنسانية الإنسان الفاضلة.


و الان تطبيق عملي على آية قرآنية:

وبعد كل هذا الذي قلْتُه آنفًا عن حقيقة مفهوم "البر"

أحببتُ أن أظهر تلك المعاني السالفة الذكر من خلال آية

من آيات البر في القرآن،

وهذه الآية هي قول الله - سبحانه وتعالى -:

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ

وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ

وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ

وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ

وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ

وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [البقرة: 177].


فهذه الآية الكريمة من الآيات الجوامع في القرآن الكريم

إنَّها آية تترجم حقيقة هذا الدين الذي جاء به الرسول الكريم

محمد بن عبدالله - صلَّى الله عليه وسلَّم -

حقيقة أنَّ هذا الدين هو منهج للحياة الإنسانيَّة الفاضلة

في مجالات حركتها في هذا الوجود كافة

كما أرادها الخالق - جلَّ وعزَّ -

حقيقة أنَّ هذا الدين هو منظومة متكاملة متناسقة

سواء في أنساقها المعرفيَّة والعقديَّة

أم في مفاهيمها الأخلاقيَّة والقِيَمِيَّة

أم في نظمها التنظيميَّة والتشريعيَّة

أم في فاعليَّتها التاريخيَّة والحضاريَّة.

وبادئ ذي بدء أقول:

إنَّ تداخل تلك المجالات المتعددة في الآية

من العقيدة، إلى العَلاقات الاجتماعية، إلى الروح العباديَّة

إلى القيم الأخلاقيَّة، إلى التعليق على كل ذلك في ختام الآية

إنَّ هذا التداخل والتفاعل بين مختلف هذه العناصر والمكونات

والتي لا يربط بينها رابط، ولا يجمعها جامع بادئ الرأي

- ليوحي بطبيعة هذا الدين، وطبيعة هذا المنهج

الذي أنزله الله - تعالى - على رسوله الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم -

وحقيقة الرسالة التي أراد الله - تعالى -

أن يبلِّغها لهذا المخلوق الضئيل المسمى "الإنسان".

إنَّ هذا التداخل، وهذا التشابك بين تلك المكونات للآية

ليترجم تلك الحقيقة العميقة التي تضمرها النفس الإنسانيَّة

تلك هي حقيقة أنَّ هذه النفس لا تقبل الانفصام

بين عناصرها المكونة لحقيقتها الفطريَّة

فهذا الإنسان عقيدةٌ في العقل، وتطبيقٌ في الواقع

فكرةٌ في الضمير، وإنشاءٌ في التاريخ

ولا يمكن أبدًا - مهما حاول الإنسان نفسه

أو حاول ذلك غيره من الطواغيت -

الفصم بين ذينِك المكونين الكبيرين في الفطرة البشريَّة

لا لشيء إلاَّ لأنَّهما عميقين في جذر الروح البشري

عمق ذلك الروح نفسه.

وحينما نفهم منهج هذا الدين على النحو - حينها فقط -

نستطيع أن نقوم بمثل تلك النقلة البعيدة

التي قام بها الجيل الأول من المسلمين


فبَلَغوا بذلك مستوى الإنسانية الفاضلة كما خلقها الله - سبحانه وتعالى

- وكما أرادها أن تكون في واقع التاريخ البشريِّ

فكان ما كان منهم في صناعة التاريخ وتشييد الحضارة

مما لو اجتمعتْ الجاهليةُ بكل خيلائها ما وجدت إلى ذلك من سبيل

إلاَّ في الأجيال المتعاقبة والآماد المتتالية

ثم لا تبلغ إلاَّ عُشر معشار ما بلغ أولئك.

من أجل ذلك كان من مقاصد القرآن الكبرى

إعادةُ الضمير الإنسانيِّ إلى فهم هذه الحقيقة

والتحقق بمصداقيتها وتطبيقاتها سواء في عالم النفس

أم في عالم الواقع، ومن ثم شن حملة ضروس على أولئك

الذين رضوا بأن يكون نصيبُهم من هذا الدين المظاهر فقط.


ولنبدأ الآية من أوَّلها:

إنَّ أوَّل شيء توحِي به الآية الكريمة هو أنَّ هناك قومًا

التبس مفهوم البر في حسِّهم وعقولهم

ومن ثم انعكس هذا الالتباس على واقع حياتهم في الوسط الاجتماعي

الذي يمارسون فيه تطبيقات منهج دينهم كما يفهمونه هم

ولأجل ذلك تأخذ الآية في توضيح حقيقة مفهوم البر

ومصادقه في الواقع؛ الواقع النفسي، والواقع الاجتماعي

وبعد توضيح تلك الحقيقة يتبين لنا - نحن المتلقين -

مدى الفرق بين حقيقة مفهوم البر كما هو المنهج القرآني

ومفهومه عند قوم زعموا أنَّهم ملتزمون بالمنهج الرباني

في واقع حياتهم ومسيرة تاريخهم

وهو - ولا شك - فرق هائل جدًّا

تلك هي خلاصة الآية الكريمة:

ليْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ

لقد تصوَّر أولئك القوم أنَّ حقيقة الدين الذي يلتزمون به

تنحصر في الالتزام الشكليِّ بتعاليمه

والصرامة في التقيُّد بمظاهره الخارجيَّة

والأخذ بقوة بتعاليمه الجزئية

وأنهم بذلك يكونون قد أدوا الواجب الذي عليهم تُجاه الرسالة

التي يحملونها للإنسانية، ولا عليهم إن لم يكن لها رصيدٌ

من الإحساس النفسي العميق، والتصوُّر العقلي الواضح

ولا عليهم إن هم خالفوا تعاليم الدين

في واقع حياتهم، ومسيرة تاريخهم.


ذلك هو تصورهم لحقيقة مفهوم البر

ومنهج الدين الرباني الذي أنزله على رُسُلِه وأنزل لأجله كُتُبَه

وذلك هو تصوُّرُهم لقيمة المهمَّة التي تجب

عليهم لذلك المنهج عليهم، وهو - ولا شك - تصورٌ ساذج

لا يرقَى إلى قيمة الحقائق التي تضمرها تعاليم هذا الدين

وتكتنِزُها حقيقة مفهوم البر في العقيدة القرآنية.

إنك عندما تتعمَّق في حقيقة الدين الذي بعث الله - تعالى - به الرسل

وأنزل لأجله الكتب، وأقام له السموات والأرض

ووعد لأجله بالجنة، وأوعد بسببه النار

عندما تتأمل تلك الحقيقة الكبيرة، وتتفهَّم معاني تعاليمها

في النفس والمجتمع، حينها فقط تتبيَّن لك ضآلة ذلك التصور -

سواء كان في جانب الإفراط، أو كان في جانب التفريط

الذي انخدع به أولئك البؤساء

الذين ظنُّوا أنَّ تلك هي غاية الشريعة ومنتهى الديانة.

وإنه لتصورٌ صغيرٌ شأنُه، لا يغني عن الحقيقة الكبيرة

التي يسعى إليها الإنسان بفطرته شيئًا

ولا بذي قيمة في ميزان حقيقة المهمَّة التي يُريدها الخالق

- جلَّ جلاله - من الإنسان.


إنَّ الإنسان عندما يكون همُّه من الدين

إقامةَ مظاهره الخارجية، ويكون شغلُه الشاغل الالتزامَ

بجزئياته الفرعيَّة، ويكون سعيُه الدائب الصرامةَ

في تفعيل تعاليمه القريبة، دون الالتفات إلى الحقائق الكبرى

التي تتضمَّنها تلك التعاليم، ومن ثم ممارسة معانيها

في مجالات الحياة كافة

عندما تكون تلك هي قصتَه مع منهج الدين الذي يلتزمه

لا جرمَ أنه لا يستطيع الانطلاق إلى تلك الآفاق البعيدة

التي يفتحها الدين لمن يتفاعل مع تعاليمه بصورة عميقة جدًّا

سواء في ظاهره أم في باطنه، وسواء في محيطه الذاتي

أم في محيطه الاجتماعي

بل بالأحرى أن هذا الدين يفقد مبرر وجوده في أعماق كينونته

ولا يبقى لوجوده معنى في حياته إلاَّّ بالقدر الذي يستفيد

هو منه في علاقاته مع الآخرين.

ولا جرم أنَّ هذه الإشكاليَّة التي يعاني منها هذا الإنسان

– أعني: إشكالية التناقض العميق بين حقيقة الدين الذي يلتزمه

وحقيقة فهمه هو لهذا الدين

ومن ثم ممارسته لتعاليمه في عالم الواقع

أي: عالم العلاقات الاجتماعية، والإنسانيَّة -

إشكاليةٌ خطيرة تُصيب صاحبَها

في أمثل الحالات بفقدان التوازن النفسي

والذي بدوره ينعكس على توازنه الاجتماعي.


اخوة الاسلام

و لنا عودة ان قدر الله لنا البقاء و اللقاء

من اجل استكمال الموضوع









آخر تعديل *عبدالرحمن* 2021-02-10 في 05:38.